الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ]
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِيهَا افْتَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْمِصِّيصَةَ.
وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَرْمِينِيَّةَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَرَّقَ كَنَائِسَهُمْ، وَضِيَاعَهُمْ. وَتُسَمَّى سَنَةَ الْحَرِيقِ.
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى فَارِسَ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ الثَّقَفِيَّ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ الْأَكْرَادِ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ التُّجَيْبِيَّ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي الْكَنُودِ الَّذِي كَانَ قَدْ وَلِيَهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ طَائِفَةً مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ ذَلِكَ بَلَدُ أَوْرَبَةَ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا جِدًّا، وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ أَيْضًا جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ:
أَيُّوبُ بْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا وَاعِظًا، قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ أَبُو سُلَيْمَانَ الْهِلَالِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقِرِّيَّةِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ الشَّيْبَانِيُّ.
وَأَبُو عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، سَكَنَ حِمْصَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ، وَقَدْ قَارَبَ الْمِائَةَ سَنَةٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ.
وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تُوُفِّيَ
أَبُو زُرْعَةَ الْجُذَامِيُّ الْفِلَسْطِينِيُّ
كَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ فَخَافَ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ، فَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَهْدِمْ رُكْنًا بَنَيْتَهُ، وَلَا تُحْزِنُ صَاحِبًا سَرَرْتَهُ، وَلَا تُشْمِتْ عَدُوًّا كَبَتَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ مُعَاوِيَةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
عُتْبَةُ بْنُ النَّدْرِ السُّلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ.
عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الْخَارِجِيُّ
كَانَ أَوَّلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الْخَوَارِجِ حَسَنَةً جَمِيلَةً جِدًّا فَأَحَبَّهَا، وَكَانَ هُوَ دَمِيمَ الشَّكْلِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى السُّنَّةِ فَأَبَتْ، فَارْتَدَّ مَعَهَا إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُطْبِقِينَ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ وَقَاتِلِهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا
…
إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا
إِنِّي لَأَذْكُرهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ
…
أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُونُ الطَّيْرِ قَبْرُهُمُ
…
لَمْ يَخْلِطُوا دِينَهُمُ بَغْيًا وَعُدْوَانَا
وَقَدْ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِهِ هَذِهِ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:
أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُونَهَا
…
عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا
…
سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقَشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضَوْا حَاجَاتِهِمْ وَتَرَّحَلُوا
…
طَرِيقَهُمُ بَادِي الْعَلَامَةِ مَهْيَعُ
مَاتَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَبْيَاتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، بِأَبْيَاتٍ عَلَى قَافِيَتِهَا وَوَزْنِهَا:
بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا
…
إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ خُسْرَانَا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ
…
أَشْقَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا
رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ
كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ.
وَفِيهَا كَانَ مَهْلِكُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا فَاللَّهُ أَعْلَمُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ الَّذِي لَجَأَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ بِابْنِ الْأَشْعَثِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَى بِلَادِكَ أَلْفَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَلِأُخَرِّبَنَّهَا. فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْوَعِيدُ مِنَ الْحَجَّاجِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُخَرِّبَ الْحَجَّاجُ دِيَارَهُ، وَيَأْخُذَ عَامَّةَ أَمْصَارِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا إِلَّا مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الْخَرَاجِ، فَأَجَابَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ وَعْدَهُ أَنْ
يُطْلِقَ لَهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ سَبْعَ سِنِينَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ غَدَرَ رُتْبِيلُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَعَلَى ثَلَاثِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ فَقَيَّدَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ، وَبَعَثَ بِهِمْ مَعَ رُسُلِ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الرُّخَّجُ، صَعِدَ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيدِ إِلَى سَطْحِ قَصْرٍ، وَمَعَهُ رَجُلٌ مُوكَّلٌ بِهِ; لِئَلَّا يَفِرَّ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْرِ، وَسَقَطَ مَعَهُ الْمُوكَّلُ بِهِ فَمَاتَا جَمِيعًا، فَعَمَدَ الرَّسُولُ إِلَى رَأْسِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَاحْتَزَّهُ، وَقَتَلَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَمَرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْعِرَاقِ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الشَّامِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمِصْرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ هُنَالِكَ، ثُمَّ دَفَنُوا رَأْسَهُ بِمِصْرَ وَجُثَّتَهُ بِالرُّخَّجِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
هَيْهَاتَ مَوْضِعُ جُثَّةٍ مِنْ رَأْسِهَا
…
رَأْسٌ بِمِصْرَ وَجُثَّةٌ بِالرُّخَّجِ
وَإِنَّمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَقْتَلَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدْ رَوَى
لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، حَدِيثُ:«إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ، أَوْ يَتَتَارَكَانِ» وَعَنْهُ أَبُو الْعُمَيْسِ وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْإِمَارَةِ، وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا هُوَ كِنْدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْأَنْصَارَ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَمِيرٌ مَعَ أَمِيرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَأَبَى الصِّدِّيقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ ضَرَبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - الَّذِي دَعَا إِلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ - كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ يَعْمِدُونَ إِلَى خَلِيفَةٍ قَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ سِنِينَ، فَيَعْزِلُونَهُ وَهُوَ مِنْ صَلِيبَةِ قُرَيْشٍ، وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ بَيْعَةً لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ زَلَّةٌ وَفَلْتَةٌ نَشَأَ بِسَبَبِهَا شَرٌّ كَثِيرٌ هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
أَيُّوبُ ابْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، النَّمِرِيُّ الْهِلَالِيُّ، كَانَ أَعْرَابِيًّا أُمِّيًّا، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ، صَحِبَ الْحَجَّاجَ، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى ابْنِ
الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَئِنْ لَمْ تَقُمْ خَطِيبًا فَتَخْلَعُ الْحَجَّاجَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَفَعَلَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ فَلَمَّا ظَهَرَ الْحَجَّاجُ اسْتَحْضَرَهُ، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ مَقَامَاتٌ وَمَقَالَاتٌ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَنَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ، وَلَكِنْ نَدِمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ كَمَا قِيلَ:
وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ، وَأَطَالَ تَرْجَمَتَهُ، وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ حَسَنَةً. قَالَ: والْقِرِّيَّةُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ جَدَّتُهُ، وَاسْمُهَا خُمَاعَةُ بِنْتُ جُشَمَ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ وَجُودَهُ، وَوُجُودَ مَجْنُونِ لَيْلَى، وَابْنِ أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَقَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوحُ بْنُ زِنْبَاعِ بْنِ سَلَامَةَ الْجُذَامِيُّ أَبُو زُرْعَةَ
وَيُقَالُ: أَبُو زِنْبَاعٍ الدِّمَشْقِيُّ، دَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ الْبُزُورِيِّينَ، عِنْدَ دَارِ ابْنِ
أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَاوِيَةُ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ.
كَانَ رَوْحٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَالْوَزِيرِ; لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ وَقَدْ أَمَّرَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى جُنْدِ فِلَسْطِينَ. وَزَعَمَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يُتَابَعْ مُسْلِمٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ.
وَمِنْ مَآثِرِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ يُعْتِقُ نِسْمَةً. قَالَ ابْنُ زَبْرٍ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ بِالْأُرْدُنِّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً، فَنَزَلَ عَلَى مَاءٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ فَأُصْلِحَتْ لَهُ أَطْعِمَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، ثُمَّ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَأْكُلُ إِذْ جَاءَ رَاعٍ مِنَ الرُّعَاةِ يَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعَاهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَجَاءَ الرَّاعِي فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ، وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ لَهُ رَوْحٌ: فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الطَّوِيلِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ تَصُومُ يَا رَاعِي؟ فَقَالَ الرَّاعِي: أَفَأَغْبِنُ أَيَّامِي مِنْ أَجْلِ طُعَيِّمَكَ؟ ثُمَّ إِنَّ الرَّاعِيَ ارْتَادَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا فَنَزَلَهُ، وَتَرَكَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ، فَقَالَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ:
لَقَدْ ضَنِنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا رَاعِي
…
إِذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعِ
ثُمَّ إِنَّ رَوْحًا بَكَى طَوِيلًا، وَأَمَرَ بِتِلْكَ الْأَطْعِمَةِ فَرُفِعَتْ، وَقَالَ: انْظُرُوا، هَلْ تَجِدُونَ لَهَا آكِلًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَابِ أَوِ الرُّعَاةِ؟ ثُمَّ سَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ أَخَذَ الرَّاعِي بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ، وَصَغُرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.