المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول اللهمعناها ودليلها - شرح ثلاثة الأصول لصالح الفوزان

[صالح الفوزان]

الفصل: ‌شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول اللهمعناها ودليلها

‌أركان الإسلام

‌شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمدا رسول الله

معناها ودليلها

فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ الله الحرام. [32]

[32] لا يقوم الإسلام إلا على هذه الأركان، إذا فُقِدَتْ فإن الإسلام لا يستقيم، وبقية الطاعات مكملات لهذه الأركان، كل الطاعات وأفعال الخير كلها مكملات لهذه الأركان، ولهذا «سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة قال: أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا» .

ففسر الإسلام بأنه هذه الأركان الخمسة، لكن حديث ابن عمر بين أن هذه الخمسة هي مباني الإسلام فقال:«بني»

ص: 162

«الإسلام على خمس» أي: أن هذه الخمس ليست هي الإسلام كله لكنها أركانه ومبانيه التي يقوم عليها وبقية المشروعات مكملات ومتممات لهذه الأركان.

[33]

قوله تعالى: شهد، أي حكم وقضى وأعلم وبين وألزم، فالشهادة من الله تدور على هذه المعاني الخمسة: الحكم والقضاء والإعلان والبيان والإلزام.

فمعنى شهد، أي: قضى سبحانه وأعلم وأخبر وألزم عباده بذلك، أنه لا إله إلا هو.

لا إله: لا نافية تنفي جميع ما عبد من دون الله.

إلا هو: مثبت العبادة لله وحده ومعنى أنه لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، أما من عبد غير الله فإن عبادته باطلة لقوله تعالى:

ص: 163

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]

شهد لنفسه سبحانه وتعالى بالوحدانية وهو أصدق القائلين، وشهادته سبحانه وتعالى أصدق الشهادات؛ لأنها صادرة عن حكيم خبير عليم، يعلم كل شيء فهي شهادة صادقة والملائكة: شهدوا أنه لا إله إلا هو، وهم عالم خلقهم الله لعبادته، ملائكة كرام عباد مكرمون خلقهم الله لعبادته، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأيضًا خلقهم الله لتنفيذ أوامره في الكون، وكل إليهم تنفيذ ما يأمر به سبحانه وتعالى من أمور الكون، فكل ملك منهم موكل بعمل، وشهادتهم شهادة صدق؛ لأنهم أهل علم وعبادة ومعرفة بالله عز وجل، وهم من أفضل الخلق على الخلاف، هل صالح البشر أفضل من الملائكة أو الملائكة أفضل من صالح البشر، على خلاف.

وأولو العلم: صنفان؛ الملائكة، والصنف الثاني أولو العلم من البشر، وأولو العلم لا يشهدون إلا بما هو حق، بخلاف الجهال لا اعتبار بشهادتهم، وكل عالم من خلق الله يشهد لله بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، وهذا فيه تشريف

ص: 164

لأهل العلم حيث إن الله قرن شهادتهم مع شهادته سبحانه وتعالى وشهادة ملائكته، اعتبر شهادة أهل العلم من الخلق ودل على فضلهم وشرفهم ومكانتهم، على أعظم مشهود به وهو التوحيد.

والمراد بأولي العلم، أهل العلم الشرعي لا كما يقوله بعض الناس: إن أهل العلم المراد بهم أهل الصناعة والزراعة فهؤلاء لا يقال لهم أهل العلم على وجه الإطلاق؛ لأن علمهم محدود مقيد، بل يقال: هذا عالم بالحساب، عالم بالهندسة، عالم بالطب، ولا يقال لهم: أهل العلم مطلقًا؛ لأن هذا لا يطلق إلا على أهل العلم الشرعي، وأيضًا أكثر هؤلاء أهل علم دنيوي، وفيهم ملاحدة يزيدهم علمهم -غالبًا- جهلًا بالله عز وجل، وغرورًا وإلحادًا كما تشاهدون الآن في الأمم الكافرة، متقدمون في الصناعات وفي الزراعة لكنهم كفار، فكيف يقال: إنهم أهل العلم الذين ذكرهم الله في قوله: {وَأُولُو الْعِلْمِ} هذا غير معقول أبدا.

وكذلك قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] المراد علماء الشرع الذين يعرفون الله حق معرفته

ص: 165

ويعبدونه حق عبادته ويخشونه، أما هؤلاء فأغلبهم لا يخشون الله عز وجل بل يكفرون بالله ويجحدونه، ويدعون أن العالم ليس له رب، وإنما الطبيعة هي التي توجده وتتصرف فيه، كما هو عند الشيوعيين، إنهم ينكرون الرب سبحانه وتعالى مع أن عندهم علما دنيويًّا كيف نقول: إن هؤلاء هم أهل العلم.

هذا غلط، فالعلم لا يطلق إلا على أهله، وهو لقب شريف لا يطلق على الملاحدة والكفار، ويقال: هؤلاء أهل العلم.

فالملائكة وأولو العلم شهدوا لله بالوحدانية، إذًا لا عبرة بقول غيرهم من الملاحدة والمشركين والصابئين الذين يكفرون بالله عز وجل، هؤلاء لا عبرة بهم ولا بقولهم؛ لأنه مخالف لشهادة الله وشهادة ملائكته وشهادة أولي العلم من خلقه.

وقوله " قائمًا بالقسط ": منصوب على الحال من شهد، أي: حالة كونه قائمًا سبحانه وتعالى، والقسط: العدل، أي أن الله سبحانه وتعالى قائم بالعدل في كل شيء

ص: 166

ومعناها لا معبود بحق إلا الله، (لا اله) نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دون الله (إلا الله) مثبتًا العبادة له وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا أنه ليس له شريك في ملكه. [34]

والعدل ضد الجور، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل لا يصدر عنه إلا العدل في كل شيء.

لا إله إلا هو: تأكيد للجملة الأولى.

العزيز الحكيم: اسمان لله عز وجل يتضمنان صفتين من صفاته وهما العزة والحكمة.

[34]

قوله: ومعناها لا معبود بحق إلا الله، أي معنى لا إله إلا الله ليس كما يقول أهل الباطل: لا خالق ولا رازق إلا الله؛ لأن هذا توحيد الربوبية يقر به المشركون، وهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35 - 36] آلهتنا، أي: معبوداتنا {لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وصفوه بالشعر والجنون؛ لأنه قال لهم: قولوا لا إله إلا الله، ونهاهم عن عبادة الأصنام.

ص: 167

ولما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله، قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] يحسبون الآلهة متعددة.

فدل على أن معناها لا معبود بحق إلا الله، ولو كان معناها لا خالق ولا رازق إلا الله، فإن هذا يقرون به ولا يمارون فيه، فلو كان هذا معناها، ما امتنعوا من قول لا إله إلا الله؛ لأنهم يقولون إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض يقولون: الله، إذا سئلوا من الذي يخلق؟ من الذي يرزق؟ من الذي يحيي ويميت؟ ويدبر الأرض؟ يقولون: الله. هم يعترفون بهذا فلو كان هذا معنى لا إله إلا الله لأقروا بهذا، لكن معناها لا معبود بحق إلا الله.

لو قلت: لا معبود إلا الله، هذا غلط كبير؛ لأن المعبودات كلها تكون هي الله -تعالى الله عن هذا- لكن إذا قيدتها وقلت: بحق، انتفت المعبودات كلها إلا الله سبحانه وتعالى، لا بد أن تقول لا معبود حق، أو لا معبود بحق إلا الله. ثم بين ذلك على لفظ الكلمة.

لا إله: النفي، نفي للعبودية عما سوى الله.

إلا الله: هذا إثبات للعبودية لله وحده لا شريك له.

ص: 168

فلا إله إلا الله تشتمل على نفي وإثبات، ولا بد في التوحيد من النفي والإثبات لا يكفي الإثبات وحده، ولا يكفي النفي وحده، بل لا بد من النفي والإثبات كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256]{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] .

فلو قلت: الله إله، هذا لا يكفي، اللات إله، والعزى إله، ومناة إله، كل الأصنام تسمى آلهة.

فلا بد أن تقول: لا إله إلا الله، فلا بد من الجمع بين النفي والإثبات حتى يتحقق التوحيد وينتفي الشرك.

[35]

خير ما يفسر القرآن القرآنُ، فلا إله إلا الله فسرها الله في القرآن، وذلك في قول الخليل عليه الصلاة والسلام فيما ذكر الله عنه:{إِنَّنِي بَرَاءٌ} هذا النفي لا إله، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} : يعني إلا الله، هذا الإثبات.

فهذه الآية تفسير معنى لا إله إلا الله تمامًا.

ص: 169

[36] وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} هذه الآية من سورة آل عمران نزلت في وفد نجران النصارى الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه وسألوه، وحصل بينهم وبينه كلام طويل، وهم نصارى من نصارى العرب، وفي النهاية طلب النبي صلى الله عليه وسلم منهم المباهلة:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] .

فلما طلب منهم المباهلة خافوا ولم يباهلوه عليه الصلاة والسلام، ودفعوا له الجزية؛ لأنهم يعلمون أنهم على باطل، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نبتهل: أي ندعو باللعنة على الكاذب منا، وكانوا يعلمون أنهم هم الكاذبون، ولو باهلوه لنزلت عليهم النار

ص: 170

وأحرقتهم في مكانهم، فقالوا: لا، لكن ندفع الجزية ولا نباهلكم، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، لقد تبين أن الله أمره بما في هذه الآية.

وهذه الآية فيها معنى لا إله إلا الله، قوله: ألا نعبد هذا النفي، وقوله: إلا الله هذا الإثبات، وهذا هو العدل الذي قامت له السماوات والأرض، فالسماوات والأرض قامت على التوحيد والعدل، لا نشرك في عبادته شيئًا لا المسيح الذي تزعمون أنه رب وتعبدونه من دون الله، ولا غير المسيح ولا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من الأنبياء ولا من الصالحين ولا من الأولياء، {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} .

{وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} كما اتخذتم الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] واتخاذ الأحبار والرهبان من دون الله بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه طاعتهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل

ص: 171

الله هذا معنى اتخاذهم أربابًا من دون الله، إذا كانوا يحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل، فإذا أطاعوهم في ذلك، فقد اتخذوهم أربابا؛ لأن الذي يشرع للناس ويحلل ويحرم هو الله سبحانه وتعالى.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا} : ولم يقبلوا دعوة التوحيد. {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أشهدوهم على أنكم موحدون وأنهم كفار، بينوا لهم بطلان ما هم عليه، ففي هذه الآية البراءة من دين المشركين والمصارحة بذلك، اشهدوا بأنا مسلمون ففي هذا وجوب إعلان بطلان ما عليه المشركون وعدم السكوت عن ذلك، والإعلان عن بطلان الشرك والرد على أهله.

والخلاصة:

أن لا إله إلا الله لها ركنان: هما النفي والإثبات، فإذا قيل لك: ما هي أركان لا إله إلا الله، فتقول النفي والإثبات.

ص: 172

وشروطها سبعة لا تنفع إلا بهذه الشروط نظمها بعضهم بقوله:

علم يقين وإخلاص وصدقك

مع محبة وانقياد والقبول لها

فالعلم: ضده الجهل، فالذي يقول: لا إله إلا الله بلسانه ويجهل معناها هذا لا تنفعه لا إله إلا اله.

واليقين: فلا يكون عنده شك؛ لأن بعض الناس قد يعلم معناها ولكن عنده شك في ذلك، فليس علمه بصحيح، لا بد أن يكون عنده يقين بلا إله إلا الله وأنها حق.

والإخلاص: ضده الشرك، بعض الناس يقول: لا إله إلا الله؛ ولكنه لا يترك الشرك، مثل ما هو الواقع الآن عند عباد القبور، هؤلاء لا تنفعهم لا إله إلا الله؛ لأن من شروطها ترك الشرك.

والصدق: ضده الكذب؛ لأن المنافقين يقولون: لا إله إلا الله؛ لكنهم كاذبون في قلوبهم، لا يعتقدون معناها، قال الله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:1، 2] .

ص: 173

والمحبة: أن تكون محبًّا لهذه الكلمة وليًّا لأهلها، أما الذي لا يحبها أو لا يحب أهلها فإنها لا تنفعه.

والانقياد: ضد الإعراض والترك، وهو الانقياد لما تدل عليه من عبادة الله وحده لا شريك له، وامتثال أوامره، ما دمت اعترفت وشهدت أنه لا إله إلا الله يلزمك أن تنقاد لأحكامه ودينه، أما أن تقول: لا إله إلا الله، ولا تنقاد لأحكام الله وشرعه فإنها لا تنفعك لا إله إلا الله.

والقبول: القبول المنافي للرد، بأن لا ترد شيئًا من حقوق لا إله إلا الله، وما تدل عليه بل تقبل كل ما تدل عليه لا إله إلا الله، تتقبله تقبلًا صحيحًا.

وزيد شرط ثامن:

وزيد ثامنها الكفران بما

مع الإله من الأشياء قد ألها

أي: البراءة من الشرك، فلا يكون موحدًا حتى يتبرأ من الشرك:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] .

هذه شروط لا إله إلا الله، ثمانية شروط.

ص: 174

[37] الركن الأول من أركان الإسلام مكون من شيئين:

الأول: شهادة أن لا إله إلا الله.

والثاني: شهادة أن محمدًا رسول الله.

فهما ركن واحد، الشق الأول: يعني الإخلاص في العبادة، والشق الثاني: يعني متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وأدلة شهادة أن محمدا رسول الله كثيرة من الكتاب والسنة والمعجزات الباهرات الدالة على رسالته صلى الله عليه وسلم، ومن الكتاب هذه الآية، يقول تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .

ص: 175

فهذه شهادة من الله لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة وبيان صفاته.

قوله تعالى: لقد جاءكم: اللام هذه لام القسم، ففيها قسم مقدر، تقديره والله لقد جاءكم.

قد: حرف تحقيق وتأكيد بعد تأكيد.

جاءكم: أيها الناس، هذا خطاب لجميع الناس؛ لأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين، الإنس والجن.

رسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، سمي رسولًا؛ لأنه مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى.

من أنفسكم: أي من جنسكم من البشر، وليس ملكًا من الملائكة، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى أنه يرسل إلى البشر رسلًا منهم من أجل البيان، ومن أجل أن يتخاطبوا معهم، ولأنهم يعرفونه، لو أرسل إليهم ملكا ما استطاعوا أن يتخاطبوا معه؛ لأنه ليس من جنسهم، وأيضًا لا يقدرون على رؤية الملك؛ لأنه ليس من جنسهم، من رحمته سبحانه وتعالى أن أرسل إلى الناس رسولًا من جنسهم، بل ومن العرب ومن أشرف بيوت العرب نسبًا، من بني هاشم الذين

ص: 176

هم أشرف أنساب قريش، وقريش أشرف أنساب العرب، فهو خيار من خيار يعرفونه، ويعرفون شخصه، ويعرفون نسبه، ويعرفون قبيلته، ويعرفون بلده، ولو كانوا لا يعرفونه فكيف يصدقونه؟ ولو كان بغير لغتهم فكيف يفهمون كلامه؟ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} .

فقوله: عزيز: يعني شاق عليه صلى الله عليه وسلم.

ما عنتم: يعني ما يشق عليكم، العنت معناه: التعب والمشقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يشق عليه ما يشق على أمته، وكان لا يريد لها المشقة وإنما يريد لها اليسر والسهولة.

ولذلك جاءت شريعته صلى الله عليه وسلم سهلة سمحة، قال صلى الله عليه وسلم:«بعثت بالحنيفية السمحة» قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] فشريعته سهلة تتماشى مع قدرة الناس واستطاعة المكلفين ولا تحملهم ما لا يطيقون.

ص: 177

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب لهم التيسير، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان يحب أن يأتي بالعمل ويتركه شفقة بأمته، يترك العمل وهو يحب أن يأتي به من الأعمال الصالحة من أجل أن لا يشق على أمته، هذه من صفاته، أنه يشق عليه ما يشق على أمته، ويسر بسرورها، ويفرح بفرحها، ومن كانت هذه صفته فلا شك أنه لا يأتي إلا بالخير والرحمة صلى الله عليه وسلم.

حريص عليكم؛ أي: على هدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور، ولذلك كان يتحمل المشاق في دعوة الناس طلبًا لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى قال الله له:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] أي لعلك مهلك نفسك أن لا يكونوا مؤمنين من أجل الحزن عليهم، فلا تحزن عليهم، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم.

{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} :

رءوف: من الرأفة وهي الرفق واللطف.

رحيم: وصفه بالرحمة فليس بغليظ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .

ص: 178

كان صلى الله عليه وسلم متواضعًا لينا مع المؤمنين، يخفض لهم جناحه ويستقبلهم بالبشر والمحبة والعطف والإحسان، هذه من صفاته صلى الله عليه وسلم.

ذكر الله خمس صفات في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.

الأولى: أنه منكم.

الثانية: عزيز عليه ما عنتم.

الثالثة: حريص عليكم.

الرابعة: بالمؤمنين رءوف.

الخامسة: رحيم.

خمس صفات من صفات هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وخص المؤمنين بالرأفة والرحمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان غليظًا على المشركين والمعاندين، يغضب لغضب الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] الرحمة والرأفة خاصة بالمؤمنين، وهكذا المؤمنون بعضهم مع بعض:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] هذه صفاته صلى الله عليه وسلم.

ص: 179

وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. [38]

[38] شهادة أن محمدًا رسول الله لها معنى ومقتضى ليست لفظًا يقال فقط. فمعناها أن تعترف بلسانك وبقلبك أنه رسول الله، تنطق بلسانك وتعتقد ذلك بقلبك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما التلفظ باللسان والإنكار بالقلب فهذه طريقة المنافقين كما أخبرنا الله عنهم بقوله:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1، 2] جعلوا أيمانهم، أي: شهاداتهم سترة يسترون بها، فصدوا عن سبيل الله، فدل على أن النطق باللسان لا يكفي.

وكذلك اعتقاد القلب مع عدم النطق باللسان لمن يقدر على النطق أيضًا لا يكفي، فإن المشركين يعلمون أنه رسول الله لكنهم يعاندون، كما قال تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . فهم بقلوبهم يعترفون بالرسالة، ويعرفون أنه رسول الله، لكن منعهم الكبر ومنعهم العناد من الإقرار برسالته.

ص: 180

وكذلك منعهم الحسد كما عند اليهود وعند مشركي العرب، وكان أبو جهل عمرو بن هشام يعترف ويقول: كنا نحن وبنو هاشم متساوين في كل الأمور لكنهم قالوا: منا رسول وليس منكم رسول من أين نأتي برسول؟ فلذلك أنكروا رسالته حسدًا لبني هاشم. ويقول أبو طالب في قصيدته:

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينًا

لولا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

يعترف بقلبه برسالة محمد لكن منعته الحمية الجاهلية لقومه فلم يكفر بدين عبد المطلب الذي هو عبادة الأصنام، فهم يعترفون بنبوته بقلوبهم، فلا يكفي الاعتراف بالقلب أنه رسول الله بل لا بد أن ينطق بلسانه.

ثم لا يكفي النطق باللسان والاعتراف بالقلب، بل لا بد من أمر ثالث وهو الاتباع، قال الله تعالى فيه:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]

ص: 181

حتى لو نصره مثل أبي طالب وحامى دونه، وهو يعرف أنه رسول الله لكن لم يتبعه، فإنه ليس بمسلم حتى يتبعه، ولهذا قال الشيخ: وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

فلا بد مع الاعتراف برسالته ظاهرًا وباطنًا واعتقادًا، ولا بد من اتباعه صلى الله عليه وسلم، ويتلخص ذلك في هذه الأربع كلمات التي ذكرها الشيخ رحمه الله:

الأولى: طاعته فيما أمر: يقول الله جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] .

فقرن طاعة الرسول مع طاعته سبحانه وتعالى، وقرن معصية الرسول مع معصيته {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] وقال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] فلا بد من طاعته صلى الله عليه وسلم، فالذي يشهد أنه رسول الله تلزمه طاعته فيما أمر لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .

ص: 182

وقوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، عن أمره: أي عن أمر الرسول فلا بد من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الثانية: تصديقه فيما أخبر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن أمور كثيرة مغيبة، أخبر عن الله وعن الملائكة، وأخبر عن أمور غائبة، وأخبر عن أمور مستقبلة من قيام الساعة وأشراط الساعة والجنة والنار، وأخبر عن أمور ماضية عن أحوال الأمم السابقة، فلا بد من تصديقه فيما أخبر؛ لأنه صدق لا كذب فيه، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .

الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بهذه الأخبار أو هذه الأوامر والنواهي، لا يتكلم بشيء من عنده عليه الصلاة والسلام، إنما يتكلم بوحي من الله عز وجل فأخباره صدق، ومن لم يصدقه فيما أخبر فليس بمؤمن ولا صادق في شهادته أنه رسول الله، كيف يشهد أنه رسول الله ويكذبه في أخباره؟ كيف يشهد أنه رسول الله ولا يطيع أمره؟! .

الثالثة: اجتناب ما نهى عنه وزجر: اجتنب ما نهاك عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ نهاك عن أقوال وأفعال وصفات كثيرة، ولا

ص: 183

ينهى صلى الله عليه وسلم إلا عن شيء فيه ضرر وفيه شر، ولا يأمر إلا بشيء فيه خير وفيه بر، فإذا لم يجتنب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شاهدًا له بالرسالة بل صار متناقضًا، كيف يشهد أنه رسول الله ولا يجتنب ما نهاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] قال صلى الله عليه وسلم: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فلا بد من اجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.

الرابعة: أن لا يُعبد الله إلا بما شرع: تقيد في العبادات بما شرعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا تأت بعبادة لم يشرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان قصده حسنًا، وإن كنت تريد الأجر، لكن هذا عمل باطل؛ لأنه لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم. النية لا تكفي بل لا بد من الاتباع.

فالعبادات توقيفية لا يجوز الإتيان بعبادات لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس»

ص: 184

«عليه أمرنا فهو رد» وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .

فالإتيان بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعتبر بدعة منكرة منهيًّا عنها، وإن قال بها فلان أو فلان، أو فعلها من فعلها من الناس ما دامت خارجه عن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها بدعة وضلالة، فلا يعبد الله إلا بما شرع على لسان رسوله، والمحدثات والخرافات كلها عمل باطل ونقص وضلال على من أتى بها، وإن كان يقصد بها الخير ويريد الأجر، فإن العبرة ليست بالمقاصد، وإنما العبرة بالاتباع والطاعة والانقياد، ولو كنا أحرارًا نأتي بما نشاء ونستكثر من العبادات ما نشاء لما احتجنا إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولكن من رحمة الله بنا لم يكلنا إلى عقولنا، ولم يكلنا إلى فلان وعلان من الناس؛ لأن هذه الأمور مردها إلى

ص: 185

الشرع إلى الله ورسوله، ولا ينفع منها إلا ما كان موافقًا لما شرعه الله ورسوله، ففي هذا الابتعاد عن جميع البدع، ومن ابتدع شيئًا في الدين لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يشهد أنه رسول الله، لم يشهد الشهادة الحقيقية؛ لأن الذي يشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة حقيقية يتقيد بما شرعه، ولا يحدث شيئًا من عنده أو يتبع شيئًا محدثًا ممن سبقه.

هذا معنى شهادة أن محمدًا رسول الله ليست ألفاظًا تقال باللسان فقط من غير التزام ومن غير عمل ومن غير تقيد بما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.

[39]

فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، والزكاة هي الركن الثالث وهي قرينة الصلاة في كتاب الله، الصلاة عمل بدني، والزكاة عمل مالي.

وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " لما امتنع أناس من دفع الزكاة

ص: 186

بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه وقال: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالًا - وفي رواية " عناقًا"- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ".

فالزكاة حق واجب في الأموال، وهي ركن من أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات ومنها هذه الآية:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} .

دليل التوحيد في أولها في قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هذا هو تفسير التوحيد، وهو عبادة الله مع الإخلاص له وترك عبادة ما سواه، فالدين والتوحيد والعبادة بمعنى واحد، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: العبادة، هذا تفسير التوحيد، لا كما يقوله علماء الكلام: أنه الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت هذا توحيد الربوبية، والمطلوب هو توحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل، ولا يصير المسلم مسلمًا إلا إذا جاء به.

أما من جاء بتوحيد الربوبية فقط فهذا ليس مسلمًا بدليل أن المشركين يعتقدونه وينطقون به ويعترفون به ولم يدخلهم

ص: 187

في الإسلام، ولم يمنع من قتلهم وسبي أموالهم توحيدهم هذا؛ لأنهم ليسوا موحدين لما أشركوا بالله عز وجل في العبادة، هذا هو تفسير التوحيد من كتاب الله لا من كتاب فلان وعلان كتاب "الجوهرة" أو كتاب "المواقف" أو كتب علماء الكلام، لا يؤخذ تفسير التوحيد من هذه الكتب وإنما يؤخذ من كتاب الله ومن سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كتب أهل السنة والجماعة الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودليل الصلاة في قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} والمعنى أن يأتوا بها كما أمر الله عز وجل بشروطها وأركانها وواجباتها، أمر مجرد صورة الصلاة فإنها لا تكفي؛ ولهذا لم يقل: ويصلوا، بل قال: ويقيموا الصلاة، ولا تكون الصلاة قائمة إلا إذا أتى بها كما أمر الله سبحانه وتعالى، أما الذي يصلي مجرد صورة في أي وقت يشاء أو بدون طهارة وبدون طمأنينة، ولا يأتي بمتطلبات الصلاة، هذا لم يصل، ولهذا

ص: 188

قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته الذي لا يطمئن في صلاته قال له: «ارجع فصل فإنك لم تصل» ليس مقصودًا صورة الصلاة من قيام وركوع وسجود وجلوس فقط، ليس هذا المقصود، بل المقصود أن يؤتى بها كما شرع الله سبحانه وتعالى مستوفية لكل متطلباتها الشرعية.

ثم ذكر دليل الزكاة بقوله تعالى: {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي: يدفعوا الزكاة للمستحقين لها، الذين ذكرهم الله تعالى في قوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] .

ذكر ثمانية مصارف وحصرها بـ (إنما) فلا يكون صرفها في غير هذه المصارف الثمانية، فمن صرفها في غير مصارفها الثمانية لم يكن قد آتى الزكاة ولو أنفق أموالًا طائلة ملايين أو مليارات وسماها زكاة، ولا تكون زكاة حتى توضع في مواضعها التي حصرها الله تعالى فيها، هذا معنى إيتاء الزكاة، وأيضًا في وقتها، أي: يخرجها وقت وجوبها. لا يتباطأ

ص: 189

ويتأخر ويتكاسل، طيبة بها نفسه، أي لا يعتبرها مغرمًا أو خسارة، وإنما يعتبرها مغنمًا له.

هذه الأمور الثلاثة هي: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} الدين: الملة، القيمة: صفة لموصوف محذوف تقديره دين الملة القيمة، أي المستقيمة.

هذا دليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد.

[40]

الصيام لا يجب إلا على المسلمين أما الكفار لو فعلوه ما صح منهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما داموا على الكفر فإنهم لا تنفعهم العبادات لا صيام ولا غير صيام، ولذلك خاطب به المؤمنين خاصة؛ لأنهم هم الذين يستجيبون، وهم الذين يصح منهم الصيام، ويقبل منهم الصيام.

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} معنى كتب: فرض، مثل قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] يعني فرض عليكم القتال، فالكتب في كتاب الله معناه الفرض.

ص: 190

{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: كما فرض على الذين من قبلكم من الأمم، فدل على أن الصيام كان معروفًا عند الأمم السابقة وفي الشرائع القديمة، ولم تختص به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

والنفس قد تتثاقل الصيام لما فيه من كبح جماحها ومنعها من الشهوات، والله جل وعلا بين أنه سنته في خلقه، وأنه على جميع الأمم، حتى في الجاهلية كان الصيام معروفًا، كانوا يصومون يوم عاشوراء.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} هذا بيان للحكمة من الصيام، فلعلكم تتقون: بيان للحكمة في مشروعية الصيام، وهو أنه يسبب التقوى؛ لأن الصيام يترك به الإنسان مألوفاته وشهواته ومرغوباته تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى فيكسبه التقوى، كما أنه يكسر أيضًا شهوة النفس وحدتها؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فمع تناول الشهوات يتسلط الشيطان، ومع ترك الشهوات يضعف مجرى الدم فيطرد الشيطان عن المسلم، ففي الصيام حصول التقوى التي هي جماع الخير كله.

فهذه فائدة الصيام أنه يسبب التقوى، تقوى الله سبحانه وتعالى، واتقاء المحارم والشهوات المحرمة؛ لأن الإنسان إذا

ص: 191

ترك المباحات طاعة لله كان من باب أولى أن يترك المحرمات، الصيام يدربه على تجنب الحرام، ويدربه على التمكن من نفسه الأمارة بالسوء، ويطرد عنه الشيطان، ويلين قلبه للطاعة، ولذلك تجد الصائم أقرب إلى الخير من المفطر، تجده يحرص على تلاوة القرآن وعلى الصلاة، ويذهب إلى المسجد مبكرًا، الصيام لينه للطاعة وهذبه، كل هذا داخل في قوله:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

فالشاهد من الآية قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} هذا دليل على فرضية الصيام، وفسره بقوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} مجمل فسره بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .

[41]

ادعى اليهود أنهم مسلمون، وأنهم على دين إبراهيم، فامتحنهم الله جل وعلا في هذه الآية وقال:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}

ص: 192

فإن كنتم مسلمين فحجوا؛ لأن الله فرض حج البيت على المسلمين، فإذا لم تحجوا وأبيتم الحج فهذا دليل على أنكم لستم مسلمين، ولستم على ملة إبراهيم {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .

ولله: أي، هذا فرض وحق وواجب لله سبحانه وتعالى على الناس.

حج: معناه في اللغة: القصد.

الحج شرعا: قصد الكعبة المشرفة والمشاعر المقدسة في وقت مخصوص لأداء عبادات مخصوصة، وهي مناسك الحج.

حج البيت: أي، الكعبة، وما حولها من المشاعر تابع لها.

من استطاع إليه سبيلا: هذا بيان شرط الوجوب، وهو الاستطاعة البدنية والاستطاعة المالية، الاستطاعة البدنية بأن يكون قادرا على المشي والركوب والانتقال من بلده إلى مكة في أي مكان من الأرض، هذه البدنية، يخرج العاجز عجزا مستمرا كالمريض مرضا مزمنا والكبير الهرم، فهذا ليس عنده

ص: 193

استطاعة بدنية، فإن كانت عنده استطاعة مالية فإنه ينيب من يحج عه حجة الإسلام.

أما الاستطاعة المالية فهي توفر المركب الذي ينقله، الراحلة أو السيارة أو الطيارة أو الباخرة، كل وقت بحسبه، ويكون عنده مال يستطيع أن يوفر له المركب الذي يمتطيه لأداء الحج، وأيضا الزاد يكون عنده زاد ونفقة له في السفر ذهابا وإيابا، ولمن يمونهم يكون عندهم كفايتهم إلى أن يرجع إليهم، فالزاد معناه أن يكون عنده ما يكفيه في سفره، ويكفي من يمون من أولاده ووالديه وزوجته، وكل من تلزمه نفقته، يؤمن لهم ما يكفيهم حتى يرجع إليهم بعد تأمين سداد الديون إن كان عليه ديون، يكون هذا المال فاضلا بعد سداد الديون.

فإذا توفر هذا فيكون هذا هو السبيل، " الزاد والراحلة " كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ومن لم يستطع: أي، من ليس عنده زاد ولا راحلة فليس

ص: 194

عليه حج؛ لأنه غير مستطيع، فشرط وجوب الحج هو الاستطاعة.

ولما كان الحج يؤتى إليه من بعيد من كل أقطار الأرض، من كل فج عميق، ويحتاج إلى مؤنة، وفيه مشقة وتعب، وقد يحصل فيه أخطار، فمن رحمة الله أن جعله في العمر مرة واحدة، وما زاد عليها فهو تطوع، هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى حيث لم يوجبه على المسلم كل سنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، قال الأقرع بن حابس رضي الله عنه: أكل سنة يا رسول الله؟ فسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد السؤال، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد السؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، الحج مرة واحدة، فما زاد فهو تطوع» ، هذا من رحمة الله.

وقوله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فيه دليل على أن من امتنع عن الحج وهو يقدر ولم يحج فإنه

ص: 195

كافر؛ لأن الله قال: (ومن كفر)، أي: من أبى أن يحج وهو قادر على الحج، فإن هذا كفر، قد يكون كفرا أصغر، فمن تركه جاحدا لوجوبه هذا كفر أكبر بإجماع المسلمين، أما من اعترف بوجوبه وتركه تكاسلا فهذا كفر أصغر، ولكن إذا توفي وكان له مال فإنه يحج من تركته؛ لأنه دين عليه لله عز وجل، وهذه الآية فيها وجوب الحج، وهو ركن من أركان الإسلام، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ركن من أركان الإسلام في حديث جبريل، وفي حديث ابن عمر.

وقد فرض الحج في السنة التاسعة على قول، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، وإنما حج في السنة التي بعدها في السنة العاشرة، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم «أرسل عليا ينادي في الناس في الموسم:" أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان "» ، فلما منع المشركون والعراة من الحج في العام العاشر حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع.

ص: 196