الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ إِنَّ رَوْحًا بَكَى طَوِيلًا وَأَمَرَ بِتِلْكَ الْأَطْعِمَةِ فَرُفِعَتْ، وَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهَا آكِلًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَابِ أَوِ الرُّعَاةِ؟ ثُمَّ سَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقَدْ أَخَذَ الرَّاعِي بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ وَصَغُرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
فِيهَا كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ مَقْتَلُ عبد الرحمن بن الأشعث فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِيهَا عَزَلَ الْحَجَّاجُ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَفِدَ مَرَّةً عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فلمَّا انْصَرَفَ مرَّ بِدَيْرٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَالِمًا، فَدُعِيَ فَقَالَ: يَا شَيْخُ هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ لَهُ فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَجِدُهُ مَلِكًا أَقْرَعَ، مَنْ يَقُمْ في سبيله يُصْرَعُ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ ثمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ يَفْتَحُ بِهِ على النَّاس، قال: فتعرفني له قال: قد أخبرت بك.
قال: أفتعرف مآلي؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَمَنْ يَلِي الْعِرَاقَ بَعْدِي؟ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، قَالَ أَفِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟ قَالَ لَا أَدْرِي، قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ يَغْدِرُ غَدْرَةً لَا أَعْرِفُ غَيْرَهَا قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَسَارَ سَبْعًا وَهُوَ وَجِلٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَعْفِيهِ مِنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ لِيَعْلَمَ مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ؟ فَجَاءَ الْكِتَابُ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ وَالْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَلَسَ يَوْمًا مُفَكِّرًا وَاسْتَدْعَى بِعُبَيْدِ بْنِ مَوْهَبٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُبَيْدُ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مَا تَحْتَ يَدِي سَيَلِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ، وَقَدْ تَذَكَّرْتُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ وَيَزِيدَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَيَزِيدَ بْنَ دينار وليسوا هناك، وَمَا هُوَ إِلَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ.
فَقَالَ عُبَيْدٌ: لَقَدْ شرفهم وعظمت ولايتهم وإن لهم لقدراً وَجَلَدًا وَحَظًّا فَأَخْلِقْ بِهِ.
فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْحَجَّاجِ عَلَى عَزْلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَذُمُّهُ وَيُخَوِّفُهُ غَدْرُهُ وَيُخْبِرُهُ بِمَا أخبره به ذلك الشيخ الكتابي، فجاء البريد بكتاب فيه قَدْ أَكْثَرْتَ فِي شَأْنِ يَزِيدَ فَسَمِّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُ الْحَجَّاجِ عَلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَوَلَّاهُ قَلِيلًا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (1) ، فَغَزَا بلاد عبس وغيرها وغنم
(1) في ابن الاعثم 7 / 199 أحب الحجاج أن يعزل يزيد عن خراسان (ويذل آل المهلب) فتزوج لاخت يزيد، وأمر يزيد أن ينصرف إلى ما قبله وهو يعتل بحروب خراسان، فولى اخاه المفضل الري ليكون خليفة ليزيد إلى أن ينصرف إليها (يزيد) وفي كتابه إليه امره أن يسلم العمل إلى المفضل وأن يقدم إليه.
فشاور يزيد حضين بن المنذر الربعي (وفي ابن الاثير: الرقاشي) فأشار عليه بعدم المصير إلى الحجاج وخوفه منه.
فقال يزيد: نحن أهل بيت
قد بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف
…
فتجهز وخرج من خراسان، فقدم المفضل إلى خراسان.
وبلغ الحجاج ذلك فدعا قتيبة بن مسلم فعقد له عقدا وضم إليه جيشا وولاه خراسان (وانظر ابن الاثير 4 / 503 - 504) .
والطبري 8 / 43.
(*)
مَغَانِمَ كَثِيرَةً، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ وَمُلَخَّصُهُ أنه بعد مقتل أبيه لم يبق بَلَدٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْ بَلْدَةٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ تِرْمِذَ وَكَانَ مَلِكُهَا فِيهِ ضَعْفٌ، فَجَعَلَ يُهَادِنُهُ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالْأَلْطَافِ وَالتُّحَفِ، حَتَّى جَعَلَ يَتَصَيَّدُ هُوَ وَهُوَ، ثُمَّ عَنَّ لِلْمَلِكِ فَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا وَبَعَثَ إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ أَنِ ائْتِنِي فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ جَيْشِهِ مِائَةً مِنْ شُجْعَانِهِمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ فلما فرغت الضيافة اضطجع موسى فِي دَارِ الْمَلِكِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْوَمُ مِنْ هُنَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْمَنْزِلُ مَنْزِلِي أَوْ يَكُونَ قَبْرِي: فَثَارَ أَهْلُ الْقَصْرِ إِلَيْهِ فَحَاجَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ تِرْمِذَ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ تِرْمِذَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، وَاسْتَدْعَى مُوسَى ببقية جَيْشِهِ إِلَيْهِ وَاسْتَحْوَذَ مُوسَى عَلَى الْبَلَدِ فَحَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَلِكُهَا هَارِبًا فَلَجَأَ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَاسْتَنْصَرَهُمْ فَقَالُوا له: هؤلاء قوم نحو من مائة رجل أخرجوك من بلدك، لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ،.
ثُمَّ ذَهَبَ مَلِكُ تِرْمِذَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ التُّرْكِ فَاسْتَصْرَخَهُمْ فَبَعَثُوا مَعَهُ قُصَّادًا نَحْوَ مُوسَى لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِقُدُومِهِمْ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ - أَمْرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُؤَجِّجُوا نَارًا وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ الشِّتَاءِ وَيُدْنُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ النَّارِ كَأَنَّهُمْ يَصْطَلُونَ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ رَأَوْا أَصْحَابَهُ وَمَا يَصْنَعُونَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فقالوا لهم: ما هذا الذي نراكم تفعلون؟ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا نَجِدُ الْبَرْدَ فِي الصَّيْفِ وَالْكُرْبَ فِي الشِّتَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: مَا هَؤُلَاءِ بَشَرٌ، مَا هَؤُلَاءِ إِلَّا جِنٌّ ثم غدوا إِلَى مَلِكِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ.
ثُمَّ ذَهَبَ صَاحِبُ ترمذ فاستجاش بطائفة أخرى فجاؤوا فحاصرهم بِتِرْمِذَ وَجَاءَ الْخُزَاعِيُّ فَحَاصَرَهُمْ
أَيْضًا، فَجَعَلَ يُقَاتِلُ الْخُزَاعِيَّ أَوَّلَ النَّهَارِ وَيُقَاتِلُ آخِرَهُ الْعَجَمَ، ثمَّ إنَّ مُوسَى بَيَّتَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَأَفْزَعَ ذَلِكَ عُمَرَ الْخُزَاعِيَّ فَصَالَحَهُ وَكَانَ مَعَهُ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ (1) ، وَلَيْسَ يرى معه سلاحاً فقال له عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلَا سِلَاحٍ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي سِلَاحًا، ثُمَّ رَفَعَ صَدْرَ فراشه فإذا سيفه منتضى فأخذه عمرو (2) فضربه به حتى برد
(1) يظهر في سياق رواية ابن كثير قلق وتشويش، فرواية الطبري 8 / 47: أن عمرو بن خالد قال لموسى انك لا تظفر به (أي بعمر الخزاعي) إلا بمكيدة، فخرج عمرو وأتى معسكر الخزاعي مستأمنا (بحجة هربه من ابن خازم) فأمنه الخزاعي
…
وذكر تمام الرواية وانظر ابن الأثير 4 / 508 - 510.
(2)
من الطبري وابن الاثير، وهو عمرو بن خالد بن حصين الكلابي المتقدم في الحاشية السابقة، وقد ضرب الخزاعي فقتله وتفرق جيش الخزاعي وأتى بعضهم موسى مستأمنا فأمنه.
ثم اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة وفل ابن الأشعث من العراق وكابل.
ثمَّ خرج عليهم الترك والتبت والهياطلة فقاتلهم
…
ثم ارتحل إلى الترمذ، وهناك اختلف مع ثابت بن قطبة الخزاعي فحصر موسى في ثمانين ألفاً
…
ثم قتل ثابت ثم جهز المفضل بن المهلب - بعد عزل يزيد - جيشا لقتال موسى فحصره (*)
وَخَرَجَ هَارِبًا، ثُمَّ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى عَزْلِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ إِمْرَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي اللَّيل، وكان لا يحجب عنه في أَيَّ سَاعَةٍ جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى إِرَادَةِ عَزْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ الْوَلِيدِ ثمَّ سُلَيْمَانَ ثمَّ يَزِيدَ ثمَّ هِشَامِ، وَذَلِكَ عَنْ رَأْيِ الْحَجَّاجِ وَتَرْتِيبِهِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَبُوهُ مَرْوَانُ عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ثمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يُنَحِّيَهُ عَنِ الْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْكُلِّيَّةِ (1) ، وَيَجْعَلَ الْأَمْرَ فِي أَوْلَادِهِ وَعَقِبِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ بَاقِيَةً فِيهِمْ وَاللَّهُ أعلم.
عبد العزيز بن مروان
هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو الْأَصْبَغِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ أَبُوهُ إِمْرَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهَا إِلَى هَذِهِ السنة، وشهد قتل سعيد بن عمرو بْنِ الْعَاصِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بدمشق وهي دار الصوفية الْيَوْمَ، الْمَعْرُوفَةُ بِالْخَانَقَاهِ السُّمَيْسَاطِيَّةِ ثُمَّ كَانَتْ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ تنقلت إلى أن صارت خانقاها لِلصُّوفِيَّةِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ في مسند أحمد وسنن أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ جبن خالع وشح هالع ".
وَعَنْهُ ابْنُهُ عُمَرُ وَالزُّهْرِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ وَجَمَاعَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَلْحَنُ فِي الْحَدِيثِ وَفِي كَلَامِهِ، ثُمَّ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ فَأَتْقَنَهَا وَأَحْسَنَهَا فَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاس، وَكَانَ سَبَبُ ذلك أنه دخل عليه رجل أيشكو خَتَنَهُ - وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ - فَقَالَ لَهُ عَبْدُ العزيز: من ختَنَك؟ فقال الرجل: ختني الْخَاتِنُ الَّذِي يَخْتِنُ النَّاسَ، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ وَيْحَكَ بِمَاذَا أَجَابَنِي؟ فَقَالَ الْكَاتِبُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مَنْ خِتنُك، فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ، فَمَكَثَ جُمُعَةً وَاحِدَةً فَتَعَلَّمَهَا فَخَرَجَ وَهُوَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاس، وَكَانَ بَعْدَ
= وضيق عليه وعلى أصحابه، وقد خندق عليه فمكث موسى في ضيق شديد، وزحفت الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن فقاتلهم فعقروا فرسه فسقط فارتدف مع مولى له فعقرت دابته فسقط هو ومولاه فقتلوه (انظر الطبري بتفاصيل واسعة 8 / 49 - 50 وابن الأثير 4 / 511 - 512.
(1)
في الكندي ولاة مصر ص 75: وكتب عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز، يسأله أن يرفع له عن ولاية العهد، ليعهد إلى الوليد وسليمان فأبى عبد العزيز ذلك وكتب إليه: أن يكن لك ولد فلنا أولاد، ويقضي الله بما يشاء.
إلى قوله: إنك لو رأيت الاصبغ لسرك ولم تقدم عليه أحدا.
(انظر ابن الاثير 4 / 514 والطبري 8 / 54) .
(*)
ذَلِكَ يَجْزِلُ عَطَاءَ مَنْ يُعْرِبُ كَلَامَهُ وَيَنْقُصُ عَطَاءَ مَنْ يَلْحَنُ فِيهِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ إِلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ يوماً إلى رجل: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ، فقال: تجدها في
جائزتك، فنقصت جائزته مِائَةَ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: ارْفَعْ إِلَيَّ حَاجَتَكَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ".
وَلَسْتُ أَسْأَلُكَ شَيْئًا وَلَا أرد رزقاً رزقنيه الله عزوجل منك.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سُوِيدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: بَعَثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ إِلَى ابن عمر قال: فجئت فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَالَ: أَيْنَ الْمَالُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُهُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أُصْبِحَ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا يَبِيتُ ابْنُ عُمَرَ اللَّيْلَةَ وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ، قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيَّ الْكِتَابَ حَتَّى جِئْتُهُ بِهَا فَفَرَّقَهَا رضي الله عنه.
وَمِنْ كَلَامِهِ رحمه الله: عَجَبًا لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ وَيُوقِنُ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ وَيُخْلِفُ عَلَيْهِ، كَيْفَ يَحْبِسُ مالاً عن عظيم أجر وحسن ثناء.
ولما حضرته الوفاة أحضر له مال يحصيه وإذا هو ثلاثمائة مد مِنْ ذَهَبَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهُ بَعْرٌ خائل بِنَجْدٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَلَوَدِدْتُ أَنْ أَكُونَ هَذَا الْمَاءَ الجاري، أو نباتة (1) بأرض الحجاز، وقال لهم: ائْتُونِي بِكَفَنِي الَّذِي تُكَفِّنُونِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أُفٍّ لَكَ مَا أَقْصَرَ طَوِيلَكَ، وَأَقَلَّ كَثِيرَكَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عن الليث بن سعد قال: كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ (2)، قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ يَعْقُوبَ بن سفيان وَالصَّوَابُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ عبد الملك أخيه، ومات عبد الملك بعده بسنة سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ وَالِدُ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدِ اكْتَسَى عُمْرُ أَخْلَاقَ أَبِيهِ وَزَادَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ.
وَكَانَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ عُمْرَ، عَاصِمٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَصْبَغُ - مَاتَ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ فَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا كَثِيرًا وَمَرِضَ بَعْدَهُ وَمَاتَ.
وَسُهَيْلٌ وَكَانَ له عدة بنات، أم محمد وسهيل وَأُمُّ عُثْمَانَ وَأُمُّ الْحَكَمِ وَأُمُّ الْبَنِينَ وَهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتٍ شَتَّى، وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا (3) عَلَى مَرْحَلَةٍ
مِنْ مِصْرَ وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ فِي النِّيلِ ودفن بها، وقد ترك عبد العزيز من الأموال والأثاث والدواب من
(1) في ولاة مصر 76: كناسة.
(2)
وهي رواية الكندي أيضا، وفي ابن سعد والطبري فكالاصل سنة 85 هـ.
(3)
وهي مدينة حلوان فحمل في الليل منها حلوان إلى الفسطاط، فدفن بها (الكندي - الاعلام للزركلي) .
(*)
الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْوَصْفُ: مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ مد من ذَهَبٍ غَيْرُ الْوَرِقِ، مَعَ جُودِهِ وَكَرَمِهِ وَبَذْلِهِ وَعَطَايَاهُ الْجَزِيلَةِ، فإنَّه كَانَ مِنْ أَعْطَى النَّاسَ لِلْجَزِيلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْعَهْدِ الَّذِي لَهُ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ أَوْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ أَعَزُّ الْخَلْقِ عَلَيَّ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: إِنِّي أَرَى فِي أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا تَرَى فِي الْوَلِيدِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَأْمُرُهُ.
بِحَمْلِ خَرَاجِ مِصْرَ - وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لَا يَحْمِلُ إِلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْخَرَاجِ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلَادُ مِصْرَ بِكَمَالِهَا وَبِلَادُ الْمَغْرِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّهَا لِعَبْدِ الْعَزِيزِ، مَغَانِمُهَا وَخَرَاجُهَا وَحِمْلُهَا - فَكَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنِّي وَإِيَّاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قد بلغنا سناً لا يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ إِلَّا كَانَ بَقَاؤُهُ قَلِيلًا، وَإِنِّي لَا أَدْرِي وَلَا تَدْرِي أَيُّنَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ أَوَّلًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ لا تعتب (1) عَلَيَّ بَقِيَّةَ عُمْرِي فَافْعَلْ، فَرَقَّ لَهُ عَبْدُ الملك وكتب إليه: لعمري لا أعتب (2) عَلَيْكَ بَقِيَّةَ عُمْرِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ عنك، ثم قال لابنه الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ: هَلْ قَارَفْتُمَا مُحَرَّمًا أَوْ حَرَامًا قط؟ فقالا: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، نِلْتُمَاهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَيُقَالُ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا امْتَنَعَ أخوه من إجابته إلى ما طلب منه في بَيْعَتِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ دَعَا عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ، فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْلًا حَزِنَ وَبَكَى وَبَكَى أَهْلُهُ بُكَاءً كَثِيرًا عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَكِنْ سَرَّهُ ذلك من جهة ابنيه فإنه نال فيها مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ لَهُمَا مِنْ وِلَايَتِهِ إِيَّاهُمَا بعده.
وقد كان الحجاج بعث إلى عبد الملك يحسّن له
ولاية الوليد ويزينها له مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْفَدَ إِلَيْهِ وَفَدًا فِي ذَلِكَ عليهم عمران بن عصام العثري (3)، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَامَ عِمْرَانُ خَطِيبًا فَتَكَلَّمَ وَتَكَلَّمَ الْوَفْدُ فِي ذَلِكَ وَحَثُّوا عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْشَدَ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ فِي ذَلِكَ: أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ نُهْدِي * عَلَى النَّأْيِ التَّحِيَّةَ وَالسِّلَامَا أَجِبْنِي فِي بَنِيكَ يَكُنْ جَوَابِي * لَهُمْ عَادِيَةً وَلَنَا قِوَامَا فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيدَ أُطَاعُ فِيهِ * جَعَلْتَ لَهُ الْخِلَافَةَ وَالذِّمَامَا شَبِيهُكَ حَوْلَ قُبَّتِهِ قُرَيْشٌ * بِهِ يَسْتَمْطِرُ النَّاسُ الْغَمَامَا وَمِثْلُكَ فِي التُّقَى لَمْ يَصْبُ يَوْمًا * لَدُنْ خَلَعَ الْقَلَائِدَ وَالْتِمَامًا فَإِنْ تُؤْثِرْ أَخَاكَ بِهَا فإنا * وجدك لا نَطيقُ لها اتهاما
(1) في الطبري 8 / 54: لا تغثث، وفي ابن الاثير 4 / 514: لا تفسد.
(2)
في الطبري: لا أغثث عليه بقية عمره.
وفي ابن الاثير: فرق له عبد الملك وتركه.
(3)
في الطبري: العنزي.
(*)
وَلَكِنَّا نُحَاذِرُ مِنْ بَنِيهِ * بَنِي الْعَلَّاتِ مَأْثَرَةً سَمَامَا وَنَخْشَى إِنْ جَعَلْتَ الْمُلْكَ فِيهِمْ * سَحَابًا أن تعود لهم جهاما فلايك مَا حَلَبْتَ غَدًا لِقَوْمٍ * وَبَعْدَ غَدٍ بُنُوكَ هُمُ الْعِيَامَا فَأُقْسِمُ لَوْ تَخَطَّأْنِي عِصَامٌ * بِذَلِكَ مَا عَذَرْتُ بِهِ عِصَامَا وَلَوْ أَنِّي حَبَوْتُ أَخًا بفضلٍ * أُرِيدُ بِهِ الْمَقَالَةَ وَالْمَقَامَا لعقَّب فِي بنيَّ عَلَى بَنِيهِ * كَذَلِكَ أَوْ لَرُمْتُ لَهُ مَرَامَا فَمَنْ يَكُ فِي أَقَارِبِهِ صُدُوعٌ * فصدع الملك أبطؤه التئاما قال: فَهَاجَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كَتَبَ لِأَخِيهِ يَسْتَنْزِلُهُ عَنِ الْخِلَافَةِ لِلْوَلِيدِ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْتَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَ مَوْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَامٍ وَاحِدٍ، فَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِمَّا أَرَادَ مِنْ بَيْعَةِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ وَاللَّهُ
سبحانه وتعالى أعلم.
بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ ثمَّ مِنْ بعده لولده سليمان وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، بُويِعَ لَهُ بِدِمَشْقَ ثُمَّ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ ثُمَّ لِسُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ امْتَنَعَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْ يُبَايِعَ فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَحَدٍ، فَأَمَرَ بِهِ هِشَامَ بن إسماعيل نائب المدينة فضربه سِتِّينَ سَوْطًا، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابًا مِنْ شَعْرٍ وَأَرْكَبَهُ جَمَلًا وَطَافَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى ثَنِيَّةِ ذُبَابٍ - وَهِيَ الثنية التي كانوا يصلون عندها ويقيلون - فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا رَدُّوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَوْدَعُوهُ السَّجْنَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لا تقتلوني لم أليس هذا الثياب.
ثُمَّ كَتَبَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمُخَالَفَةِ سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ فِي ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ بِإِخْرَاجِهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ سَعِيدًا كَانَ أَحَقَّ مِنْكَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ مِمَّا فَعَلْتَ بِهِ، وَإِنَّا لِنَعْلَمُ أَنَّ سَعِيدًا لَيْسَ عِنْدَهُ شِقَاقٌ وَلَا خِلَافٌ، وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُبَايِعَ، فَإِنْ لَمْ يُبَايِعْ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ سَعِيدًا لما جاءت بيعة الوليد (1) امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ فَضَرَبَهُ نَائِبُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ - وَهُوَ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ - سِتِّينَ سَوْطًا أَيْضًا وَسَجَنَهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ، قاله يحيى بن القطان.
(1) في الطبري 8 / 56 وابن الاثير 4 / 515: لَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، ولعل اقحام اسم الوليد سهو من الناسخ، لان جابر بن الأسود كان على المدينة من قبل ابن الزبير وكان قد دعا النَّاس إلى بيعته.
(*)