المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المرتبة الثانية: الإيمان ‌ ‌تعريف الإيمان الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ: وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، - شرح ثلاثة الأصول لصالح الفوزان

[صالح الفوزان]

الفصل: ‌ ‌المرتبة الثانية: الإيمان ‌ ‌تعريف الإيمان الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ: وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً،

‌المرتبة الثانية: الإيمان

‌تعريف الإيمان

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ: وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ: لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإيمان. [42]

[42] فالإيمان أعم من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فالإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله.

والإيمان في اللغة: التصديق، قال تعالى على لسان إخوة يوسف:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]، أي: بمصدق لنا.

وأما الإيمان في الشرع: فهو كما فسره أهل السنة والجماعة: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

وهو بهذا التفسير يكون حقيقة شرعية؛ لأن الحقائق ثلاث: حقيقة لغوية، وحقيقة شرعية، وحقيقة عرفية.

ص: 197

فتفسير الإيمان بهذا التفسير هو حقيقة شرعية، فالإيمان نقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي.

فالإيمان: قول باللسان، لا بد من النطق والاعتراف باللسان، واعتقاد بالقلب، لا بد من أن يكون ما ينطق به بلسانه معتقدا له بقلبه، وإلا كان مثل إيمان المنافقين الذين {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] .

ولا يكفي القول باللسان والاعتقاد بالقلب، بل لا بد من العمل بالجوارح أيضا، لا بد من أداء الفرائض، وتجنب المحرمات، فيفعل الطاعات، ويتجنب المحرمات، كل هذا من الإيمان، وهو بهذا التعريف يشمل الدين كله، لكن هذه الطاعات والشرائع الكثيرة منها ما هو جزء من حقيقة الإيمان للإيمان، ومنها ما هو مكملات للإيمان.

والإيمان له أركان وله شعب، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين، بين أركان الإيمان في حديث جبريل، وبين شعب الإيمان في حديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة» ، وهذا يأتي إن شاء الله.

والإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعا صار لكل واحد معنى، وإذا ذكر منهما واحد فقط دخل في الآخر، فإذا ذكرا

ص: 198

جميعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وهي أركان الإسلام الخمسة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي الأركان الستة، ومحلها القلب، ولا بد من اجتماعها في المسلم، لا بد أن يكون مسلما مؤمنا، يقيم أركان الإسلام، ويقيم أركان الإيمان، لا بد من اجتماعها.

قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة» روايتان.

قوله: بضع: البضع هو ما بين الثلاثة إلى التسعة، فإذا قيل: بضعة عشر: هو ما بين ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، وإذا قيل: بضع فقط فهو ما بين الثلاثة إلى التسعة.

قوله: شعبة: الشعبة هي القطعة من الشيء، أي: أن الأركان بضع وسبعون قطعة أو جزءا.

قوله: أعلاها: أي: أعلى هذه الشعب قول: لا إله إلا الله، فهي رأس الإسلام، ورأس الإيمان، وهي الركن الأول، وهي مدخل الدين.

ص: 199

قوله: أدناها أي: آخرها وأقلها.

قوله: إماطة الأذى عن الطريق أي: إزالة الأذى عن الطريق المسلوك، والأذى كل ما يؤذي الناس من شوك أو حجر أو قاذورات أو مخلفات، كل ما يؤذي الناس في طريقهم، ووضع الأذى في الطريق محرم؛ لأن الطريق للمارة، فالأذى يعطل المارة، أو يعرضهم للخطر، مثل أن يوقف سيارته في الطريق، هذا من الأذى، إرسال الماء من البيت في الطريق، هذا من الأذى، وضع القمامات في الطريق، هذا من الأذى، سواء كان الطريق في البلد أو في البر، وضع الحجارة، وضع الأخشاب، وضع الحديد بطرقات الناس، حفر الحفر في طرقات الناس، كل هذا من الأذى.

فإذا جاء مسلم وأزاح هذا الأذى، أخلى الطريق منه، فهذا دليل على إيمانه، فوضع الأذى في الطريق من شعب الكفر، وإزالة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان.

قوله: والحياء شعبة من الإيمان: الحياء خلق يجعله الله في الإنسان، يحمله على فعل ما يجمله ويزينه، ويمنعه مما يدنسه ويشينه، والحياء الذي يحمل صاحبه على الخير، ويبعده عن الشر، هذا محمود، أما الحياء الذي يمنع الإنسان

ص: 200

أركان الإيمان

قال: وأركانه ستة: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. [43]

من فعل الخير، وطلب العلم، والسؤال عما أشكل عليه، فهذا حياء مذموم لأنه خجل.

وشعب الإيمان كثيرة كما عرفتم، بضع وسبعون، وقد كتب الإمام البيهقي مؤلفا كبيرا بين فيه شعب الإيمان، وله مختصر مطبوع.

ومن أدلة العلماء على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، قوله صلى الله عليه وسلم:«أعلاها لا إله إلا الله» ، هذا يدل على القول، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أدناها إماطة الأذى عن الطريق» ، هذا عمل دل على أن الأعمال من الإيمان، وقوله صلى الله عليه وسلم:«الحياء شعبة من الإيمان» ، هذا في القلب، الحياء إنما يكون في القلب، فهذا دليل على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح.

[43]

الإيمان يتكون من أركان وشعب، فما الفرق بينهما؟

ص: 201

الفرق أن الأركان لا بد منها، فإذا زال واحد منها زال الإيمان؛ لأن الشيء لا يقوم إلا على أركانه، فإذا فقد ركن من أركان الشيء لم يتحقق، وأما الشعب فإنها مكملات، لا يزول الإيمان بزوال الشيء منها، لكنها مكملات إما واجبات أو مستحبات، فالواجبات لكمال الإيمان الواجب والمستحبات لكمال الإيمان المستحب.

فإذا ترك المسلم شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات، فإنه لا يزول إيمانه بالكلية عند أهل السنة والجماعة، ولكن يزول كماله الواجب، فيكون ناقص الإيمان أو فاسقا، كما لو شرب الخمر أو سرق أو زنى، أو فعل شيئا من الكبائر، هذا يكون فاعلا لمحرم وكبيرة من كبائر الذنوب، لكنه لا يكفر بذلك، ولا يخرج من الإيمان، بل يكون فاسقا، ويقام عليه الحد إن كانت المعصية ذات حد، وكذلك من ترك واجبا، كمن ترك بر الوالدين، أو صلة القرابة، هذه واجبات، فمن تركها نقص إيمانه، وكان عاصيا بترك الواجب، فيكون عاصيا إما بترك الواجب، وإما

ص: 202

بفعل محرم، وعلى كل حال لا يخرج من الإيمان، وإنما يكون مؤمنا ناقص الإيمان.

هذا مذهب أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يكفران مرتكب الكبيرة، فالخوارج يكفرونه ويخرجونه من الدين، والمعتزلة يخرجونه من الدين، لكن لا يدخلونه في الكفر، وإنما يقولون: هو في منزلة بين منزلتين، لا هو مؤمن، ولا كافر.

هذا مذهبهم، وهو مذهب مبتدع، مخالف للأدلة، ومخالف لما هو عليه أهل السنة والجماعة، والسبب في ذلك تقصيرهم في الاستدلال، حيث أخذوا أدلة الوعيد، وتركوا أدلة الوعد مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، هذه من أدلة الوعد، دلت على أن العاصي الذي لم يصل إلى حد الشرك والكفر أنه مرجو له المغفرة، ومعرض للوعيد والعقوبة.

فإذا جمعت بين قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ، من أخذ بظاهرها كفر

ص: 203

بالمعصية مطلقا، وإن ردها إلى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] تبين له الحق، وأنه لا يخرج من الدين، ولكنه متوعد بالنار، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، فقد يأتي عليه مكفرات في الدنيا، أو عذاب في القبر، تكفر هذه السيئات، والمكفرات كثيرة، يبتلى بمصائب، يبتلى بعقوبات في الدنيا، أو يعذب في قبره، أو يؤجل إلى يوم القيامة، ويكون تحت المشيئة.

هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا هو الفرق بين الشعب والأركان، فمن ترك شيئا من الأركان فإنه يكفر، من جحد التوحيد وأشرك بالله عز وجل هذا يكفر؛ لأنه ترك الركن الأول، ومن جحد أحد الرسل يكفر؛ لأنه ترك ركنا من أركان الإسلام، ومن جحد الملائكة يكفر ويخرج من الملة، ومن كفر بالبعث، أو جحد الجنة أو النار أو الصراط أو الميزان، أو شيئا مما ثبت من أمور الآخرة، فإنه بذلك يكفر؛ لأنه أنكر ركنا من أركان الإيمان، كذلك من جحد القدر وقال: الأمر أنف، ولم يسبق قدر من الله، إنما هي المصادفة، والأمور بالصدفة، وليس هناك قدر، كما يقوله غلاة المعتزلة، فإنه يكفر أيضا؛ لأنه جحد القدر، أما من ترك شيئا من الشعب فإن هذا

ص: 204

ينقص إيمانه، إما أن يكون نقصا لكماله الواجب، أو نقصا لكماله المستحب، لكنه لا يكفر بذلك.

وما دليل الزيادة والنقصان في الإيمان؟

أما دليل الزيادة: فقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، فدل على أن الإيمان يزيد بسماع القرآن، وقوله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] .

دل على أن الإيمان يزيد بنزول القرآن وسماعه وتدبره، كما في قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعات والتصديق.

وأما النقصان: فإن كل شيء يزيد فإنه ينقص، كل شيء قابل للزيادة فإنه قابل للنقص، هذا من ناحية، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«إن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يقول: أخرجوا من النار من كان»

ص: 205

«في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» ، فدل على أن الإيمان ينقص حتى يكون على وزن خردل في القلب، وكذلك قوله تعالى:{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167] دل على أن الإيمان ينقص حتى يكون أقرب إلى الكفر، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغير بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» دل على أن الإيمان يضعف، أي: ينقص، فالإيمان إذا يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

قوله: وأركانه ستة، أي: دعائمه التي يقوم عليها، ويفقد بفقدها أو بفقد واحد منها ستة أركان، وهي:

الأول: أن تؤمن بالله: فالركن الأول وهو الإيمان بالله، يشمل أنواع التوحيد الثلاثة: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لا شريك له في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته.

ص: 206

الثاني: الإيمان بالملائكة: والملائكة جمع ملك، وأصله ملأك ثم سهل وقيل: ملك، والملائكة خلق من خلق الله في عالم الغيب، خلقهم الله لعبادته، ولتنفيذ أوامره سبحانه وتعالى في ملكه، وهم أصناف، كل صنف له عمل موكل به ويقوم به، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فمنهم من هو موكل بالوحي، وهو جبريل عليه السلام، وهو أشرف الملائكة، وهو الروح الأمين، شديد القوي، ومنهم من هو موكل بحمل العرش {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ، قال تعالى:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] .

العرش هو أعظم المخلوقات، ولا يعلم عظمه إلا الله عز وجل، يحمله الملائكة، وهذا دليل على عظم الملائكة، وعظم قواهم وخلقهم، قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] ، فمنهم من له ستمائة جناح كجبريل عليه الصلاة والسلام، فلا يعلم عظم خلقتهم إلا الله سبحانه وتعالى:

ص: 207

{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27] ، ومنهم الموكل بالقطر والنبات، وهو ميكائيل، ومنهم من هو موكل بالنفخ في الصور، وهو إسرافيل، ينفخ في الصور، فيهلك كل شيء، قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، ثم ينفخ فيه مرة ثانية، فتطير الأرواح في أجسادها {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] .

تطير الأرواح من القرن وهو الصور إلى أجسادها، وتدخل فيها، فيحيون بإذن الله، ثم يسيرون إلى المحشر.

ومنهم من هو موكل بقبض الأرواح عند نهاية آجالها، وهو ملك الموت، قال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]، ومعه أعوان من الملائكة:{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] يعني أعوان ملك الموت، ومنهم من هو موكل بالأجنة في الأرحام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة»

ص: 208

«مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك» الحديث، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال بني آدم، قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] ، يلازمونكم بالليل والنهار.

قال صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وفي صلاة العصر، ويشهدون للمصلين عند الله سبحانه وتعالى» ، ولهذا قال تعالى:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي: يحضره الملائكة، ملائكة الليل وملائكة النهار، ومنهم من هو موكل بحفظ بني آدم من المكاره، يحفظونه من الآفات، ومن الأعداء ومن الهوام ومن السباع ومن الأفاعي والحيات، ما دام له بقية حياة فإن له ملائكة يحفظونه من الأخطار.

ينام بين السباع وبين الحيات في البر، من الذي يدفع عنه الحيات والسباع والهوام؟ معه ملائكة سخرهم الله سبحانه

ص: 209

وتعالى، قال الله فيهم:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، أي: بأمر الله هؤلاء يحفظون بني آدم من المكاره والأخطار إلى أن يحين الأجل، فإذا حان الأجل تخلوا عنه، فوقع ما قدر الله له من الموت أو الإصابة التي تفضي إلى الموت.

ومنهم ملائكة موكلون بتنفيذ الأوامر في أقطار السماوات والأرض، لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، منهم ملائكة يطلبون مجالس الذكر ويحضرونها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة» ، ملائكة سياحون في الأرض، يطلبون حلق الذكر ويشهدونها.

ولا يعلم الملائكة وأصنافهم وأوصافهم إلا الله، لكن ما جاء في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة أثبتناه واعتقدناه، وما لم يذكر لنا نمسك عنه ولا نبحث فيه؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا ندخل فيه إلا بدليل.

ص: 210

فالإيمان بالملائكة ركن من أركان الإسلام، فمن جحد الملائكة وقال: لا يوجد ملائكة لأننا لا نراهم، هذا يكون كافرا ملحدا زنديقا والعياذ بالله؛ لأنه لم يؤمن بالغيب، وكذلك الذي يؤول الملائكة فيقول: الملائكة إنما هي معان وليست أجساما، وهي الهواجس التي تأتي على الإنسان، إن كانت هواجس خير فهي ملائكة، وإن كانت هواجس شر فهي شياطين، فهذا قول إلحادي والعياذ بالله، ومع الأسف هو في " تفسير المنار " نقله محمد رشيد رضا عن شيخه محمد عبده.

وهذا كلام الفلاسفة، وهو كلام باطل، من اعتقده فهو كافر، لكن نرجو أنه نقله ولم يعتقده، ولكن نقله من غير تعقيب فيه خطورة، وهذا كلام باطل وكفر بالملائكة، نسأل الله العافية والسلامة.

فالإنسان لا يدخل بعقله وتفكيره، أو ينقل عن الفلاسفة أو عن الزنادقة شيئا من أمور الدين وأمور الغيب، وإنما يعتمد على الكتاب والسنة، هذا هو الواجب، ويذكر في " تفسير المنار " أنه منقول من كتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي، والله أعلم.

ص: 211

وكتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي فيه طوام وفيه بلايا، وإن كان فيه شيء من الخير والفوائد، لكن فيه من المهلكات والسموم الشيء الكثير، وهو كتاب مختلط، شره أكثر من خيره، فلا يليق بالمبتدئ أو العامي أن يطالع فيه إلا إذا كان عنده علم وتمييز بين الحق والباطل.

والملائكة ليسوا معان كما يقول، بل الملائكة أجسام وأشكال، يتشكلون بأشكال أعطاهم الله القدرة عليها، ولهذا كان جبريل عليه السلام يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، فأعطاهم الله القدرة على التشكل في أشكال من أجل مصلحة بني آدم؛ لأن بني آدم لا يطيقون رؤية الملائكة على خلقتهم التي خلقهم الله عليها، وإنما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل رفقا ببني آدم، ولا يرون على صورتهم وحقيقتهم إلا عند العذاب، قال تعالى:{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] ، وعند الموت يعاينهم الإنسان، يرى ملائكة الموت، لكن في الدنيا وعلى قيد الحياة لا يراهم؛ لأنه لا يطيق رؤيتهم، خلقهم الله من نور، وخلق الشياطين من نار كما في القرآن، وخلق آدم من تراب، فالله على كل شيء قدير.

ص: 212

والكفار يعتقدون أن الملائكة بنات الله، قال تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] .

الثالث: الإيمان بكتبه: وهي الكتب التي أنزلها الله على الرسول لهداية البشر، نؤمن بأنها كلام الله حقيقة، ونؤمن بما سمى الله منها وما لم يسم، سمى الله لنا منها التوراة والإنجيل والقرآن العظيم وصحف إبراهيم وموسى والزبور، فنؤمن بها، ونؤمن بما لم يسمه الله منها، فالإيمان بالكتب السابقة يكون إيمانا مجملا، والإيمان بالقرآن يكون إيمانا مفصلا بكل ما فيه؛ لأنه كتابنا، وأنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جحد آية أو حرفا من حروفه فهو كافر مرتد عن الإسلام.

وكذلك من آمن ببعض القرآن وكفر ببعض فهو كافر، وكذلك من آمن ببعض الكتب وكفر ببعض فهو كافر، ومن قال: أنا أومن بالقرآن ولا أومن بالتوراة والإنجيل فهو كافر، أو قال: أومن بالتوراة والإنجيل ولا أومن بالزبور الذي أنزل على داود عليه السلام فهو كافر، قال تعالى:{وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] ، أو أنكر صحف إبراهيم فهو كافر؛

ص: 213

لأنه مكذب لله عز وجل، ومكذب لرسله، فهو كافر لأنه جحد ركنا من أركان الإيمان.

الرابع: الإيمان برسله: الإيمان بالرسل جميعهم من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم ومن لم يسم، نؤمن بهم جميعا، وأنهم رسل الله حقا، جاءوا بالرسالة، وبلغوها لأممهم.

فمن كفر بنبي واحد فهو كافر بجميع الرسل لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 150 - 152] .

فالكفر بنبي واحد أو برسول كفر بالجميع، ولهذا قال:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، مع أنهم كذبوا نوحا، فتكذيبهم لنوح صار تكذيبا لبقية المرسلين، وكذلك من كفر بعيسى ومحمد كاليهود، أو كفر بمحمد كالنصارى، فإنه كافر بالجميع، لا بد من الإيمان بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، من سمى الله منهم ومن لم يسم.

ص: 214

وقد سمى الله منهم كما في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 83 - 86] ، فذكر جملة منهم في هذه الآيات، وفي آيات أخرى، فنؤمن بمن سمى الله منهم، ونؤمن بمن لم يسم الله منهم.

الخامس: اليوم الآخر: الإيمان باليوم الآخر هو الركن الخامس، واليوم الآخر المراد به يوم القيامة، سمي باليوم الآخر لأنه بعد اليوم الأول، وهو يوم الدنيا، الدنيا هي اليوم الأول، والقيامة هي اليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين في القبر، وكل ما يكون بعد القبر فهو من الإيمان باليوم الآخر، وكذلك الإيمان بالبعث والنشور والمحشر والحساب ووزن الأعمال، والصراط والميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات، والجنة والنار، فتفاصيل ما يحصل في

ص: 215

اليوم الآخر نؤمن بها جملة وتفصيلا، بداية من الموت إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، كل ما صح من هذا نؤمن به، ولا نشك في شيء منه، فمن شك في شيء منه فهو كافر مرتد عن الإسلام، كل هذا يطلق عليه اليوم الآخر وما فيه.

الركن السادس: تؤمن بالقدر خيره وشره: تؤمن بأن ما يجري في هذا الكون من خير أو شر، من كفر وإيمان، من نعمة ونقمة، من رخاء وشدة، من مرض وصحة، من حياة وموت، كل ما يجري في هذا الكون فإنه مقدر، لم يكن صدفة، أو يكن أمرا مستأنفا، أي: أنه مبتدأ لم يسبق أن قدر، تؤمن بهذا كله بأنه بقضاء الله وقدره، وتؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن هذا بقضاء الله وقدره، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، هذا هو الإيمان بالقدر.

والإيمان بالقدر يتضمن أربع درجات، من لم يؤمن بها كلها فليس مؤمنا بالقدر:

ص: 216

المرتبة الأولى: العلم بأن الله علم كل شيء في الأزل، علم كل ما يجري، ما كان وما يكون إلى ما لا نهاية، فالله قد علمه في الأزل قبل أن يكون وقبل أن يقع، علمه سبحانه وتعالى بعلمه القديم الأزلي الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، هذه مرتبة العلم، فمن جحدها فهو كافر.

المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ: وهي أن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، فما يجري شيء إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ليس هناك شيء يجري وهو غير مكتوب، ولهذا قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22] يعني اللوح المحفوظ، كتب الله فيه مقادير كل شيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» ، فمن جحد الكتابة، وقال: الله يعلم كل شيء، لكنه لم يكتب في اللوح المحفوظ شيئا، هذا كافر مرتد عن دين الإسلام.

ص: 217

المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وهي أن الله سبحانه يشاء الشيء ويريده، فما من شيء يحدث إلا وقد شاءه الله وأراده كما في اللوح المحفوظ، وكما علمه سبحانه وتعالى، يشاء كل شيء في وقته، ويريد كل شيء في وقت حدوثه، لا يقع شيء بدون مشيئة الله، أو بدون إرادة الله، فمن قال: إن الأشياء تحدث بدون أن يشاءها الله أو يريدها فهذا كافر.

المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد، الله خالق كل شيء، إذا شاءه وأراده خلقه سبحانه وتعالى وأوجده، فكل شيء هو مخلوق لله سبحانه وتعالى، وهو من خلق الله، وهو فعل العباد وكسب العباد.

فهذه المراتب الأربع لا بد من الإيمان بها، وإلا لم يكن الإنسان مؤمنا بالقدر مرتبة العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق والإيجاد، كل هذه لا بد من الإيمان بها، فمن جحد شيئا منها فإنه كافر مرتد عن دين الإسلام؛ لأنه جحد ركنا من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر.

ص: 218