المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نزول الوحي عليه - شرح ثلاثة الأصول لصالح الفوزان

[صالح الفوزان]

الفصل: ‌نزول الوحي عليه

‌نزول الوحي عليه

وأرسل بـ " المدثر "، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] . [59]

[59] ثم نزل عليه قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} هذا هو الإرسال وهذا معنى قول الشيخ: نبأه باقرأ وأرسله بالمدثر.

والفرق بين النبي والرسول أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وتوضيح ذلك أن الرسول تنزل عليه شريعة وكتاب فهو نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر على رأس الأربعين، وكذلك الأنبياء، والنبي يبعث بشرع من قبله، وكتاب من قبله، ويوفى إليه ببعض المسائل كأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى، والمدثر معناه الملتحف لأنه صلى الله عليه وسلم أصابه شيء من الفزع، فقال: دثروني دثروني - أي: غطوني - فأنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظمه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}

ص: 250

أي: طهر أعمالك من الشرك، فالأعمال تسمى الثياب، قال الله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [سورة الأعراف: 26] ، سمى التقوى لباسا.

والرجز: الرجز معناه الأصنام.

فاهجر: أي: اتركها وابتعد عنها.

فبعثه الله على رأس الأربعين، وبقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام، وحصلت مداولات بينه وبين المشركين، حصل عليه أذى وعلى من آمن به واتبعه، وحصلت مضايقات من المشركين في خلال ثلاث عشرة سنة، وقبل الهجرة بثلاث سنوات أسري به إلى بيت المقدس وعرج بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ فصلى بمكة ثلاث سنين، ثم تآمرت قريش على قتله وعلى الفتك به، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة فهاجر إلى المدينة، بعدما التقى بالأنصار في بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية.

هاجر إلى المدينة وأقام بها عشر سنوات، فالمجموع ثلاث وعشرون سنة، بعد النبوة عاش صلى الله عليه وسلم ثلاثا وعشرين سنة، ثلاث عشرة في مكة يؤسس دعوة التوحيد، وعشر

ص: 251

سنوات في المدينة، ثم توفاه الله على رأس الثالثة والستين من عمره عليه الصلاة والسلام، فمدة عمره في الرسالة ثلاثة وعشرون سنة، وهذه البركة التي أنزلها الله عز وجل عليه وهذا العلم الغزير، وهذا الجهاد، وهذا التمكين في هذه المدة الوجيزة ثلاث وعشرين سنة، هذا من آيات الله سبحانه وتعالى، ومن بركات هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وبركات دعوته، وبركات الوحي الذي أنزل إليه، وقبل هذا كله بإعانة الله عز وجل، وهو الذي أعانه، وهو الذي حماه وأيده ونصره حتى بلغت دعوته المشارق والمغارب، والحمد لله رب العالمين.

قوله: بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد: هذه دعوته صلى الله عليه وسلم: النذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، وهذا الذي يجب أن يسير عليه الدعاة في دعوتهم، أن يركزوا على الإنذار عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد قبل كل شيء، وإلا لم تكن دعوتهم على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم.

الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، فلا بد من تأصيل هذا الشيء أولا، ثم بعد ذلك يتجه إلى بقية الأمور؛ لأنها لا تصلح الأمور إلا بوجود التوحيد، لو أن الناس تركوا الزنا والخمر والسرقة واتصفوا بكل فضيلة

ص: 252

مدة الدعوة في مكة

أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التوحيد. [60]

من الأعمال والأخلاق، لكنهم لم يتركوا الشرك، فلا فائدة من هذه الأمور ولا تنفعهم، بينما لو سلم الإنسان من الشرك وعنده كبائر دون الشرك فهو مرجو أن يغفر الله له، أو يعذب بقدر ذنوبه، ولكن مآله إلى الجنة لأنه موحد.

فالتوحيد هو الأصل والأساس، ولا نجاة إلا بوجود التوحيد أولا، ولذلك يجب التركيز عليه، والعناية به دائما وأبدا، ودعوة الناس إليه وتعليم الناس إياه، وأن يبين لهم التوحيد ما معنى التوحيد، وما معنى الشرك، لا بد أن يعرف المسلم هذا الأمر ويتحقق منه، ويتفقد نفسه حتى لا يقع في شيء من الشرك أو يخل بالتوحيد، فلا بد من هذا الأمر، ولا بد أن تقوم الدعوة على هذا الأساس.

[60]

قوله: أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد: أي: أخذ على دعوة الناس إلى التوحيد والإنذار عن الشرك عشر سنين في مكة، وهو يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، والحكمة أن الله بعثه في مكة لأن مكة هي أم القرى التي ترجع إليها القرى، والله

ص: 253

جل وعلا يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [سورة القصص: 59] ، والأم هي المرجع الذي يرجع إليه، الأصل الذي يرجع إليه، هذا هو الأم، قوله تعالى:{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة آل عمران: 7]، أي: الأصل الذي ترد إليه الآيات المتشابهات.

كذلك مكة شرفها الله، هي الأصل الذي يرجع إليه أهل الأرض، والمسلمون في أقطار الأرض يرجعون إلى مكة، فهي أم القرى بمعنى هي المرجع، ولذلك بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم من مكة لأنها أم القرى، ومكث فيها ثلاث عشرة سنة، ينهى أهل مكة عن الشرك ويأمرهم بالتوحيد؛ لأن أهل مكة هم القدوة لغيرهم، ولهذا يجب أن تبقى مكة إلى قيام الساعة دارا للتوحيد ومنارا للدعوة إلى الله، وأن يبعد عنها كل ما يخالف ذلك، يبعد عنها الشرك والبدع والخرافات؛ لأن الناس ينظرون إليها دائما وأبدا، ما يفعل فيها ينتشر في العالم، فإن كان ما يفعل فيها خيرا انتشر الخير، وإن كان على عكس ذلك انتشر الشر.

فيجب أن تطهر مكة دائما وأبدا، ولهذا يقول جل وعلا:

ص: 254

الإسراء والمعراج

وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سنين. [61]

{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ، فيجب أن تطهر مكة من كل ما يخالف الإسلام حتى يصدر منها الدين والدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن الله بعث نبيه فيها، وبدأ دعوته فيها عليه الصلاة والسلام، مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، منها عشر يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك، ولم يؤمر بشيء غير ذلك، لم يؤمر بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، بل كانت دعوته مقتصرة على التحذير من الشرك والأمر بالتوحيد، يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وهم يقولون:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .

[61]

قوله رحمه الله: وبعد العشر عرج به إلى السماء: بقي صلى الله عليه وسلم عشر سنين على هذا ينهى عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، يؤسس هذا الأساس، ثم في السنة الحادية عشرة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، «بينما هو صلى الله عليه وسلم نائم في بيت»

ص: 255

«أم هانئ جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام ومعه دابة يقال لها: البراق، أقل من البغل وفوق الحمار، ويقع خطوه عند مد بصره، فأركبه عليه السلام عليها وذهب به إلى بيت المقدس في الليل» .

أسرى: من السرى وهو السير بالليل، وهذا من خواصه صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام، فالتقى هناك مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء، يعني رفع من بيت المقدس إلى السماء بصحبة جبريل، ومعنى العروج الصعود، فأسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به من بيت المقدس إلى السماء، يعني صعد به جبريل عليه السلام ومر بأهل السماوات، كل سماء يستفتح جبريل فيفتح له، ثم انتهى إلى السماء السابعة، ثم صعد فوق السماوات إلى سدرة المنتهى، وعندها كلمه الله عز وجل من وحيه بما شاء، ففرض عليه الصلوات الخمس، فرضها في اليوم والليلة خمسين صلاة، ولكن موسى عليه السلام أشار على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسأل ربه التخفيف، فإن أمته لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه يسأله التخفيف حتى انتهت إلى خمس.

ص: 256

فقال الله عز وجل كما في حديث الإسراء والمعراج: «أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا» وفي رواية أنس عن أبي ذر فقال: «هي خمس وهي خمسون» أي: خمس في العمل، وخمسون في الميزان.

خمس صلوات في اليوم والليلة تعادل خمسين صلاة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فالصلاة الواحدة عن عشر صلوات، فالإسراء ذُكر أول سورة سبحان، سورة بني إسرائيل، والمعراج ذكر أول سورة النجم. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 - 18] هذا في المعراج.

ثم إنه نزل من السماء إلى بيت المقدس ثم إنه رجع إلى مكة في ليلته، فلما أصبح وأخبر الناس بذلك، المؤمنون زاد إيمانهم، وأما الكفار فزاد شرهم، وفرحوا بهذا وراحوا يشهرون به، كيف يزعم صاحبكم أنه ذهب إلى بيت المقدس

ص: 257

ورجع منه في ليلة واحدة، ونحن نضرب أكباد الإبل إليها شهرا ذهابا، وشهرا إيابا، يقيسون قدرة الخالق بقدرة المخلوق، فكان الإسراء والمعراج امتحانا من الله عز وجل للناس. المشركون زاد تندرهم وشرهم وتنقصهم للرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون زاد إيمانهم.

فلهذا لما قال المشركون لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: انظر إلى صاحبك ماذا قال؟ قال: وماذا قال؟ قالوا: يزعم أنه ذهب به إلى بيت المقدس وَعُرِجَ به إلى السماء، وإنه جاء في ليلة واحدة. قال أبو بكر الصديق: إن كان قاله فهو كما قال. لقد صدق. قالوا: كيف ذلك؟ قال: أنا أصدقه في ما هو أعظم من ذلك، أنا أصدقه في خبر السماء ينزل عليه فكيف لا أصدقه في الإسراء إلى بيت المقدس. وهذا بقدرة الله عز وجل لا بقدرة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو بقدرة الله عز وجل وهذا من معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كرامته عند ربه عز وجل.

ص: 258

ولا بد من الاعتقادات بأنه صلى الله عليه وسلم أسري وعرج بروحه وجسمه معًا يقظة لا منامًا، لأن بعض الناس يقولون: أسرى بروحه، وأما جسده فلم يبرح مكة وإنما أسري وعرج بروحه وهذا كلام باطل، بل أنه أسري بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام وحمل على البراق، وكان ذلك يقظة لا منامًا إذ لو كان بروحه فقط أو كان منامًا فما الفرق بينه وبين الرؤيا، والله جل وعلا يقول:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] .

فالعبد يطلق على الروح والبدن جميعا لا يطلق على الروح وحدَها أنها عبد، ولا يطلق على البدن وحده أنه عبد، لا يطلق إلا على مجموع الروح والبدن، لم يقل: سبحان الذي أسرى بروح عبده، بل قال: أسرى بعبده، والعبد هو مجموع الروح والبدن، والله جل وعلا لا يعجزه شيء وهو القادر على كل شيء.

قال رحمه الله: وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثلاث سنين.

وكان يصليها ركعتين ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت الرباعية إلى أربع إلا الفجر فإنها تطول فيها القراءة. فبقيت

ص: 259

ركعتين كما هي، وإلا المغرب فإنه ثلاث من أول ما فرضت لأنها وتر النهار، أما الظهر والعصر والعشاء وكانت في مكة ركعتين ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت أربع ركعات.

كما في الحديث: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت صلاة الحضر وبقيت صلاة السفر» هذا بإجماع أهل العلم، أن الصلاة فرضت بمكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بمكة، لكن اختلفوا هل هي فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين؟

هذا هو الراجح، كما ذكر الشيخ هنا، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة، وقيل: بسنة ونصف، لكن الراجح هو ما ذكره الشيخ أنها قبل الهجرة بثلاث سنين، وهل فرض مع الصلاة شيء آخر من أركان الإسلام؟ هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من يرى أن الزكاة فرضت أيضا بمكة وإنما بينت أنصبتها ومقاديرها وأهل الزكاة في المدينة، أما أصل فرضيتها فهو في مكة.

ص: 260

الهجرة إلى المدينة

وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة. [62]

والدليل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . والمراد بحقه هنا الزكاة، والسورة مكية كلها، وكذلك في قوله:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24 - 25] .

أيضا السورة مكية، والمراد بالحق المعلوم: الزكاة، ففرض أصلها في مكة، لكن بينت تفاصيلها بالمدينة هذا قول.

والقول الثاني: وهو الذي يظهر من كلام الشيخ هنا أن الزكاة إنما فرضت في المدينة، ولم يفرض في مكة غير الركن الأول وهو التوحيد، والركن الثاني، وهو الصلاة، هذا ظاهر كلام الشيخ.

[62]

قوله رحمه الله: وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة: لما اشتد أذى قريش وزاد شرهم بالصد عن سبيل الله ومضايقة المسلمين، وتعذيب من ليس له جماعة تحميه من مستضعفي المسلمين، أذن الله سبحانه وتعالى للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة، الهجرة الأولى؛ لأن فيها مَلِكًا لا يظلم أحد عنده

ص: 261

وكان نصرانيا ولكنه كان عادلا، هاجر منهم نفر كثير، فلما علمت قريش بهجرتهم إلى الحبشة، أرسلوا في طلبهم مندوبين من دهاة قريش أحدهما: عمرو بن العاص، ومعهما الهدايا للنجاشي، وقالوا: إن هؤلاء فروا منا وهم أقاربنا نريد أن يرجعوا وإنهم أشرار، لا يفسدون في بلدك. . . إلخ.

وأعطوه الهدايا التي معهم ليغروه، ولكنه رحمه الله استدعى المهاجرين وسمع منهم، وخيرهم فاختاروا البقاء في الحبشة، فرجع المندوبان خائبين وبقي من بقي في الحبشة من المهاجرين.

ثم إن الله مَنَّ على النجاشي فأسلم وَحَسُنَ إسلامه، فلما توفي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه صلاة الغائب، فكان في هجرتهم إليه خير له أيضا هداه الله بسببهم فدخل في الإسلام.

ثم لقي النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من الأنصار في منى في موسم الحج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، يذهب إلى منازل العرب في منى ويدعوهم إلى الله، وصادف أن لقي أناسًا من الأنصار فدعاهم إلى الله فعرض عليهم ما عنده، فقبلوا من الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، وبايعوه على

ص: 262

الإسلام، ورجعوا إلى قومهم من موسم الحج فدعوهم إلى الله عز وجل، فوافى في الموسم الذي بعده أكثر من الموسم الأول، جاء ناس من الأنصار وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية أي: عند جمرة العقبة، بايعوه على الإسلام، وعلى أن يناصروه إذا هاجر إليهم، وأن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأولادهم.

فعند ذلك، أي: بعد هذه البيعة المباركة أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان في مكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، وهاجر من هاجر إلى المدينة، وبقي الرسول وبعض أصحابه، ثم إن الله أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة. فلما علمت قريش بهجرة الصحابة إلى المدينة، وعلموا بالبيعة التي حصلت بينه وبين الأنصار، خافوا أن يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في المدينة، ويتكون له قوة، وتكون لهم منعة، ففي هذه الليلة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الهجرة جاؤوا وحاصروا البيت، ووقفوا عند الباب معهم أسلحتهم يريدون الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن ينام على فراشه حتى يراه المشركون ويظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنام علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغطى

ص: 263

وَالْهِجْرَةُ: الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإسلام. [63]

بغطاء الرسول صلى الله عليه وسلم فصار المشركون ينتظرون خروجه على أنه الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم وهم لا يشعرون.

أعمى الله بصائرهم عنه، وأخذ ترابا وذرَّه على رؤوسهم، وخرج من بينهم، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه، وخرجا فذهبا إلى غار ثور، فاختفيا فيه ثلاثة أيام، وقريش تطلب من الناس العثور عليه بأي وسيلة، حيا أو ميتا، فلما يئسوا من العثور عليه بعد البحث والتنقيب، أغروا بالجوائز من يأتي به صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا، فلما أيسوا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار، وركبوا الرواحل وذهبوا إلى المدينة.

[63]

الهجرة في اللغة: ترك الشيء.

أما الهجرة في الشرع: فهي كما عرفها الشيخ: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهذه هي الهجرة الشرعية، والهجرة عمل جليل قرنه الله بالجهاد في كثير من الآيات.

لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء المهاجرون الذين كانوا في الحبشة إلى المدينة واجتمع المسلمون في المدينة، والحمد لله، وتكونت للمسلمين دولة في المدينة من

ص: 264

المهاجرين والأنصار، ومن يسلم يأتي إليهم، عند ذلك شرع الله بقية شرائع الدين، ففرض على نبيه صلى الله عليه وسلم الصيام والزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفرض عليه الحج في السنة التاسعة من الهجرة على الصحيح، وبذلك تكاملت أركان الإسلام، أولها الشهادتان، وآخرها الحج إلى بيت الله الحرام.

والحاصل من هذا أن نعلم أن التوحيد هو المهمة الأولى في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يبدأ الداعية به قبل أن يبدأ بالصلاة والصيام أو الزكاة أو الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك، ولم يؤمر بصلاة، ولم يؤمر بزكاة ولا بحج ولا بصيام، وإنما فرضت عليه هذه الفرائض بعد أن تقرر التوحيد.

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث الدعاة يأمرهم أن يدعو الناس أول ما يدعون إلى التوحيد كما في حديث معاذ: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمدًا رسول الله، فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات. . .» إلخ الحديث.

ص: 265

وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أن تقوم الساعة [64]

فدل على أنه لا يؤمر بالصلاة ولا الزكاة ولا بالصيام إلا بعد تحقيق التوحيد ووجود التوحيد، وأن من بدأ بغير التوحيد فإن دعوته فاشلة ومنهجه مخالف لمنهج الرسل كلهم عليهم السلام.

الرسل كلهم أول ما يبدؤون به التوحيد وإصلاح العقيدة، وهذا منهج مهم معرفته للسالكين؛ لأنه كثر اليوم مَنْ يعكر على هذا المنهج فيغير هذا المنهج ويختار منهجًا لنفسه من عنده ومن عند غيره من الجهلة، لا بد من الرجوع إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه فائدة معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وجعل ذلك من الأصول الثلاثة، تعرف كيف دعا الناس، وما منهجه صلى الله عليه وسلم في دعوتهم؟ حتى تسير عليه لأنه هو القدوة عليه الصلاة والسلام.

[64]

الهجرة قرينة الجهاد في سبيل الله، وهي فريضة باقية غير منسوخة، يجب على كل مسلم يحتاج إلى الهجرة أن يهاجر، ولا يجوز للمسلم أن يقيم في بلاد الكفر وهو لا يقدر على إظهار دينه، فيجب عليه أن يهاجر إلى بلاد

ص: 266

وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97 - 100] . [65] .

المسلمين فهي فريضة باقية لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تخرج الشمس من مغربها» .

[65]

هاتان الآياتان فيهما الوعيد على من ترك الهجرة وهو يقدر عليها، وأن مأواه جهنم وساءت مصيرا، وإن كان لا يخرج من الإسلام، لكن هذه من نصوص الوعيد، وإن كان

ص: 267

وقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] .

قال البغوي رحمه الله: سبب نزول هذه الآية في

ترك الهجرة فقد ترك واجبًا، وكان عاصيًا، ولكن لا يخرج من الإسلام بترك الهجرة، ولكن عليه وعيد شديد. ثم بين الله بالآية التي بعدها العذر الذي يسقط وجوب الهجرة، قال تعالى:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} يعني الأطفال {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} ، ما عندهم إمكانيات، {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} ، أي: ما يعرفون الطريق إلى البلد المدينة؛ لأن الهجرة تحتاج إلى سفر، وإلا فإن الإنسان يهلك خلال الهجرة إذا كان لا يعرف الطريق، فعذرهم في أمرين:

الأول: لا يستطيعون حيلة.

الثاني: ولا يهتدون سبيلا، حتى لو كان عندهم إمكانيات مادية، ولكنهم لا يعرفون الطريق الذي يسلكونه، من يدلهم هذا هو العذر الصحيح.

أما الإنسان الذي عنده إمكانيات ويعرف الطريق فهذا لا عذر له.

ص: 268

المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ولَمْ يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ باسم الإيمان. [66]

[66] هذه الآية من سورة العنكبوت، وفيها الأمر بالهجرة وأن أرض الله واسعة، إذا كنت في بلد لا تتمكن من إظهار دينك فيها، فهناك أرض الله واسعة، انتقل منها، لا تبقَ في هذه البقعة السيئة بل اخرج منها إلى أرض الله الواسعة، قد وسع الله الأرض سبحانه وتعالى، والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .

أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» ظاهر هذا الحديث أن الهجرة انتهت بعد فتح مكة، وظن بعض الناس التعارض بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم:( «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» ) لكن أهل العلم أجابوا عن هذا الحديث، أن المراد

ص: 269

الاستقرار في المدينة ونزول باقي الشرائع وإكمال الدين

فلما استقر بالمدينة أُمر بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ والحج والجهاد، والأذان، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ،أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سنين، وبعدها توفي صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَدِينُهُ بَاقٍ وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه اللهُ وَيَأْبَاهُ، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس.

لا هجرة بعد الفتح أي: من مكة، لأنها صارت بالفتح دار إسلام، يظنون أن الهجرة باقية من مكة بعد الفتح، فيريدون تحصيل ثواب الهجرة، وأما الهجرة من بلاد الكفر فهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل الآيات السابقة والحديث النبوي السابق، هذا هو الجواب على هذا الإشكال.

ص: 270

وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [سورة الأعراف: 158] . [67]

وأكمل اللهُ بِهِ الدِّينَ.

وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . [68]

[67] هذا كما سبق بيانه أن الشريعة نزلت بالتدريج حتى تكاملت -ولله الحمد- قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وبعد نزول هذه الآية بمدة يسيرة توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودينه باق إلى أن تقوم الساعة.

[68]

فلم يتوف صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، وأنزل عليه قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .

نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف في عرفة في حجة الوداع من يوم الجمعة، وعاش بعدها صلى الله عليه وسلم مدة يسيرة وانتقل إلى الرفيق الأعلى، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

ص: 271

وفي هذه الآية شهادة من الله سبحانه وتعالى على كمال هذا الدين وشموله لمصالح العباد وحل قضاياهم ومشاكلهم إلى أن تقوم الساعة، وهو صالح لكل زمان ومكان لا يحتاجون بعده إلى شريعة أخرى، أو إلى كتاب ينزل أو إلى رسول يبعث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فما من قضية تجد وما نازلة تنزل إلى يوم القيامة إلا وفي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حلها والحكم فيها، ولكن الشأن فيمن يحسن الاستنباط والاستدلال في الأحكام والقضايا، فإذا توفر أهل العلم وأهل الاجتهاد الذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد فإن هذه الشريعة كاملة وفيها حل المشاكل كلها، وإنما يحصل النقص من ناحيتنا نحن، من ناحية قصور العلم وعدم إدراك ما أنزل الله سبحانه وتعالى، أو من ناحية الهوى بأن يكون هناك هوى يصرف عن الحق، وإلا فهذا الدين صالح وشامل وكامل قد أغنى الله به الأمة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة إذا ما عملت به حق العمل، ورجعت إليه في أمورها.

قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الرد إلى الله هو الرد إلى كتاب الله، والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، قال تعالى:

ص: 272

{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] فهذه الآية فيها رد على الذين يرمون الشريعة الإسلامية بالقصور أو النقص من الملاحدة والزنادقة أو أنصاف المتعلمين الذين قصرت أفهامهم عن إدراك أسرار هذه الشريعة، فنسبوا القصور إلى الشريعة ولم يعلموا أن القصور من عندهم هم، ففيها رد على من اتهم الشريعة بالنقص، وأنها لم تتناول حاجات العباد ومصالح العباد إلى أن تقوم الساعة، أو قال: إنها مخصوصة بالزمان الأول؛ لأن كثيرًا من الجهال إذا قيل لهم هذا الحكم الشرعي قالوا: هذا زمان الرسول والزمان الأول، أما الآن تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور، والأحكام الشرعية هذه لأناس مضوا ولمشاكل انتهت، يقولون هذا وهذا كفر بالله عز وجل وتكذيب لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أكمل الله الدين لهذه الأمة إلى أن تقوم الساعة لكل زمان ولكل مكان ولكل جيل من الناس وفيها رد أيضا على المبتدعة الذين يحدثون عبادة من عند أنفسهم وينسبوها إلى الدين وليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإنما ابتدعوها باستحسانهم أو بتقليدهم لمن يحسنون به الظن من المخرفين وأصحاب المطامع والشهوات، فيحدثون

ص: 273

في الدين عبادة ما أنزل الله بها من سلطان، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وقال عليه الصلاة والسلام: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .

فالذي يحدث عبادات ليس لها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإنه متهم لهذا الدين بعدم التمام، وهو يريد أن يكمل الدين من عنده، ولا يعترف بتكميل الله له، فما لم يكن دينًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكون من بعده دينًا أبدًا، فهذا رد على هذه الطوائف، الطائفة التي تقول: إن الإسلام لا يصلح لكل زمان، أو الذين يبتدعون البدع المحدثات التي ليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله وينسبونها إلى الدين ففي هذه الآية رد عليهم لأن الدين أكمله الله سبحانه وتعالى.

فلا مجال للزيادة فيه، ولا النقصان، ولا مجال للتشكيك والتلبيس بأنه لا يصلح لأهل الزمان المتأخر:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} هذا كلام الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين

ص: 274

وقال تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} هذا آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شهادة من رب العاملين لهذا الدين بالكمال والشمولية والصلاحية لكل زمان ومكان.

فقوله تعالى خطاب لهذه الأمة من أولها إلى آخرها ليس خطابًا للجيل الأول فقط إنما هو خطاب لكل الأمة إلى أن تقوم الساعة.

أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وفاته صلى الله عليه وسلم لم يخالف في هذا إلا المخرفون الذين يقولون: إن الرسول ما مات، وينفون الموت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا كلام ساقط كلام مردود واضح، يرده الحس والواقع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي بين أصحابه وغسل وكفن وصلي عليه ودفن عليه الصلاة والسلام، هل هذه الأعمال تعمل مع إنسان حي؟ ! عومل صلى الله عليه وسلم معاملة الأموات غسل وكفن وصلي عليه ثم دفن صلى الله عليه وسلم في قبره.

هذه سنة الله عز وجل في خلقه، ثم أين الرسل الذين من قبله؟ سنته سنة الرسل الذين من قبله وقد ماتوا وهو واحد منهم يموت، هذا بإجماع أهل السنة والجماعة ولم يخالف في هذا إلا المخرفون الذين يتعلقون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويستغيثون به من دون الله ويقولون: هو حي.

ص: 275

وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [سورة الزمر: 30 - 31][69] .

[69] النبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة توفاه إليه كما هي سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] والأنبياء والرسل داخلون في هذا العموم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فالنبي صلى الله عليه وسلم قد توفي وانتقل من هذه الدنيا إلى ربه عز وجل، وهذا ثابت بالنص والإجماع والقياس، أما النص ففي قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} هذا إخبار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه سوف يموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي: تموت فيقال للذي يموت، هذا ميِّت، وأما الذي توفي بالفعل يقال له: ميْت بالتخفيف لقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] الميْت هو الذي فارقت روحه جسده أما، الْمَيِّت فهو الذي سيموت في المستقبل.

ص: 276