الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقيدةً اتِّباع سلف الأمَّة؛ للدَّليل القاطع على أنَّ إجماعَ الأمَّة حُجةٌ، فلو كان تأويلُ هذه الظواهر حتماً لأوشكَ أن يكون اهتمامُهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرُ الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتَّبَع. انتهى.
وقد تقدَّم النقلُ عن أهل العصر الثالث وهم فقهاءُ الأمصار، كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومَن عاصرهم، وكذا مَن أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يُوثَق بما اتَّفق عليه أهلُ القرون الثلاثة، وهم خيرُ القرون بشهادة صاحبِ الشريعة".
وما جاء في كلام الجوينِي من أنَّ السَّلف يُفوِّضون معاني الصفات إلى الله عز وجل غير صحيح؛ فإنَّهم يُفوِّضون في الكيف، ولا يُفوِّضون في المعنى، كما جاء عن مالك رحمه الله، فقد سُئل عن كيفية الاستواء؟ فقال:"الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
28 ـ
زعمه أنَّ تقسيم التوحيد إلى ربوبية وألوهية تقسيمٌ مبتدَع، والردُّ عليه
أورد المالكي في (ص: 116) عنواناً بلفظ: "التكفير عند ابن تيمية"، قال فيه: "إنَّ التأصيل للتكفير موجود في كلامه عندما بالغ في التفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فهوَّن من شأن الأول، وبالغ في شأن الثاني، والتفريق نفسه تفريق مبتَدَع، ليس في كتاب الله ولا سنَّة رسوله، ولم يَقُل بهذا التفريق أحدٌ من الصحابة ولا التابعين؛ فالتوحيد شأنه واحد، وهذا التفريق هو الذي جعل مقلِّدي ابن تيمية يزعمون أنَّ الله لم يبعث الرسل إلَاّ
من أجل توحيد الألوهية، أمَّا توحيد الربوبية فقد أقرَّ به الكفار، ونسوا أنَّ فرعون قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ، وقوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وأنَّ صاحب إبراهيم قال:{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، فضلاً عن سائر الملحدين في الماضي والحاضر، وغير ذلك مِمَّا يؤكِّد أنَّ الرسلَ بُعثوا للإقرار بوجود الإله وربوبيَّته واستحقاقه للعبادة، وبُعثوا بسائر أنواع العبادة والأخلاق وتحريم المحرَّمات وغير ذلك.
أقول: وهذا التفريق والاستنتاجات السابقة جرَّأت مقلِّدي ابن تيمية رحمه الله وسامحه ـ على تكفير المسلمين الذين حصل لهم خطأ في الاعتقاد، وكان الأولى أن يُخطَّؤوا أو يُبدَّعوا إن ثبت عليهم ذلك، لا أن يُتَّهموا بالشرك وهم قائمون بأركان الإسلام وأركان الإيمان، بل جرَّت الخصومةُ ابنَ تيمية لإطلاق عبارات فهم منها تكفيره لسائر المتكلِّمين من المسلمين وسائر المخالفين له في الرأي من الفرق الإسلامية، والغريب أنَّ ابن تيمية رحمه الله يدعو لهجر الكلام والفلسفة وعرض الدِّين من النصوص الشرعية، بينما هو هنا يأتي بشيء لم يُؤثر في كتاب الله ولا سنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الناس إلى الشهادَتين ونبذ عبادة الأوثان وتأدية أركان الإسلام كما في حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن، وغير ذلك من الأدلة الكثيرة الوفيرة التي لم نجد فيها هذا التقسيم المبتدَع!!! ".
وأجيب على ذلك بما يلي:
1 ـ لم يورد المالكي تحت هذا العنوان"التكفير عند ابن تيمية" نقولاً عن ابن تيمية في التكفير، بل أطلق اتِّهامه في ذلك، ودندن على التشنيع بتقسيم التوحيد عند أهل السنَّة إلى توحيد ربوبية وألوهية، وزعم أنَّ هذا
التقسيم جرَّأ مقلِّدي ابن تيمية على تكفير المسلمين، وكلُّ ما أورده يدلُّ على الحقد الشديد على أهل السنَّة في كلِّ شيء تميَّزوا به عن أهل البدع والضلال.
2 ـ تقسيم التوحيد إلى ربوبيَّة وألوهية جاء في القرآن الكريم في آيات كثيرة، فيها بيان أنَّ الكفَّار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقرُّون بتوحيد الربوبية، ومنكرون لتوحيد الألوهيَّة، ويُقرِّر الله في هذه الآيات توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفار؛ لإلزامهم بتوحيد الألوهية الذي جحدوه، ومن هذه الآيات قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، فبدأها بالأمر بعبادة الله، وختمها بالنهي عن الشرك، وقرَّر فيما بين ذلك توحيد الربوبية؛ لبيان أنَّ مَن تفرَّد بالخلق والإيجاد وإنزال المطر وإخراج الرزق من الأرض هو المستحقُّ لأَنْ يُعبد وحده لا شريك له، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ، وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
3 ـ قوله: "وهذا التفريق هو الذي جعل مقلِّدي ابن تيمية يزعمون أنَّ الله لم يبعث الرسل إلَاّ من أجل توحيد الألوهية، أمَّا توحيد الربوبية فقد أقرَّ به الكفار!! ".
أقول: إنَّ بَعْثَ الله الرسل وإنزاله الكتب جاء في القرآن أنَّ ذلك لعبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، وقد جاءت الآيات في ذلك على سبيل الإجمال والتفصيل، أمَّا الإجمال ففي مثل قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
ومن الآيات التي فيها التفصيل قوله تعالى في الأعراف عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله عن هود:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله عن صالح:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقوله عن شعيب: {وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال تعالى في سورة هود:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، وقال عن كلٍّ من هود وصالح وشعيب أنَّه قال لقومه:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال في سورة الشعراء عن كلٍّ من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أنَّهم قالوا لأقوامهم:{أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، وقال تعالى في سورة العنكبوت:{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
فهذه الآيات كلُّها تدلُّ على أنَّ الرسلَ إنَّما بُعثوا لأمر أقوامهم بعبادة الله وحده دون مَن سواه، وعلى هذا فأهل السنة جعلوا عنايتهم واهتمامهم بما اعتنى به الرسل وبلَّغوه لأقوامهم، وهذا بخلاف غيرهم من أهل البدع، الذين جعلوا عنايتهم بتقرير توحيد الربوبية والاشتغال بالاستدلال على وجود الله وإهمال بيان توحيد الألوهيَّة والتحذير من الشِّرك، مِمَّا ترتَّب على ذلك افتتان كثير من المسلمين بالاستغاثة بغير الله ودعائه والذبح له، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفُها لغير الله سبحانه، ومَن حصل منه ذلك وبلغته الحجَّة ولم يَتُب منه فهو مشركٌ بالله، وهذا هو الشركُ الذي بعث اللهُ الرسلَ لدعوة أقوامهم إلى تركه، أمَّا توحيد الربوبية فإنَّ الآيات الكريمة التي مرَّ ذكرُها تدلُّ على اعترافهم به، ولم يَقُل أحدٌ منهم: إنَّه مشاركٌ لله عز وجل في الخلق والإيجاد.
4 ـ قوله: "ونسوا أنَّ فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ، وقوله:{يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وأنَّ صاحب إبراهيم
قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، فضلاً عن سائر الملحدين في الماضي والحاضر، وغير ذلك مِمَّا يؤكِّد أنَّ الرسلَ بُعثوا للإقرار بوجود الإله وربوبيَّته واستحقاقه للعبادة، وبُعثوا بسائر أنواع العبادة والأخلاق وتحريم المحرَّمات وغير ذلك!! ".
أقول: لَم ينسَ أهلُ السنَّة ما ذكره الله عن فرعون ومَن حاجَّ إبراهيم في ربِّه؛ لأنَّهما مثالان من شواذ الخلق، ولم يذكر الله عن رسله أنَّهم أمروا أقوامَهم بأن يُقرُّوا بوجود الله وربوبيَّته للعالَمين، بل إنَّما أمروهم بعبادة الله وحده، كما هو واضح من الآيات المتقدِّمة؛ وذلك لأنَّ الكفَّار الذين بُعثوا فيهم إمَّا مقرُّون بربوبية الله، وإمَّا منكرون لها علوًّا واستكباراً، كما قال الله عز وجل:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} ، وقال الله عز وجل:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينََ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} ، وعدم إقرار فرعون بربوبية الله هو من قبيل تجاهل العارف، كما قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ، وقال عز وجل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا
مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
5 ـ أقسام التوحيد عند أهل السنَّة ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فتوحيد الألوهية: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر وغيرها من أنواع العبادة، كلُّها يجب على العباد أن يخصُّوا الله تعالى بها، وأن لا يجعلوا له فيها شريكاً.
وتوحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله، كالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة والتصرف في الكون، وغير ذلك من أفعال الله التي هو مختصٌّ بها، لا شريك له فيها.
وتوحيد الأسماء والصفات: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكمال الله وجلاله، من غير تمثيل أو تكييف، ومن غير تحريف أو تعطيل.
وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة.
فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى منها، وهي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتملةٌ على هذه الأنواع، فإنَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيها توحيد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إثباتُ توحيد الربوبيَّة، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلَاّ خالق ومخلوق، والله الخالق وكلُّ مَن سواه مخلوق، و (الله) و (الربُّ) اسمان لله.
وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، و {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان من أسماء الله يدلَاّن على صفة من صفات الله، وهي الرحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسمٌ جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته.
وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه إثبات توحيد الربوبية.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إثبات توحيد الألوهية.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فيه إثبات توحيد الألوهية.
وأمَّا سورة الناس فقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذة بالله من توحيد الألوهية.
و {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عز وجل في أول سورة الفاتحة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه إثبات الربوبية والأسماء والصفات.
و {إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات.
وللابن عبد الرزاق ـ حفظه الله ووفقه لكلِّ خير ـ في ذلك رسالة مفيدة بعنوان: "القول السديد في الردِّ على من أنكر تقسيم التوحيد".