المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الرسالة الثالثة الحَنِيفِيَّة مِلَّة إِبْرَاهِيم ‌ ‌تعريف الحنيفية إن الحنفية ملة إبراهيم [13] - شرح ثلاثة الأصول لصالح الفوزان

[صالح الفوزان]

الفصل: ‌ ‌الرسالة الثالثة الحَنِيفِيَّة مِلَّة إِبْرَاهِيم ‌ ‌تعريف الحنيفية إن الحنفية ملة إبراهيم [13]

‌الرسالة الثالثة

الحَنِيفِيَّة مِلَّة إِبْرَاهِيم

‌تعريف الحنيفية

إن الحنفية ملة إبراهيم [13]

[13] قوله: إن الحنيفية ملة إبراهيم: أي الذي يجب أن تعلمه وأن تعرفه أن الحنيفية ملة إبراهيم، والحنف في اللغة: الميل.

فمعنى الحنيفية هي الملة المائلة عن الشرك إلى التوحيد، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان حنيفا مسلما، حنيفا أي مائلا عن الشرك ومعرضا عنه إلى التوحيد والإخلاص لله عز وجل، قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] فالحنيف من أوصاف إبراهيم عليه السلام بمعنى أنه معرض عن الشرك ومائل عنه بالكلية إلى التوحيد، متوجه بكل وجهته إلى التوحيد والإخلاص لله عز وجل قال الله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وقال

ص: 71

سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] .

هذه أوصاف إبراهيم عليه السلام العظيمة، منها أنه كان حنيفا، وأن ملته الحنيفية هي الملة الخالصة لله عز وجل التي ليس فيها شرك، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع هذه الملة بقوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وأمرنا نحن كذلك أن نتبع ملة إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] وهي دين جميع الرسل.

ولكن لكون إبراهيم عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لاقى في سبيل الدعوة إلى التوحيد من التعذيب ومن الامتحان ما لم يلقه غيره، فصبر على ذلك، ولكونه أبا الأنبياء فإن الأنبياء الذين جاءوا من بعده كلهم من ذريته عليه الصلاة والسلام فالحنيفية ملة جميع الأنبياء، وهي الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، هذه ملة جميع الرسل، لكن لما كان لإبراهيم مواقف خاصة نحو هذه الملة نسبت إليه ولمن جاء بعده، والأنبياء كلهم من بعده

ص: 72

أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدين [14]

كانوا على ملة إبراهيم، وهي ملة التوحيد والإخلاص لله عز وجل.

ما هي هذه الملة التي أمر نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعها وأمرنا باتباعه؟ يجب علينا أن نعرفها، لأن المسلم يجب عليه أن يعرف ما أوجب الله عليه من أجل أن يمتثله، ومن أجل أن لا يخل به، لا يكفي الانتساب بدون معرفة، لا يكفي أن ينتسب للإسلام وهو لا يعرفه، ولا يعرف ما هي نواقض الإسلام، وما هي شرائع الإسلام، وأحكام الإسلام، ولا يكفي الانتساب لملة إبراهيم وأنت لا تعرفها، وإذا سئلت عنها تقول: لا أدري، هذا لا يجوز، يجب أن تعرفها جيدا من أجل أن تسير عليها على بصيرة، وألا تخل بشيء منها.

[14]

قوله: أن تعبد الله مخلصا له الدين: هذه ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين. تجمع بين الأمرين: العبادة والإخلاص، فمن عبد الله ولم يخلص له الدين لم تكن عبادته شيئا، فمن عبد الله، فصام وحج وصلى واعتمر وتصدق وزكى وفعل كثيرا من الطاعات؛ لكنه لم يخلص لله عز وجل في ذلك، إما لأنه فعل كل ذلك رياء أو سمعة، أو أنه

ص: 73

خلط عمله بشيء من الشرك كالدعاء لغير الله، والاستغاثة بغير الله، والذبح لغير الله، فإن هذا لم يكن مخلصا في عبادته، بل هو مشرك، وليس على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم يقعون في الشرك الأكبر، من دعاء غير الله وعبادة القبور والأضرحة والذبح لها والنذر لها والطواف بها والتبرك بها، والاستغاثة بالأموات، وغير ذلك، وهم يقولون إنهم مسلمون، هؤلاء لم يعرفوا ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي عليها نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يعرفوها، أو عرفوها وخالفوها على بصيرة والعياذ بالله، وهذا أشد.

فملة إبراهيم لا تقبل الشرك بأي وجه من الوجوه، ومن خلط عمله بشرك فليس على ملة إبراهيم، وإن كان ينتسب إليها ويزعم أنه مسلم، فالواجب أن تعرف ملة إبراهيم، وأن تعمل بها، وأن تلتزمها بأن تعبد الله مخلصا له الدين، لا يكون في عبادتك شيء من الشرك الأصغر أو الأكبر.

هذه ملة إبراهيم عليه السلام: الحنيفية التي أعرضت عن الشرك بالكلية، وأقبلت على التوحيد بكليتها، أن تعبد الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.

ص: 74

وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا [15]

[15] قوله: وبذلك أمر الله: الإشارة ترجع إلى قوله: أن تعبد الله مخلصا له الدين، أي وبعبادة الله مخلصا له الدين أمر الله جميع الخلق، أمر الله جميع الناس عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كل الناس من عهد آدم إلى آخر بشر في الدنيا، كلهم أمرهم الله بعبادته مع الإخلاص في العبادة، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 21، 22) أنه لا ند له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا كفؤ له، فهذا نهي عن الشرك الأكبر وعن الشرك الأصغر، أمر الله بذلك جميع الناس من أولهم إلى آخرهم.

قوله: وخلقهم لها: أي لعبادته وحده لا شريك له سبحانه، خلقوا من أجلها، ذلك كما في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وأمروا بذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21]

ص: 75

هذا معنى قول الشيخ: خلقهم لها وأمرهم بها، جمع الأمرين في قوله: وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .

فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} الله هو الخالق، هو الذي خلق الأشياء كلها، ومن ذلك أنه خلق الجن والإنس، وأعطاهم العقول، وكلفهم بعبادته وحده لا شريك له، خصهم بالأمر بعبادته؛ لأن الله أعطاهم عقولا، وأعطاهم ما يميزون به بين الضار والنافع، والحق والباطل، وخلق الأشياء كلها لمصالحهم ومنافعهم، قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] كل مسخر لبني آدم من أجل أن يستعينوا به على ما خلقوا من أجله، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .

والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم، وهم مكلفون بالعبادة، ومنهيون عن الشرك وعن المعصية مثل بني آدم، لكن يختلفون عن بني آدم في الخلقة.

أما من ناحية الأوامر والنواهي فهم مثل بني آدم مأمورون ومنهيون، والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم لكنهم

ص: 76

موجودون، والإنس هم بنو آدم، سموا بالإنس لأن بعضهم يأنس ببعض، يجتمعون ويتآلفون، والجن سموا جنا من الاجتنان وهو الاختفاء، ومنه الجنين في البطن، لأنه مختف، وجنه الليل إذا ستره، والمجن الذي يتخذ دون السهام، فالاجتنان والجنان هو الشيء الخفي المستتر، فالجن مستترون عنا لا نراهم.

وهم عالم موجود من أنكرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله ولإجماع المسلمين، فقد بين الله عز وجل أنه لم يخلق الجن والإنس لشيء إلا لعبادته، فهو لم يخلقهم لأجل أن ينفعوه أو يضروه، أو يعتز بهم من ذلة، أو يتكثر بهم من قلة، لأنه غني عن العالمين، وما خلقهم لحاجة إليهم، ما خلقهم لأجل أن يرزقوه أو يكتسبوا له الأموال:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57] .

فالله ليس بحاجة إلى الخلق، وإنما خلق الجن والإنس لشيء واحد فقط وهو أن يعبدوه، وهو ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إليها؛ لأنهم إذا عبدوا الله

ص: 77

ومعنى يعبدون: يوحدون [16] .

أكرمهم وأدخلهم الجنة، فمصلحة العبادة راجعة إليهم، ومضرة المعصية عائدة إليهم، أما الله - جل وعلا - لا تضره طاعة المطيع ولا معصية العاصي، قال سبحانه وتعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] الله لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة المطيع، وإنما هذا راجع إلى الخلق أنفسهم، إن أطاعوه انتفعوا، وإن عصوه تضرروا بمعصيته.

[16]

قوله: ومعنى يعبدون: يوحدون: أي يفردوني بالعبادة، فالعبادة والتوحيد بمعنى واحد. التوحيد يفسر بالعبادة، والعبادة تفسر بالتوحيد، ومعناهما واحد، ففي هذا رد على من فسر التوحيد بأنه الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، فهذا ليس هو التوحيد الذي خلق الخلق من أجله، وإنما خلق الخلق من أجل توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية.

أما من أقر بتوحيد الربوبية فقط فإنه ليس موحدا، وليس من أهل الجنة، بل هو من أهل النار؛ لأنه لم يأت بالتوحيد الذي خلق من أجله والعبادة.

ص: 78