المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التوكل ودليله َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ - شرح ثلاثة الأصول لصالح الفوزان

[صالح الفوزان]

الفصل: ‌ ‌التوكل ودليله َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ

‌التوكل ودليله

َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة: 23][17] .

[17] التوكل هو التفويض والاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى هذا هو التوكل، وهو من أعظم أنواع العبادة، ولهذا قال:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قدم الجار والمجرور على العامل ليفيد الحصر.

{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} أي: عليه لا على غيره، ثم قال {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعل من شرط الإيمان التوكل على الله سبحانه وتعالى، ودل على أن من لم يتوكل على الله فليس بمؤمن، فالتوكل عبادة عظيمة، فالمؤمن دائمًا يتوكل على الله، ويعتمد على الله عز وجل، والله من أسمائه الوكيل، أي: الموكول إليه أمور عباده سبحانه وتعالى، فالتوكل لا يكون إلا على الله، ولا يجوز أن يقول: توكلت على فلان؛ لأن التوكل عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله.

أما إذا أسندت إلى أحد من الخلق تصرفًا، فهذا لا يسمى توكلًا إنما يسمى توكيلًا، والوكالة معروفة أنك توكل أحدًا

ص: 138

يقضي لك حاجة، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم من ينوبون عنه في بعض الأعمال، فالتوكيل غير التوكل، فالتوكل عبادة لا يكون إلا لله، ولا يجوز أن تقول: توكلت على فلان، وإنما تقول وكلت فلانًا.

ومع هذا أنت توكله ولا تتوكل عليه، وإنما تتوكل على الله سبحانه وتعالى، فلاحظوا الفرق بين الأمرين التوكل والتوكيل.

ومن صفات المؤمنين ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] هذه من صفات المؤمنين، فالتوكل عبادة عظيمة لا تكون إلا لله عز وجل؛ لأنه هو القادر على كل شيء، وهو المالك لكل شيء، وهو الذي يقدر أن يحقق لك مطلوبك، أما المخلوق فإنه قد لا يقدر أن يحقق لك مطلوبك، فإنك توكله في قضاء شيء من الأمور، لكن تتوكل على الله في حصول ذلك الشيء.

ثم أيضًا لنعلم أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فيجمع المسلم بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، ولا تنافي بينهما، فأنت تعمل الأسباب التي أُمِرْتَ بعملها، ولكن

ص: 139

الرغبة والرهبة والخشوع ودليل كل

وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90][18] .

لا تعتمد على الأسباب، وإنما تعتمد على الله، أنت تزرع الزرعَ في الأرض، هذا سبب ولكن لا تعتمد على زرعك وفعلك، بل اعتمد على الله في نمو هذا الزرع وتثميره وحمايته وإصلاحه، ولهذا يقول:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64] فالزارع الحقيقي هو الله أما أنت فقد فعلت سببًا فقط قد ينتج هذا الزرع وينبت وقد لا ينتج، وإذا نبت قد يصلح وقد لا يصلح، قد يصاب بآفة، فيذهب.

[18]

الرغبة: هي طلب الشيء المحمود.

الرهبة: هي الخوف من الشيء المرهوب، قال تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] وهي نوع من الخوف، الرهبة والخوف بمعنى واحد.

الخشوع: نوع من التذلل الله عز وجل، والخضوع والذل بين يديه سبحانه وتعالى وهو من أعظم مقامات العبادة.

ص: 140

قوله تعالى: إِنَّهُمْ الضمير يرجع للأنبياء؛ لأن سورة الأنبياء قد ذكر الله قصص الأنبياء فيها ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} فقوله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يتسابقون إليها، ويبادرون إليها، هذه صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتكاسلون ولا يتعاجزون، وإنما يسارعون إلى فعل الخيرات ويتسابقون إليها.

قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا} أي: طمعًا لما عند الله عز وجل طمعًا في حصول المطلوب.

قوله تعالى: وَرَهَبًا أي: خوفًا منا، فيدعون الله أن يرحمهم، ويدعونه ألا يعذبهم، وألا يؤاخذهم، وألا يعاقبهم، فهم يطمعون في رحمة الله ويخافون من عذابه، كما قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فهم يدعون الله خوفًا منه، ويدعونه أيضًا طمعًا فيما عنده، يدعون الله أن يقدر لهم الخير ويدفع عنهم الشر. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: خاضعين متذللين متواضعين لله عز وجل فجمعوا بين الصفات الثلاث:

ص: 141

الخشية ودليلها

دليل الخشية قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} [البقرة: 150][19] .

الرغبة والرهبة والخشوع، هذه صفات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وهذه الأنواع الثلاثة من أنواع العبادة لله عز وجل.

وفيها رد على الصوفية الذين يقولون: نحن لا نعبد الله رغبة في ثوابه ولا خوفًا من عقابه، وإنما نعبده محبة له فقط، هذا كلام باطل؛ لأن الأنبياء يدعون الله رغبًا ورهبًا وهم أكمل الخلق.

[19]

الخشية نوع من الخوف، وهي أخص من الخوف، وقيل: الخشية: خوف يشوبه تعظيم، قال تعالى:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أمر الله سبحانه وتعالى بخشيته وحده.

وقال تعالى في الآية: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فأمر بخشيته سبحانه وتعالى، وقال في صفة المصلين:{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج: 27] أي: خائفون، هؤلاء خواص الخلق يخافون الله عز وجل، وقال عن الملائكة:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]

ص: 142

الإنابة ودليلها

وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54][20] .

خواص الخلق من الملائكة والرسل والأولياء والصالحين يكونون على غاية عظيمة من خشية الله عز وجل والخوف منه سبحانه وتعالى والرهبة منه، فالرهبة والخوف والخشية، كلها بمعنى واحد وإن كان بعضها أخص من بعض، إلا أنها يجمعها الخوف من الله سبحانه وتعالى، وهذه من صفات الأنبياء وعباد الله الصالحين، وهي أنواع عظيمة من أنواع العبادة، وهي من أعمال القلوب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

[20]

الإنابة: الرجوع وهي بمعنى التوبة، والتوبة والإنابة بمعنى واحد. ولكن بعض العلماء يقول: الإنابة أخص من التوبة أي: آكد لأنها توبة مع إقبال إلى الله عز وجل، أي: توبة خاصة، والإنسان قد يتوب ويترك الذنب ولا يعود إليه، ويندم عليه، ولكن قد يكون في الإقبال على الله إقبال ضعيف، أما الإنابة فهي إقبال على الله عز وجل، ولهذا قال:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي: ارجعوا له، وأقبلوا عليه سبحانه

ص: 143

الاستعانة ودليلها

ودليل الاستعانة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .

وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} إذا جاء العذاب المهلك الماحق فإنها لا تقبل توبة من تاب عند ذلك: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98] هذا مستثنى وإلا فإنه إذا نزل العذاب المهلك فإنها لا تقبل التوبة، ولهذا قال:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} .

فالتوبة والإنابة لها أجل ولهما حد، فهي لا تقبل توبة من غَرْغَرَ أو من حضره الموت، ولا تقبل توبة من نزل به العذاب الماحق المهلك، ولا تقبل التوبة إذا خرجت الشمس من مغربها قبل قيام الساعة، لا تقبل التوبة حينئذ، فالله يحث العبد على التوبة والإنابة قبل انتهاء أجله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} .

الشاهد قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} دل على أن الإنابة نوع من أنواع العبادة؛ لأنه قال: {إِلَى رَبِّكُمْ} فهذا يدل على أنها نوع من أنواع العبادة.

ص: 144

[21] الاستعانة: طلب العون، وهي على نوعين:

النوع الأول: الاستعانة بشيء لا يقدر عليه إلا الله، فهذه صرفها لغير الله شرك، من استعان بغير الله في شيء لا يقدر عليه إلا الله فإنه قد أشرك؛ لأنه صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله عز وجل.

النوع الثاني: الاستعانة فيما يقدر عليه المخلوق، فأنت تستعين بأحد أن يبني معك الجدار، أو أن يحمل معك متاعك، أو أن يعينك على مطلوب مباح، كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فالاستعانة في الأمور العادية التي يقدر عليها الناس، هذا النوع لا بأس فيه؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى، وقال صلى الله عليه وسلم:«والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .

ص: 145

أما الاستعانة بالمخلوق في شيء لا يقدر عليه إلا الله؛ مثل جلب الرزق ودفع الضرر، فهذا لا يكون إلا لله، كالاستعانة بالأموات، والاستعانة بالجن والشياطين، والاستعانة بالغائبين، وهم لا يسمعونك تهتف بأسمائهم، هذا شرك أكبر؛ لأنك تستعين بمن لا يقدر على إعانتك.

فقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

إياك نعبد: هذا فيه تقديم المعمول على العامل، المعمول إياك في محل نصب، ونعبد هذا هو العامل الذي نصب إياك، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر.

فمعنى إياك نعبد: أي لا نعبد غيرك، فحصر العبادة في الله عز وجل.

وإياك نستعين: حصر الاستعانة بالله عز وجل وذلك في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى.

وفي قوله: إياك نستعين، براءة من الحول والقوة، وأن الإنسان لا قوة له إلا بالله ولا يقدر إلا بالله عز وجل، وهذا غاية التعبد لله إذا تبرأ من الشرك وتبرأ من الحول ومن القوة فهذا غاية التعبد لله عز وجل.

ص: 146