الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي نردُّ عليه وهو"قراءة في كتب العقائد" أوضحُ شاهد على حقده على أهل السُّنَّة والجماعة في مختلف العصور.
3 ـ قوله: "وقد احتوت كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة، ولعلَّ من أبرزها" ثم ذكر ثلاثين نقيصة، هي كلُّ الذي انقدح في ذهنه فرماهم بها، ولو انقدح في ذهنه أكثرُ من ذلك لَم يبخل به عليهم؛ لأنَّ الحقدَ على أهل السُّنَّة والجماعة قد شوى قلبَه، ومن يكون حالُه كذلك فلا سبيل له إلى الإنصاف، ولا سبيل للإنصاف إليه، وهذه النقائص المزعومة التي رمى بها أهل السُّنَّة سيُفرِد كثيراً منها بالكلام، وسأردُّ عليه فيها.
14 ـ
قدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين والردُّ عليه
المالكي من أهل الأهواء والبدع الذين يخوضون في السنن حسب أهوائهم، فتراه يقدح في أحاديث صحيحة ولو كانت في الصحيحين أو أحدهما تبعاً لهواه، وليس ذلك بغريب على مَن زعم أنَّ السنَّة مختلفٌ في ثبوتها، فمن سهُلَ عليه الطعن في ثبوت السنَّة من أصلها سهُل عليه الطعنُ في أحاديث صحيحة لا تتَّفق مع هواه، وسيأتي ذكر نص كلامه في التشكيك في ثبوت السنَّة، وهذه نماذج من الأحاديث الصحيحة التي طعن في ثبوتها:
الأول: حديث أبي بكرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (2704) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتَين من المسلمين".
زعم المالكي أنَّه مختلفٌ فيه بين الوصل والإرسال، وزعم أنَّ المراد من الصلح الإبقاء على مُحبِّي أهل البيت لئلَاّ تفنيهم الحرب، قال في (ص: 72 ـ 73) : "فلا ريبَ أنَّ عليًّا هو الأصوب (يعني في قتاله لأهل الشام) ؛ لكثرة الأدلة الشرعية والعقلية التي معه، بعكس الحسن؛ إذ ليس معه إلَاّ حديث واحد مختلفٌ فيه بين الوصل والإرسال، وهو حديث (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين
…
") ، وقال في (ص: 74) : "أمَّا العثمانية ومنهم علماء الشام فهم يُثنون كثيراً على صلح الحسن، ليس حبًّا في الحسن، وإنَّما للطعن في حرب علي للبغاة، ويُردِّدون كثيراً حديث (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به
…
) ، ويُهملون حديث عمار (تقتله الفئة الباغية) ، مع أنَّ حديث صلح الحسن آحاد، ومختلف في وصله وإرساله، كما ذكر الدارقطني في العلل، بينما حديث عمار متواتر ومتفقٌ على صحَّته، ثم لا يُثنون على الصلح حبًّا لهذا الحديث، ولو كان الأمر حبًّا للأحاديث فحديث عمار أولَى بالمحبَّة؛ للاتفاق على صحَّته ولصراحة دلالته، بعكس حديث صلح الحسن، كما لا يُثنون على الصلح حبًّا في حقن الدماء ولا مراعاة لمصلحة الأمة كما يزعمون!! ".
وأمَّا زعمه أنَّ الصلحَ إنَّما هو للإبقاء على مُحبِّي أهل البيت من التعرض للقتل، فقد قال في (ص: 71) : "فكان الحسن بن علي بين أمرين: إمَّا أن يستعين بهذه القلَّة من المخلصين ضد هذه الجموع الكبيرة، وإمَّا أن يلجأ لمصالحة معاوية، فكان هذا الاختيار الأخير هو الذي ترجَّح عند الحسن لحفظ البقيَّة الباقية من محبِّي الإمام علي وأهل البيت؛ لعلهم ينشرون علومهم وسيرتهم، وكان اللجوء للخيار الأول (محاربة معاوية) يعني ـ إلى حدٍّ كبير ـ القضاء على كلِّ من يذكر الإمام علي بخير من أهل العراق، وبهذا
يضيع فضل وآثار (الثقل الثاني) بعد كتاب الله!! ".
وأجيب عن ذلك بما يلي:
1 ـ حديث صلح الحسن حديثٌ ثابت أخرجه البخاري وغيره من الأئمة، ولو كان من الآحاد فهو معتبَر؛ لأنَّ أحاديث الآحاد عند أهل السنَّة حجَّة في العقائد وغيرها، وقد حكى ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة الحسن رضي الله عنه روايته عن جماعة من الصحابة، وأنَّه متواتر، فقال:"وتواترت الآثار الصحاح عن النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّه قال في الحسن بن علي: "إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" رواه جماعةٌ من الصحابة".
وأمَّا ما زعمه بأنَّه مختلَفٌ فيه بين الوصل والإرسال، فإنَّ الحديث قد أخرجه البخاري (2704) ، و (7109) بإسناد متصل من رواية الحسن البصري، عن أبي بكرة، وفيه تصريحُ الحسن بسماعه من أبي بكرة رضي الله عنه، وفيه قول الحسن: "ولقد سمعتُ أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: إنَّ ابني هذا سيد
…
" الحديث.
وقال البخاري عقب سياق الحديث: "قال لي علي بن عبد الله (يعني ابن المديني) : إنَّما ثبت لنا سماعُ الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث".
وما زعمه من ذكر الاختلاف بين وصل الحديث وإرساله في علل الدارقطني، فإنَّ الدارقطني قد أثبت الحديث ولم يُعلَّه، وإنَّما أعلَّ طريقاً واحدة مخالفة للطريق الثابتة، ففي العلل للدارقطني (7/161) :"وسُئل عن حديث الحسن عن أبي بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد، وعسى الله
أن يصلح به بين فئتين عظيميتن من المسلمين" الحديث، فقال: حدَّث به أحمد ابن عبد الصمد النهرواني، وهو مشهور لا بأس به، عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن، ووهم فيه، وإنَّما رواه ابن عيينة، عن أبي موسى إسرائيل، عن الحسن، عن أبي بكرة، وكذلك رواه يونس ومنصور وعمرو بن عبيد، عن الحسن، وهو الثابت".
قال ابن حجر في لسان الميزان (1/214) : "وقد ذكر الدارقطني في العلل أنَّه (يعني أحمد بن عبد الصمد النهرواني) وهم في إسناد حديث مع أنَّه مشهور لا بأس به، والإسناد المذكور مِمَّا رواه عن ابن عيينة، عن أيوب، عن الحسن، عن أبي بكرة حديث (ابني سيد) ، والمحفوظ عن ابن عيينة، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن، عن أبي بكرة، كذلك أخرجه البخاري".
وبهذا يتبيَّن أنَّ الدارقطني لم يذكر اختلافاً بين وصل الحديث وإرساله، فهو متَّصل غير مرسل، وإنَّما ذكر طريقاً خالف فيها أحمد بن عبد الصمد غيرَه من الثقات، فذكر في الطريق المعلَّة أيوب بدلاً من إسرائيل الذي جاء في الطرق المحفوظة الثابتة، وهذا الذي وقع فيه المالكي من التخبط نتيجة حتمية لدخول الإنسان فيما لا يتقنه وليس من أهله.
وقد ذكر المالكي تحت عنوان"صلح الحسن وآثاره" الحديثَ في موضعين، ولم يكمله إلى آخره، مع أنَّه مختصر، وقد وصف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه الطائفتين العظيمتين بأنَّهما من المسلمين، وهو وصفٌ يُعجبُ كلّ مسلم ناصح للمسلمين، وقد قال سفيان بن عيينة:"قوله (من المسلمين) يعجبنا جدًّا"، قال الحافظ في الفتح (13/66) : "وفي هذه القصة من الفوائد عَلمٌ من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي؛ فإنَّه ترك المُلكَ لا لقلَّة، ولا لذِلَّة، ولا لعلَّة، بل لرغبته فيما عند الله، لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى
أمر الدِّين ومصلحة الأمة، وفيها ردٌّ على الخوارج الذي كانوا يكفِّرون عليًّا ومن معه، ومعاوية ومن معه، بشهادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنَّهم من المسلمين، ومن ثَمَّ كان سفيان بن عيينة يقول عقب هذا الحديث: قوله: (من المسلمين) يعجبنا جدًّا، أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الحميدي وسعيد بن منصور عنه".
2 ـ وأما زعمه أنَّ صلحَ الحسن إنَّما هو للإبقاء على محبِّي أهل البيت، فإنَّ الحديث واضحٌ في أنَّ الفائدةَ من الصلح تعود للفئتين العظيمتين من المسلمين، ولم يكن صلح الحسن لقلَّة من معه، بل لحقن الدماء من الجانبين وجمع كلمة المسلمين، وقد مرَّ قريباً في كلام الحافظ ابن حجر أنَّ ذلك لم يكن لقلَّة ولا لذلَّة ولا لعلَّة، بل لرغبته فيما عند الله، لِمَا رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدِّين ومصلحة الأمَّة، ومِمَّا يدلُّ على كثرة الجيش الذي كان مع الحسن رضي الله عنه ما جاء في صحيح البخاري (2704) أنَّ الحسن البصري قال:"استقبل ـ والله! ـ الحسنُ بنُ علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال".
وأهل السنَّة والجماعة يتولَّون أهلَ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرفون لهم فضلَهم، ولا يغلون بأحد منهم، وقد حُفظت سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبعهم بإحسان، مشتملة على ما يتعلَّق بأهل البيت وغير أهل البيت، وكُتُبُ أهل السنَّة حافلةٌ ببيان منزلة أهل البيت، كل أهل البيت، دون اقتصار على بعضهم ومعاداة للآخرين منهم، كما هو شأن أهل البدع، أمَّا ما اشتملت عليه كتب الرافضة من غلوٍّ في بعض أهل البيت، فإنَّ حفظَ ذلك جنايةٌ على أهل البيت، وهم بُرآءُ من الغالين فيهم وغلُوِّهم.
الثاني: حديث: "تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم"، قدح المالكيُّ في حديث الاعتصام بالكتاب والسنَّة، فقال في (ص: 71 ـ حاشية) : "الحديث (تركتُ فيكم ثقلين لن تضلُّوا ما تَمسَّكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) ، حديث صحيح، بل عدَّه بعضُ العلماء متواتراً، وأصله في صحيح مسلم، وقد عارضه بعض جهلة أهل السنَّة بحديث: (
…
كتاب الله وسنَّتي) ، وهو حديث ضعيفٌ عند محقِّقي أهل السنَّّة، مع أنَّه يُمكن الجمع بينهما!! ".
ويُجاب عن ذلك: بأنَّ الحديث صحيحٌ ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رواه الحاكم في مستدركه (1/93) عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ في حجَّة الوداع، فقال:"قد يئس الشيطان بأن يُعبد بأرضكم، ولكنَّه رضي بأن يُطاع فيما سوى ذلك مِمَّا تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا! يا أيُّها الناس! إنِّي قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبداً: كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم" الحديث، ثم قال الحاكم:"قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتجَّ مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم، وهذا الحديث لخطبة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم متفقٌ على إخراجه في الصحيح: "يا أيُّها الناس! إنِّي قد تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وأنتم مسؤولون عنِّي فما أنتم قائلون؟ " وذِكرُ الاعتصام بالسنَّة في هذه الخطبة غريب ويحتاج إليه، وقد وجدتُ له شاهداً من حديث أبي هريرة"، ثم ساق بإسناده عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي قد تركتُ فيكم شيئين لن تضلُّوا بعدهما: كتاب الله وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض".
وأصل الحديث في الصحيح الذي أشار إليه الحاكم هو ما جاء في حديث جابر الطويل في صفة حجَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم (1218)، وفيه:
"وقد تركت فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغت وأدَّيتَ ونصحتَ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللَّهمَّ اشهد! اللَّهمَّ اشهد! ثلاث مرَّات".
فالحديث صحيح، فكيف يزعم بأنَّه ضعيف، وكما أنَّه ثابتٌ من حيث الإسناد فأيُّ غرابة فيه من حيث المتن، والله عز وجل يقول:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وقال:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ؟! وليس بأيدي المسلمين إلَاّ التمسك بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم:"لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلَاّ هالك" حديث صحيح، رواه ابن أبي عاصم في السنة (48) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، ورواه أيضاً من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه (47) .
والذي ترك الناسَ عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا حديث ذِكر عترته أهل بيته صلى الله عليه وسلم مع الكتاب فلا يُنافي حديث ذكر الكتاب والسنَّة؛ لأنَّ أهلَ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل السنَّة والجماعة هم زوجاته وكلُّ مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، وهم الذين لا تحلُّ لهم الصدقة، وإنَّما خصَّ أهل البيت لاطلاعهم على كثير من أموره صلى الله عليه وسلم، ولهذا فأمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها روت الكثيرَ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور المتعلِّقة ببيته وغيرها، وكذا ابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قد روى الكثير من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا غيرهم من أهل البيت وغير أهل البيت رووا سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل السنَّة يُعوِّلون على الكتاب وكلِّ ما صحَّت به السنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء جاءت عن أهل
البيت أو غيرهم، وأمَّا بعض أهل الأهواء والبدع فهم يقصرون أهل البيت على علي وفاطمة رضي الله عنهما وأولادهما، ومِن هؤلاء المالكي الذي يغلو في علي وبعض أولاده، ويجفو في غيرهم من أهل البيت، ومن ذلك زعمه أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ صحبتَهما كصحبة المنافقين والكفار، وهو قولٌ أحدثه في القرن الخامس عشر ولم يسبقه إليه أحد طيلة القرون الماضية، وقد ذكرتُ كلامه في ذلك ورددتُ عليه في كتاب الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي.
الثالث: الحديث الذي أخرجه البخاري في تحريق علي زنادقة، قال المالكي في (ص: 80 ـ حاشية) : "قصة تحريق علي لهؤلاء غير صحيحة، وإنَّما الذي في صحيح البخاري أنَّ عليًّا حرَّق مرتدِّين، وفي لفظ (زنادقة) ، وليس في ذلك تصريح أو دلالة على السبئية كما يزعم البعض، ومع هذا أيضاً نجد الروايات في البخاري في موضوع التحريق مدارها على عكرمة مولى ابن عباس، وهو متَّهمٌ برأي الخوارج المنحرفين عن علي، وقد اختلف فيه أهل الجرح والتعديل، ثم لم يُتابَع على رواية هذا الحدَث الكبير إلَاّ من طريق ضعيفة عند أبي طاهر المخلص مع الاختلاف الكبير في السياق!! ".
وأجيب عن ذلك: بأنَّ قصةَ التحريق رواها البخاري في صحيحه في موضعين، الأول (3017) عن عكرمة:"أنَّ عليًّا رضي الله عنه حرَّق قوماً، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنتُ أنا لم أحرِّقهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تُعذِّبوا بعذاب الله، ولَقَتَلتُهم كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن بدَّل دينَه فاقتلوه".
الثاني (6922) عن عكرمة قال: "أُتي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
تعذِّبوا بعذاب الله، ولَقتَلتُهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن بدَّل دينه فاقتلوه".
فالحديث صحيح ثابتٌ عند الإمام البخاري، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح الأحاديث التي انتقدها عليه بعضُ النُّقَّاد، وأجاب عن الانتقاد، وليس منها هذا الحديث الذي طعن فيه المالكيُّ من أجل عكرمة مولى ابن عباس، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التقريب أنَّه لم يثبت عنه بدعة، وقال في مقدِّمة الفتح (ص: 425) : "فأمَّا البدعة، فإن ثبتت عليه فلا تضرُّ حديثَه؛ لأنَّه لم يكن داعيةً مع أنَّها لم تثبت عليه"، وذكر أيضاً أنَّ جماعةً من الأئمَّة صنَّفوا في الذَّبِّ عنه، منهم أبو جعفر بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وأبو عبد الله بن منده وأبو حاتم بن حبان وأبو عمر بن عبد البر.
وأمَّا طريق أبي طاهر المخلص التي زعم أنَّها ضعيفة فقد حسَّنها الحافظ في الفتح (12/270)، فقال: "وزعم أبو المظفر الإسفراييني في الملل والنحل أنَّ الذين أحرقهم علي طائفةٌ من الروافض ادَّعوا فيه الإلهية، وهم السبائية، وكان كبيرُهم عبد الله بن سبأ يهوديًّا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه قال: قيل لعلي: إنَّ هنا قوماً على باب المسجد يدَّعون أنَّك ربُّهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟! قالوا: أنت ربُّنا وخالقُنا ورازقنا! فقال: ويلكم! إنَّما أنا عبدٌ مثلُكم، آكلُ الطعامَ كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعتُ اللهَ أثابَنِي إن شاء، وإن عصيتُه خشيتُ أن يُعذِّبَني، فاتَّقوا الله وارجعوا، فأبَوا، فلمَّا كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد ـ والله! ـ رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخِلهم، فقالوا كذلك، فلمَّا كان الثالث قال: لئن قلتُم ذلك لأقتلنَّكم بأخبث قتلة، فأبوا إلَاّ ذلك، فقال: يا قنبر! ائتني بفعلة معهم مرورهم، فخدَّ
لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إنِّي طارحُكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:
إنِّي إذا رأيت أمرا منكراً
…
أوقدتُ ناري ودعوتُ قنبرا
وهذا سند حسن".
ويُحمل فعل علي رضي الله عنه على أنَّه أراد تغليظ العقوبة عليهم، ولم يبلغه النهيُ عن التحريق بالنار.
الرابع: حديث: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبَّار"، قال المالكي (ص: 122) : "كثرة الأكاذيب من الأحاديث الموضوعة والآثار الباطلة، وخاصة تلك المشتملة على التجسيم وتشبيه الله بالإنسان، سواء ما كان منها مكذوباً على النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو ما كان مكذوباً على بعض الصحابة والتابعين، أو كان مِمَّا تسرَّب إلى الكتب من الإسرائيليات المأخوذة عن اليهود والنصارى، وسبب الإكثار من هذه الأكاذيب والأباطيل أنَّ كلَّ فرقة أرادت الاحتجاج لآرائها ومبادئها بأحاديث وآثار وأخبار، فتلجأ إلى أخذ هذه الأكاذيب والإسرائيليات فيوقعهم هذا في الكذب، وقد يزيٍِّن الشيطان للأتباع تصحيح بعض هذه المكذوبات، كلُّ هذا بحجة نصرة السنَّة ونصرة العقيدة، ونسوا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار"، وتناسوا النصوص الشرعية الناهية عن الكذب والمحذِّرة منه، ومن أمثلة هذه الأكاذيب المنتشرة في كتب عقائد الحنابلة
…
" ثم ذكر جملة من الأحاديث والآثار نقلاً من كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وعبد الله ابن الإمام أحمد قد أوردها بأسانيدها، منها ما هو ثابتٌ، ومنها ما ليس
بثابت، وإيراده لها لا يعني ثبوت كلِّ ما أورده عنده، وقد مرَّ النقل عن ابن تيمية وابن حجر أنَّ المحدِّثين يوردون ما يتعلَّق بالباب ليُعلم، ولينظر من له أهلية النظر في الأسانيد لمعرفة ما يثبت وما لا يثبت.
ومِمَّا ذكره المالكي وهو صحيح ثابت حديث"غِلَظ جلد الكافر"، فقال (ص: 125) : "ومن هذه الخزعبلات المرويَّة أنَّ جلدَ الكافر يوم القيامة أربعون ذراعاً بذراع الجبار"، وعزاه إلى السنَّة (2/492) ، وهو في هذا الموضع عن عبد الله بن مسعود بإسناد حسن موقوف عليه، وقد أورده عبد الله بن الإمام أحمد (2/509 ـ 510) من طريق هارون بن معروف وأبي معمر، عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن ابن مسعود، وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، وله حكم الرفع، وأورده عقبَه عن أبي هريرة مرفوعاً، فقال: حدَّثنيه أبو خيثمة زهير بن حرب، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، نا شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار، وضرسَه مثل أُحُد"، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ورواية الأعمش له بالعنعنة لا تؤثِّر، قال الذهبي في ترجمته في الميزان:"فمتى قال (حدَّثنا) فلا كلام، ومتى قال (عن) تطرَّق إليه احتمال التدليس، إلَاّ في شيوخ له أكثَرَ عنهم، كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمَّان، فإنَّ روايته عن هذا الصنف محمولةٌ على الاتِّصال"، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1794) .
وقد أخرجه الحاكم في المستدرك (4/595) فقال: "حدَّثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أنبأ محمد بن سليمان بن الحارث، ثنا عبيد الله بن موسى، أنبأ شيبان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيّ
صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ غلظَ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً بذراع الجبار، وضرسَه مثلُ أُحُد"، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال الشيخ أبو بكر رضي الله عنه: معنى قوله (بذراع الجبار) : أي جبَّار من جبابرة الآدميين، مِمَّن كان في القرون الأولى، مِمَّن كان أعظمَ خلقاً وأطولَ أعضاء وذراعاً من الناس".
وبيان غلظ ضرس الكافر وأنَّه مثل أُحُد جاء في صحيح مسلم (2851) .
وكما أنَّ الحديث ثابتٌ من حيث الإسناد، فقد بيَّن أهلُ العلم معناه، ومن ذلك كلام أبي بكر شيخ الحاكم المتقدِّم، وقد نقل البيهقي بعد إخراجه الحديث في الأسماء والصفات (ص: 431) عن بعض أهل النظر أنَّه قال: "إنَّ الجبار ههنا لم يُعن به القديم، وإنّما عُني به رجلاً جبَّاراً كان يوصَف بطول الذراع وعظم الجسم، ألا ترى إلى قوله: {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ، وقوله (بذارع الجبار) أي: بذراع ذلك الجبار الموصوف بطول الذِّراع وعظم الجسد، ويحتمل أن يكون ذلك ذراعاً طويلاً يذرع به يُعرف بذراع الجبَّار، على معنى التعظيم والتهويل، لا أنَّ له ذراعاً كذراع الأيدي المخلوقة".
وقال المناوي في فيض القدير (4/255) : "أراد به هنا مزيد الطول أو أنَّ الجبَّار اسم ملِك من اليمن أو العجم كان طويل الذراع، وقال الذهبي: ليس ذا من الصفات في شيء، وهو مثل قولك ذراع الخياط وذراع النجار".
وفي قصَّة مرور إبراهيم عليه الصلاة والسلام وزوجه سارة بجبَّار من الجبابرة في صحيح مسلم (2371) قول إبراهيم لسارة: "إنَّ هذا الجبَّار إن يعلم أنَّك امرأتي يغلبُني عليك، فإن سألَك فأخبريه أنَّك أختي، فإنَّك أختي في الإسلام، فإنِّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك"، وفيه: "فلمَّا
دخل أرضَه رآها بعضُ أهل الجبَّار" الحديث.
وبناء على ما تقدَّم من الكلام على هذا الحديث إسناداً ومتناً يتبيَّن أنَّ الخزعبلات في دماغ المالكي، وليست فيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخامس: حديث "خلق الله آدم على صورته"، قال المالكي في (ص: 125) : "ورووا خزعبلات أخرى ظاهرها التجسيم والتشبيه، مثل قولهم"، وذكر جملة منها، إلى أن قال:"وأنَّه خلق آدم على صورته هو"، وأشار إلى المصدر وهو السنة لعبد الله بن أحمد (2/472) ، وهذا سياقه في كتاب السنة، قال: حدَّثني أبو معمر، نا جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبِّحوا الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن تبارك وتعالى"، ومنه يتبيَّن أنَّ عزو المالكي ليس مطابقاً لما في المصدر الذي عزا إليه، والحديث بهذا السياق ضعَّفه بعضُ أهل العلم. انظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1176) ، وصحَّحه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه كما نقل ذلك في الفتح (5/183) ، وفي الإسناد الأعمش وحبيب بن أبي ثابت وهما مدلِّسان، وقد مرَّ قريباً في الحديث الرابع كلام الذهبي في تدليس الأعمش، وأمَّا عنعنة حبيب بن أبي ثابت، فقد قال الألباني في السلسلة الصحيحة (3413) عنها:"فمثله مِمَّا يغضُّ النظر عن عنعنته عند العلماء"، وقد ورد الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً:"خلق الله آدم على صورته" رواه البخاري (6227) ، ومسلم (2612) ، وليس فيه كلمة (هو) التي ذكرها المالكي، واخْتُلف في مرجع الضمير في الحديث، والصحيح رجوعه إلى الله، ولا يلزم منه التشبيه كما زعم المالكي، ومعناه عند أهل السنَّة ما ذكره الحافظ
في الفتح، حيث قال (11/3) :"وقيل الضمير لله، وتَمسَّك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه (على صورة الرحمن) ، والمراد بالصورة الصفة، والمعنى أنَّ الله خلقه على صفته من العلم والحياة والسمع والبصر وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء".
وبهذا يتبيَّن أنَّ ما صحَّ به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من الخزعبلات، وإنَّما هو من علم الغيب الذي يجب الإيمان به والتصديق، من غير تشبيه بالخلق، وإنَّما الخزعبلات في أدمغة أهل البدع والأهواء، ومنهم المالكي.
السادس: حديث: "ألَا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام" وأحاديث أخرى في فضل الشام.
أورد المالكي في (ص: 79) تحت عنوان"النواصب بالشام ووضع الأحاديث" كلاماً قال فيه: "ومن آثار الدولة الأموية أن قوي في الشام تيار النواصب الذي ركَّز على فضيلة الأرض؛ لأنَّه لَمَّا رأى هذا التيار أنَّ صاحبهم لا يوازي عليًّا ولا يكاد، نشرت النواصب فضل الوطن بدلاً من فضل الشخص!! فروت أنَّ الشام هي دار الهجرة عند حدوث الفتن!! وأنَّ الإيمان عند وقوع الفتن بالشام!! وأنَّ فيها الطائفة المنصورة التي ستبقى لا يضرها مَن خالفها إلى قيام الساعة!! وأنَّ في العراق تسعة أعشار الشر!! وأنَّ عثمان سيقتله (المنافقون) مظلوماً!! وأنَّهم سيدخلون النار!! وأنَّ عثمان سيحكم يوم القيامة في القاتل والخاذل!! وغير ذلك من الأحاديث ذات الصبغة السياسية وبعض تلك الأحاديث له أصل صحيح زادت فيه العثمانية والنواصب زيادات فجيرته لصالحها مثل حديث (لا تزال طائفة من أمَّتي منصورين على من خالفهم
…
الحديث) زادت فيه النواصب زيادات توهم
أنَّ تلك الطائفة هي بالشام وهي (عسكر معاوية) !! وقد صحَّح بعض أهل الحديث تلك الأحاديث متناسين أنَّ هذه الأحاديث وُضعت للالتفاف على فضل علي ومن معه (من المهاجرين والأنصار وأهل بدر) والرفع من معاوية ومن معه من أعاريب لَخم وجذام وكلب إضافة للالتفاف على حديث عمار ابن ياسر وعلى وضوح حق الطرف الشرعي للخلافة وقد بقي الانحراف عن علي في أهل الشام إلى يومنا هذا، وهم يلجئون إلى التوفيق بين تيار العثمانية (النواصب) وتيار المحايدين من السنة كما فعل ابن تيمية في منهاج السنة مثلاً!! ".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ لم يقتصر المالكي على القدح في آحاد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تعدَّى ذلك إلى القدح فيها بالجملة، ومن ذلك ما زعمه هنا من أنَّ النواصب في الشام وضعوا الأحاديث في فضل الأرض، ومن الأحاديث التي مثَّل بها للأحاديث الموضوعة في فضل الشام، أحاديث صحيحة، لم يوصف رجالها بضعف، فضلاً عن وصفهم بالوضع، ومنها حديث:"ألا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام" فقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده (21733)، فقال: حدَّثنا إسحاق بن عيسى، حدَّثنا يحيى بن حمزة، عن زيد بن واقد، حدَّثني بُسر بن عبيد الله، حدَّثني أبو إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم إذ رأيتُ عمود الكتاب احتُمل من تحت رأسي، فظننتُ أنَّه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتنُ بالشام"، وهذا حديث صحيح، رجاله كلُّهم ثقات، فأبو إدريس الخولاني وبُسر بن عبيد الله ويحيى بن حمزة من رجال الشيخين، بل هم من رجال أصحاب الكتب الستة، وزيد بن واقد من رجال البخاري،
وإسحاق بن عيسى من رجال مسلم، فليس فيهم ضعيف، فضلاً عن أن يكون وضَّاعاً، وقال الحافظ في الفتح (12/403) :"وسنده صحيح"، وللحديث شواهد عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن حوالة، وقد صحَّحها الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي (ص: 6، 11، 12) ، وذكر في مقدِّمة تخريجه أنَّ الأحاديث المرفوعة فيه بلغت واحداً وأربعين حديثاً بالمكرَّر، وقال:"وأكثرُها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع".
ومن أصحِّ ما جاء في فضل الشام حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمَننا، قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ قال: اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمَننا، قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ فأظنُّه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان" أخرجه البخاري (7094) ، والحديث واضح الدلالة في فضل الشام واليمن، والمراد بنجد فيه ـ كما جاء في بعض الروايات وبيَّنه أهل العلم ـ العراق، قال الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على حديث ابن عمر من كتابه تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي (ص: 9 ـ 10) : قال: "وأمَّا حديث ابن عمر فأخرجه أبو نعيم (6/133) ، وابن عساكر إلى قوله (وفي العراق)، وزاد:(فأعرض عنه، فقال: فيه الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان) ،
وإسناده صحيح، ورواه الطبراني في الكبير من طريق أخرى عن ابن عمر، وسنده صحيح أيضاً، وقد أورده في المجمع (3/305) وقال:(رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات)، وأخرجه أحمد (2/143) مختصراً بلفظ:(قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير بيده يؤم العراق: ها إنَّ الفتنة ههنا، ثلاث مرَّات، من حيث يطلع قرن الشيطان) ، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرج في صحيحه (8/181) نحوه، وفي رواية له من وجه آخر عن سالم بن عبد الله، قال:"يا أهل العراق! ما أسأَلَكُم عن الصغيرة، وأركبَكم للكبيرة؟! سمعتُ أبي عبد الله بن عمر يقول"، فذكره، وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من وجه آخر عن سالم به مرفوعاً، وأخرج البخاري (13/38 ـ بشرح العسقلاني) وأحمد (2/118) وابن عساكر من طريق نافع، عن ابن عمر مرفوعاً:"اللَّهمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهمَّ بارك لنا في يَمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل" الحديث، وأخرجه الترمذي وصحَّحه، وعزاه المنذري في الترغيب (4/61) للترمذي وحده فوهم، وله عند أحمد (2/126) طريق أخرى عن ابن عمر، ولحديثه الأول عند أبي نعيم شاهد من حديث ابن عباس، ساق لفظَه الهيثمي، وقال:(رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات) ، وروى بعضَه الخطيب في تاريخه (1/24، 25) ، ومن طريقه ابن عساكر من حديث معاذ بن جبل.
فيُستفادُ من مجموع طرق الحديث أنَّ المراد من (نجد) في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنَّما هو العراق، وبذلك فسَّره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني، وتجد كلامَهما في ذلك في شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري للحافظ، وقد تحقَّق ما أنبأ به عليه السلام؛ فإنَّ كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق
…
".
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/47) بعد أن نقل كلاماً للخطابي: "وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر
…
وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مِمَّا يُحبُّه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة، وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجدُه باديةَ العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصلُ
النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنَّه ما انخفض منها، وتهامة كلُّها من الغور ومكة من تهامة".
وقال قبل ذلك في الفتح (6/352) عند شرح حديث "رأس الكفر نحو المشرق": "وفي ذلك إشارة إلى شدَّة كفر المجوس؛ لأنَّ مملكة الفرس ومَن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القسوة والتكبُّر والتجبُّر حتى مزَّق مَلِكُهم كتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه، واستمرَّت الفتنُ من قِبَل المشرق كما سيأتي بيانه واضحاً في الفتن".
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/34) : "والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر، كما قال في الحديث الآخر: (رأس الكفر نحو المشرق) ، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجَّال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس".
وقد مرَّ في كلام ابن حجر قريباً أنَّ ظهور البدع كان من تلك الجهة أي جهة المشرق، ومن أمثلة ذلك أنَّ الخوارجَ والشيعةَ والقدريةَ والجهميَّةَ كان خروجُهم من تلك الجهة، ومجيء التتارُ للقضاء على الخلافة العباسية وسقوط بغداد كان من المشرق، وفي آخر الزمان خروج الدجال من تلك الجهة، فإنَّه كما جاء في صحيح مسلم (2137) يخرج من خلة بين الشام والعراق، وفي صحيحه أيضاً (2944) :"يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة".
وكما أنَّ تلك الجهة منشأ كثير من البدع، ومنها ظهور كثير من الشرور، فإنَّ فيها الكثيرين من أهل العلم الذين ردُّوا على المبتدعة، ومنها محدِّثون وفقهاء كبار، ومن هؤلاء أصحاب الكتب الستة: محمد بن إسماعيل
البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبو داود السجستاني، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وابن ماجه القزويني، وقد ألَّف الشيخ محمد أشرف سندهو المتوفَّى سنة (1373هـ) رسالة أوضح فيها ما يتعلَّق بهذا الموضوع، سَمَّاها:"أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان".
وإنَّما ذكرتُ هنا بيان المراد بـ"نجد" وأنَّه العراق وما وراءه، كما جاء مبيَّناً في بعض الروايات وأقوال بعض أهل العلم؛ لأنَّ بعضَ الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يُلبِّسون على غيرهم بأنَّ المراد بـ"نجد" نجد اليمامة، ولم تشتهر اليمامةُ باسم"نجد" إلَاّ في أزمان متأخرة، ومن المعلوم أنَّ"نجداً" في اللغة تُطلق على ما ارتفع وعلا من الأرض، وهي ما يُقابل"الغور" و ((تهامة"، والمراد بـ"نجد" التي وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها"قرن المنازل" الأماكن المرتفعة التي يأتي أهلُها من الطائف وغيره، وقد ذكر الفيروزآبادي في القاموس المحيط عدداً من النجود، منها نجد الود ببلاد هذيل، ونجد برق باليمامة.
السابع والثامن: قدحُه في ثبوت حديث افتراق الأمَّة إلى ثلاث وسبعين، وحديث العرباض بن سارية "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، والردُّ عليه.
عاب في (ص: 182) على أهل السنَّة تسميتهم أنفسهم بأهل السنَّة لحديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين"، وقال:"علماً بأنَّ الحديث السابق وحديث افتراق الأمَّة محل تنازع في التضعيف والتصحيح داخل أهل السنَّة!! ".
والجواب: أنَّ المالكيَّ هو من أهل الأهواء والبدع، ومن أجل ذلك يقدح في الأحاديث التي لا توافق هواه، كهذين الحديثين، كما أنَّه يحتفي بأهل البدع ويُدافع عنهم، ولا يعتبرهم على باطل، وقد قال في (ص: 41 ـ حاشية) : "فقد يكون الحقُّ مع طرف، ولكنَّه نادر خاصة في العقائد، والأصل أنَّ معظمَ الاختلافات بين المسلمين أن يكون كل طرف ممسكاً بطرف من الحقيقة!! ".
فأمَّا حديث العرباض بن سارية، فرواه جماعةٌ كثيرون، ففي تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيره على جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم لابن رجب (2/109) :"رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، ورواه أيضاً أحمد (4/126 ـ 127) ، والدارمي (1/44) ، وابن ماجه (43) و (44) ، وابن أبي عاصم في السنة (27) ، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/69) ، والبغوي (102) ، والآجري في الشريعة (ص: 46) ، والبيهقي (6/541) ، واللالكائي في أصول الاعتقاد (81) ، والمروزي في السنة (69) ـ (72) ، وأبو نعيم في الحلية (5/220) ، و (10/115) ، والحاكم (1/95 ـ 97) ، وصححه ابن حبان (5") .
ولفظه عند أبي داود، قال العرباض:"صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنَّ هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ عبداً حبشيًّا؛ فإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تَمسَّكموا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة".
والحديث صحيح عند أهل السنَّة، قال فيه الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال:"هذا حديث صحيح ليس له علَّة"، ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ أبو نعيم: "هو حديث جيِّد من صحيح حديث الشاميين"، كما في جامع العلوم والحكم (2/109) ، وحسَّنه البغوي في شرح السنة (102) ، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم (1/18 ـ 20) وغيره.
والحديث مشتملٌ على الترغيب في اتِّباع السنَّة والتحذير من البدع، وبيان أنَّها كلَّها ضلالةٌ، ومثل ذلك حديث أنس رضي الله عنه في حديث طويل:"فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي"، أخرجه البخاري (5063) ، ومسلم (1401) .
وحديث العرباض رضي الله عنه من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، وقد أدخله النووي في كتابه الأربعين، وهو الحديث الثامن والعشرون منه، والمعنى في هذا الحديث هو المعنى في قول الله عز وجل:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .
وأمَّا حديث افتراق الأمَّة إلى أكثر من سبعين فرقة، فقد جاء عن جماعة من الصحابة، منهم معاوية رضي الله عنه، أخرجه أحمد (16937) ، وأبو داود (4597) وغيرهما، ولفظه عندهما:"إنَّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة يعني الأهواء، كلُّها في النار إلَاّ واحدة، وهي الجماعة".
وقد حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (204) ، وهو صحيح لشواهده التي جاءت عن أنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعوف بن مالك وأبي أمامة رضي الله عنهم، وانظر تخريجها في التعليق على المسند لشعيب الأرنؤوط وغيره (16937) ، وقال الحاكم في المستدرك (1/6) عن
حديث افتراق الأمة "هذا حديث كبير في الأصول"، وقال أيضاً (1/128) :"هذه أسانيد تُقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث"، ووافقه الذهبي، ونقل الألباني في السلسلة الصحيحة تحت الرقم السابق تصحيح بعض العلماء للحديث، منهم ابن حجر وابن تيمية والشاطبي والعراقي، وذكر الشيخ الألباني في تعليقه على حديث أنس من كتاب السنة لابن أبي عاصم (64) أنَّ الحديث صحيح قطعاً لطرقه وشواهده.
وفي بعض ألفاظ الحديث عن أنس وعبد الله بن عمرو في بيان الفرقة الناجية: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، قال الحافظ عن حديث أنس في لسان الميزان (6/56) :"والمحفوظ في المتن (تفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلَاّ واحدة، قالوا: وما تلك الفرقة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي") .
وحديث عبد الله بن عمرو عند الترمذي والحاكم، وفي إسناده عبد الرحمن بن أنعم الإفريقي، وهو ضعيف، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب"، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2641)، وقال البغوي في شرح السنة (1/213) :"وثبت عن عبد الله بن عمرو"، فساق الحديث، وفي آخره:"ما أنا عليه وأصحابي"، ويتقوَّى بحديث أنس، وكذلك بالشواهد الأخرى التي فيها ذكر وصف الفرقة الناجية بالجماعة؛ لأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل الجماعة، وهم خير الجماعة.
وهذه الفرق هم من المسلمين، ومستحقُّون لدخول النار لبدعهم، وهم تحت مشيئة الله، إلَاّ الفرقة الناجية التي كانت على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.