الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
31 ـ
استشهاده لباطله بكلام لعَمرو بن مُرَّة ومحمد بن إبراهيم الوزير والمقبلي والصنعاني والقاسمي، والردُّ عليه
أورد في نهاية قراءته المزعومة في كتب العقائد ملحقاً بعنوان: "ملحق بأقوال بعض العلماء والباحثين قديماً وحديثاً"، قال فيه:"هذا الملحق خاصٌّ ببعض الأقوال لبعض العلماء والمهتمين في الماضي والحاضر، أحببت إيرادها هنا لتعلقها بالموضوع، ولم أشأ أن أتوسَّع في ذكر النماذج، وإلَاّ فهي كثيرة والحمد لله، لكن سأختار ما يتفق مع المنهج الذي طرحته في هذا الكتاب أو كان قريباً من ذلك، وقد اكتشفت بأنَّ هذا المنهج ـ الذي يرجع للكتاب والسنَّة ولا يتعصَّب للطوائف الأخرى أو على الأقل يحاول الإنصاف ـ كثير طرقه عند علماء المسلمين وباحثيهم، سنذكر منهم على سبيل المثال بعض النماذج!! ".
ثم ذكر خمسة من العلماء مضوا، وهم عمرو بن مرَّة المتوفى سنة (118هـ) ، ومحمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (840هـ) ، وصالح بن مهدي المقبلي المتوفى سنة (1108هـ) ، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة (1182هـ) ، ومحمد جمال الدين القاسمي المتوفى سنة (1332هـ) ، أراد بذكرهم الاستشهاد على ما زعمه من الاكتفاء بإسلام لا مجال فيه للحبِّ في الله والبغض في الله، ولا يُتعرَّض فيه لأمور العقيدة، ولا للتحذير من البدع، ويُكتفى فيه بإسلام جملي، مع الواجبات الظاهرة والمحرَّمات الظاهرة، وقد زعم أنَّ العلماء على هذه الطريقة كثيرون، ولكنَّه اختار منهم هؤلاء، ولا شكَّ أنَّه متكثِّر بهذا العدد القليل من قلَّة، وأنَّ إشارتَه إلى كثرتهم هي من قَبيل التهويل والتلبيس، وإلَاّ فكيف لم يظفر خلال الثمانية القرون الأولى إلَاّ
بشخص واحد، وهو عمرو بن مرة، مع أنَّ الأثر الذي أضافه إليه لم يثبت، كما سأبيِّنه قريباً.
وكذلك الأربعة الباقون، سأذكر من كلامهم ما يوضِّح أنَّهم في واد وهو في واد آخر، وأنَّهم يبيِّنون الحقَّ في العقيدة، ولا يكتفون بالإيمان الجملي المزعوم، الذي لا يُتعرَّضُ معه لمباحث العقيدة.
فأمَّا عمرو بن مرَّة، فقد أورد عنه أثراً من كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، لمحمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري المتوفى سنة (375هـ) ، وهو بإسناده إلى مسعر بن كدام، قال: "ما أدركت من الناس من له عقلٌ كعقل ابن مرة، جاءه رجلٌ، فقال: عافاك الله، جئتُ مسترشداً، إنَّني رجلٌ دخلت في جميع هذه الأهواء، فما أدخل في هوى منها إلَاّ القرآن أدخلني فيه، ولم أخرج من هوى إلَاّ القرآن أخرجني منه، حتى بقيتُ ليس في يدي شيء؟
قال: فقال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلَاّ هو! جئتَ مسترشداً؟
فقال: والله الذي لا إله إلَاّ هو! لقد جئتُ مسترشداً.
قال: نعم! أرأيتَ هل اختلفوا في أنَّ محمداً رسول الله، وأنَّ ما أتى به من الله حقٌّ؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في القرآن أنَّه كتاب الله؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في دين الله أنَّه الإسلام؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنَّها القبلة؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنَّها خمس؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في رمضان أنَّه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الحج أنَّه بيت الله الذي يحجُّونه؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنَّها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا.
قال: فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنَّه واجب؟ قال: لا.
قال مسعر: فذكر هذا وأشباهه، ثم قرأ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، فهل تدري ما المحكم؟ قال: لا. قال: فالمحكم ما اجتمعوا عليه، والمتشابه ما اختلفوا فيه، شد نيَّتك في المحكم، وإيَّاك والخوض في المتشابه، قال: فقال الرجل: الحمد لله الذي أرشدني على يديك، فوالله! لقد قمت من عندك وإنِّي لَحَسن الحال، قال: فدعا له وأثنى عليه".
وهذا الأثر في إسناده مَن لم أقف على تراجمهم، وفيه بشر بن عمارة الذي يروي عن مسعر، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب:"ضعيف"، فهو غير ثابت عن عمرو بن مرة.
وقوله في متنه: "أرأيتَ هل اختلفوا في أنَّ محمداً رسول الله، وأنَّ ما أتى به من الله حقٌّ؟ "، أقول: ما جاء به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حقٌّ يجب الإيمان به جملة وتفصيلاً، ويدخل في ذلك كلُّ ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمالكي لا يقبل من الأحاديث الصحيحة إلَاّ ما يوافق هواه، وهو يزعم أيضاً أنَّه لا يعوِّل إلَاّ على ما كان من النصوص قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة، وهذه طريقة أهل البدع، الذين لا يأخذون بأحاديث الآحاد في العقيدة؛ لأنَّها ليست قطعيةَ الثبوت بزعمهم، ثم أيضاً فأهل السنَّة لم يختلفوا في أنَّ القرآنَ كلامُ الله وأنَّه غير مخلوق، وأن الله يُرى في الدار الآخرة، وأنَّ عذاب القبر حقٌّ، وهذه المسائل الثلاث وغيرها مِمَّا خالف فيها بعض المبتدعة، والمالكي لا يريد ذكر شيء فيه اختلاف بين أهل السنَّة وغيرهم من فرق الضلال.
وأمَّا محمد بن إبراهيم الوزير، فلَم ينقل عنه كلاماً، بل اكتفى بقوله (ص: 208) : "كل كتاب إيثار الحق على الخلق"، ولم يتحقَّق له ما أراده من الاستشهاد لكون الحقِّ لا يكون مع فرقة معيَّنة إلَاّ نادراً، وأنَّ كلًَّ فرقة ممسكة بطرف من الحقِّ كما زعم ذلك؛ فإنَّ باقي عنوان الكتاب يدلُّ على ردِّ الخلاف إلى القول الحقِّ؛ إذ إنَّ عنوانَ كتابه:"إيثار الحقِّ على الخلق في ردِّ الخلافات إلى المذهب الحقِّ من أصول التوحيد"، وقد قال في (ص: 45) : ((والطرق إلى الله تعالى كثيرة جدًّا، ولكنَّا نقتصر منها على أصحِّها وأجلاها وأوضحها وأشفاها؛ حتى نأمن بالسلوك فيها من الضلال في الطرق التي تُبعُدُ السائرَ فيها عن مقصوده والعياذ بالله، وإلى تلك الطرق الإشارة بقوله تعالى:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، وقد يكون فيها ما يستلزم رد كثير من الشرائع".
وأمَّا المقبلي، فإنَّه نقل عنه من أول كتابه:"العلم الشامخ في تفضيل الحقِّ على الآباء والمشايخ" كلاماً في اعتماده على الدليل وعدم تقليده لأحد، وهو لا يدلُّ على ما زعمه المالكي من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه لمسائل العقيدة، ولا يُحذَّر فيه من بدعة؛ فإنَّ كتابَه المذكور مشتمل على تقرير حسن لبعض المسائل في العقيدة، ومن ذلك قوله في (ص: 57) : "وما أحسن جواب بعض المحدِّثين وقد سُئل عن أحاديث الصفات، فقال: رواها لنا الذين رووا لنا الصلاة والزكاة وسائر الشريعة، انتهى. فالواجب تسليم ما صحَّ، وما اشتبه معناه رددناه إلى الله سبحانه، ولا يغرَّنك قولهم: آحاديٌّ فلا نقبله في مقابلة العقل؛ لأنَّ ما رواه الثقات مقبول، وإلَاّ اطَّرحنا أكثرَ الشريعة، والدليل على قبول الآحاد شامل لكلِّ الدين، والتفرقة جاءت من
قِبَلهم لا من قِبَل الله ورسوله، والعقل قد فرضنا أنَّه لم يدرك حقيقة ذلك، فكيف يُقال: إنَّه مصادمٌ له؟! ".
وهذا الكلام من المقبلي رحمه الله مناقضٌ لما زعمه المالكي متابعاً المتكلِّمين أنَّه لا يُعوَّل من النصوص إلَاّ على ما كان قطعيَّ الثبوت والدلالة، فإنَّ المقبليَّ قرَّر بكلامه أنَّ أحاديث الآحاد حجَّةٌ في العقائد وغيرها، وأنَّ التفريقَ بينها إنَّما جاء من قبَل المتكلمين، وقوله في (ص: 161) : "كما أنَّ المتكلِّمين خاطروا في النظر في ماهية الصفات في حقِّ الله تعالى، وتكلَّفوا ما لا يعنيهم من عدم الاقتصار على المدلول اللغوي العربي الذي يُحمل عليه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّهم قد اقتحموا أطمَّ من ذلك، وسلكوا أصعبَ المسالك، واقتصروا على إثبات قليل من الصفات، كقادر وعالم ونحوهما، ونفوا سائر الصفات وجعلوها مجازات كصفة الرِّضا والغضب والمحبَّة والرحمة والحلم، وغير ذلك مِمَّا وصف به تعالى نفسه، وكرَّر التمدُّح به، ومِمَّا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
ثم إنَّ المالكيَّ ومعه أحد الضُّلَاّل الذين ذكرهم في آخر كتابه يعيبون على أهل السنَّة ذكرهم الدجَّال والمهدي في كتب العقائد، وقد تقدَّم ذلك، والمقبلي قد ذكر الدجَّال والمهدي وغير ذلك من أشراط الساعة في كتابه هذا (ص: 69 ـ 70) .
وأمَّا الصنعاني، فقد نقل عنه كلاماً عاماًّ لا يدلُّ على ما أراده من الاكتفاء بإسلام لا يُتعرَّض فيه للبدع، فإنَّه رحمه الله قد ألَّف كتاب ((تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، أوضح فيه توحيد الألوهية، وأنَّه الذي بعث الله من أجله الرسلَ، وبيَّن خطورة الشرك، وبطلان ما وقع فيه كثيرٌ من
المسلمين من الافتتان بالقبور والاستغاثة بأهلها، وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأنَّ هذا من الشرك بالله، وهذا ما لا يريده المالكي الذي شنَّع على الإمام ابن تيمية في عنايته واهتمامه بتوحيد الألوهية، وقد مرَّ الردُّ عليه في ذلك قريباً.
وبراعة الصنعاني رحمه الله في استهلال كتابه واضحة جليَّة في الدلالة على المقصود؛ حيث قال في مطلع كتابه: "الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيَّته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كلَّّ الإفراد، ومن اتِّخاذ الأنداد، فلا يتَّخذون له ندًّا، ولا يدعون معه أحداً، ولا يتَّكلون إلَاّ عليه، ولا يفزعون في كلِّ حال إلَاّ إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى، ولا يتوصَّلون إليه بالشفعاء {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ".
وأنا أنقل من هذا الكتاب جُملاً تُبيِّن أنَّ الصنعانيَّ في واد والمالكي في واد آخر، فمن ذلك قوله (ص: 17 ـ 18) : "فهذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، وجب عليَّ تأليفُه، وتعيَّن عليَّ ترصيفُه، لِمَا رأيته وعلمته من اتِّخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن إلى الشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء مِمَّن يدَّعي العلم بالمغيَّبات والمكشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجداً، ولا يُرى لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يعرف السنَّة ولا الكتاب، ولا يهاب البعثَ ولا الحساب، فواجبٌ عليَّ أن أُنكرَ ما أوجب اللهُ إنكارَه، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب اللهُ إظهارَه".
وقوله (ص: 24) : "ثمَّ إنَّ رأسَ العبادة وأساسَها التوحيدُ لله، الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي قول لا إله إلَاّ الله، والمراد اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، لا مجرَّد قولها باللسان، ومعناها إفراد الله
بالعبادة والإلهية، والنفي والبراءة من كلِّ معبود دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنَّهم أهلُ اللسان العربي، فقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ".
وقوله (ص: 25) : "وإذا تقرَّرت هذه الأمور، فاعلم أنَّ الله تعالى بعث الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام من أوَّلهم إلى آخرهم يدعون العبادَ إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنَّه خلقهم ونحوه؛ إذ هم مُقرُّون بذلك كما قررناه وكرَّرناه، ولذا قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} ، أي: لنفردَه بالعبادة ونخصَّه بها من دون آلهتنا؟ فلم يُنكروا إلَاّ طلب الرُّسل منهم إفراد العبادة لله، ولم يُنكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنَّه لا يُعبد، بل أقرُّوا بأنَّه يُعبد، وأنكروا كونه يُفرَدُ بالعبادة، فعبدوا مع الله غيرَه، وأشركوا معه سواه، واتَّخذوا معه أنداداً، كما قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: وأنتم تعلمون أنَّه لا ندَّ له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحجِّ: (لبَّيك لا شريك لك إلَاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك") .
وقوله (ص: 39 ـ 40) : "فهؤلاء القبوريُّون والمعتقدون في جُهَّال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القُذَّة بالقُذَّة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلَاّ في الله، وجعلوا لهم جزءاً من المال، وقصدوا قبورَهم من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، وتحروا تقرُّباً إليهم، وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم مَن يسجد لهم؟ لا أستبعد أنَّ فيهم من يفعل ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنَّه رأى مَن يسجد لهم على عتبة باب مشهد الوليِّ الذي يقصده، تعظيماً له وعبادة، ويُقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف مَن عليه حقٌّ باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم وليٍّ
من أوليائهم قبلوه وصدَّقوه، وهكذا كان عبَّادُ الأصنام إذا ذكِر الله وحده اشمأزَّت قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكِر الذين من دونه إذا هم يستبشرون
…
فإن قلتَ: لا سواء؛ لأنَّ هؤلاء قد قالوا: لا إله إلَاّ الله، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أُمرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلَاّ الله، فإذا قالوها عصموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلَاّ بحقِّها"، وقال لأسامة بن زيد:"قتلتَه بعد ما قال: لا إله إلَاّ الله؟! " وهؤلاء يُصلُّون ويصومون ويُزكُّون ويَحجُّون، بخلاف المشركين.
قلتُ: قد قال صلى الله عليه وسلم: (إلَاّ بحقِّها) ، وحقُّها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريُّون لًم يُفردوا الإلهية والعبادة، فلَم تنفعهم كلمة الشهادة؛ فإنَّها لا تنفع إلَاّ مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء، وكذلك من جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا لم تنفعه كلمة الشهادة، ألا ترى أنَّ بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلَاّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله ويُصلُّون، ولكنَّهم قالوا: إنَّ مسيلمةَ نبيٌّ، فقاتلهم الصحابة وسَبَوْهم، فكيف بمَن يجعل للوليِّ خاصَّة الإلهية ويُناديه للمهمَّات؟! وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرَّق أصحابَ عبد الله بن سبأ، وكانوا يقولون: نشهد أن لا إله إلَاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، ولكن غلوا في عليٍّ رضي الله عنه، واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريُّون وأشباههم، فعاقبهم عقوبةً لم يُعاقب بها أحداً من العُصاة؛ فإنَّه حفر لهم الحفائر، وأجَّج لهم ناراً وألقاهم فيها، وقال:
إنِّي إذا رأيتُ الأمرَ أمراً منكراً
…
أججتُ ناري ودعوتُ قُنبرا
وقوله (ص: 45 ـ 46) : "فإن قلتَ: هذا أمرٌ عمَّ البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد، وطبق الأرض شرقاً وغرباً ويَمَناً وجنوباً وعَدَناً؛
بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلَاّ وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها ويُعظِّمونها، ويَنذرون لها ويهتفون بأسمائها ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويُسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويُلبسونها الثياب، ويصنعون كلَّ أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلُّل والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلُّون في أوقات الصلاة، يصنعون فيه ما ذُكر أو بعض ما ذُكر، ولا يسع عقل عاقل أنَّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.
قلت: إن أردتَ الإنصافَ، وتركتَ متابعةَ الأسلاف، وعرفتَ أنَّ الحقَ ما قام عليه الدليل، لا ما اتَّفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أنَّ هذه الأمور التي نُدندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامُهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دنيٍّ ومثيل، ينشأ الواحدُ فيهم فيجدُ أهلَ قريته وأصحابَ بلدته يُلقِّنونه في الطفولية أن يهتف باسم مَن يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه ويُعظِّمونه، ويرحلون به إلى محلِّ قبره، ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفاً بقبره، فينشأ وقد قرَّ في قلبه ما يعظِّمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده مَن يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير، بل ترى مَن يتَّسم بالعلم، ويدَّعي الفضلَ وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية أو المعرفة، أو الإمارة والحكومة، معظِّماً لِمَا يُعظِّمونه، مُكرماً لِمَا يُكرمونه، قابضاً للنذور، آكلاً ما يُنحَرُ على القبور، فيظنُّ العامَّةُ أنَّ هذا دينُ الإسلام، وأنَّه رأسُ الدين والسَّنام، ولا يخفى على
أحد يتأهَّل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنَّة والأثر، أنَّ سكوتَ العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر".
ثمَّ ضرب لذلك أمثلةً، بيَّن فيها أنَّ الإنكارَ على ثلاث درجات، وأنَّ الإنكارَ بالقلب أقلُّها، وأقلُّ أحوال العالِم إذا لَم يُمكنه الإنكار بيده ولسانه أن يُنكرَ بقلبه.
وهذه النقول عن الإمام الصنعاني هي بمنزلة الصواعق على هذا المالكي الذي أراد أن يستشهدَ بشيء من كلامه على تأييد باطله، فلَم تقرَّ عينه بذلك.
وهذا الذي قرَّره الإمام الصنعاني في كتابه"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد" هو الذي شنَّع به هذا الحاقد الضال على الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه السيِّء الذي كتبه عنه، مع أنَّ الشيخ محمداً رحمه الله نصَّ على إقامة الحجَّة على المفتونين بعبادة أصحاب القبور، وقد ردَّ عليه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي في كتابه"دحر افتراءات أهل الزيغ والارتياب عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ أباطيل حسن المالكي".
وأمَّا القاسمي، فإنَّه وإن وُجد له كلامٌ فيه تساهل مع بعض أهل البدع، فإنَّه لا صلة البتَّة للمالكي به؛ لأنَّ المالكيَّ موغلٌ في البدع، ويحتفي بالمبتدعة على مختلف أصنافهم، ولا يُعادي إلَاّ أهل السنَّة والجماعة بدءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن سارَ على نهجهم حتى عصرنا، وهذا بخلاف القاسمي تماماً؛ فإنَّه قد ألَّف كتاباً نفيساً بعنوان"إصلاح المساجد من البدع والعوائد"، ذمَّ فيه البدع وحذَّر منها، قال في مقدِّمته (ص: 7) : "أمَّا بعد، فلمَّا كان الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهمُّ الذي
ابتعث الله له النبيِّين، وجب على كلِّ مستطيع له أن يقتحمَ لوجه الله سُبلَه، خشيةَ أن تعمَّ البدعةُ وتفشو الضلالة، ويتَّسع الخرقُ وتشيع الجهالةُ، فتموت السنَّةُ ويندرس الهدي النبوي، ويُمحى من الوجود معالم الصِّراط السويِّ، ولَمَّا أضحت البدع الفواشي، كالسحب الغواشي، يتعذَّر على البصير حصرُها، وضبطُ أفرادها وسبرُها، رأيت أن أدلَّ بجزئيٍّ منها على كليَّاتها، وبنبذة منها على بقيَّاتها، وذلك في البدع والعوائد، الفاشية في كثير من المساجد؛ لأنِّي ابتُليتُ كآبائي بإمامة بعض الجوامع في دمشق الشام، وبالقيام بالتدريس العام، فكنتُ أرى من أهمِّ الواجبات إعلام الناس بما ألَمَّ بها من البدع والمنكرات؛ فإنَّ القيِّمَ مسئول عن إصلاح مَن في معيَّته، وفي الحديث (كلُّكم راع وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته) ، فاستعنتُ بالله تعالى في الشروع، وتوكَّلتُ عليه في إتمام هذا الموضوع، ونقَّبت لأجله عن شوارد الأسفار، وضممتُ إليه ما يُروي البصائر والأبصار، وعزوتُ غالبَ فروعه لأصلها، ردًّا للأمانات إلى أهلها، تطميناً للمرتابين، وتثبيتاً للمؤمنين، فجاء فريداً في بابه، أمنية لطلابه، ولم أجد مَن سبقني إليه، فأعرج بالاحتذاء عليه، بل كان ترتيبه مخترعاً، وتقسيمه مبتدَعاً، وذلك من فضل الله عليَّ، ومننه التي لا أحصي ثناءها لديَّ، وبه المستعان، وعليه التكلان في كلِّ آن".
ثم ذكر مقدِّمات في البدع عموماً، من عناوينها:
ـ بيان الميزان الذي يُعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه.
ـ الترهيب من الابتداع.
ـ معنى البدعة.
ـ ردُّ البدعة في الدِّين.
ـ بغض المبتدع.