الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمِرْوَحَةَ مِنْ يَدِهَا وَجَعَلَ يُرَوِّحُهَا وَيَقُولُ: أَصَابَكِ مِنَ الْحَرِّ مَا أَصَابَنِي.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا.
فَقَالَ: بَلْ جَزَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا.
وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ تَحْتَ ثِيَابِهِ مِسْحًا غَلِيظًا مِنْ شَعْرٍ، وَيَضَعُ فِي رَقَبَتِهِ غُلًّا إِذَا قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ إِذَا أَصْبَحَ وَضَعَهُ فِي مَكَانٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ، وَكَانُوا يَظُنُّونَهُ مَالًا أَوْ جَوْهَرًا مِنْ حِرْصِهِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ فإذا فيه غسل ومسخ.
وكان يبكي حتى يبكي الدَّمَ مِنَ الدُّمُوعِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ بَكَى فَوْقَ سَطْحٍ حَتَّى سَالَ دَمْعُهُ مِنَ الْمِيزَابِ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنَ الْعَدَسِ لِيَرِقَّ قَلْبُهُ وَتَغْزُرُ دَمْعَتُهُ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ اضْطَرَبَتْ أَوْصَالُهُ،
وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَهُ (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مقرنين) الآية [الفرقان: 13] ، فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ سلِّم سلِّم، وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِ صَلَاحُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ.
وَقَالَ: لَوْ أنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهي عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَقَلَّ الْوَاعِظُونَ وَالسَّاعُونَ لِلَّهِ بِالنَّصِيحَةِ.
وَقَالَ: الدُّنْيَا عَدُوَّةُ أَوْلِيَاءِ الله، وولية أعداء الله، أما الأولياء فغمتهم وأحزنتهم، وأما الأعداء فغرتهم وشتتتهم وأبعدتهم عن الله.
وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ عُصِمَ مِنَ الْمِرَاءِ وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ.
وَقَالَ لِرَجُلٍ: مَنْ سَيِّدُ قَوْمِكَ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: لَوْ كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تَقُلْهُ.
وَقَالَ: أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَقَالَ: لَقَدْ بُورِكَ لِعَبْدٍ في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أُعْطِيَ أَوْ مُنِعَ.
وَقَالَ: قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ، وَقَالَ لِرَجُلٍ: عَلِّمْ وَلَدَكَ الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ: الْقَنَاعَةَ وَكَفَّ الْأَذَى.
وَتَكَلَّمَ رَجُلٌ عِنْدَهُ فَأَحْسَنَ فَقَالَ: هَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَّالُ.
وَقِصَّتُهُ مَعَ أَبِي حَازِمٍ مُطَوَّلَةٌ حِينَ رَآهُ خَلِيفَةً وَقَدْ شَحَبَ وَجْهُهُ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَتَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكُنْ ثَوْبُكَ نَقِيًّا؟ وَوَجْهُكَ وَضِيًّا؟ وَطَعَامُكَ شَهِيًّا؟ وَمَرْكَبُكَ وَطِيًّا؟ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تُخْبِرْنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ عقبة كؤوداً لَا يَجُوزُهَا إِلَّا كُلُّ ضَامِرٍ مَهْزُولٍ "؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَذَكَرَ أنه لقي فِي غَشْيَتِهِ تِلْكَ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، وَقَدِ اسْتُدْعِيَ بِكُلٍّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَأُمِرَ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ ذُكِرَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَمْ يدرِ مَا صُنِعَ بِهِمْ، ثُمَّ دُعِيَ هُوَ فَأُمِرَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ لَقِيَهُ سَائِلٌ فَسَأَلَهُ عَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلسَّائِلِ، فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، قَتَلَنِي رَبِّي كل قَتْلَةٍ قَتْلَةً، ثُمَّ هَا أَنَا أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُهُ الْمُوَحِّدُونَ.
وَفَضَائِلُهُ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَهُوَ حَسْبُنَا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة لنا إلا به.
ذِكْرُ سَبَبِ وَفَاتِهِ رحمه الله
كَانَ سَبَبُهَا السُّلَّ، وَقِيلَ سَبَبُهَا أَنَّ مَوْلًى لَهُ سَمَّهُ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَأُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ ألف
دِينَارٍ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مَسْمُومٌ (1)، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ يَوْمَ سُقِيتُ السُّمَّ، ثُمَّ اسْتَدْعَى مَوْلَاهُ الَّذِي سَقَاهُ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! ! مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ أُعْطِيتُهَا.
فَقَالَ: هَاتِهَا، فَأَحْضَرَهَا فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَتَهْلَكَ.
ثُمَّ قِيلَ لِعُمَرَ: تَدَارَكْ نَفْسَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أن شفائي أن أمسّ شَحْمَةَ أُذُنِي أَوْ أُوتَى بِطِيبٍ فَأَشُمَّهُ مَا فَعَلْتُ، فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ بَنُوكَ - وَكَانُوا اثْنَيْ عشر - ألا توصي لهم بشئ فَإِنَّهُمْ فُقَرَاءُ؟ فَقَالَ: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)[الأعراف: 195] وَاللَّهِ لا أعطيتهم حَقَّ أَحَدٍ وَهُمْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إِمَّا صَالِحٌ فَاللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ فَمَا كُنْتُ لِأُعِينَهُ عَلَى فِسْقِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا أُبَالِي فِي أَيِّ وَادٍ هَلَكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَفَأَدَعُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَأَكُونَ شَرِيكَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ.
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِأَوْلَادِهِ فَوَدَّعَهُمْ وَعَزَّاهُمْ بِهَذَا، وَأَوْصَاهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ قَالَ: انْصَرِفُوا عَصَمَكُمُ اللَّهُ وَأَحْسَنَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ (2) .
قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ أَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز يحمل على ثمانين فرس فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - مَعَ كَثْرَةِ مَا تَرَكَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ - يَتَعَاطَى وَيَسْأَلُ مِنْ أَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّ عُمَرَ وكَّل ولده إلى الله عزوجل، وَسُلَيْمَانُ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يَكِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَى مَا يدعون لهم، فَيَضِيعُونَ وَتَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ فِي شَهَوَاتِ أَوْلَادِهِمْ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَتَيْتَ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ قَضَى اللَّهُ مَوْتًا دفنت في القبر الرابع مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال: والله لأن يعذبني اللَّهُ بِكُلِّ عَذَابٍ، إِلَّا النَّارَ فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَيْهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ مِنْ قَلْبِي أَنِّي لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَهْلٌ.
قَالُوا: وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ قُرَى حِمْصَ وَكَانَتْ مُدَّةُ مَرَضِهِ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: أَجْلِسُونِي فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ: إِلَهِي أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْتُ، وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ، ثَلَاثًا، وَلَكِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فأحدَّ النَّظَرَ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى حَضَرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ، ثُمَّ قُبِضَ مِنْ سَاعَتِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِهِ: اخْرُجُوا عَنِّي، فَخَرَجُوا وَجَلَسَ عَلَى الْبَابِ
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأُخْتُهُ فَاطِمَةُ، فَسَمِعُوهُ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوُجُوهِ إِنْسٍ وَلَا جَانٍّ ثُمَّ قَرَأَ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83] ثُمَّ هَدَأَ الصَّوْتُ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ غُمِّضَ وسوي إلى القبلة وقبض.
(1) وهو قول ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 / 280 وقال أن يزيد بن عبد الملك دس إليه السم مع خادم له.
وفوات الوفيات وفيه: سقاه بنو أمية السم لما شدد عليهم.
وفي الطبري 8 / 137 وابن الاثير 5 / 58 ان مرضا ألم به وكانت شكواه عشرين يوما.
ولم يذكرا إنه مات مسموماً.
(2)
انظر وصيته لابنه محمد لما حضرته الوفاة في ابن الاعثم 7 / 323.
(*)
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُضِعَ عِنْدَ قَبْرِهِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَسَقَطَتْ صَحِيفَةٌ بِأَحْسَنِ كتاب فقرأوها فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ.
فَأَدْخَلُوهَا بَيْنَ أَكْفَانِهِ وَدَفَنُوهَا مَعَهُ.
وَرُوِيَ نحو هذا من وجه آخر ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ إسماعيل بسنده عن عمير بن حبيب السُّلَمِيِّ، قَالَ: أُسِرْتُ أَنَا وَثَمَانِيَةٌ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَأَمَرَ مَلِكُ الرُّومِ بِضَرْبِ رِقَابِنَا، فَقُتِلَ أَصْحَابِي وَشَفَعَ فِيَّ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الْمَلِكِ، فَأَطْلَقَنِي لَهُ، فَأَخَذَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، وَإِذَا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علي على أَنْ يُقَاسِمَنِي نِعْمَتَهُ وَأَدْخُلَ مَعَهُ فِي دِينِهِ فَأَبَيْتُ، وَخَلَتْ بِي ابْنَتُهُ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيَّ فَامْتَنَعْتُ، فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: يَمْنَعُنِي دِينِي، فَلَا أَتْرُكُ دِينِي لِامْرَأَةٍ وَلَا لشئ.
فَقَالَتْ: تُرِيدُ الذَّهَابَ إِلَى بِلَادِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: سِرْ عَلَى هَذَا النَّجْمِ بِاللَّيْلِ وَاكْمُنْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّهُ يُلْقِيكَ إِلَى بِلَادِكَ، قَالَ: فَسِرْتُ كَذَلِكَ، قَالَ فَبَيْنَا أَنَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مكمن إذا بخيلٍ مقبلةٍ فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ فِي طَلَبِي، فَإِذَا أَنَا بِأَصْحَابِي الَّذِينَ قُتِلُوا وَمَعَهُمْ آخَرُونَ عَلَى دَوَابَّ شُهْبٍ، فَقَالُوا: عُمَيْرٌ؟ فَقُلْتُ: عُمَيْرٌ.
فقلت: لهم أو ليس قد قتلتم؟ قالوا: بلى، ولكن الله
عزوجل نَشَرَ الشُّهَدَاءَ وَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا جِنَازَةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي بَعْضُهُمْ: نَاوِلْنِي يَدَكَ يَا عُمَيْرُ، فَأَرْدَفَنِي فَسِرْنَا يَسِيرًا ثُمَّ قَذَفَ بِي قَذْفَةً وَقَعْتُ قُرْبَ مَنْزِلِي بِالْجَزِيرَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَحِقَنِي شَرٌّ.
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ أَوْصَى إِلَيَّ أن أغسله وأكفنه، فَإِذَا حَلَلْتُ عُقْدَةَ الْكَفَنِ أَنْ أَنْظُرَ فِي وجهه فأدلي، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضاً، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عَنْ وُجُوهِهِمْ فَإِذَا هِيَ مُسْوَدَّةٌ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُسَوِّي التُّرَابَ عَلَى قَبْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ سَقَطَ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ كِتَابٌ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ، سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَصْرِيِّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، لَا سِيَّمَا الْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ، وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو عَمْرٍو الشيباني لكثير (1) عزة يرثي عمر: -
(1) قال المبرد في الكامل 2 / 322: وقال رجل من خزاعة وينحله كثير يرثي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ (قَالَ أبو الحسن: الذي صح عندنا أن هذا الشعر لقطرب النحوي) .
(*)
عَمَّتْ صَنَائِعُهُ فَعَمَّ هَلَاكُهُ (1) * فَالنَّاسُ فِيهِ كُلُّهُمْ مَأْجُورُ وَالنَّاسُ مَأْتَمُهُمْ عَلَيْهِ وَاحِدٌ * فِي كُلِّ دَارٍ رَنَّةٌ وَزَفِيرُ يُثْنِي عَلَيْكَ لِسَانُ مَنْ لَمْ تُولِهِ * خَيْرًا لِأَنَّكَ بِالثَّنَاءِ جَدِيرُ رَدَّتْ صَنَائِعُهُ عَلَيْهِ (2) حَيَاتَهُ * فَكَأَنَّهُ مِنْ نَشْرِهَا مَنْشُورُ وَقَالَ جَرِيرٌ يَرْثِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله: - يَنْعَى النُّعَاةُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَنَا * يَا خَيْرَ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ وَاعْتَمَرَا حَمَلْتَ أَمْرًا عظيماً فاضطلعت به * وسرت فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ يَا عُمْرَا (1)
الشَّمْسُ كَاسِفَةٌ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ (4) * تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومُ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا وَقَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ رحمه الله يَرْثِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: - لَوْ أَعْظَمَ الْمَوْتُ خَلْقًا أَنْ يُوَاقِعَهُ * لِعَدْلِهِ لَمْ يُصِبْكَ الْمَوْتُ يَا عُمَرُ كَمْ مِنْ شَرِيعَةِ عَدْلٍ قَدْ نَعَشْتَ لَهُمْ * كَادَتْ تَمُوتُ وَأُخْرَى مِنْكَ تُنْتَظَرُ يَا لَهَفَ نَفْسِي وَلَهَفَ الْوَاجِدِينَ مَعِي * عَلَى الْعُدُولِ الَّتِي تَغْتَالُهَا الْحَفْرُ ثَلَاثَةٌ مَا رَأَتْ عَيْنِي لَهُمْ شَبَهًا * تَضُمُّ أَعْظُمَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحُفَرُ وَأَنْتَ تَتْبَعُهُمْ لَمْ تَأْلُ مُجْتَهِدًا * سُقْيًا لَهَا سُنَنٌ بِالْحَقِّ تَفْتَقِرُ لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ * تَأْتِي رَوَاحًا وَتِبْيَانًا وَتَبْتَكِرُ صَرَفْتُ عَنْ عُمَرَ الْخَيْرَاتِ مَصْرَعَهُ * بِدَيْرِ سَمْعَانَ لَكِنْ يَغْلِبُ الْقَدْرُ قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ، يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ، وَقِيلَ بَقِينَ من رجب، وقيل لعشر بقين منه، سنة إحدى وقيل ثِنْتَيْنِ وَمِائَةٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ صَلَّى عَلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقِيلَ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بن عمر بن
(1) في المبرد: جلت رزيئته فعم مصابه.
وقبله فيه: أما القبور فإنهن أوانس * بجوار قبرك والديار قبور (2) في المبرد: إليه.
(3)
البيت في كامل المبرد 1 / 403.
حملت أمرا جسيما فاصطبرت له * وقمت فيه بحق الله يا عمرا وفي العقد الفريد 2 / 281.
حملت أمراً عظيماً فاصطبرت له * وسرت فينا بحكم الله يا عمرا (4) في الكامل للمبرد والعقد: الشمس طالعة ليست بكاسفة
…
(*)