الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهِ]
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَافْتَتَحَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ طُوَانَةَ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا اقْتَتَلَ النَّاسُ عِنْدَهُ قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّصَارَى، فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمُ الْكَنِيسَةَ، ثُمَّ خَرَجَتِ النَّصَارَى فَحَمَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَوْقِفِهِ إِلَّا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَمَعَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَيْنَ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ عز وجل؟ فَقَالَ: نَادِهِمْ يَأْتُوكَ. فَنَادَى: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ. فَتَرَاجَعَ النَّاسُ، فَحَمَلُوا عَلَى النَّصَارَى فَكَسَرُوهُمْ، وَلَجَأُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَحَاصَرُوهُمْ حَتَّى فَتَحُوهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ كِتَابُ الْوَلِيدِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْمَدِينَةِ، يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَإِضَافَةِ حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَأَنْ يُوَسِّعَهُ مِنْ قِبْلَتِهِ وَسَائِرِ نَوَاحِيهِ، حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فِي مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، فَمَنْ بَاعَكَ مِلْكَهُ فَاشْتَرِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَقَوِّمْهُ لَهُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اهْدِمْ، وَادْفَعْ إِلَيْهِمْ أَثْمَانَ بُيُوتِهِمْ، فَإِنَّ لَكَ فِي ذَلِكَ سَلَفَ صِدْقٍ; عُمَرَ وَعُثْمَانَ.
فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَالْفُقَهَاءَ الْعَشَرَةَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ،
وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْوَلِيدِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا: هَذِهِ حُجَرٌ قَصِيرَةُ السُّقُوفِ، وَسُقُوفُهَا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَحِيطَانُهَا مِنَ اللَّبِنِ، وَعَلَى أَبْوَابِهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا أَوْلَى; لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ وَالْمُسَافِرُونَ، وَإِلَى بُيُوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمِّرُونَ فِيهَا إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ وَيُكِنُّ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَالِيَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْفَرَاعِنَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَكُلِّ طَوِيلِ الْأَمَلِ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْخُلُودِ فِيهَا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْوَلِيدِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخَرَابِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلِّيَ سُقُوفَهُ، فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ بُدًّا مِنْ هَدْمِهَا، وَلَمَّا شَرَعُوا فِي الْهَدْمِ صَاحَ الْأَشْرَافُ وَوُجُوهُ النَّاسِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَتَبَاكَوْا مِثْلَ يَوْمِ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَجَابَ مَنْ لَهُ مِلْكٌ مُتَاخِمٌ لِلْمَسْجِدِ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ، وَشَرَعَ فِي بِنَائِهِ، وَشَمَّرَ عَنْ إِزَارِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، وَجَاءَتْهُ فُعُولٌ كَثِيرَةٌ مِنْ قِبَلِ الْوَلِيدِ، فَأَدْخَلَ فِيهِ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ، حُجْرَةَ عَائِشَةَ، فَدَخَلَ الْقَبْرُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ حَدَّهُ مِنَ الشَّرْقِ، وَسَائِرُ حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَمَرَ الْوَلِيدُ.
وَرُوِّينَا أَنَّهُمْ لَمَّا حَفَرُوا الْحَائِطَ الشَّرْقِيَّ مِنْ حُجْرَةِ عَائِشَةَ بَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ، فَخَشُوا أَنْ تَكُونَ قَدَمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَحَقَّقُوا أَنَّهَا قَدَمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَيُحْكَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي الْمَسْجِدِ، كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُ صُنَّاعًا لِلْبِنَاءِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ صَانِعٍ، وَفُصُوصٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَجْلِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ نَحْوَ خَمْسِينَ حِمْلًا، وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَحْفِرَ الْفَوَّارَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ يُجْرِيَ مَاءَهَا، فَفَعَلَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْفِرَ الْآبَارَ، وَأَنْ يُسَهِّلَ الطُّرُقَ وَالثَّنَايَا، وَسَاقَ إِلَى الْفَوَّارَةِ الْمَاءَ مِنْ ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَالْفَوَّارَةُ بُنِيَتْ فِي ظَاهِرِ الْمَسْجِدِ، عِنْدَ بُقْعَةٍ رَآهَا فَأَعْجَبَتْهُ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَلِكَ التُّرْكِ كُورْمَغَانُونَ ابْنَ أُخْتِ مَلِكِ الصِّينِ، وَمَعَهُ مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّغْدِ وَفَرْغَانَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ مَعَ قُتَيْبَةَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مَأْسُورًا، فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَسَبَى وَأَسَرَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَخْبَرُوهُ عَنْ قِلَّةِ الْمَاءِ بِمَكَّةَ لِقِلَّةِ الْمَطَرِ،