الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَسْئِلَةِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا، وَفِي بَعْضِهَا نَظَرٌ ; أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَنْ لَا قَبْلَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَعَنْ شَيْءٍ، وَنِصْفِ شَيْءٍ، وَلَا شَيْءٍ، وَأَرْسَلَ قَارُورَةً ; فَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِي هَذِهِ بِبَزْرِ كُلِّ شَيْءٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: أَمَّا الَّذِي لَا قَبْلَ لَهُ فَاللَّهُ عز وجل، وَأَمَّا مَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ فَآدَمُ عليه السلام، وَأَمَّا مَنْ لَا أَبَ لَهُ فَعِيسَى عليه السلام، وَأَمَّا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ الْعَاقِلُ يَعْمَلُ بِعَقْلِهِ، وَأَمَّا نِصْفُ شَيْءٍ، فَالَّذِي لَهُ عَقْلٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَا شَيْءَ فَالَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعَقْلِ غَيْرِهِ. وَمَلَأَ الْقَارُورَةَ مَاءً وَقَالَ: هَذَا بَزْرُ كُلِّ شَيْءٍ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مَلِكَ الرُّومِ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[تَوَلِّي ابْنِ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ]
فَصَلٌ (تَوَلِّي ابْنِ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ)
تَوَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَفِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ قُتِلَ عُثْمَانُ. وَحَضَرَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَكَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ يَوْمَ صِفِّينَ، وَشَهِدَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَتَأَمَّرَ عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا يَسْتَخْلِفُ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَزِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْخَرَاجِ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَغْبُوطِينَ بِهِ، يُفَقِّهُهُمْ وَيُعَلِّمُ جَاهِلَهُمْ، وَيَعِظُ مُجْرِمَهُمْ، وَيُعْطِي فَقِيرَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عَلِيٌّ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا عَزَلَهُ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ وَاحْتَرَمَهُ
وَعَظَّمَهُ، وَكَانَ يُلْقِي عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ الْمُعْضِلَةَ فَيُجِيبُ فِيهَا سَرِيعًا، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحَضَرَ جَوَابًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ بِمَوْتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اتَّفَقَ كَوْنُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَعَزَّاهُ فِيهِ بِأَحْسَنِ تَعْزِيَةٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَدًّا حَسَنًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَزَّاهُ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ وَجِيزَةٍ، شَكَرَهُ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا - وَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَرَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ، نَهَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَأَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِثِيَابِ الْحُسَيْنِ ; - لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ - فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا وَلَزِمَ بَيْتَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ تَنْدَمْ، وَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُنْدَبٌ. فَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي: فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ أَنْتَ آتِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَقْبُولٌ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْفُوعٌ، يَا جُنْدَبُ، إِنَّكَ لَنْ تَزْدَادَ مِنْ يَوْمِكَ إِلَّا قُرْبًا، فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَأَصْبِحْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ مُسَافِرٌ، فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، وَابْكِ عَلَى ذَنْبِكَ، وَتُبْ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَلْتَكُنِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ أَهْوَنَ مِنْ شِسْعِ
نَعْلِكَ، وَكَأَنْ قَدْ فَارَقْتَهَا وَصِرْتَ إِلَى عَدْلِ اللَّهِ، وَلَنْ تَنْتَفِعَ بِمَا خَلَّفْتَ، وَلَنْ يَنْفَعَكَ إِلَّا عَمَلُكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَلِمَاتٍ خَيْرٍ مِنَ الْخَيْلِ الدُّهْمِ قَالَ: لَا تَكَلَّمَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ حَتَّى تَرَى لَهُ مَوْضِعًا، وَلَا تُمَارِيَنَّ سَفِيهًا وَلَا حَلِيمًا ; فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَغْلِبُكَ وَالسَّفِيهَ يَزْدَرِيكَ، وَلَا تَذْكُرَنَّ أَخَاكَ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ إِلَّا بِمَثَلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيكَ إِذَا تَوَارَيْتَ عَنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَجْزِيٌّ بِالْإِحْسَانِ مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ. فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: يَابْنَ عَبَّاسٍ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلِمَةٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَمَامُ الْمَعْرُوفِ تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ. يَعْنِي أَنْ تُعَجَّلَ الْعَطِيَّةَ لِلْمُعْطَى، وَأَنْ تَصْغُرَ فِي عَيْنِ الْمُعْطِي، وَأَنْ تَسَتُرَهَا عَنِ النَّاسِ فَلَا تُظْهِرَهَا ; فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهَا فَتْحَ بَابِ الرِّيَاءِ وَكَسْرَ قَلْبِ الْمُعْطَى، وَاسْتِحْيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي ; لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ لَا يَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى وَجْهِهِ لَفَعَلْتُ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يُكَافِئُ مَنْ أَتَانِي يَطْلُبُ حَاجَةً فَرَآنِي لَهَا مَوْضِعًا إِلَّا اللَّهُ، عز وجل، وَكَذَا رَجُلٌ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ، أَوْ أَوْسَعَ لِي فِي مَجْلِسٍ، أَوْ قَامَ لِي عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ رَجُلٌ سَقَانِي شَرْبَةَ مَاءٍ عَلَى ظَمَأٍ،
أَوْ رَجُلٌ حَفِظَنِي بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الْمَكَارِمِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَقَدْ عَدَّهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْعُمْيَانِ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أُصِيبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَنَحَلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا أُصِيبَتِ الْأُخْرَى عَادَ إِلَيْهِ لَحْمُهُ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَصَابَنِي مَا رَأَيْتُمْ فِي الْأُولَى شَفَقَةً عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمَّا ذَهَبَتَا اطْمَأَنَّ قَلْبِي. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ وَقَعَ فِي عَيْنِهِ الْمَاءُ فَقِيلَ لَهُ: نَنْزِعُ مَنْ عَيْنِكَ الْمَاءَ، عَلَى أَنَّكَ لَا تُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ مَنْ تَرْكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نُزِيلُ هَذَا الْمَاءَ مِنْ عَيْنِكَ عَلَى أَنْ تَبْقَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَا تُصَلِّي إِلَّا عَلَى عُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا مُسْتَلْقِيًا، فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ وَلَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، إِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّدًا، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
وَقَدْ أَنْشَدَ الْمَدَائِنِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ عَمِيَ:
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا
…
فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ
قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ
…
وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ
وَلَمَّا وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، اعْتَزَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ النَّاسَ، فَدَعَاهُمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ ; لِيُبَايِعَاهُ فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: لَا نُبَايِعُكَ وَلَا نُخَالِفُكَ، فَهَمَّ بِهِمَا، فَبَعَثَا أَبَا الطُّفَيْلِ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ فَاسْتَنْجَدَ لَهُمَا مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِهِمَا فَقَدِمَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَكَبَّرُوا بِمَكَّةَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً، وَهَمُّوا بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَانْطَلَقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَارِبًا وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: أَنَا عَائِذٌ بِاللَّهِ. فَكَفُّوهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَوْلَ دُورِهِمُ الْحَطَبَ لِيَحْرِقَهُمْ، فَخَرَجُوا بِهِمَا حَتَّى نَزَلُوا الطَّائِفَ، وَأَقَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَتَيْنِ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَاتَ الْيَوْمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَلَمَّا وَضَعُوهُ لِيُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ لَمْ يُرَ مِثْلُ خِلْقَتِهِ، فَدَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ وَالْتَفَّ فِيهَا حَتَّى دُفِنَ مَعَهُ. قَالَ عَفَّانُ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ