الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الصَّلَاةِ]
ِ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا: لِلصَّلَاةِ مَعْنَيَانِ: مَعْنًى فِي اللُّغَةِ، وَمَعْنًى فِي الشَّرْعِ. فَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ. وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، مُفْتَتَحَةً بِالتَّكْبِيرِ، مُخْتَتَمَةً بِالتَّسْلِيمِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ، مُشْتَمِلَةٍ عَلَى رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَذِكْرِهِ. انْتَهَى.
وَسُمِّيَتْ " صَلَاةً " لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّمَا سُمِّيَتْ " صَلَاةً " لِأَنَّهَا ثَانِيَةٌ لِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ كَالْمُصَلِّي مِنْ السَّابِقِ فِي الْخَيْلِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا يَعُودُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ الْبَرَكَةِ. وَتُسَمَّى الْبَرَكَةُ صَلَاةً فِي اللُّغَةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ بِالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ صَلَاةً، لِمَا تَتَضَمَّنُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْخَشْيَةِ لِلَّهِ.
مَأْخُوذٌ مِنْ صَلَيْت الْعُودَ إذَا لَيَّنْته، وَالْمُصَلِّي يَلِينُ وَيَخْشَعُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ صَلَاةً؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتْبَعُ مَنْ تَقَدَّمَهُ.
فَجِبْرِيلُ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ بِفِعْلِهَا، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبَعًا لَهُ وَمُصَلِّيًا، ثُمَّ الْمُصَلُّونَ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّ رَأْسَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ صَلَوَى إمَامِهِ، وَ (الصَّلَوَانِ) عَظْمَانِ عَنْ يَمِينِ الذَّنَبِ وَيَسَارِهِ فِي مَوْضِعِ الرِّدْفِ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي النِّهَايَةِ. إلَّا الْقَوْلُ الثَّانِي. فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْفُرُوعِ
. الثَّانِيَةُ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ خَمْسِ سِنِينَ. وَقِيلَ: سِتَّةٍ. وَقِيلَ: بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ.
تَنْبِيهٌ:
دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ بُلُوغِ الشَّرْعِ لَهُ كَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ
الْأَصْحَابِ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَقْضِيهَا مُسْلِمٌ قَبْلَ بُلُوغِ الشَّرْعِ. وَقِيلَ: لَا يَقْضِيهَا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرَائِعَ لَا تَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ. قَالَ فِي الْفَائِقِ: وَخَرَجَ رِوَايَتَانِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْخِطَابِ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ. انْتَهَى.
وَقِيلَ: لَا يَقْضِي حَرْبِيٌّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْوَجْهَانِ فِي كُلِّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا قَبْلَ بُلُوغِ الشَّرْعِ كَمَنْ لَمْ يَتَيَمَّمْ لِعَدَمِ الْمَاءِ، لِظَنِّهِ عَدَمَ الصِّحَّةِ بِهِ. أَوْ لَمْ يُزَكِّ، أَوْ أَكَلَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، لِظَنِّهِ ذَلِكَ. أَوْ لَمْ تُصَلِّ مُسْتَحَاضَةٌ وَنَحْوُهُ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ لَا فَرْضًا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ. وَمُرَادُهُ وَلَمْ يَقْضِ، وَإِلَّا أَثِمَ.
وَكَذَا لَوْ عَامَلَ بِرِبًا، أَوْ نَكَحَ فَاسِدًا ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ التَّحْرِيمُ.
قَوْلُهُ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ) يَعْنِي: لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ مُطْلَقًا. وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ النُّفَسَاءَ إذَا طَرَحَتْ نَفْسَهَا لَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهَا. وَأَطْلَقَ الْخِلَافَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ تَمِيمٍ.
قَوْلُهُ (وَتَجِبُ عَلَى النَّائِمِ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسُكْرٍ، أَوْ إغْمَاءٍ، أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ) أَمَّا النَّائِمُ: فَتَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إجْمَاعًا.
وَيَجِبُ إعْلَامُهُ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، عَلَى الصَّحِيحِ، جَزَمَ بِهِ أَبُو الْخَطَّابِ فِي التَّمْهِيدِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ إعْلَامُهُ. وَقِيلَ: يَجِبُ وَلَوْ لَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ، بَلْ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ. وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ مُطْلَقَاتٌ فِي الرِّعَايَةِ وَالْفُرُوعِ. وَأَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسُكْرٍ: فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: وُجُوبُ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَقَطَعَ بِهِ أَكْثَرُهُمْ. وَكَذَا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمُحَرَّمٍ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: عَدَمَ الْوُجُوبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: تَلْزَمُهُ بِلَا نِزَاعٍ
وَقِيلَ: لَا تَجِبُ إذَا سَكِرَ مُكْرَهًا. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ. وَتَجِبُ عَلَى مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمَرَضٍ بِلَا نِزَاعٍ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَوْ جُنَّ مُتَّصِلًا بِكُرْهٍ فَفِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ زَمَنَ جُنُونِهِ احْتِمَالَانِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ. وَهِيَ لِأَبِي الْمَعَالِي فِي النِّهَايَةِ. قُلْت: الَّذِي يَظْهَرُ: الْوُجُوبُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، كَالْمُرْتَدِّ عَلَى مَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَيُبَاحُ مِنْ السَّمُومِ تَدَاوِيًا مَا الْغَالِبُ عَنْهُ السَّلَامَةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، الثَّانِي: لَا يُبَاحُ كَمَا لَوْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكَ، وَهُوَ احْتِمَالٌ فِي الْمُغْنِي، وَاَلَّذِي قَدَّمَهُ وَصَحَّحَهُ فِيهِ: مَا صَحَّحَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ: فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: وُجُوبُهَا عَلَيْهِ مُطْلَقًا، نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَابْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي طَالِبٍ، وَبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ. كَالنَّائِمِ. وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ، وَاخْتَارَهُ فِي الْفَائِقِ وَأَمَّا إذَا زَالَ عَقْلُهُ بِشُرْبِ دَوَاءٍ، يَعْنِي مُبَاحًا، فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ. وَهِيَ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ. وَقِيلَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا: أَنَّ الْإِغْمَاءَ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحِ يُسْقِطُ الْوُجُوبَ، وَالْإِغْمَاءَ بِالْمَرَضِ لَا يُسْقِطُهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا امْتَنَعَ مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ خَوْفًا مِنْ مَشَقَّةِ الْقَضَاءِ. فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهُ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي، وَمَنْ تَبِعَهُ: مَنْ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ عَقْلُهُ بِهِ. فَإِنْ كَانَ زَوَالًا لَا يَدُومُ كَثِيرًا، فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ.
قَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ عَلَى كَافِرٍ) . الْكَافِرُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا. فَإِنْ كَانَ أَصْلِيًّا: لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَقْضِهَا. وَهَذَا إجْمَاعٌ. وَأَمَّا وُجُوبُهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا: فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ. وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَعَنْهُ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِهَا. وَعَنْهُ مُخَاطَبُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَلَا تَلْزَمُ كَافِرًا أَصْلِيًّا. وَعَنْهُ تَلْزَمُهُ، وَهِيَ أَصَحُّ. انْتَهَى وَمَحَلُّ ذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا، فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَقْضِي مَا تَرَكَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ. وَلَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ زَمَنَ رِدَّتِهِ. قَالَ الْقَاضِي، وَصَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَغَيْرُهُمَا: هَذَا الْمَذْهَبُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ، وَالشَّارِحُ، وَقَدَّمَهُ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ، وَابْنُ عُبَيْدَانَ، وَنَصَرَاهُ، وَقَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ، وَابْنُ حَمْدَانَ فِي رِعَايَتِهِ الصُّغْرَى، مَعَ أَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ. قَالَ فِي الْفَائِدَةِ السَّادِسَةَ عَشَرَ: وَالصَّحِيحُ عَدَمُ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَعَدَمُ إلْزَامِهِ بِقَضَائِهَا بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ. انْتَهَى.
وَعَنْهُ يَقْضِي مَا تَرَكَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ، وَبَعْدَهَا وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِفَادَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ. لَكِنْ قَالَ: الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَابْنُ عُبَيْدَانَ، وَنَصَرَهُ. وَعَنْهُ لَا يَقْضِي مَا تَرَكَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ وَلَا بَعْدَهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. قَالَ ابْنُ مُنَجَّا فِي شَرْحِهِ: هَذَا الْمَذْهَبُ، قَالَ فِي التَّلْخِيصِ وَالْبُلْغَةِ: هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَاخْتَارَهُ. وَأَطْلَقَهُنَّ فِي الْمُغْنِي، وَالشَّرْحِ، وَالْفَائِقِ، وَاخْتَارَ الْأَخِيرَةَ. وَقَدَّمَ فِي الْحَاوِيَيْنِ: أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا تَرَكَهُ حَالَةَ رِدَّتِهِ. وَأَطْلَقَ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ مَا تَرَكَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَيَقْضِي مَا تَرَكَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فِي بَابِ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ: وَإِذَا أَسْلَمَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي رِدَّتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ: إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ زَمَنَ الرِّدَّةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، الْمَذْهَبُ عَدَمُ اللُّزُومِ بَنَاهُمَا ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ وَالطُّوفِيُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ: هَلْ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَذَكَرَهُمَا
فَائِدَةٌ: فِي بُطْلَانِ اسْتِطَاعَةِ قَادِرٍ عَلَى الْحَجِّ بِرِدَّتِهِ وَوُجُوبِهِ بِاسْتِطَاعَتِهِ فِي رِدَّتِهِ فَقَطْ.
هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ نَقْلًا وَمَذْهَبًا. فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْقَضَاءِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ طَرَأَ
عَلَيْهِ جُنُونٌ فِي رِدَّتِهِ، فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَهُ رُخْصَةٌ تَخْفِيفًا، قَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَمُخْتَصَرِ ابْنِ تَمِيمٍ، وَابْنُ عُبَيْدَانَ، وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ مُنَجَّا وَغَيْرُهُ. قُلْت: فَيُعَايَى بِهَا. وَقِيلَ: لَا يَقْضِي كَالْحَائِضِ.
تَنْبِيهٌ: الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ: جَارٍ فِي الزَّكَاةِ إنْ بَقِيَ مِلْكُهُ عَلَى مَا يَأْتِي وَكَذَا هُوَ جَارٍ فِي الصَّوْمِ. فَإِنْ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ أَخَذَهَا الْإِمَامُ. وَيَنْوِي بِهَا لِلتَّعَذُّرِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ الزَّكَاةِ: كَالْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ. ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَخْذِ الْإِمَامِ. أَجْزَأَتْهُ ظَاهِرًا. وَفِيهِ بَاطِنًا وَجْهَانِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ. قُلْت: الصَّوَابُ الْإِجْزَاءُ. وَقِيلَ: إنْ أَسْلَمَ قَضَاهَا عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَا يَجْزِيهِ إخْرَاجُهُ حَالَ كُفْرِهِ، زَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ: وَقِيلَ وَلَا قَبْلَهُ. قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ. وَلَمْ أَفْهَمْ مَعْنَاهُ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ إخْرَاجَهَا قَبْلَ الرِّدَّةِ مُرَاعًى. فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ ارْتَدَّ لَمْ تُجْزِهِ كَالْحَجِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إذَا عَجَّلَهَا قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ ثُمَّ ارْتَدَّ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلُهُ بِرِدَّتِهِ فِيهِ. وَإِلَّا انْقَطَعَ. وَأَمَّا إعَادَةُ الْحَجِّ، إذَا فَعَلَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ، فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ، نُصَّ عَلَيْهِ، قَالَ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، قَالَ فِي تَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ: وَلَا تَبْطُلُ عِبَادَاتُهُ فِي إسْلَامِهِ إذَا عَادَ. وَلَوْ الْحَجَّ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ، وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي وَالْمُوَفَّقُ. فِي شَرْحِ مَنَاسِكِ الْمُقْنِعِ. وَقَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ، وَابْنُ عُبَيْدَانَ، وَالْحَاوِي الْكَبِيرُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ. ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْهُ يَلْزَمُهُ، جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْإِفَادَاتِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْجَوْزِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يَبْطُلُ الْحَجُّ بِالرِّدَّةِ، وَاخْتَارَ
الْإِعَادَةَ أَيْضًا الْقَاضِي، وَصَحَّحَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْمُحَرَّرِ، وَالْفُرُوعِ، وَالرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَالْفَائِقِ وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ. فَعَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الْإِعَادَةِ: قِيلَ بِحُبُوطِ الْعَمَلِ. وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: كَإِيمَانِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ. وَيَلْزَمُهُ ثَانِيًا. وَالْوَجْهَانِ فِي كَلَامِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: اخْتَارَ الْأَكْثَرُ أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ إلَّا بِالْمَوْتِ عَلَيْهَا. قَالَ جَمَاعَةٌ: الْإِحْبَاطُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الثَّوَابِ دُونَ حَقِيقَةِ الْعَمَلِ، لِبَقَاءِ صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَحِلِّ مَا كَانَ ذَبَحَهُ، وَعَدَمِ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ.
فَائِدَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَكَانَ قَدْ صَلَّاهَا قَبْلَ رِدَّتِهِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْحَجِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْمَذْهَبِ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَلْزَمُهُ هُنَا إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَزِمَهُ إعَادَةُ الْحَجِّ، لِفِعْلِهَا فِي إسْلَامِهِ الثَّانِي. وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى. الثَّانِيَةُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا تَبْطُلُ عِبَادَةٌ فَعَلَهَا فِي الْإِسْلَامِ السَّابِقِ إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: إنْ صَامَ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَفِي الْقَضَاءِ وَجْهَانِ.
قَوْلُهُ (وَلَا مَجْنُونٍ) . يَعْنِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَقْضِيهَا. وَهِيَ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْحَاوِيَيْنِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: لَا تَجِبُ عَلَى الْأَبْلَهِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. وَقَالَ فِي الصَّوْمِ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَلَا عَلَى الْأَبْلَهِ لِلَّذِينَ لَا يُفِيقَانِ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ: يَقْضِي الْأَبْلَهُ، مَعَ قَوْلِهِ فِي الصَّوْمِ: الْأَبْلَهُ كَالْمَجْنُونِ. ذَكَرَهُ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ، ثُمَّ قَالَ: كَذَا ذُكِرَ.
قُلْت: لَيْسَ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ. وَإِنَّمَا قَالَ: يَقْضِي عَلَى قَوْلٍ. وَهَذَا لَفْظُهُ " وَيَقْضِيهَا مَعَ زَوَالِ عَقْلِهِ بِنَوْمٍ كَذَا وَكَذَا " ثُمَّ قَالَ " أَوْ بِشُرْبِ دَوَاءٍ، ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ مُحْرِمٍ، أَوْ أَبْلَهَ، وَعَنْهُ أَوْ مَجْنُونٍ " فَهُوَ إنَّمَا حَكَى الْقَضَاءَ فِي الْأَبْلَهِ قَوْلًا. فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ فِي الصَّوْمِ. فَمَا بَيْنَ كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَنَافٍ.
بَلْ كَلَامُهُ مُتَّفِقٌ فِيهِمَا، وَجَزَمَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: إنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ جُنُونٍ لَمْ يَسْقُطْ، وَقَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ: لَوْ ضُرِبَ رَأْسُهُ فَجُنَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عَلَى الصَّحِيحِ
. قَوْلُهُ (وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ) . هَذَا الْمَذْهَبُ مُطْلَقًا، نُصَّ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَجَزَمَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمُذْهَبِ. وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ: إنْ صَلَّى جَمَاعَةً حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، لَا إنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا. وَقَالَهُ فِي الْفَائِقِ: وَهَلْ الْحُكْمُ لِلصَّلَاةِ. أَوْ لِتَضَمُّنِهَا الشَّهَادَةَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. ذَكَرَهُمَا ابْنُ الزَّاغُونِيِّ.
فَائِدَةٌ:
فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ فِي الظَّاهِرِ: وَجْهَانِ. وَفِي ابْنِ الزَّاغُونِيِّ رِوَايَتَيْنِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ، وَجَزَمَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَتَذْكِرَةِ ابْنِ عَبْدُوسٍ وَغَيْرِهِمْ. بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ. قَالَ الْقَاضِي: صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ. ذَكَرَهُ فِي النُّكَتِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: شَرْطُ الصَّلَاةِ تَقَدُّمُ الشَّهَادَةِ الْمَسْبُوقَةِ بِالْإِسْلَامِ. فَإِذَا تَقَرَّبَ بِالصَّلَاةِ يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا. وَلَا يَصِحُّ الِائْتِمَامُ بِهِ، لِفَقْدِ شَرْطِهِ، لَا لِفَقْدِ الْإِسْلَامِ. وَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ فِي الظَّاهِرِ.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. فَعَلَيْهِ تَصِحُّ إمَامَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، نُصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ تَصِحُّ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ، الْأَصْوَبُ أَنَّهُ إنْ أَقَالَ بَعْدَ الْفَرَاغِ: إنَّمَا فَعَلْتهَا وَقَدْ اعْتَقَدَتْ الْإِسْلَامَ.
قُلْنَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ، وَإِنْ قَالَ: فَعَلْتهَا تَهَزُّؤًا قَبِلْنَا مِنْهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ إلْزَامِ الْفَرَائِضِ. وَلَمْ نَقْبَلْ
مِنْهُ فِيمَا يُؤْثِرُهُ مِنْ دِينِهِ. قَالَ فِي الْمُغْنِي: إنْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ. فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
تَنْبِيهٌ:
ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ بِغَيْرِ فِعْلِ الصَّلَاةِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يُسْلِمُ إذَا أَذَّنَ فِي وَقْتِهِ وَمَحَلِّهِ.
لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا. وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا إذَا أَذَّنَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَمَحَلِّهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ فِي بَابِ الْأَذَانِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ. وَقِيلَ: لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَابْنِ تَمِيمٍ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِصَوْمِهِ قَاصِدًا رَمَضَانَ. وَزَكَاةِ مَالِهِ، وَحَجِّهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي فِي بَابِ الْمُرْتَدِّ. وَالْتَزَمَهُ الْمَجْدُ، وَابْنُ عُبَيْدَانَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا. وَقِيلَ: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِفِعْلِ ذَلِكَ.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ، وَالرِّعَايَةِ، وَابْنِ تَمِيمٍ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِالْحَجِّ فَقَطْ. وَالْتَزَمَهُ الْمَجْدُ، وَابْنُ عُبَيْدَانَ. وَقِيلَ: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِبَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ وَالْأَقْوَالِ الْمُخْتَصَّةِ بِنَا، كَجِنَازَةٍ وَسَجْدَةِ تِلَاوَةٍ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُكَفِّرُ الْمُسْلِمَ بِإِنْكَارِهِ إذَا أَقَرَّ بِهِ الْكَافِرُ، قَالَ: وَهَذَا مُتَّجَهٌ.
قَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ عَلَى صَبِيٍّ) لَا يَخْلُو الصَّبِيُّ: إمَّا أَنْ يَكُونَ سِنُّهُ دُونَ التَّمْيِيزِ، أَوْ يَكُونَ مُمَيِّزًا. فَإِنْ كَانَ دُونَ التَّمْيِيزِ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ، قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ ابْنَ سَبْعٍ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا: أَنَّ ظَاهِرَ الْخِرَقِيِّ: صِحَّةُ صَلَاةِ الْعَاقِلِ، مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِسِنٍّ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا: أَنَّ ظَاهِرَ الْخِرَقِيِّ: ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ أَيْضًا وَنَحْوُهُ، يَصِحُّ إسْلَامُهُ إذَا عَقَلَهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُمَيِّزًا، أَوْ هُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَ فِي الرِّعَايَةِ ابْنَ سِتٍّ. وَقَالَ فِي الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ: وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي: أَنَّهُ ابْنُ عَشْرٍ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ فِي الْمُطْلِعِ: هُوَ الَّذِي يَفْهَمُ الْخِطَابَ وَيَرُدُّ الْجَوَابَ، وَلَا يَنْضَبِطُ بِسِنٍّ. بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ. وَقَالَهُ الطُّوفِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْأُصُولِ. قُلْت: وَهُوَ الصَّوَابُ وَالِاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَلَعَلَّهُ مُرَادُ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ ابْنَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ يَفْهَمُ ذَلِكَ غَالِبًا. وَضَبَطُوهُ بِالسِّنِّ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ. وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَ عَشْرًا. قَالَ فِي الْفَائِقِ، وَالْقَوَاعِدِ: اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْجَارِيَةِ إذَا بَلَغَتْ تِسْعًا: تَجِبُ عَلَيْهَا. وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَى الْمُرَاهِقِ، اخْتَارَهَا أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا. ذَكَرَهُ فِي الْأُصُولِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِي ابْنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ: إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ قُتِلَ. وَعَنْهُ تَجِبُ عَلَى الْمُمَيِّزِ. ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ. وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَذَكَرَهَا فِي الْمُذْهَبِ وَغَيْرِهِ فِي الْجُمُعَةِ. قَالَ فِي الْجُمُعَةِ، قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ: وَإِذَا أَوْجَبْنَا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، فَهَلْ الْوُجُوبُ مُخْتَصٌّ بِمَا عَدَا الْجُمُعَةَ، أَمْ يَعُمُّ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، أَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ قُلْنَا بِتَكَلُّفِهِ فِي الصَّلَاةِ.
قَالَ الْمَجْدُ: هُوَ كَالْإِجْمَاعِ لِلْخَبَرِ. قُلْت: ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، قَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، وَيَأْتِي أَيْضًا هُنَاكَ. فَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُمَيِّزِ: لَوْ فَعَلَهَا صَحَّتْ مِنْهُ، بِلَا نِزَاعٍ. وَيَكُونُ ثَوَابُ عَمَلِهِ لِنَفْسِهِ. ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَلَامِهِ. وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ الْفُنُونِ. وَقَالَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: الصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ،
وَرَدَّهُ فِي الْفُرُوعِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فِي طَرِيقَتِهِ فِي مَسْأَلَةِ تَصَرُّفِهِ: ثَوَابُهُ لِوَالِدَيْهِ قَوْلُهُ (وَيُؤْمَرُ بِهَا لِسَبْعٍ) اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَمْرُهُ بِهَا، وَتَعْلِيمُهُ إيَّاهَا، وَالطَّهَارَةُ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُنَاظَرَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ أَنْ يُنَزِّهَهُمَا عَنْ النَّجَاسَةِ. وَلَا أَنْ يُزِيلَهَا عَنْهُمَا.
بَلْ يُسْتَحَبُّ. وَذَكَرَ وَجْهًا: أَنَّ الطَّهَارَةَ تَلْزَمُ الْمُمَيِّزَ
قَوْلُهُ (وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ) اعْلَمْ أَنَّ ضَرْبَ ابْنِ عَشْرٍ عَلَى تَرْكِهَا: وَاجِبٌ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ. قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
فَائِدَةٌ:
حَيْثُ قُلْنَا " تَصِحُّ مِنْ الصَّغِيرِ " فَيُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْكَبِيرِ مُطْلَقًا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ: إلَّا فِي السُّتْرَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا بِدُونِ الْخِمَارِ مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ.
قَوْلُهُ (فَإِنْ بَلَغَ فِي أَثْنَائِهَا، أَوْ بَعْدَهَا فِي وَقْتِهَا: لَزِمَهُ إعَادَتُهَا) يَعْنِي إذَا قُلْنَا: إنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْبُلُوغِ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ، نُصَّ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فِيهِمَا، وَهُوَ تَخْرِيجٌ لِأَبِي الْخَطَّابِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَصَاحِبُ الْفَائِقِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا إذَا بَلَغَ بَعْدَ فَرَاغِهَا، اخْتَارَهُ فِي شَرْحِ الْمُذْهَبِ. وَقِيلَ: إنْ لَزِمَتْهُ وَأَتَمَّهَا كَفَتْهُ، وَلَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا إذَا بَلَغَ. قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ.
فَائِدَةٌ:
حَيْثُ وَجَبَتْ وَهُوَ فِيهَا لَزِمَهُ إتْمَامُهَا عَلَى الْقَوْلِ بِإِعَادَتِهَا. قُلْت: فَيُعَايَى بِهَا. وَحَيْثُ قُلْنَا " لَا تَجِبُ " فَهَلْ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا؟ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ دَخَلَ
فِي نَفْلٍ. هَلْ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ؟ عَلَى مَا يَأْتِي فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَقَدَّمَ أَبُو الْمَعَالِي فِي النِّهَايَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عُبَيْدَانَ: أَنَّهُ يُتِمُّهَا. وَذَكَرَ الثَّانِيَ احْتِمَالًا. فَعَلَى الْمَذْهَبِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ بُلُوغِهِ، ثُمَّ بَلَغَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الطَّهَارَةِ: لَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهَا، كَوُضُوءِ الْبَالِغِ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ. وَقُصَارَاهُ: أَنْ يَكُونَ كَوُضُوءِ الْبَالِغِ لِلنَّافِلَةِ، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مُحَرَّرًا فِي التَّيَمُّمِ قَبْلَ قَوْلِهِ " وَيَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ "
فَائِدَةٌ:
لَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَةُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ إسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدِّينِ لَا يَصِحُّ نَفْلًا. فَإِذَا وُجِدَ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَبُ. وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي خِلَافًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْإِسْلَامُ أَصْلُ الْعِبَادَاتِ وَأَعْلَاهَا. فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. وَمَعَ التَّسْلِيمِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ.
قَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ، أَوْ لِمُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا) . زَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ " إذَا كَانَ ذَاكِرًا لَهَا، قَادِرًا عَلَى فِعْلِهَا " وَهُوَ مُرَادٌ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لِمَنْ يَنْوِي الْجَمْعَ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَيْنِ كَالْوَقْتِ الْوَاحِدِ، لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَقَطَعَ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ إذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِشَرْطِهَا. وَكَذَا قَالَ فِي الْوَجِيزِ، وَابْنُ تَمِيمٍ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، وَالشَّرْحِ، وَغَيْرِهِمْ. وَلَمْ يَذْكُرْ الِاشْتِغَالَ بِالشَّرْطِ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ، وَالْخُلَاصَةِ، وَالنِّهَايَةِ لَهُ، وَغَيْرِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِشَرْطِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ.
قِسْمٌ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ. فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا لِأَجْلِ تَحْصِيلِهِ جَزَمَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ. وَقِسْمٌ يَحْصُلُ بَعْدَ زَمَنٍ قَرِيبٍ فَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ: يُجَوِّزُونَهُ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ
وَغَيْرِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ.
وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَالْهِدَايَةِ، وَالْخُلَاصَةِ، وَالنِّهَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ (لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا إلَّا لِنَاوِي جَمْعِهَا) ، أَوْ لِمُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا " فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ الْأَصْحَابِ، بَلْ مِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيُّ. فَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ صُوَرًا مَعْرُوفَةً كَمَا إذَا أَمْكَنَ الْوَاصِلَ إلَى الْبِئْرِ أَنْ يَضَعَ حَبْلًا يَسْتَقِي بِهِ، وَلَا يَفْرُغُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ. أَوْ أَمْكَنَ الْعُرْيَانَ أَنْ يَخِيطَ ثَوْبًا، وَلَا يَفْرُغُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ، وَنَحْوِ هَذِهِ الصُّوَرِ. وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي قَالَهُ هُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَمَا أَظُنُّ يُوَافِقُهُ إلَّا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا: أَنَّ الْعُرْيَانَ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَرْيَةٍ يَشْتَرِي مِنْهَا ثَوْبًا، وَلَا يُصَلِّ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ: لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ بِلَا نِزَاعٍ. وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى حَسَبَ حَالِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ إذَا كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ: لَمْ يَجُزْ لَهَا التَّأْخِيرُ، بَلْ تُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ حَالِهَا. انْتَهَى وَتَقَدَّمَ اخْتِيَارُهُ إنْ اسْتَيْقَظَ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَاخْتَارَ أَيْضًا تَقْدِيمَ الشَّرْطِ إذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ الْوَقْتِ وَهُوَ جُنُبٌ وَخَافَ إنْ اغْتَسَلَ خَرَجَ الْوَقْتُ: اغْتَسَلَ وَصَلَّى، وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَسِيَهَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ قَوْلِهِ " وَلَا يَجُوز لِوَاجِدِ الْمَاءِ التَّيَمُّمُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ ". وَقَالَ ابْنُ مُنَجَّا فِي شَرْحِهِ: فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِأَجْلِ الِاشْتِغَالِ بِالشُّرُوطِ: نَظَرٌ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ الْمُصَنِّفَ رحمه الله مِمَّنْ يَعْلَمُهُ، بَلْ نَقَلُوا عَدَمَ الْجَوَازِ. وَاسْتَثْنَوْا: مَنْ نَوَى الْجَمْعَ لَا غَيْرُ. وَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هِدَايَتِهِ، وَصَاحِبُ النِّهَايَةِ فِيهَا، وَفِي خُلَاصَتِهِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَمْدًا حَتَّى بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ الصَّلَاةِ، وَلَا وَجْهَ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ لَهُ. انْتَهَى.
وَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا ابْنُ عُبَيْدَانَ فِي شَرْحِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ التَّيَمُّمِ: إذَا خَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، أَوْ الْجِنَازَةَ وَنَحْوَهَا: هَلْ يَشْتَغِلُ بِالشَّرْطِ، أَوْ يَتَيَمَّمُ؟ وَيَأْتِي آخِرَ صَلَاةِ الْخَوْفِ: هَلْ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ أَمْ لَا؟ .
تَنْبِيهٌ:
مَفْهُومُ قَوْلِهِ (وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا) أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إلَى أَثْنَاءِ وَقْتِهَا، وَهُوَ صَحِيحٌ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْقَاتٌ مُوَسَّعَةٌ. لَكِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ الْأَصْحَابُ بِمَا إذَا لَمْ يَظُنَّ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ كَمَوْتٍ وَقَتْلٍ وَحَيْضٍ، وَكَمَنْ أُعِيرَ سُتْرَةً أَوَّلَ الْوَقْتِ فَقَطْ، أَوْ مُتَوَضِّئٍ عَدِمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ، وَطَهَارَتُهُ لَا تَبْقَى إلَى آخِرِ الْوَقْتِ. وَلَا يَرْجُو وُجُودَهُ. وَتَقَدَّمَ إذَا كَانَتْ لِلْمُسْتَحَاضَةِ عَادَةٌ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا فِي وَقْتٍ يَتَّسِعُ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ: أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لَهَا. فَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ جَازَ لَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى أَنْ يَبْقَى قَدْرُ فِعْلِهَا، لَكِنْ بِشَرْطِ عَزْمِهِ عَلَى الْفِعْلِ. عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ بِدُونِ الْعَزْمِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي التَّمْهِيدِ. وَذَكَرَهُ الْمَجْدُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. قَالَهُ ابْنُ عُبَيْدَانَ. قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ: وَمَالَ إلَيْهِ الْقَاضِي فِي الْكِفَايَةِ. وَيَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ: هَلْ يَأْثَمُ الْمُتَرَدِّدُ حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُهَا عَنْ بَعْضِهَا أَمْ لَا؟
. فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا: يَحْرُمُ التَّأْخِيرُ بِلَا عُذْرٍ إلَى وَقْتِ الضَّرُورَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ فِي الْعَصْرِ. وَقِيلَ: لَا يَحْرُمُ مُطْلَقًا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ لَا يُكْرَهُ أَدَاؤُهَا وَيَأْتِي فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ.
الثَّانِيَةُ: لَوْ مَاتَ مَنْ جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ قَبْلَ الْفِعْلِ، لَمْ يَأْثَمْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يَأْثَمُ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ: يَسْقُطُ إذَنْ بِمَوْتِهِ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ. فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا فِي الذِّمَّةِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا، لَا جُحُودًا، دُعِيَ إلَى فِعْلِهَا. فَإِنْ أَبَى حَتَّى تَضَايَقَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا: وَجَبَ قَتْلُهُ) . هَذَا الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ. انْتَهَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ، وَالْمُنَوِّرِ، وَالْمُنْتَخَبِ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، وَإِدْرَاكِ الْغَايَةِ، وَتَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا أَبَى حَتَّى تَضَايَقَ وَقْتُ أَوَّلِ صَلَاةٍ.
اخْتَارَهُ الْمَجْدُ، وَصَاحِبُ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْحَاوِي الْكَبِيرِ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَهِيَ أَظْهَرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَافِي، وَقَدَّمَهُ ابْنُ عُبَيْدَانَ، وَصَاحِبُ الْفَائِقِ، وَابْنُ تَمِيمٍ وَيَأْتِي لَفْظُهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا: يُقْتَلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، إلَّا الْأُولَى مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ لَا يَجِبُ قَتْلُهُ بِهَا، حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَعَنْهُ لَا يَجِبُ قَتْلُهُ حَتَّى يَتْرُكَ ثَلَاثًا وَيَضِيقَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ، قَدَّمَهُ فِي التَّلْخِيصِ، وَالْبُلْغَةِ، وَالْمُبْهِجِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الطَّرِيقِ الْأَقْرَبِ. وَعَنْهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إنْ تَرَكَ ثَلَاثًا. وَذَكَرَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي الْوَاضِحِ، وَالشِّيرَازِيُّ فِي الْمُبْهِجِ، وَالْحَلْوَانِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ. رِوَايَةً: يَجِبُ قَتْلُهُ إنْ تَرَكَ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: فَإِنْ أَبَى بَعْدَ الدُّعَاءِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَجَبَ قَتْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَضِقْ وَقْتُ الثَّانِيَةِ، نُصَّ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إنْ تَرَكَ صَلَاتَيْنِ. وَعَنْهُ إنْ تَرَكَ ثَلَاثًا. قَالَ: وَحَكَى الْأَصْحَابُ اعْتِبَارَ ضِيقِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى. وَضِيقِ وَقْتِ الرَّابِعَةِ، عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَغَالَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ. فَقَالَ: يُقْتَلُ لِتَرْكِ الْأُولَى، وَلِتَرْكِ كُلِّ فَائِتَةٍ إذَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. إذْ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُنَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى " حَتَّى تَضَايَقَ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا " وَفِي الرِّوَايَةِ
الثَّالِثَةِ " وَيَضِيقُ وَقْتُ الرَّابِعَةِ " قِيلَ فِي الْأُولَى: يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِ الصَّلَاتَيْنِ. وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ: عَنْ فِعْلِ الصَّلَوَاتِ الْمَتْرُوكَةِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْحَاوِيَيْنِ. وَقِيلَ: حَتَّى يَضِيقَ وَقْتُ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا عَنْ فِعْلِهَا فَقَطْ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ.
فَائِدَتَانِ
إحْدَاهُمَا: الدَّاعِي لَهُ: هُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ. فَلَوْ تَرَكَ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً قَبْلَ الدُّعَاءِ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ. وَلَا يَكْفُرُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَكَذَا لَوْ تَرَكَ كَفَّارَةً أَوْ نَذْرًا. وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ: أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ لَمْ يُدْعَ إلَيْهَا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ وَيَأْتِي كَلَامُهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي بَابِ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، عِنْدَ قَوْلِهِ " أَوْ اغْتَسَلَ " يَعْنِي بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ.
الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: بِمَ كَفَرَ إبْلِيسُ؟ فَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا: أَنَّهُ كَفَرَ بِتَرْكِ السُّجُودِ. لَا بِجُحُودِهِ. وَقِيلَ: كَفَرَ لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الشِّفَاهِيِّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ سبحانه وتعالى خَاطَبَهُ بِذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ: قَالَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ لَهُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّمَا كَفَرَ لِأَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَعَانَدَ، وَطَغَى وَأَصَرَّ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي تَمَرُّدِهِ.
وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ (خَيْرٌ مِنْهُ) فَكَانَ تَرْكُهُ لِلسُّجُودِ تَسْفِيهًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّمَا أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَاسْتَكْبَرَ. وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ. وَالِاسْتِكْبَارُ كُفْرٌ. وَقَالَتْ الْخَوَارِجُ: كَفَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ كُفْرٌ. وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ (وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلَاثًا) . حُكْمُ اسْتِتَابَتِهِ هُنَا: حُكْمُ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ، مِنْ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، نُصَّ عَلَيْهِ عَلَى مَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِهِ.
فَائِدَةٌ:
يَصِيرُ هَذَا الَّذِي كَفَرَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مُسْلِمًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، نَقَلَ حَنْبَلٌ: تَوْبَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْأَصْوَبُ:
أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْهَا. وَبِمُقْتَضَى مَا فِي الصُّوَرِ: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِنَفْسِ الشَّهَادَتَيْنِ. وَقِيلَ: يَصِيرُ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ وَبِالْإِتْيَانِ بِهَا.
ذُكِرَ ذَلِكَ فِي النُّكَتِ.
تَنْبِيهٌ:
ظَاهِرُ قَوْلِهِ (فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ) أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى الْقَتْلِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُضْرَبُ ثُمَّ يُقْتَلُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ " أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ تَهَاوُنًا " غَيْرُهَا، وَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. فَلَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ زَكَاةٍ بُخْلًا.
وَلَا بِتَرْكِ صَوْمٍ وَحَجٍّ يَحْرُمُ تَأْخِيرُهُ تَهَاوُنًا. وَعَنْهُ: يَكْفُرُ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَدَّمَ فِي النَّظْمِ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الصَّلَاةِ. وَعَنْهُ: يَكْفُرُ بِتَرْكِهِ الزَّكَاةَ إذَا قَاتَلَ عَلَيْهَا. وَعَنْهُ: يَكْفُرُ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلَيْهَا. وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ. وَحَيْثُ قُلْنَا " لَا يَكْفُرُ بِالتَّرْكِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ " فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَعَنْهُ لَا يُقْتَلُ. وَعَنْهُ يُقْتَلُ بِالزَّكَاةِ فَقَطْ. وَقَالَ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ: وَقَوْلُنَا فِي الْحَجِّ: يَحْرُمُ تَأْخِيرُهُ كَعَزْمِهِ عَلَى تَرْكِهِ. أَوْ ظَنِّهِ الْمَوْتَ مِنْ عَامِهِ بِاعْتِقَادِهِ الْفَوْرِيَّةَ: يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَدِّ بِوَطْءٍ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَحُمِلَ كَلَامُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَهَذَا وَاضِحٌ. ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ قَوْلًا وَلَا وَجْهَ لَهُ. ثُمَّ اخْتَارَ فِي الرِّعَايَةِ: إنْ قُلْنَا بِالْفَوْرِيَّةِ قُتِلَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي الْخِلَافِ. فَإِنَّهُ قَالَ: قِيَاسُ قَوْلِهِ: يُقْتَلُ كَالزَّكَاةِ قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخِلَافِ. فَقَالَ: الْحَجُّ وَالزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ سَوَاءٌ، يُسْتَتَابُ. فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ فِيمَنْ لَا اعْتِقَادَ لَهُ، وَإِلَّا فَالْعَمَلُ بِاعْتِقَادِهِ أَوْلَى وَيَأْتِي مَنْ أَتَى فَرْعًا مُخْتَلَفًا فِيهِ. هَلْ يَفْسُقُ بِهِ أَمْ لَا؟ وَيَأْتِي بَعْضُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمُرْتَدِّ.
فَائِدَتَانِ
إحْدَاهُمَا: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يُقْتَلُ بِصَلَاةٍ فَائِتَةٍ، لِلْخِلَافِ فِي الْفَوْرِيَّةِ. قَالَ
فِي الْفُرُوعِ: فَيُتَوَجَّهُ فِيهِ مَا سَبَقَ. وَقِيلَ: يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. فَعَلَى هَذَا: لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَضِيقَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ.
الثَّانِيَةُ: لَوْ تَرَكَ شَرْطًا أَوْ رُكْنًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، كَالطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا. فَحُكْمُهُ حُكْمُ تَارِكِ الصَّلَاةِ. وَكَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ: لَوْ تَرَكَ شَرْطًا أَوْ رُكْنًا مُخْتَلَفًا فِيهِ يُعْتَقَدُ وُجُوبُهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ. وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ تَابَعَهُ: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَيْسَ هُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ أَيْضًا: لَا بَأْسَ بِوُجُوبِ قَتْلِهِ، كَمَا نَحُدُّهُ بِفِعْلِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى مَذْهَبِهِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَفِي الْأَصْلِ نَظَرٌ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَهَلْ يُقْتَلُ حَدًّا، أَوْ لِكُفْرِهِ؟) عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْهِدَايَةِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ، وَالْكَافِي، وَالْهَادِي، وَالتَّلْخِيصِ، وَالْبُلْغَةِ، وَابْنُ عُبَيْدَانَ، وَالزَّرْكَشِيُّ، وَالشَّارِحُ. إحْدَاهُمَا: يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ. قَالَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَالزَّرْكَشِيُّ: اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ. قَالَ فِي الْفَائِقِ: وَنَصَرَهُ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ فِي الْإِفْصَاحِ: اخْتَارَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْخِرَقِيِّ، وَابْنُ مُنَجَّا فِي شَرْحِهِ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَذُكِرَ فِي الْوَسِيلَةِ: أَنَّهُ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَنَّهَا اخْتِيَارُ الْأَثْرَمِ وَالْبَرْمَكِيِّ. قُلْت: وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا، وَابْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي، وَأَصْحَابُهُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَالْمُبْهِجِ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، وَإِدْرَاكِ الْغَايَةِ، وَهُوَ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُقْتَلُ حَدًّا، اخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ. وَأَنْكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَكْفُرُ، وَقَالَ: الْمَذْهَبُ عَلَى هَذَا. لَمْ أَجِدْ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافَهُ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ. وَقَالَ: هُوَ أَصْوَبُ الْقَوْلَيْنِ، وَمَالَ إلَيْهِ الشَّارِحُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ، وَابْنُ عَبْدُوسٍ الْمُتَقَدِّمُ، وَصَحَّحَهُ الْمَجْدُ، وَصَاحِبُ الْمُذْهَبِ، وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ