الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل على أركان الإيمان
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] . [44]
[44] لما ذكر الشيخ هذه الأركان ذكر دليلها من القرآن ومن السنة؛ لأن أي شيء من أمور الدين والعبادة والعقيدة وأمور الأحكام الشرعية يحتاج إلى دليل، وإن لم يكن له دليل لم يكن صحيحا، لما ذكر الشيخ أركان الإيمان الستة ذكر دليلها من القرآن أولا ثم من السنة.
فمن القرآن قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} ، البر: هو فعل الخير الذي يقرب من الله، ويوصل إلى جنته، فكل أفعال الخير هي من البر، فالبر لفظ عام يجمع جميع أنواع الخير، وأنواع الطاعات كلها داخلة تحت مسمى البر، وتحت مسمى التقوى.
فالبر والتقوى من الأسماء العامة التي تجمع كل خصال الخير، وقوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} هذا رد على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة
من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، استنكروا هذا وجحدوه مع العلم أنهم يعلمون أنه حق، لكن جحدوه من باب العناد والمكابرة والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة.
يقول الله: ليس البر أن تولوا وجوهكم جهة من الجهات من غير أمر من الله، ولكن البر طاعة الله سبحانه وتعالى، إذا أمركم بأمر وجب عليكم امتثاله، هذا هو البر، فإذا أمركم باستقبال بيت المقدس فالبر في ذاك الوقت هو استقبال بيت المقدس؛ لأنه طاعة لله عز وجل، ثم إذا أمركم أن تستقبلوا الكعبة فالبر هو استقبال الكعبة، فالبر يدور مع أمر الله سبحانه وتعالى.
أنتم عبيد يجب عليكم الامتثال، إذا أمركم الله أن تستقبلوا جهة من الجهات وجب عليكم الامتثال، أما أن تتعصبوا لجهة معينة وتقولوا: لا يصح إلا استقبالها فهذا معناه اتباع الهوى والعصبية، والعبد الصادق يدور مع أوامر الله حيث دارت، ولا يعترض على أمر الله؛ لأن استقبال جهة بعد نسخ استقبالها لا يكون طاعة لله عز وجل، فالعمل بالمنسوخ وترك الناسخ ليس طاعة لله عز وجل، وإنما هو طاعة للهوى والعصبية، فالبر متعلق بطاعة الله، فحيث وجهك تتوجه إن كنت محقا في عبوديتك لله عز وجل:
ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . [45] .
المرتبة الثالثة: الإحسان
تعريف الإحسان
المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد، وهو " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". [46]
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] .
[45]
دليل الركن السادس من أركان الإيمان: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، أي: كل شيء خلقه الله فإنه مقدر في علمه وكتابته ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، وليس هو عفويا أو صدفيا، إنما هو أمر سابق في علم الله، ومكتوب في اللوح المحفوظ، وسابق في مشيئة الله وإرادته سبحانه وتعالى.
[46]
الإحسان في اللغة: إتقان الشيء وإتمامه، مأخوذ من الحسن، وهو الجمال، ضد القبح، وهو ينقسم إلى أقسام:
أولا: إحسان بين العبد وبين ربه، وهذا هو المقصود.
ثانيا: إحسان بين العبد وبين الناس.
ثالثا: إحسان الصنعة وإتقانها، إذا صنع الإنسان شيئا أو عمل عملا فإنه يجب عليه أن يتقنه ويتمه.
النوع الأول: وهو الإحسان بين العبد وربه، بينه الرسول صلى الله عليه وسلم «لما سأله جبريل بحضرة الصحابة كما يأتي، فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
فالإحسان بين العبد وبين ربه هو إتقانه العمل الذي كلفه الله به، بأن يأتي به صحيحا خالصا لوجه الله عز وجل، عمل الإحسان بين العبد وربه ما توفر فيه الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين، واحدة أعلى من الأخرى.
الأولي: أن تعبد الله كأنك تراه، بأن يبلغ بك اليقين والإيمان بالله كأنك تشاهد الله عيانا، ليس عندك تردد أو أي شك، بل كأن الله أمامك سبحانه وتعالى تراه عيانا، فمن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ غاية الإحسان، تعبد الله كأنك تراه من كمال اليقين وكمال الإخلاص، كأنك ترى الله عيانا، والله جل وعلا لا يرى في الدنيا، وإنما يرى في الآخرة، ولكن تراه بقلبك حتى كأنك تراه بعينيك، ولذلك يجازى أهل الإحسان بالآخرة بأن يروه سبحانه وتعالى، لما عبدوه وكأنهم يرونه
في الدنيا جازاهم الله بأن أفسح لهم المجال بأن يروه بأبصارهم في دار النعيم.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، الزيادة هي النظر لوجه الله، السبب أنهم أحسنوا في الدنيا، فأعطاهم الله الحسنى، وهي الجنة، وزادهم رؤية الله عز وجل، تعبد الله كأنك تراه على المشاهدة، والمحبة والشوق إلى لقائه سبحانه وتعالى، تتلذذ بطاعته، وتطمئن إلى طاعته سبحانه وتعالى، تشتاق إليها، هذه طريقة المحسنين.
المرتبة الثانية: إذا لم تبلغ هذه المرتبة العظيمة فإنك تعبده على طريقة المراقبة، بأن تعلم أن الله يراك، ويعلم حالك، ويعلم ما في نفسك، فلا يليق بك أن تعصيه، وأن تخالف أمره، وهو يراك ويطلع عليك، وهذه حالة جيدة، ولكنها أقل من الأولى، وما دمت أنك تعلم أنه يراك فإنك تحسن عبادته وتتقنها؛ لأنك تعلم أن الله يراك، ولله المثل الأعلى لو كنت أمام مخلوق له منزلة وأمرك بأمر، وأنت تنفذ هذا الأمر أمامه وينظر إليك، هل يليق بك أن يقع منك إخلال بهذا الفعل؟
الحاصل: أن الإحسان على مرتبتين:
مرتبة المشاهدة القلبية: وهي أن تعبد الله كأنك تراه من شدة اليقين والإيمان، كأنك ترى الله عز وجل عيانا.
والمرتبة الثانية: وهي أقل منها، أن تعبد الله وأنت تعلم أنه يراك ويطلع عليك، فلا تعصيه ولا تخالف أمره سبحانه وتعالى.
هذه مرتبة الإحسان، وهي أعلى مراتب الدين، من بلغها فإنه بلغ أعلى مراتب الدين، وقبلها مرتبة الإيمان، وقبلها مرتبة الإسلام.
فالدين دوائر:
الدائرة الأولى: الإسلام، وهي واسعة حتى إنه يدخل فيها المنافق، ويقال له مسلم ويعامل معاملة المسلمين؛ لأنه استسلم في الظاهر، فهو داخل في دائرة الإسلام، ويدخل فيها ضعيف الإيمان الذي ليس معه من الإيمان إلا مثقال حبة خردل.
الدائرة الثانية: وهي أضيق من الأولى وأخص، دائرة الإيمان، وهذه لا يدخل فيها المنافق النفاق الاعتقادي أبدا،
دليل الإحسان
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217-220]، وقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] . [47]
وإنما يدخل فيها أهل الإيمان، وهم على قسمين: إيمان كامل، وإيمان ناقص، فيدخل فيها مؤمن فاسق، أو مؤمن تقي.
الدائرة الثالثة: وهي أضيق من الثانية، دائرة الإحسان، وهي كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل فيها إلا أهل الإيمان الكامل.
[47]
هذا دليل المرتبة الأولى من الإحسان: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، دلت الآية أن الله مع المحسنين
وهم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن الله معهم معية خاصة، معية النصرة والتأييد والتوفيق.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} هذا دليل المرتبة الثانية، هذا دليل قوله:" فإنه يراك ".
وتوكل: أي: فوض أمورك.
على العزيز الرحيم: وهو الله سبحانه وتعالى.
حين تقوم: تقوم للعبادة والصلاة.
وتقبلك في الساجدين: يراك وأنت راكع، وأنت ساجد، يراك في جميع أحوال العبادة قائما وراكعا وساجدا، فهو يراك سبحانه وتعالى.
إنه هو السميع العليم: السميع لأقوالك، العليم بأقوالك سبحانه وتعالى، وقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} هذا دليل المرتبة الثانية، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، في أي شأن من أمورك، من أمور العبادة أو من غيرها، جميع أفعالك وتحركاتك ما تكون في شأن من الشئون.
{وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أي: من الله لأن القرآن من عند الله عز وجل، أو الضمير راجع إلى الشأن، أي: ومن الشأن الذي تكون فيه تلاوة القرآن.
{وَلَا تَعْمَلُونَ} هذا لجميع الأمة، للرسول صلى الله عليه وسلم وغيره.
{مِنْ عَمَلٍ} أي: عمل من الأعمال خير أو شر.
{إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} نراكم ونبصركم ونشاهدكم، هذا دليل لقوله صلى الله عليه وسلم:" فإنه يراك ".
{إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} تباشرونه وتعملونه، فهذا يعطي دليلا على المرتبة الثانية من مراتب الإحسان، وأنه جل وعلا شهيد على كل عامل بعمله، يراه سبحانه وتعالى ويعلمه ويبصره، ولا يغيب عنه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] .
وأما الإحسان بين العبد والخلق فمعناه: بذل المعروف لهم، وكف الأذى عنهم، بأن تطعم الجائع، وتكسو العاري، وتعين بجاهك المحتاج، وتشفع لمن احتاج الشفاعة، تبذل المعروف، جميع وجوه المعروف، تكرم الضيف، تكرم الجار، لا يصدر منك إلا خير لجارك، وتكف أذاك عنه أيضا
فلا يصدر منك أذى له ولا لغيره، من الناس من لا يصدر منه إلا أذى، ومن الناس من يصدر منه أذى وخير، ومن الناس من لا يصدر منه إلا خير، فهذا في أعلى الطبقات.
بذل الخير للناس وكف الأذى عنهم هو الإحسان للناس: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، حتى البهائم يجب أن تحسن إليها بأن تهيئ لها ما تحتاج إليه، وتمنع الأذى عنها، وترفق بها، هذا من الإحسان إلى البهائم، حتى المستحق للقتل لا تعذبه، بل تقتله قتلة حسنة ومريحة، من وجب عليه القصاص، ومن وجب عليه الحد، فإنه ينفذ فيه برفق، لا تمثيل، ولا تعذيب، ولا صبر.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح» في القصاص أو غير ذلك مما يلزم الحد.
فإذ ذبحتم: أي، ذبحتم الحيوانات المأكولة، فأحسنوا الذبحة، «وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» ، فتحسن حتى للبهائم، وقد «غفر الله للبغي من بني إسرائيل بسبب أنها سقت كلبا رأته يلهث من العطش، فسقته فشكر الله لها، فغفر الله لها»
وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ عَنْ عمر رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ» . [48]
«ذنبها» ، وهو ذنب عظيم، وهو البغاء، أي: الزنى، فغفر الله لها بسبب ذلك؛ لأنها أحسنت إلى هذا البهيم العطشان.
فكيف بغير الكلب؟ إذا أحسنت إلى جائع من المسلمين، أو حتى من بني آدم ولو كان كافرا، إذا أحسنت إليه فإن الله جل وعلا يشكر لك ذلك الإحسان، قال تعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] .
النوع الثالث: وهو إتقان العمل، أي عمل تعمله يجب عليك أن تتقنه، لا ليقال: إن فلانا يحسن كذا، وقد جاء في الحديث:«إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» .
[48]
قد تقدم الكلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، وأركان كل مرتبة، وذكر الشيخ رحمه الله أدلة كل مرتبة من
القرآن، وهذا كله تقدم وانتهى، ثم ذكر الشيخ رحمه الله دليل هذه المراتب من السنة، سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث جبريل وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه، أتاهم في صورة رجل، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن الساعة، وسأله عن أماراتها، هذا ما يسمى بحديث جبريل أو حديث عمر، وهو حديث ورد من عدة طرق عن جماعة من الصحابة، فهو حديث صحيح، وذكر الشيخ رحمه الله رواية عمر بن الخطاب في هذا الحديث مع اختلاف في ألفاظ الحديث في طرق أخرى، ولكن المعنى واحد.
قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، كان من عادتهم رضي الله عنهم أنهم يجتمعون عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ويتلقون عنه العلم، ويستمعون إلى أجوبته صلى الله عليه وسلم على ما يرده من الأسئلة، فبينما هم كذلك على عادتهم «إذ دخل عليهم رجل من الباب، رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ» ، أي: أن جبريل عليه السلام تمثل في صورة هذا
الرجل، ولم يأتهم بصورته الملكية؛ لأنهم لا يطيقون النظر إليه في صورته الملكية.
[49]
لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ منا - أي: من الحاضرين - أحد، فهذا من العجائب أنه ليس قادما من سفر حتى يقال: إنه من غير أهل المدينة، وهم لا يعرفونه، وهو ليس من أهل البلد حتى يعرفوه، فتحيروا في شأنه، لا هو قادم، ولا هو من أهل البلد، لو كان قادما من سفر لظهر عليه أثر السفر في ثيابه وفي لونه؛ لأن المسافر تظهر عليه آثار السفر، فلا يعرفه أحد من الحاضرين، فليس هو من أهل البلد، وليس هو قادما من سفر، فمن أين يكون هذا الرجل؟ هذا الذي استغربوه.
فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه جلوس المتعلم من معلمه، وأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه قريب منه جدا، ووضع يديه على فخذيه، أي: فخذي النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال يا محمد: خاطبه باسمه، ولم يقل: يا رسول الله، ولعله فعل ذلك عليه السلام من أجل أن يظن الصحابة أنه من البادية؛ لأن من عادة أهل البادية أنهم يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم باسمه؛ لأن أهل البادية على طبيعتهم وعادتهم، وهو زيادة في الإغراب والتعمية حتى لا يعرفوه.
قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، أي: اشرح لي معنى الإسلام.
[50]
قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا: ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام التي لا بد منها، والتي إن تحققت ووجدت تحقق الإسلام، وما زاد عليها من الأمور الأخرى فهي مكملات، فالرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر على بيان أركان الإسلام؛ لأن الجواب كلما كان مختصرا كان أسهل على المتعلم والسامع، وسهل
عليه حفظه ووعيه، بينما لو طول الجواب تشعب على الحاضرين، وربما أن أكثرهم لا يستوعبه، فهذا دليل على أن المسئول ينبغي أن يتوخى الاختصار مهما استطاع، ويقتصر على الشيء الضروري، وإلا فالإسلام أكثر من ذلك، هذه أركانه ودعائمه التي يقوم عليها.
قال: صدقت: هذه عجيبة ثانية.
قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه: فدل على أنه عالم، وأنه لا يسأل سؤال جاهل، وإنما يسأل وهو عالم بدليل أنه قال: صدقت، فدل على أنه عالم، فلماذا يسأل؟
[51]
قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فذكر له صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان الستة بعدما ذكر له أركان الإسلام، والإسلام والإيمان إذا ذكرا جميعا فالإسلام معناه الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة، أعمال القلوب، وما يقوم به من التصديق والعلم، ولا بد من الإسلام والإيمان
جميعا، الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«الإسلام علانية، والإيمان في القلب» ، فإن ذكرا جميعا صار لكل واحد معنى خاص به، وإذا ذكر واحد منهما دخل فيه الآخر، إذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان؛ لأنه لا يصح إسلام بدون إيمان، ولا يصح إيمان بدون إسلام، لا بد من الاثنين، فهما متلازمان، ولهذا يقولون: إن الإسلام والإيمان من الأسماء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا انفردت اجتمعت، أي: يدخل بعضها في بعض لأنهما متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر.
فسأله عن الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وبين له صلى الله عليه وسلم أركان كل من الإسلام والإيمان.
[52]
قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله، سبق أن المحسن هو من يعبد الله على المشاهدة واليقين كأنه يرى
الله، أو يعبده على المراقبة، وهو يعلم أن الله يراه فيحسن العمل؛ لأن الله مطلع عليه، فالمحسن يعبد الله إما على المشاهدة في القلب، وهذا أكمل، وإما على المراقبة، وأن يعلم أن الله يراه في أي مكان، أو في أي عمل يعمله، هذا هو الإحسان.
قال: صدقت، فأخبرني عن الساعة، أي: عن قيام الساعة متى؟ ولما كان هذا السؤال لا يعلم أحد الجواب عنه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن قيام الساعة لا يعلم تحديده إلا الله عز وجل.
نحن نعلم أنها ستقوم الساعة لا نشك في هذا، من شك في هذا فهو كافر، نعلم أنها ستقوم الساعة ولا بد، ولكن الوقت الذي تقوم فيه الساعة الله عز وجل لم يخبرنا عنه، ولم يبينه لنا، واستأثر بعلمه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] ، هو الذي يعلمها سبحانه، وقال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] ، ومنها وقت قيام الساعة.
«قال صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ، أي: أنا وأنت سواء لا نعلم متى تقوم الساعة، الله جل وعلا لم يطلع على هذا لا الملائكة، ولا الرسل، ولا أحدا، بل استأثر بعلمها سبحانه وتعالى.
[53]
قال: أخبرني عن أماراتها: الأمارات جمع أمارة، وهي العلامة، أما الإمارة بالكسر فهي الولاية.
أخبرني عن أماراتها، أي: العلامات التي تدل على قرب قيامها، نعم الساعة لها أمارات، وقد بينها الله سبحانه وتعالى، منها أمارات صغيرة، ومنها علامات كبيرة، ومنها متوسطة، ومنها علامات مقاربة للساعة تكون عند قيام الساعة، تكون قريبا من قيامها، أما العلامات الأخرى فإنها متقدمة، العلماء يقولون: علامات الساعة على ثلاثة أنواع: هي علامات صغيرة ومتقدمة، وعلامات متوسطة، وعلامات كبيرة.
العلامات الصغيرة والعلامات المتوسطة كلها حصلت أو حصل معظمها، أما العلامات الكبار ظهور الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، فهذه تكون عند قيام الساعة وتتتابع.
قال: أخبرني عن أماراتها: ولما كانت أماراتها معلومة أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " «أن تلد الأمة ربتها» " هذا من علامات الساعة، الأمة هي المملوكة، وربتها سيدتها.
[54]
قال الشراح: معناه والله أعلم أنه في آخر الزمان يكثر التسري، يعني يكثر وطء الإماء - أي: المملوكات - فيلدن بنات، تكون بنتها حرة، وتكون سيدة لأمها ومالكة لها، وقيل: معناه أنه يكثر العقوق، فتكون البنت كأنها سيدة لأمها.
وأن ترى الحفاة: هذه علامة ثانية.
الحفاة: الذين ليس لهم نعال من الفقر والفاقة.
العراة: الذين ليس لهم لباس.
العالة: الفقراء.
رعاء الشاء: جمع راعٍ، الذين يرعون الأغنام، هؤلاء كانوا في الأصل في البراري في بيوت ينتقلون من محل إلى آخر، وفي آخر الزمان يستوطنون في المدن، ويبنون القصور والعمارات الشاهقة، هذا من علامات الساعة، إذا تحولت البادية إلى حاضرة، وصاروا يتطاولون في المباني، ويتباهون
بها وينمقونها، وهم ليس من عادتهم، يتحولون إلى أغنياء، إلى أصحاب ثروة وأصحاب مظاهر، هذه من علامات الساعة.
وكما تعلمون فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، كما تعلمون الآن كيف حال الناس، لقد تغيرت الأحوال وتحول الفقراء إلى أغنياء أصحاب ثروات، وتحضرت البادية وبنوا وتطاولوا في البنيان، وهذا مصداق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[55]
قال: ثم خرج ولبثنا مليا: يعني وقتا قصيرا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ أو أتدرون من السائل؟ وفي رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: علي بالرجل، فطلبوه فلم يقدروا عليه» .
قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم: هذا الذي دخل وسأل هذه الأسئلة هو جبريل عليه السلام، وجاء في
صورة رجل كما وصف لغرض تعليم الحاضرين أمور دينهم على طريق السؤال والجواب.
فدل هذا الحديث على مسائل عظيمة:
الأولى: أن الدين ينقسم إلى ثلاثة مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، كل مرتبة أعلى من التي قبلها، وأن كل مرتبة لها أركان: أركان الإسلام، وأركان الإيمان والإحسان ركن واحد.
الثانية: فيه التعليم بطريق السؤال والجواب، وهذه طريقة تعليمية ناجحة؛ لأنها أدعى للانتباه وتلقي العلم، كونه يسأل ويتهيأ ذهنه يتطلب الجواب، ثم يلقي عليه الجواب وهو يتطلع إليه، يكون هذا أثبت.
الثالثة: في الحديث دليل على أن من سأل عن علم وهو لا يدري أن يقول: الله ورسوله أعلم، يكل العلم إلى عالمه، فلا يتكلم بالجواب وهو لا يعرفه ويتخرص، هذا لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولما قال للصحابة: أتدرون من السائل؟ وهم لا يعرفونه قالوا: الله ورسوله أعلم.
فدل ذلك على أن مسائل الشرع ومسائل الدين لا يجوز التخرص فيها؛ لأن هذا من التكلف، ولكن من كان عنده علم فإنه يجيب، ومن ليس عنده علم يقول: الله أعلم، ومن قال: لا أدري فقد أجاب.
قد سئل الإمام مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فأجاب عن ست منها، وقال في الباقية: لا أدري، فقال له السائل: أنا جئت من كذا وكذا، وسافرت وأتعبت راحلتي، وتقول: لا أدري، قال: اركب راحلتك، واذهب إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكا فقال: لا أدري، هذا ليس عيبا أن الإنسان إذا كان لا يعرف الجواب في الأمور الشرعية أنه يقول: لا أدري ولو كان عالما، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل في بعض الأسئلة ولم يكن عنده وحي من الله عز وجل، انتظر حتى ينزل الوحي من الله عز وجل، ألستم تقرءون: يسألونك عن كذا، يسألونك عن كذا، قل كذا؟
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل ولم يكن عنده جواب ينتظر حتى ينزل عليه الوحي من الله، وكذلك غيره من باب أولى ينتظر حتى يسأل غيره، أو غيره يبحث عن المسألة في كتب أهل العلم ليتحصل على جواب، أما أن يستعجل فهذا فيه خطورة عظيمة، وفيه سوء أدب مع الله عز وجل؛ لأن الذي يجيب يجيب عن شرع الله، يقول: الله أحل كذا أو حرم كذا أو شرع كذا، فالأمر فيه خطورة جدا.
المسألة الرابعة: في الحديث دليل على آداب المتعلم، جبريل وهو سيد الملائكة يجلس بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسند ركبتيه إلى ركبتي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويضع يديه على فخذيه، يسأل بأدب، هذا من أجل أن يعلم الناس كيف يتأدبون مع العلماء.
هذا بعض ما يدل عليه الحديث وفيه:
مسألة خامسة: وهي بيان بعض علامات الساعة، ذكر علامتين: أن تلد الأمة ربتها، وبعض العلماء يقول: معنى أن تلد الأمة ربتها أنه يكثر العقوق في آخر الزمان حتى تصبح البنت كأنها سيدة على والدتها، تأمرها وتنهاها وتغلظ عليها.