المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تكثره بأربعة نوابت حدثاء الأسنان شاركوه في الضلال، وذكره شيئا من أباطيلهم، والرد عليه وعليهم - الانتصار لأهل السنة والحديث في رد أباطيل حسن المالكي

[عبد المحسن العباد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ إهداؤه كتابه نموذج من هدايا الضلال والإضلال

- ‌ كاتب هذا البحث المزعوم وناشره وصاحب الأَحَدية متعاونون على الإثم والعدوان

- ‌ زعمه أنَّه سلفيٌّ سُنِيٌّ، وذِكرُ نماذج من كلامه تُبطل دعواه

- ‌ زعمه أنَّه حنبليٌّ وأنَّ نقدَه للحنابلة في العقيدة من النَّقد الذاتي، والردُّ عليه

- ‌ بخله بالصلاة على الصحابة الكرام بعد الصلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وآله

- ‌ زعمه أنَّ مصطلحَ العقيدة مُبتَدعٌ، والردُّ عليه

- ‌ قدحه في كتب أهل السنَّة في العقيدة والردُّ عليه

- ‌ زعمه الاكتفاء بإسلام لا يتعرَّض فيه لجزئيات العقيدة؛ لأنَّ ذلك بزعمه يُفرِّق المسلمين، والردُّ عليه

- ‌ ثناؤه على أهل البدع وقدحه في أهل السُّنَّة، والرَّدُُ عليه

- ‌ زعمه أنَّ أهل السنَّة وسَّعوا جانب العقيدة، فأدخلوا فيها مباحث الصحابة والدجَّال والمهدي وغير ذلك، والردُّ عليه

- ‌ قدحه في أفضليَّة أبي بكر وأحقيَّته بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والردُّ عليه

- ‌ قدحه في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، والردُّ عليه

- ‌ اختياره المزعوم للمذهب الحنبلي لنقده في العقيدة والردُّ عليه

- ‌ قدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ المعوَّل عليه في النصوص ما كان قطعيَّ الثبوت قطعيَّ الدلالة فقط، والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ أهل السنَّة مجسِّمة ومشبِّهة والردُّ عليه

- ‌ ما ذكره من تأثير العقيدة على الجرح والتعديل والردُّ عليه

- ‌ ثناؤه على المأمون الذي نصر المبتدعة وآذى أهل السنَّة وذمُّه للمتوكِّل الذي نصر السنَّة وأنهى المحنة

- ‌ قدحُه في أهل السنَّة بعدم فهم حجَّة الآخرين والردُّ عليه

- ‌ زعمه غلوَّ أهل السنَّة في مشايخهم وأئمَّتهم والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ نقضَ أهل السنَّة كلام غيرهم ردودُ أفعال، والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ أهل السنَّة لا يُدركون معنى الكلام، والردُّ عليه

- ‌ ما ذكره عن أهل السنَّة من ذمِّ المناظرة والحوار، والجوابُ عن ذلك

- ‌ تشكيكه في ثبوت السنَّة والإجماع، وزعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في التحاكم إلى القرآن مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرِّجال، والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ أهل السنَّة يُزهِّدون في كبائر الذنوب والموبقات، والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ أهل السنَّة يتساهلون مع اليهود والنصارى مع التشدُّد مع المسلمين، والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ قاعدة (اتِّباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمَّة) باطلة، وأنَّها بدعةٌ، والردُّ عليه

- ‌ زعمه أنَّ تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية تقسيمٌ مبتدَع، والردُّ عليه

- ‌ تشنيعه على الإمام أحمد في مسألة التكفير، والردُّ عليه

- ‌ رميه أهل السنَّة بالنَّصب وزعمه أنَّ ابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير نواصب، والردُّ عليه

- ‌ استشهاده لباطله بكلام لعَمرو بن مُرَّة ومحمد بن إبراهيم الوزير والمقبلي والصنعاني والقاسمي، والردُّ عليه

- ‌ تكثُّره بأربعة نوابت حُدثاء الأسنان شاركوه في الضلال، وذِكره شيئاً من أباطيلهم، والردُّ عليه وعليهم

الفصل: ‌ تكثره بأربعة نوابت حدثاء الأسنان شاركوه في الضلال، وذكره شيئا من أباطيلهم، والرد عليه وعليهم

ـ وعيد مَن سنَّ سنَّة سيِّئة.

ـ مفاسد الإقرار على البدع.

ـ ما يجب على العالِم فيما يرد عليه مِمَّا لا يُؤمَن فيه من البدع.

ـ اجتناب العالم ما يتورَّط بسببه العامة.

ـ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ـ بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد.

ـ نقم المتعصِّبين على منكر البدع بغياً وجهلاً.

ـ عدوى البدع من شؤم المخالطة.

ـ السعي بإزالة البدع من المساجد.

وفي ثنايا الكتاب ذكر في (ص: 164) من بدع المساجد دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه، وذكر من البدع (ص: 209) إسراج الضرائح، وذكر غير ذلك من البدع.

ص: 201

32 ـ‌

‌ تكثُّره بأربعة نوابت حُدثاء الأسنان شاركوه في الضلال، وذِكره شيئاً من أباطيلهم، والردُّ عليه وعليهم

وكما أسَّس المالكي قراءته المزعومة في كتب العقائد على سوء، وبناها على سوء، فقد ختمها بخاتمة سيِّئة، وذلك بذِكر مقالات لأربعة نوابت ضُلَاّل تكثَّر بهم، ووصفهم بأنَّهم باحثون، وهو بذلك استسمن ذا وَرم، والطيورُ على أشكالها تقع، وسأوردُ بعضَ هذيان هؤلاء النوابت مع الردِّ عليهم، وذلك فيما يلي:

ص: 201

ـ فأوَّلُ هؤلاء النوابت الأربعة، مَن سمَّاه المالكي (سعود الصالح)، وقد ذكر له مقالاً بعنوان: "مسلسل الإضافات على العقيدة فرَّق المسلمين جماعات) ، وقد سبق للمالكيِّ أنَّه عاب على أهل السُّنَّة أنَّهم وسَّعوا جانب العقيدة مع تشدُّد على المخالفين، وأشار إلى مقال هذا النابتة، وقد مرَّ في المبحث (10) الردُّ عليهما في بعض هذيانهما، فنكتفي بذلك.

ـ وثاني هؤلاء النَّوابت مَن سمَّاه المالكي (سعود بن عبد الرحمن النَّجدي)، فقد ذكر له مقالاً بعنوان:"عقيدة الله أم عقيدة المذهب؟! "، وذكر أنَّه نُشر في الانترنت، وإنَّ مَن يقرأ كتاب قراءة المالكي المزعومة في كتب العقائد، ثم يقرأ هذا المقالَ يجد أنَّ المقالَ تلخيصٌ للقراءة المزعومة، مِمَّا يغلب معه على الظنِّ أنَّ مصدرَهما واحدٌ، وقد تباكى هنا على قتل رؤوس المبتدعة كغيلان الدمشقي والجعد والجهم (ص: 227) ، كما تباكى المالكي في القراءة المزعومة، ومرَّ الردُّ عليه في ذلك.

وكما أنَّني لَم أردَّّ على كلِّ ما في الأصل من هذيان، فسأقتصرُ هنا على الردِّ على بعض هذا الهذيان، فمِن ذلك قوله في (ص: 228) : "وللتقليد في العقائد حديثٌ عجيب؛ فإنَّه لا يخلو منه مذهب من المذاهب، بل لَم ينج منه إلَاّ أفراد قلائل، مثل ابن حزم وابن الوزير والمقبلي!! ".

وقوله (ص: 229 ـ 230) : " (أهل السُّنَّة والحديث) : وعندهم يظهر التقليد جليًّا، لا سيما وهم لا يرضون أن يفهم أحدٌ الكتابَ والسُّنَّة إلَاّ على ضوء فهم (السلف) ، وطرُقهم في ترسيخ التقليد كثيرة، فمن ذلك تقديس علماء مذهبهم، وأنَّه بهم تُعرف السنَّة ويُوصل إلى الحقِّ، فمَن طعن في حماد ابن سلمة أو الأوزاعي أو الأعمش أو أبي مسهر فهو مبتدع

وفَهْمُ هؤلاء السلف مقدَّمٌ على فهمنا، ومَن خالفهم فليَتَّهم نفسَه، ومن أوضح النصوص

ص: 202

على هذا، النصُّ المنسوب إلى عمر بن عبد العزيز "وهو في ذمِّ القول بالقدر فتنبَّه! "، وفي هذا النصِّ يقول عمر:"فارضَ لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، وقِف حيث وقفوا؛ فإنَّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولَهُم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل فيه لو كان أحرى، فإنَّهم هم السابقون، ولئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه (أي وهذا مستحيل!) ، ولئن قلت حدَث بعدهم حدَثٌ، فما أحدثه إلَاّ من تبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر دونهم قوم فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنَّهم مع ذلك لعلى صراط مستقيم، فلئن قلت: فأين آية كذا؟ ولِمَ قال الله كذا وكذا؟ لقد قرؤوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم" انتهى.

ومن شعارات مذهب أهل السُّنَّة والحديث: (اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم) .

هذه حال السَّلف عندهم، أمَّا مخالفو هؤلاء السلف فهم مبتدعة أهل سوء، تكتب الكتب والأبواب في ذمِّهم، وزيادة في التنفير من مذاهبهم!!! ".

وأجيب على ذلك بما يلي:

1 ـ أهل السُّنَّة والجماعة عقيدتُهم واحدة، وهي مبنيَّةٌ على علم بالكتاب والسُّنَّة، وهم متَّفقون فيها، وما زعمه هذا الزاعم من أنَّه لم ينجُ من التقليد في العقيدة إلَاّ أفراد قلائل، مثل ابن حزم وابن الوزير والمقبلي، فيه اتِّهامٌ لعلماء أهل السُّنَّة بأنَّ اعتقادَهم ليس عن علم، بل عن تقليد، وقد مرَّ قريباً النقل عن ابن الوزير والمقبلي ما يوافق عقيدة أهل السُّنَّة، وأمَّا ابن حزم فهو ظاهريٌّ في الفروع مؤوِّلٌ في الأصول.

ص: 203

2 ـ أهل السُّنَّة والجماعة بعد الصحابة على عقيدة الصحابة، وهي منهم مبنيَّةٌ على علم، وليس مجرَّد تقليد؛ لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم هم الذين شهدوا التنزيل وأعلم بالتأويل، وقد وصف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الفرقةَ الناجية بأنَّهم الجماعة، وأنَّهم مَن كان على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والطعنُ في حَمَلة الآثار الثقات طعنٌ في الآثار التي يروونها؛ لأنَّ القدحَ في الناقل قدحٌ في المنقول، وقد سبق الإيضاحُ والبيانُ لكون منهج أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة اتِّباع الكتاب والسنَّة بفهم السلف، وأنَّ المالكيَّ زعم أنَّ ذلك بدعةٌ، وأنَّ السُّنَّة عند المالكي بدعةٌ والبدعةَ سنَّةٌ.

وأمَّا أثر عمر بن عبد العزيز المشار إليه فهو ثابتٌ عنه، أخرجه أبو داود (4612) .

وأمَّا قوله: "ومن شعارات مذهب أهل السُّنَّة والحديث: (اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم) ، هذه حال السَّلف عندهم، أمَّا مخالفو هؤلاء السلف فهم مبتدعة أهل سوء!! ".

فنعم! هذا من شعار مذهب أهل السُّنَّة، وهذه هي حالُهم، وما أحسن هذا الشعار وهذه الحال المبنيَّة على اتِّباع الكتاب والسنَّة ونبذ البدع، كما قال الله عز وجل:{أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، وقال:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديِّين الراشدين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وفي لفظ آخر:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، وهذا الذي قال إنَّه شعارُ مذهب أهل السُّنَّة، وهو

ص: 204

"اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتُم" هو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه الدارمي في سننه (211) .

ـ وأمَّا الثالث من هؤلاء النوابت، وهو منصور بن إبراهيم النقيدان، فذكر له مقالاً بعنوان:"ظاهرة التكفير والاتِّهام بالزندقة في الفكر الإسلامي"، وأنا أشير إلى بعض ما في هذا المقال مع التعقيب على ذلك، فمن ذلك قوله في (ص: 234 ـ 235) : "لقد كان اتهام الناس بالزندقة كاتِّهام الآخرين اليوم بالعلمانية والتبشير بالحداثة والدعوة إلى تحرير المرأة، فسهل اضطهاد أيِّ مفكِّر وعالم بمجرَّد أن يوجَّه إليه الاتِّهام بالزندقة والإلحاد، وزاد الأمر بلاء ما ذهب إليه بعض الفقهاء من قتل الداعي إلى البدعة، فأصبح كلَّما نبغ عالم وبرز مفكِّر يخالف المذاهب المتَّبعة والسياسات المستقرة كان مآله التضليل والتكفير، ثم التضييق والسجن أو القتل!! ".

وأقول: إنَّ من ثبتت عليه الزندقة أو غيرها من الأمور التي ذُكرَت معها وُصف بما ثبت عليه وحُذِرَ وحُذِّرَ منه، ومَن لم يثبت عليه شيءٌ فالأصل السلامة حتى يثبت ما يخالفها، ومَن خالف ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة وهو اتِّباع الكتاب والسنَّة، وانحرف عن ذلك وُصف بما يليق به بحسب تلك المخالفة.

ومن ذلك زعمه في (ص: 235) أنَّ قتلَ الحلَاّج كان سياسيًّا، ولكنَّه أُظهر أنَّه للزندقة، وهذا نظير ما تقدَّم عن المالكي من زعمه أنَّ قتل الجعد والجهم وغيلان الدمشقي كان سياسيًّا وليس لبدعهم.

ومن ذلك قوله في (ص: 235 ـ 236) : "ورَاقَ لبعضهم أن يتألَّى على الله ويحجر رحمتَه؛ فقال بعدم قبول توبة الزنديق، وبأنَّ المبتدعَ لا يتوب، ولو

ص: 205

أراد التوبةَ لَم يُوفَّق إليها، فإذاً لا مناص من القتل صيانة للدِّين وذبًّا عن حُرماته!! ".

أقول: أمَّا الزنديق، فقد قال في القاموس المحيط:"الزِّنديق بالكسر، من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو مَن لا يؤمن بالآخرة وبالربوبيَّة، أو من يُبطن الكفرَ ويُظهر الإيمان".

وفي قبول توبة الزنديق بعد القدرة عليه خلاف، فمنهم مَن قال بقبولِها وترك قتله، ومنهم مَن قال: يُقتَل ولا تُقبَل توبتُه، وليس ذلك من قبيل التألِّي على الله كما زعم هذا الزاعم؛ لأنَّه إن كان صادقاً في توبته فيما بينه وبين الله نفعه ذلك، وإن قُتل لدفع ضرره وإفساده، وقد أوضح ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين (3/141 ـ 145) قوَّة القول بعدم قبول توبته مع الاستدلال لذلك.

وأمَّا القول بأنَّ المبتدعَ لا يتوب، ولو أراد التوبة لم يُوفَّق إليها؛ فلأنَّ المبتدعَ يعتقد أنَّه على حقٍّ مع أنَّه على باطل، فلا يتوب، وهذا بخلاف صاحب المعصية، فإنَّه يعلم خطأَه ومعصيتَه، فيتوب من ذلك، وقد سبق الردُّ على المالكي في ذلك في المبحث (25) .

وأمَّا ما ذكره في (ص: 236) من ذمِّ أهل السُّنَّة لمناظرة أهل البدع، فقد سبق ذلك في الردِّ على المالكي في المبحث (23) .

ومن ذلك قوله في (ص: 237) : "وقال بعض كبار أهل الحديث بأنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن، لحديث يروى في ذلك، فاعتبر هذا أحد القولين عند أهل السُّنَّة، وبالغ عبد الوهاب الوراق، فقال: من لم يقل (إنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن) فهو جهميٌّ، مع أنَّ هذا الحديث مناقض لقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أغلوطة تنبو عن الأفهام!!! ".

ص: 206

أقول: سبق ذكر هذا الحديث في الردِّ على المالكي، وذلك في مبحث "قدحه في أحاديث صحيحة بعضها في الصحيحين"، وأنَّ الحافظ ابن حجر في الفتح نقل تصحيحه عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وليس في ثبوته مخالفة للآية، وليس أغلوطة تنبو عن الأفهام كما زعم، وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك.

ـ وآخر النوابت الأربعة عبد الرحمن بن محمد الحكمي، وهو أسوؤهم حالاً وأسلطُهم لساناً وأكثرُهم هذياناً، وقد نبت مع المالكيِّ في تربة واحدة، ورضَعَا ألبان أهل البدع، فانحرفَا عن الصراط المستقيم، واتَّبعَا غيرَ سبيل المؤمنين، وهذا الحكمي هو الذي سبق المالكيَّ إلى بدعة قصر الصُّحبة الشرعيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية فقط، مع الزعم الباطل بأنَّ صُحبةَ غيرِهم كصحبةِ المنافقين والكفار، كما ذكر ذلك المالكي في كتابه السيِّء عن الصحابة، وأوضحتُ الردَّ عليه في ذلك في آخر كتابي "لانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي"، وقد أوردَ له هنا مقالاً طويلاً مليئاً بالتَّهكُّم والسخرية بأهل السنَّة والجماعة المتَّبعين لنصوص الكتاب والسنَّة، السائرين على نهج الصحابة رضي الله عنهم، وعنوانه:"أصحاب العقائد وسياقات النصوص"، قال في أوَّله (ص: 241) : "مشكلة كتب العقيدة أنَّها جردت شواهدها من سياقاتها، تلكم السياقات التي وردت في الآيات الكريمة ضمن نسق خاص ونظم متناسق، فجاءت كتب العقيدة وانتزعتها من بين تلك السياقات وجردتها منها، ثم ألقت منها عقيدة (الوجه، اليد، النزول

) ، لذا أصبحت عندنا عقيدة مجموعة من عدَّة ألفاظ، ولا شكَّ أنَّ هذا الاقتطاع لها من سياقاتها التي جاءت ضمن موضوع مترابط أو معان متراكبة، لا شكَّ أنَّ هذا جعلها تشكل جسداً واحداً، حتى

ص: 207

أخرجها من الفاعلية التي تخاطب العواطف والمشاعر إلى نظام مركب لا يخاطب إلَاّ العقول المحضة التي تذهب في تفسيرها كلَّ مذهب.

وأكثر ما نجد هذا عند أصحاب العقيدة السلفية، فإنَّهم يقتطعون الشواهد من السياقات، ويُبطلون مفعول السياق، ولا يحترمون ذلك الأسلوب وذلك الموضوع التي وردت ضمنه، ويجعلونها مشبعة لاتِّجاهاتهم في تفسيرها!! ".

ثمَّ ضرب لذلك أمثلة تخبَّط فيها حسب فهمه الخاطئ ورأيه الباطل المبنيِّ على متابعة أهل الكلام.

وكما أنَّني لم أرُد على المالكي في كلِّ هذيانه، فكذلك سأقتصرُ على الردِّ على هذا النابتة في بعض هذيانه.

ومن ذلك قوله (ص: 248) : "ومن المشاكل التي واجهت قرَّاء كتب العقيدة السلفية أنَّ الاقتطاع للنصوص من سياقها أصبح سِمة عامَّة لها، وذلك أدَّى إلى إبطال مفعولها النفسي وأثرها الروحي على المتلقين، فأصبح المتلقي حين يتلقَّاها ـ وقد اجتثت من سياقها الذي ورد في الترغيب أو الترهيب ضمن معان سامية ـ لا يمكن أن تتوطد في النفس، ولا أن تؤثر في القلب إلَاّ بورود هذه الألفاظ فيها، فعمد السلفيُّون إليها واستخرجوها من ذلك الإطار الكلامي الرائع حتى أصبحت عندهم لا تؤدِّي معنى إلَاّ معنى واحداً فقط، وهو أنَّ لله يداً أو وجهاً، ويكون السياق الذي وردت فيه قد بطل من أوَّله إلى آخره!!

اقرأ مثلاً قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} الآية، انظر إلى لفظة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} في هذا الكلام المفعم بهذا البيان وهذا الإعجاز في

ص: 208

بسطه يديه وقدرته التامَّة في إعطائه مَن يشاء، وهذا الغضب الإلهي الذي انصبَّ في اليهود فصاروا أبخل مَن في العالم، انظر كيف تملأ الآية نفسك رغبة في كرم الله عز وجل وطمعاً فيما عنده، وما يتحلَّل فيك من الأريحية والسرور في طلب ما عند الله، إلى آخر هذه المعاني، ثم خذها مجرَّدة في كتب أهل العقيدة تجدهم يقولون: وفي إثبات اليدين قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، بل يبخلون في إكمال قوله تعالى:{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، ألا ترى أنَّك تشعر بقشعريرة تناقض تلك المعاني التي شعرت بها وأنت تقرؤها في ضمن سياقها في القرآن الكريم؟ فكيف بك إذا رزقك الله مطالعة في القرآن الكريم فقط دون هذه الكتب؟!

وفوق هذا تأمَّل: ألا ترى أنَّ قولَ اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} لا يقصدون أنَّها مغلولة إلى عنقه، وإنَّما يقصدون البخلَ بالاتفاق؟ فهم أرادوا المجاز، وبالتالي فينبغي أن يكون الردُّ عليهم مشاكلاً لشبهتهم، فتكون اليد المغلولة واليدان اللَّتان ردَّ بهما عليهم كذلك لا حقيقة لهما.

فقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} مقابل لـ {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، والأول مجاز بالاتفاق، وكذلك ينبغي أن يكون الآخر مجازاً

وعلى هذا، فيكون {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} مبنيًّا أو مؤكِّداً أو بدلاً لقوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، وعلى هذا فلا يتأتَّى وجود حقيقة اليدين، وإنَّما معنى بسط يديه أي الإنفاق والكرم، وهذا يعارض قولهم وفهمهم، ولذلك اضطروا إلى اقتطاعهم من سياقها ظلماً وعدواناً، وأسروها في كتبهم مع قريناتها ليتأتَّى لهم تكفير المسلمين!!!

ألا ترى فيه ما يشعر به الإنسان وهو يقرؤها في سياقها، وسوء ما يشعر به وهو يقرؤها حبيسة في أقفاصهم التي يقولون أنَّها عقيدة سلفية؟!! ".

ص: 209

وقوله في (ص: 247) : "وعندما أتوا إلى قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، قيل لهم: فهذه آية من آيات الصفات فأجروها على ظاهرها كما تدَّعون وكما تقتضيه أصولكم، فكاعوا وتزعزعوا عن مواقفهم، وقالوا: إنَّ {يَدَيْ} هنا بمعنى (أمام) ، وقد ورد بلغة العرب، وكذلك في قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، قالوا: {يَدَيْهِ} هنا بمعنى أمام!! ".

وأجيب عن ذلك بما يلي:

1 ـ هذا الكلام من هذا النابتة كلُّه في تقرير أنَّه ليس لله يدان حقيقة، وأنَّ اليدَ المضافة إلى الله عز وجل مجاز عن القدرة والنعمة، وهذه طريقة المتكلِّمين المخالفة لطريقة السلف، وأهل السنَّة يُثبتون صفةَ اليدين لله كما أثبتهما لنفسه، ويُثبتون كرمَه وإحسانَه وإنفاقه كيف يشاء، وآيةُ المائدة تدلُّ على هذا وهذا، ولا تنافي بين ذلك.

2 ـ أهل السُّنَّة يستدلُّون بآية المائدة على إثبات صفة اليدين لله عز وجل، وكذلك يستدلُّون بقوله تعالى في سورة ص:{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، فهم يُعوِّلون على النصوص، وإذا كان هذا الزاعم قال عن أهل السُّنَّة إنَّهم انتزعوا {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عمَّا قبلها وما بعدها، فأيُّ شيء يُنتزَع وأيُّ شيء يُترَك في آية سورة (ص) ؟!

لا شكَّ أنَّ مَن اتَّبع النصوصَ وجمع بينها سلِم، ومَن اتَّبع هواه وفرَّق بين النصوص تخبَّط وظلم، والآيتان واضحتان جليَّتان في إثبات صفة اليدين لله، لا سيما آية (ص) ؛ فإنَّه تعالى ذكر فيها خَلْقَه لآدمَ، وذكر ما كان به الخلق، وهو اليدان، ولهذا عُدَّ ذلك من خصائص آدم، كما جاء في حديث الشفاعة أنَّ أهل الموقف يطلبون منه الشفاعة ويقولون: "يا آدم! أنتَ أبو البشر،

ص: 210

خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنَّة" الحديث، أخرجه البخاري (3340) ، ومسلم (327) عن أبي هريرة.

3 ـ بل إنَّ أبا الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه الأشاعرة، فيؤوِّلون أكثرَ الصفات، قد أثبت في كتابه الإبانة (ص: 97) صفة اليدين لله، واستدلَّ لذلك بآيات وأحاديث، منها آيتا المائدة و (ص)، ثمَّ قال في (ص: 98) : "وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنَّما خاطب العربَ بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل: فعلتُ بيدي، ويعني النعمة، فبطل أن يكون معنى قوله عز وجل: {بِيَدَيَّ} ، النعمة".

4 ـ أمَّا اعتراضه على أهل السُّنَّة بتفسيرهم قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، وقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} بأنَّ ذلك بمعنى أمام، يريد من ذلك الإلزام بأنَّ كلَّ ما في هذه الآيات الأربع هو من قبيل المجاز، فهو اعتراضٌ باطل؛ لأنَّ الكلَّ حقيقةٌ لا مجاز، فإنَّ معنى"بين يدي الشيء" في اللغة معناه أمامه، وهو حقيقة وليس بمجاز، قال في القاموس المحيط:"وبين يدي الساعة: قدَّامها"، فمعنى"بين يدي الساعة"، و"قدَّامها"، و"أمامها" واحدٌ في اللغة، وإن اختلفت ألفاظها، وإطلاق اليدين صفة لموصوف، وكذا"بين يدي الشيء" بمعنى أمامه، كلُّ ذلك حقيقة لا مجاز، وهو من قبيل المشترك اللفظي، الذي يكون فيه اللفظ واحداً والمعنى متعدِّد، وهو مثل لفظ

ص: 211

"قرء" للحيض والطهر، ولفظ"عسعس" لأقبل وأدبَر، ولفظ"العين" للعين الجارية والعين الباصرة والنقد.

ومن ذلك تهكُّمُه بأهل السنَّة بتعبيرهم عن الصفات التي يُثبتونها لله عز وجل بأدلَّة الكتاب والسنَّة، بأنَّها كما يليق بجلاله، فيقول في (ص: 245 ـ حاشية) : "

إلى آخر هذه المزاعم التي ينصبونها على مشجب (كما يليق بجلالته وعظمته) !! وما بقي إلَاّ أن ينسبوا لله كلَّ نقيصة ثم يُتبعونها بقاعدة (كما يليق بجلالته وعظمته) !! ".

ويُجاب هذا الحاقد الضال بأنَّ أهل السُّنَّة لا يُثبتون لله عز وجل إلَاّ ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسولُه صلى الله عليه وسلم، وهذا الإثباتُ مبنيٌّ على التنزيه الذي يُعبِّرون عنه بقولهم:"على ما يليق بجلاله"؛ وذلك أنَّ الإثباتَ يكون مع تشبيه وهو باطل، ويكون مع تنزيه وهو الحقُّ، فأهل السنَّة مثبتَةٌ منَزِّهة، ليسوا بمشبِّهة، ولا بمعطِّلة، وهذا الكلام الباطل من هذا الحاقد فيه قلبٌ للحقائق؛ إذ اعتبر هذا التعبير من أهل السُّنَّة مذمَّةً لهم، وهو في الحقيقة مَحمدَة.

ومن ذلك قوله في (ص: 246) : "فهم إن أرادوا التأويل أوَّلوا، كما فعلوا في القرآن الكريم أنَّه صفةٌ من صفات الله عز وجل، صفة ذاتية كاليد والسمع والبصر، ثم قرؤوا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنَّ القرآن يأتي في صورة شاب شاحب"، فقالوا: يُمرُّ على ظاهره، فيا لله!! كيف تتشكَّل صفة لله ذاتية في صورة شاب؟! وكيف يُقال: ألَّف الرجل كتاباً أنَّه من صفاته؟ فالله عز وجل خالق وخلق المخلوق، ولا يُقال: أنَّ المخلوق من صفة الخالق، كذلك يقال: أنَّ الله تكلَّم بكلام، ولا يُقال: إنَّ مجموع تلك الكلمات التي تكلَّم بها صفة من صفاته!!! ".

ص: 212

وقوله في (ص: 247 ـ 248) : "وعندما أتوا إلى قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} ، و {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} و

إلخ من الآيات، قالوا: هذا نزول لأشياء مخلوقة، أي أنَّها نزلت مع الرحمة وبالامتنان بالنعمة.

ولَمَّا أتوا إلى أنَّ القرآن غير مخلوق، ما كان حجتهم التي يحاجُّون بها خصومَهم إلَاّ أن قالوا: إنَّ الله قد قال في القرآن: إنَّه منَزَّلٌ ولم يقل أنَّه مخلوق، وكأنَّ كلمة (أنزل) أصبحت مضادَّة لكلمة (خلق) في قاموسهم، وسبق أن قلنا: أنَّه يجب بناء قاموس لغوي جديد، نجمع فيه شوارد وكلمات هؤلاء القوم لينشأ لنا معجم لغوي، ونستطيع به التخاطب معهم، أوَلَم يقولوا قبل قليل: أنَّ الإنزال يكون للمخلوق كالماء والحديد والأنعام، ثم أصبحت الآن ـ في مسألة القرآن ـ صار معناها عدم الخلق؟! وهذا يدلُّ على أنَّ التركيب المعرفي في العقيدة السلفية مهلهل!!! ".

وأجيب على ذلك بما يلي:

1 ـ هذا الكلام القبيح من هذا المبتدع الضال فيه تقرير لمذهب الجهمية في قولهم بخلق القرآن، وتهكُّم بأهل السنَّة القائلين بأنَّ القرآن منَزَّلٌ غير مخلوق، والعجب أنَّ مِن الناس في هذا الزمان مَن يعيبُ على أهل السُّنَّة تكلُّمَهم في فرق الضلال كالجهميَّة؛ زاعماً أنَّ الكلامَ فيهم محاربةٌ لأناس قد ماتوا، وأنَّ ذلك بمثابة مَن يكون بيده سكِّين يضرب بها على قبر، ومن المعلوم أنَّ الجهميَّة وغيرَهم من أهل البدع لهم وارثون وإن ماتوا، فهذا فرخٌ من فروخ الجهميَّة حيٌّ يَمشي على الأرض، يُقرِّر الباطلَ ويَذُمُّ الحقَّ وأهلَه، وقد مرَّ النقل عن الإمام اللالكائي أنَّ علماء أهل السُّنَّة القائلين إنَّ القرآنَ كلامُ الله غير مخلوق لا يُعدُّون بالمئين فحسب، بل بالألوف، وعلقتُ عليه

ص: 213

بقولي: فمَن العلماء غيرهم، وماذا بعد الحقِّ إلَاّ الضلال؟! وذلك عند الردِّ على المالكي في تشنيعه على الإمام أحمد في مسألة التكفير.

2 ـ صفةُ الكلام لله عز وجل عند أهل السُّنَّة ذاتيَّةٌ فعليَّة، ذاتيَّةٌ باعتبار أنَّ الله متكلِّمٌ بلا ابتداء، ويتكلَّم بلا انتهاء، فلَم يكن غيرَ متكلِّم ثم تكلَّم، بل لا بداية لكلامه ولا نهاية لكلامه، كما قال الله عز وجل:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} ، وقال:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، والقرآن من كلامه، والتوراة والإنجيل والزبور المنزَّلة من كلامه، وكلُّ كتاب أُنزل على رسول من رسله هو من كلامه.

وهي صفةٌ فعليَّةٌ لتعلُّقها بالمشيئة والإرادة، وهو سبحانه يتكلَّم إذا شاء كيف شاء، قال الله عز وجل:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقال:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} الآية، وغيرها من الآيات الدالة على أنَّ كلامَه متعلِّقٌ بمشيئته.

3 ـ وأمَّا الحديث المشار إليه، فإنَّما ذكره هذا الضال، ونسبه إلى أهل السُّنَّة، هو من ضلاله وفهمه الخاطئ، والحديث في إسناده مقال، وعلى ثبوته فلا إشكالَ فيه عند أهل السُّنَّة؛ فإنَّ (القرآن) فيه عندهم بمعنى القراءة، وليس بمعنى المقروء، ومن المعلوم أنَّ القراءة عملُ القارئ، وهو يُثاب عليه، والأعمالُ وإن كانت أعراضاً فإنَّها تُقلَب بمشيئة الله أجساماً، كما جاء في العمل الصالح أنَّه يأتي صاحبَه في قبره في أحسن صورة، والعملُ السيِّء يأتيه في أقبح صورة، وكما تُجعل الأعمال أجساماً توضَع في الميزان، وقد أوضح ذلك ابن أبي العز الحنفي شارحُ الطحاوية، فقال في (ص: 191 ـ

ص: 214

193) : "والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يُذكر ويُراد به القراءة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} ، وقال صلى الله عليه وسلم: (زيِّنوا القرآن بأصواتكم) ، وتارة يُذكَرُ ويُراد به المقروء، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا القرآنَ أُنزل على سبعة أحرف) ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدَّالَّة على كلٍّ من المعنيين المذكورَين".

وقال في (ص: 93 ـ 95) : "الموتُ صفةٌ وجوديَّة، خلافاً للفلاسفة ومَن وافقهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، والعدمُ لا يُوصَف بكونه مخلوقاً، وفي الحديث: "إنَّه يُؤتَى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيُذبَح بين الجنَّة والنار"، وهو وإن كان عرَضاً فالله تعالى يقلبُه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: أنَّه يأتي صاحبَه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة، وورد في القرآن: "أنَّه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون" الحديث، أي قراءة القارئ، وورد في الأعمال: "أنَّها توضَع في الميزان"، والأعيانُ هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران أنَّهما يوم القيامة (يُظلَاّن صاحبهما كأنَّهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) ، وفي الصحيح "أنَّ أعمالَ العباد تصعد إلى السماء".

4 ـ قوله: "وكيف يُقال: ألَّف الرجل كتاباً أنَّه من صفاته؟ فالله عز وجل خالق وخلق المخلوق، ولا يُقال: أنَّ المخلوق من صفة الخالق، كذلك يقال: أنَّ الله تكلَّم بكلام، ولا يُقال: إنَّ مجموع تلك الكلمات التي تكلَّم بها صفة من صفاته!! ".

ص: 215

أقول: هذا مِمَّا قرَّر به هذا الضال أنَّ كلامَ الله مخلوق، وعند أهل السُّنَّة أنَّ القرآنَ من كلام الله، وكلامُ الله لا حصر له ولا نهاية له، كما دلَّت على ذلك آيتا الكهف ولقمان، وكلُّ كلام لله فهو من صفته، وكلُّ كلام لمخلوق فهو من صفته، فيُحمَد المخلوق على حسَنه ويُذمُّ على سيِّئه، ومن صفات القرآن الذي هو من كلامه أنَّه في غاية الإعجاز، ومن صفات هذا الكلام القبيح للحكمي أنَّه من أسوأ الكلام وأبطل الباطل.

5 ـ لا تنافي ولا تناقض بين قول أهل السُّنَّة: إنَّ القرآنَ منَزَّلٌ غيرُ مخلوق، وبين قولهم: إنَّ إنزالَ المطر والحديد وأولاد الأنعام منَزَّلةٌ مِمَّا هو مخلوق؛ فإنَّ إنزالَ المطر جاء مقيَّداً بأنَّه من المُزن وهو السحاب، وإنزال أولاد الأنعام جاء مقيَّداً بأنَّه إنزالٌ من الأنعام، وإنزال الحديد يكون من الجبال، وكلُّ ذلك إنزال مخلوق من مخلوق، أمَّا القرآن فقد جاء مقيَّداً بأنَّه منَزَّلٌ من الله، كما قال عز وجل:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وغير ذلك من الآيات، وهذا يدلُّ على الفرق بين إنزال القرآن، وأنَّه من الله وأنَّه غير مخلوق، وبين تلك المخلوقات التي جاءت مقيَّدَة بإنزال مخلوق من مخلوق، وقد أوضح هذه الفروق شارح الطحاوية في (ص: 196 ـ 197) ، وعلى هذا فيكون الكلام المهلهل كلام هذا الضال، حيث قال مشنِّعاً على أهل السُّنَّة:"أوَلَم يقولوا قبل قليل: أنَّ الإنزال يكون للمخلوق كالماء والحديد والأنعام، ثم أصبحت الآن ـ في مسألة القرآن ـ صار معناها عدم الخلق؟! وهذا يدلُّ على أنَّ التركيب المعرفي في العقيدة السلفية مهلهل!!! ".

ومن ذلك قوله (ص: 244 ـ 245) : "أثبتوا لله ظلاًّ؛ لأنَّه ورد نصٌّ (يظلُّهم الله في ظلِّه) ، مع أنَّه قد ورد في بعض الروايات أنَّه ظلُّ العرش،

ص: 216

وورد في روايات أنَّه ظل من خلقه، كبيت الله وناقة الله، ومع ذلك غلَّبوا ذلك المحمل الضعيف، فأثبت بعضُهم أنَّ لله ظلاًّ وهم يقرؤون قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، والظلُّ لا بدَّ أن يشبه صاحبَه، أو أنَّ هذا ـ بزعمهم ـ ظلٌّ على وجه الكمال خاصٌّ به على ما يليق بجلاله!!

والذي يظهر أنَّ التفاهمَ مع هذه الطائفة صعب المنال؛ لأنَّه يقتضي بناء قاموس لغوي آخر واختراع لغة جديدة، ثم نتعلَّمها سنوات طويلة، ثم نتفاهم معهم! والعجيب أنَّ بعضهم يرى أنَّ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس له ظلٌّ؛ لأنَّه مُنَزَّه عن ذلك، وفي المقابل يرى أنَّ لله ظلاًّ!! فيا لله العجب! كيف أصبحت العقيدة لا تملأ العقل إلَاّ شكًّا، ولا القلب إلَاّ ظنًّا!! ".

وأجيب عن ذلك بما يلي:

1 ـ حديث"سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلَاّ ظلُّه" أخرجه البخاري (660) ومسلم (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند البخاري أيضاً (6806) بلفظ:"سبعة يظلُّهم الله يوم القيامة في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلَاّ ظلُّه"، وجاء في حديث سلمان عند سعيد بن منصور بلفظ:"سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّ عرشه"، ذكره الحافظ في الفتح (2/144)، وقال:"بإسناد حسن"، ولم أقف على رواية بلفظ"ظل من خلقه" التي أشار إليها الحكمي، وإضافة الظلِّ إلى الله إضافة تشريف، وهو من قبيل إضافة المخلوق إلى الخالق، كبيت الله وناقة الله ونحو ذلك، ولم أقف لأحد من أهل السُّنَّة على قول بأنَّه من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف.

2 ـ وأمَّا قوله: "والعجيب أنَّ بعضهم يرى أنَّ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس له ظلٌّ؛ لأنَّه مُنَزَّه عن ذلك، وفي المقابل يرى أنَّ لله

ص: 217

ظلاًّ!! فيا لله العجب! كيف أصبحت العقيدة لا تملأ العقل إلَاّ شكًّا، ولا القلب إلَاّ ظنًّا!! ".

فهو من الكذب البيِّن والإفك المبين؛ فإنَّ أهلَ السُّنَّة أبعدُ الناس عن القول بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا ظلَّ له، والذي يقول مثلَ هذا الكلام بعضُ الصوفية، الذين يقولون: إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم نورٌ فلا يكون له ظلٌّ، وهو قول باطل؛ لأنَّ نورَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نورُ هداية، نظيرُ النور الذي وصف الله به القرآن بقوله:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} ، ولو كان نورُ الرسول صلى الله عليه وسلم حسيًّا كما يزعمون يعكس نورَ الشمس فلا يكون له ظلّ، لَم يحتج إلى الجلوس في ظلِّ الكعبة، والذي جاء في البخاري (3852) عن خبَّاب رضي الله عنه، وفي مسلم (990) عن أبي ذر رضي الله عنه، ومثل ذلك ما جاء في حديث جابر في صحيح مسلم (843)، وفيه قال:"كنَّا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد قالت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها:"كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزَني فقبضتُ رجليَّ، فإذا قام بسطتُهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" رواه البخاري (382) ، ومسلم (512) ، فلو كان نورُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حسيًّا لا يكون معه ظلام الليل لم تحتج عائشة إلى أن تقول"والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح"، وعلى هذا فالقول بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا ظلَّ له قول بعض الصوفية، وهو من الغلوِّ والإطراء للرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل السنَّة والجماعة هم أبعدُ الناس من هذا القول، لكن هذا الحكمي الضال لا يُميِّز بين مبتدع ومُهتد، فيُضيف هذا القولَ للصوفية إلى أهل السُّنَّة وهم بُرآءُ منه، والنور الذي يُثبتونه للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن معناه الهداية، كما قال الله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

ص: 218

وإلى هنا انتهى هذا الردُّ وأسأل الله عز وجل أن ينفعَ به المردودَ عليهم وغيرَهم وأن يفقِّهَ المسلمين بدينهم وأن يسلِّمَهم من البدع وأن يوفقهم لما تُحمد عاقبته في الدنيا والآخرة، إنَّه سميع مُجيب.

وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وكان الفراغ من كتابة هذا الردِّ في اليوم الخامس عشر من شهر الله المحرم

سنة (1424هـ) ، والحمد لله رب العالمين.

ص: 219