الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
فِيهَا - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ - كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ الْكِنْدِيِّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا عَزَلَ الْحَجَّاجُ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَفِدَ مَرَّةً عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا انْصَرَفَ مَرَّ بِدَيْرٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَالِمًا. فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: يَا شَيْخُ، هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَجِدُهُ مَلِكًا أَقْرَعَ مَنْ يَقُمْ بِسَبِيلِهِ يُصْرَعُ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْوَلِيدُ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ، يَفْتَحُ بِهِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: أَفَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: قَدْ أُخْبِرْتُ بِكَ. قَالَ: أَفَتَعْرِفُ مَا أَلِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ يَلِي الْعِرَاقَ بَعْدِي؟ قَالَ: رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ. قَالَ: أَفِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ: يَغْدِرُ غَدْرَةً لَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا.
قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَسَارَ سَبْعًا وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَعْفِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ ; لِيَعْلَمَ مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ، فَجَاءَ الْكِتَابُ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَلَسَ يَوْمًا مُفَكِّرًا، وَاسْتَدْعَى بِعُبَيْدِ بْنِ مَوْهَبٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُبَيْدُ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مَا تَحْتَ يَدِي سَيَلِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ. وَقَدْ تَذَكَّرْتُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ وَيَزِيدَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَيَزِيدَ بْنَ دِينَارٍ، فَلَيْسُوا هُنَاكَ وَمَا هُوَ - إِنْ كَانَ - إِلَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَقَالَ عُبَيْدٌ: لَقَدْ شَرَّفْتَهُمْ، وَعَظَّمْتَ وِلَايَتَهُمْ، وَإِنَّ لَهُمْ لَعَدَدًا وَجَلَدًا وَحَظًّا فَأَخْلِقْ بِهِ. فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْحَجَّاجِ عَلَى عَزْلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَذُمُّهُ وَيُخَوِّفُهُ غَدْرُهُ، وَيُخْبِرُهُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْخُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَدْ أَكْثَرْتَ فِي شَأْنِ يَزِيدَ، فَسَمِّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُ الْحَجَّاجِ عَلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَوَلَّاهُ قَلِيلًا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَغَزَا بَاذَغِيسَ وَغَيْرَهَا، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ.
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ بَلَدٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْ بَلْدَةٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ تِرْمِذَ، وَكَانَ مَلِكُهَا فِيهِ ضَعْفٌ، فَجَعَلَ يُهَادِنُهُ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالْأَلْطَافِ وَالتُّحَفِ، حَتَّى جَعَلَ يَتَصَيَّدُ هُوَ وَهُوَ، ثُمَّ عَنَّ لِلْمَلِكِ فَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا، وَبَعَثَ إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ: أَنِ ائْتِنِي فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ جَيْشِهِ مِائَةً مِنْ شُجْعَانِهِمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ، فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا فَرَغَتِ الضِّيَافَةُ اضْطَجَعَ مُوسَى عَلَى جَنْبِهِ فِي دَارِ الْمَلِكِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْوَمُ مِنْ هُنَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْمَنْزِلُ مَنْزِلِي، أَوْ يَكُونَ قَبْرِي، فَثَارَ أَهْلُ الْقَصْرِ إِلَيْهِ فَحَاجَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ تِرْمِذَ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ تِرْمِذَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، وَاسْتَدْعَى مُوسَى بَقِيَّةَ جَيْشِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَحْوَذَ مُوسَى عَلَى الْبَلَدِ فَحَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَلِكُهَا هَارِبًا، فَلَجَأَ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَاسْتَنْصَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ بَلَدِكُمْ لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ مَلِكُ تِرْمِذَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ التُّرْكِ فَاسْتَصْرَخَهُمْ، فَبَعَثُوا مَعَهُ قُصَّادًا نَحْوَ مُوسَى ; لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِقُدُومِهِمْ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ - أَمْرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُؤَجِّجُوا نَارًا، وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ الشِّتَاءِ، وَيُدْنُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ النَّارِ كَأَنَّهُمْ يَصْطَلُونَ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، رَأَوْا أَصْحَابَهُ وَمَا يَصْنَعُونَ
فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُونَهُ؟ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا نَجِدُ الْبَرْدَ فِي الصَّيْفِ وَالْكُرْبَ فِي الشِّتَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: مَا هَؤُلَاءِ بَشَرٌ، مَا هَؤُلَاءِ إِلَّا جِنٌّ. ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَلِكِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا، فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ صَاحِبُ تِرْمِذَ فَاسْتَجَاشَ بِطَائِفَةٍ أُخْرَى، فَجَاءُوا فَحَاصَرُوهُمْ بِتِرْمِذَ، وَجَاءَ الْخُزَاعِيُّ فَحَاصَرَهُمْ أَيْضًا، فَجَعَلَ يُقَاتِلُ الْخُزَاعِيَّ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُقَاتِلُ آخِرَهُ الْعَجَمَ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى بَيَّتَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ عُمَرَ الْخُزَاعِيَّ فَصَالَحَهُ، وَكَانَ مَعَهُ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَلَيْسَ يَرَى مَعَهُ سِلَاحًا، فَقَالَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلَا سِلَاحٍ. فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي سِلَاحًا. ثُمَّ رَفَعَ صَدْرَ فِرَاشِهِ فَإِذَا سَيْفُهُ مُنْتَضًى، فَأَخَذَهُ عُمَرُ، فَضَرْبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ، وَخَرَجَ هَارِبًا، ثُمَّ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى عَزْلِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ إِمْرَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي اللَّيْلِ، وَكَانَ لَا يُحْجَبُ عَنْهُ أَيَّ سَاعَةٍ جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى إِرَادَةِ عَزْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ ; الْوَلِيدِ ثُمَّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ يَزِيدَ ثُمَّ هِشَامٍ، وَذَلِكَ عَنْ رَأْيِ الْحَجَّاجِ وَتَرْتِيبِهِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَبُوهُ مَرْوَانُ