الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 ـ
زعمه أنَّ مصطلحَ العقيدة مُبتَدعٌ، والردُّ عليه
قال في (ص: 24) : "ولأبدَأ مساهماً في نقد ما أحجم عنه الآخرون طلباً للدنيا، وإمَّا حُبًّا للثناء بصلابة العقيدة وحسن السيرة، وإمَّا إيثاراً للسلامة، وإمَّا جهلاً بأهميَّة أصول وقواطع الإسلام، وستكون البداية ببيان مصطلح العقيدة، وكيف استحدَث المتخاصمون هذا المصطلح ليتَّسع لتكفير وتبديع المخالفين لهم من المسلمين!! ".
وقال في (ص: 30) تحت عنوان: مصطلح العقيدة بين السُّنَّة والبدعة: "مع أنَّني أستخدم مصطلح العقيدة بشروط سيأتي ذكرُها، إلَاّ أنَّه عند تعريفي لعنوان المحاضرة (قراءة في كتب العقائد) لفت نظري عدم وجود كلمة (عقيدة) في النصوص المتقدِّمة، لا في القرآن ولا كتب السُّنَّة، ولا المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى، فكانت هذه أوَّل فائدة، وفي الوقت نفسه كانت أكبرَ مصيبة؛ إذ لا يَتمُّ التنبيه على ذلك، مع حرصنا ـ فيما نزعم ـ على هجران المصطلحات البدعية المستحدثة التي لا أصل لها في الكتاب والسنَّة!! ".
وفي (ص: 34 ـ 35) قال تحت عنوان: الخلاصة في مصطلح العقيدة: "إذاً لَم ترِد العقيدة لا لفظاً ولا معنى في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية، ولا الآثار السلفية المأثورة عن السَّلف من الصحابة وكبار التابعين، وأقصدُ باللَّفظ والمعنى هنا: أي أنَّها لَم ترِد بهذا اللفظ للمعنى الذي وُضع له هذا اللفظ في الأزمنة المتأخرة، مثل قولهم: (فلان حسن المعتقد، فلان كان صلباً في العقيدة، كان ضالاًّ في العقيدة، كان سيِّئ المعتقد
…
) ونحو هذا، فهذا المعنى لَم يرِد تحت لفظ العقيدة مع توفر الدواعي لوجود المنافقين وأهل
الضلالة، سواء في عصر النَّبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو عصر الصحابة أو عصر التابعين، فلفظة (العقيدة) في تلك العصور بين أن تأتي معانيها في ألفاظ أخرى شرعية كالإيمان مثلاً أو تأتي لفظة (عقد) في معان أخرى ليس من بينها الإيمانيات أو العلميات، فهي تشمل عقد اللواء، وعقد الأصابع لبيان العدد، وعقد الإزار، والتعاهد على الشيء، والعهد نفسه، وعقد القلب على أمر ما ديني أو دنيوي، ولعل من هذا المعنى الأخير أخذ بعضُهم لفظَ العقيدة، وخصَّها ببعض المعاني العلمية، وهذا تخصيص مبتدع أيضاً، فالألفاظ الشرعية الموجودة في القرآن الكريم أولَى بالاستعمال وأدقّ في الدلالة وأجمع للمسلمين، وفيها غنية عن هذا اللفظ غير المنضبط الذي استحدثه المتخاصمون في عصور لاحقة، وعلى هذا فليس لكلمة (العقيدة) أصل شرعي، لا في الكتاب، ولا في السنَّة، ولا عند السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ولا عند التابعين، بل ولا علماء الأمة الكبار في القرون الثلاثة الأولى!!! ".
وقال في (ص: 33) : "والعقيدة عند غلاة السلفية أهمُّ شيء في حياة المسلم، فهل يُعقل أن يخلو القرآن الكريم الذي أنزله الله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} من أخطر وأهمِّ شيء في حياة المسلم؟!
أم أنَّنا هجرنا مسمّى ذلك الأهَم والأخطر، ألا وهو الإيمان أو الإسلام في عمومه، إلى هذه المصطلحات المستحدثة التي أصبحت في أيدي الغلاة كالسيوف في أيدي المجانين!! ".
وقال في (ص: 33) : "أيضاً لَم تَرِد (العقيدة) في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا موضوع!! ".
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
1 ـ ما زعمه من أنَّ مصطلحَ (العقيدة) مُستحدَثٌ وأنَّه بدعةٌ هو من اكتشافات القرن الخامس عشر التي ظفر بها المالكي، ومن أوضحِ البدع ـ وهو لا يُسمِّيه بدعة ـ زعمُه أنَّ الصُّحبةَ الشرعية مقصورةٌ على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وأنَّ مَن صحب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الحُديبية فصحبتُه غير شرعية، بل هي شبيهةٌ بصُحبة المنافقين والكفَّار، فهذه البدعة التي أحدثها في القرن الخامس عشر ولَم يُسبَق إليها طيلة تلك القرون لا يُسمِّيها بدعة، ويُطلق على مصطلح (العقيدة) أنَّه بدعة، وهذا شبيهٌ بمعنى ما رواه البخاري في صحيحه (5994) عن ابن أبي نُعم قال:"كنتُ شاهداً لابن عمر، وسأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال: مِمَّن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألنِي عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: هما رَيْحانتاي من الدنيا".
والمراد بالرَّيحانَتَين الحسن والحسين رضي الله عنهما.
فإنَّ ما زعمه من بدعية مصطلح (العقيدة) شبيهٌ بدم البعوض، وما زعمه من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية ـ وهو عنده حقٌّ لا بدعة ـ شبيهٌ بقتل الحسين رضي الله عنه.
2 ـ ما زعمه من أنَّه"لَم ترِد (العقيدة) في حديث صحيح ولا حسن ولا موضوع" يُجاب عنه بورودها في حديث حسن رواه الدارمي في سننه (235) عن زيد بن ثابت، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "نضَّر الله امرءاً سمع منَّا حديثاً
…
" إلى أن قال: "لا يعتقدُ قلبُ مسلم على ثلاث خصال إلَاّ دخل الجنَّة" الحديث.
وإسناده عند الدارمي قال: أخبرنا عصمة بن الفضل، ثنا حَرَمي بن عمارة، عن شعبة، عن عمرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، وكلُّهم ثقات إلَاّ حرمي بن عمارة فهو صدوق، وقد خرَّج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
3 ـ ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة (العقيدة)"لا في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا عند السَّلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ولا عند التابعين، بل ولا علماء الأمة الكبار في القرون الثلاثة الأولى"، يُجاب عنه بالنِّسبة للصحابة بما أورده ابنُ كثير في تفسيره لقول الله عز وجل في سورة البقرة:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عروة، عن عائشة قالت:"هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله! وبلى والله! وكلَاّ والله! يتدارؤون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم".
وبالنِّسبة للتَّابعين، فقد أورد ابن جرير في تفسيره للآية في سورة البقرة بإسناده إلى مجاهد:" {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ما عقدت عليه".
وقال البخاري في صحيحه (9/388 ـ مع الفتح) في"باب الطلاق في الإغلاق والكره..": "وقال الزهري فيمَن قال: إن لَم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالقٌ ثلاثاً، يُسأل عمَّا قال وعقد عليه قلبَه حين حلف بتلك اليمين، فإن سمَّى أجلاً أراده وعقد عليه قلبه حين حلف جُعل ذلك في دَينِه وأمانته".
4 ـ وأمَّا ما زعمه من عدم وجود أصل شرعيٍّ لكلمة (العقيدة) في كلام العلماء الكبار في القرون الثلاثة الأولى، وقوله: "لفت نظري عدم وجود كلمة (عقيدة) في النصوص المتقدِّمة، لا في القرآن ولا كتب السُّنَّة، ولا
المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى"، فيُجاب عنه بوجود ذلك عن جماعة من العلماء في القرون الثلاثة، ومن ذلك ما هو في بعض المؤلفات المؤلَّفة في تلك القرون.
ومن هؤلاء العلماء أبو عبيد القاسم بن سلَاّم المتوفى سنة (224هـ)، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب:"الإمام المشهور، ثقة فاضل مصنِّف"، قال في كتاب الإيمان له (ص: 76) : "فعمل القلب الاعتقاد".
ومنهم إبراهيم بن خالد أبو ثور المتوفى سنة (240هـ) قال عنه الحافظ في التقريب: "الفقيه، صاحب الشافعي، ثقة"، فقد روى اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (1590) بإسناده إليه أنَّه قال في جواب له عن سؤال في الإيمان: "اعلم ـ يرحمنا الله وإيَّاك ـ أنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقلب والقولُ باللسان وعملٌ بالجوارح، وذلك أنَّه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أنَّ الله عز وجل واحد وأن ما جاءت به الرسل حق وأَقَرَّ بجميع الشرائع ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنَّه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن
…
".
ومنهم الإمام محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة (294هـ) قال عنه الحافظ في التقريب: "الفقيه أبو عبد الله، ثقة حافظ إمام جبل"، فقد ذكر (الاعتقاد) في مواضع من كتابه تعظيم قدر الصلاة، منها (2/733) : "
…
إذا اعتقد أنَّ الله ليس بكريم ولا يستحق المدح الحسن فقد اعتقد الكفر ولم يعرف، وكذلك إن اعتقد أنَّه قد ظلمه وجار عليه فهو كافر لم يعرف الله
…
".
ومنهم الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي المولود سنة
(239هـ)، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في لسان الميزان:"قال أبو سعيد ابن يونس: كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلف مثله"، وهو صاحب العقيدة المشهورة بالعقيدة الطحاوية، قال في مطلعها:"هذا ذكر بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة على مذهب فقهاء الملَّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدِّين، ويَدينون به ربَّ العالَمين، نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إنَّ الله واحدٌ لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يُعجزه، ولا إله غيره"، ثم سرَد موضوعات العقيدة إلى آخرها.
5 ـ ثم إنَّ هذا المالكيَّ المكتشف لبدعية مصطلح (العقيدة) في (القرن الخامس عشر!) ذكر في (ص: 34) عدَّة معان في مادة (عَقَد)، آخرها:"وعقد القلب على أمر ما ديني أو دنيوي"، ثم قال:"ولعلَّ من هذا المعنى الأخير أخذ بعضُهم لفظة العقيدة، وخصَّها ببعض المعاني العلمية الدينية، وهذا تخصيصٌ مبتَدَع أيضاً!! ".
أقول: ما دام أنَّ لمصطلح لفظ (العقيدة) أصلاً كما ذكر هو، فلا وجه للتَّهويل والتبديع الذي ذكره لإطلاق اسم (العقيدة) على مباحث أصول الدِّين، وأيضاً فإنَّ لفظ (الإيمان) أو (الإيمانيات) الذي زعم أنَّه مهجور قد ألَّف كثير من علماء أهل السُّنَّة والجماعة مؤلَّفات باسم"الإيمان"، وهي مشتملة على ما اشتملت عليه الكتب المؤلَّفة باسم"العقيدة"، أو"السنة"، وهذا ما لا يُعجب المالكي؛ لأنَّه يريد كتباً في الإيمان لا يُتعرَّض فيها للبدع والمبتدعة، ولا ذكر لشيء مِمَّا فيه اختلاف بين أهل السُّنَّة والجماعة وفرق