الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مُقْرِئُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِلَا مُدَافَعَةٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ، قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ
مسعود، وسبمع مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ الْقُرْآنَ بِالْكُوفَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاجِ، قَرَأَ عَلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ وَخَلْقٌ غَيْرُهُ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
أَبُو مُعْرِضٍ الْأَسَدِيُّ اسْمُهُ مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَامْتَدَحَهُ، وله شعر جيد، ويعرف بالأقطشي، وَكَانَ أَحْمَرَ الْوَجْهِ كَثِيرَ الشَّعْرِ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ سَنَةً.
بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ الْأُمَوِيُّ أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلِي إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ عَبْدِ الملك، وله دار بدمشق عند عقبة اللباب، وَكَانَ سَمْحًا جَوَادًا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ دَيْرُ مَرْوَانَ عند حجير، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ خَالِدَ بْنَ حُصَيْنٍ الْكِلَابِيَّ يوم مرج راهط، وكان لا يغلق دونه الأبواب ويقول: إنما يحتجب النِّسَاءُ، وَكَانَ طَلِيقَ الْوَجْهِ، وَكَانَ يُجِيزُ عَلَى الشِّعْرِ بِأُلُوفٍ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الْفَرَزْدَقُ وَالْأَخْطَلُ، وَالْجَهْمِيَّةُ تَسْتَدِلُّ عَلَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بِأَنَّهُ الِاسْتِيلَاءُ ببيت الأخطل: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ * مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ، فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَخْطَلُ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِ بِشْرٍ أنه وقعت القرحة في عينه فقيل له يقطعها من المفصل فجزع فما أحس حَتَّى خَالَطَتِ الْكَتِفَ، ثُمَّ أَصْبَحَ وَقَدْ خَالَطَتِ الْجَوْفَ ثُمَّ مَاتَ، وَلَمَّا احْتَضَرَ جَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ عَبْدًا أَرْعَى الْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَلَمْ أَلِ مَا وُلِيتُ، فَذُكِرَ قَوْلُهُ لِأَبِي حَازِمٍ - أَوْ لسعيد بن المسيب -، فقال: الحمد الله الَّذِي جَعَلَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يَفِرُّونَ إِلَيْنَا وَلَمْ يَجْعَلْنَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ، إِنَّا لَنَرَى فِيهِمْ عِبَرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَتَمَلْمَلُ عَلَى سَرِيرِهِ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ، وَالْأَطِبَّاءُ حَوْلَهُ.
مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ مَاتَ بِهَا، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ الشُّعَرَاءَ أَنْ يَرْثُوهُ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خمس وسبعين
فَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ - أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ - صائفة الروم
حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْعَشٍ، وَفِيهَا وَلَّى عبد الملك نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ لِيَحْيَى بْنِ [الْحَكَمِ بْنِ](1) أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ عَمُّهُ، وَعَزَلَ عَنْهَا الْحَجَّاجَ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ نِيَابَةَ العراق والبصرة وَالْكُوفَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ، وذلك بعد موت يخيه بشر، فَرَأَى عَبْدَ الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا يَسُدُّ عَنْهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ غَيْرُ الْحَجَّاجِ لِسَطْوَتِهِ وَقَهْرِهِ وَقَسْوَتِهِ وشهامته، فكتب إليه وهو بالمدينة ولاية الْعِرَاقِ، فَسَارَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي اثني عشر راكباً، فدخل الكوفة عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ من أهلها وكان تحتهم النَّجَائِبِ، فَنَزَلَ قَرِيبَ الْكُوفَةِ فَاغْتَسَلَ وَاخْتَضَبَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ وَأَلْقَى عَذَبَةَ الْعِمَامَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ، وَذَلِكَ يوم الجمعة وقد أذن المؤذن الأول لصلاة الجمعة، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ طَوِيلًا، وَقَدْ شَخَصُوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ وَتَنَاوَلُوا الحصى ليحذفوه بِهَا، وَقَدْ كَانُوا حَصَبُوا الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، فَلَمَّا سَكَتَ أَبْهَتَهُمْ وَأَحَبُّوا أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ (2) مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، ومساوي الْأَخْلَاقِ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرُكُمْ لَيَهُمُّنِي قَبْلَ أَنْ آتَى إِلَيْكُمْ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ أن يبتليكم بي، ولقد سقط مني البارحة سوطي الذي أؤدبكم بِهِ، فَاتَّخَذْتُ هَذَا مَكَانَهُ - وَأَشَارَ إِلَى سَيْفِهِ -، ثم قال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم، ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة.
فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَهُ جَعَلَ الْحَصَى يَتَسَاقَطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقِيلَ إِنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي شَهْرِ رمضان ظُهْرًا فَأَتَى الْمَسْجِدَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ مُتَلَثِّمٌ بِطَرَفِهَا، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بالناس! فظنه النَّاسُ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ فَهَمُّوا بِهِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ اللثام وَقَالَ: أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا * مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي (3) ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إني لأحمل الشئ (6) بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزمه (5) بفتله، وإني لارى
(1) من الطبري 7 / 210.
(2)
في الطبري وابن الاثير: فلما كان اليوم الثالث (قام فخطبهم) .
وفي الكامل للمبرد 1 / 158: وخطب الحجاج بن يوسف ذات يوم جمعة.
وفي البيان والتبيين للجاحظ: دخل الكوفة فجأة فبدأ بالمسجد فدخله.
(3)
البيت لسحيم بن وثيل الرياحي.
- قوله ابن جلا: هو الصبح لانه يجلو الظلمة.
طلاع الثنايا: العارف بالامور والشديد المجرب والثنايا أيضا: ما صغر من الجبال ونتأ.
وفي الفتوح 7 / 5 والعقد الفريد 4 / 180 زادا أبياتا: صليب العود من سلفي نزار * كنصل السيف وضاح الجبين وماذا يبتغي الاقران مني * وقد جاوزت حد الاربعين أخو الخمسين مجتمع اشدي * وهمي في مداواة الشؤون وإني لن يعود إلي قرني * غداة الروع إلا بعد حين (4) في البيان والتبيين 2 / 224 وابن الاثير 4 / 375 والطبري 7 / 210: الشر.
(*)
رؤوساً قد أينعت وآن (1) اقتطافها، إني لَأَنْظُرُ إِلَى الدِّمَاءِ تَتَرَقْرَقُ بَيْنَ الْعَمَائِمِ وَاللِّحَى.
قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشَمِّرِي ثُمَّ أَنْشَدَ: - (2) هذا أو إن الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيمْ * قَدْ لفَّها اللَّيْلُ بسوَّاق حطمْ (3) لست براعي إبل ولاغنم * ولا بجزَّارٍ على ظهرٍ وضمْ (4)[ثم قال](5) قَدْ لفَّها اللَّيْلُ بعصلبيِّ (6) أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِّيِّ مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ ثمَّ قَالَ: إِنِّي والله يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أُغمز بِغِمَازٍ (7) ، وَلَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَلَقَدْ فُرِرْتُ عَنْ ذُكاء (8) وجربت (9) من الْغَايَةِ الْقُصْوَى، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ نَثَرَ كِنَانَتَهُ ثُمَّ عَجَمَ عِيدَانَهَا عُودًا عُودًا فَوَجَدَنِي أَمَرَّهَا عُودًا وَأَصْلَبَهَا مَغْمِزًا (10) فوجهني إليكم، فأنتم طالما رتعتم (11) في أودية
الفتن، وسلكتم سبيل الغي (12) ، واخترتم جدد الضلال (13) ، أما والله لألحونَّكم لحي العود،
(5) في المراجع السابقة: وأجزيه بمثله.
(1)
في المراجع: حان، وزاد في مروج الذهب: 3 / 154: أني والله لأرى أبصارا طامحة، وأعناقا متطاولة، ورؤوسا
…
(2) الابيات من الرجز وهي منسوبة لروشيد بن رميض العنبري.
(3)
قوله فاشتدي زيم: هو اسم للحرب.
والحطم: الذي يحطم كل ما مرَّ به.
(4)
وضم: ما وقي به اللحم عن الارض.
(5)
استدرك من المراجع.
(6)
- العصلبى: الشديد.
(7)
في المراجع السابقة: لا أغمز كتغماز التين.
(8)
فر: كشف عن اسنانه ليعرف عمره.
ذكاء: نهاية الشباب.
(9)
في الطبري وابن الاثير: وجريت إلى الغاية القصوى، وفى البيان والتبيين: وفتشت عن تجربة، وجريت من الغاية.
(10)
في البيان والتبيين: وأصلبها عمودا، وفي الكامل للمبرد والطبري وابن الاثير: وأصلبها مكسرا، وعجم عيدانها: يعني عضها واختبرها.
(11)
في الطبري والكامل للمبرد والبيان والتبيين وابن الاثير: أوضعتم.
والايضاع: السير بين القوم.
(12)
في الطبري والبيان والتبيين وابن الاثير: وسننتم سنن الغي.
وفي مروج الذهب: طالما سعيتم في الضلالة وسلكتم سبيل الغواية وسننتم سنن السوء وتماديتم في الجهالة.
(13)
في الكامل للمبرد، والبيان والتبيين: واضطجعتم في مراقد الضلال.
(*)
وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلَمَةِ، (1) وَلَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الْإِبِلِ (2) ، إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعِدُ إِلَّا وَفَيْتُ، وَلَا أَخْلُقُ إِلَّا فَرَيْتُ (3) ، فَإِيَّايَ وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ وَقِيلًا وَقَالًا، وَاللَّهِ لَتَسْتَقِيمُنَّ عَلَى سَبِيلِ
الْحَقِّ أَوْ لَأَدَعَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ شُغْلًا فِي جَسَدِهِ.
ثُمَّ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ مِنْ بَعْثِ الْمُهَلَّبِ - يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا عَنْهُ لَمَّا سَمِعُوا بِمَوْتِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا تَقَدَّمَ - سَفَكْتُ دَمَهُ وَانْتَهَبْتُ مَالَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، ويقال إنه لما صعد المنبر واجمتمع النَّاسُ تَحْتَهُ أَطَالَ السُّكُوتَ حَتَّى إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى وَأَرَادَ أَنْ يَحْصِبَهُ بِهَا، وَقَالَ: قَبَّحَهُ اللَّهُ مَا أَعْيَاهُ وَأَذَمَّهُ! فَلَمَّا نَهَضَ الْحَجَّاجُ وَتَكَلَّمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ جَعَلَ الْحَصَى يَتَنَاثَرُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، لِمَا يَرَى مِنْ فصاحته وبلاغته.
ويقال أنه قَالَ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ (4) : شَاهَتِ الْوُجُوهُ إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ (مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112] وأنتم أولئك فاستووا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تذروا، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصَبَ السَّلَمَةِ حَتَّى تَنْقَادُوا، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقْبِلُنَّ عَلَى الْإِنْصَافِ وَلَتَدَعُنَّ الْإِرْجَافَ وَكَانَ وَكَانَ، وأخبرني فلان عن فلان، وإيش الخبر وَمَا الْخَبَرُ، أَوْ لَأَهْبُرَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ هَبْرًا يَدَعُ النِّسَاءَ أَيَامَى وَالْأَوْلَادَ يَتَامَى، حَتَّى تَمْشُوا السُّمَّهي (5) وتقلعوا عن هاوها.
فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ بَلِيغٍ غَرِيبٍ يَشْتَمِلُ عَلَى وَعِيدٍ شَدِيدٍ لَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ بِخَيْرٍ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَمِعَ تَكْبِيرًا فِي السُّوقِ فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، ومساوي الْأَخْلَاقِ، إِنِّي سَمِعْتُ تَكْبِيرًا فِي الْأَسْوَاقِ لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّرْغِيبُ، وَلَكِنَّهُ تَكْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ التَّرْهِيبُ.
وَقَدْ عَصَفَتْ عَجَاجَةٌ تَحْتَهَا قَصْفٌ، يَا بَنِي اللَّكِيعَةِ وَعَبِيدَ الْعَصَا وَأَبْنَاءَ الْإِمَاءِ وَالْأَيَامَى، أَلَا يَرْبَعُ كُلُّ رِجْلٍ مِنْكُمْ على ظلمه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه، فأقسم بالله لا وشك أَنْ أُوقِعَ بِكُمْ وَقْعَةً تَكُونُ نَكَالًا لِمَا قبلها وأدباً لما بعدها.
قال فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ ثُمَّ الحنظلي فقال: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ أَنَا فِي هَذَا الْبَعْثِ
(1) في الكامل للمبرد: لاحزمنكم حزم السلمة، والمعنى واحد.
(2)
بعدها في ابن الاثير: حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولاقرعنكم قرع المروة حتى تلينوا.
(3)
أخلق: الخلق التقدير.
ويقال فريت الاديم إذا أصلحته.
(4)
انظر الخطبة وبعض زيادة في ابن الاثير 4 / 376 الكامل للمبرد 1 / 224 والبيان والتبيين 2 / 224 مروج المذهب
3 / 155 وفتوح ابن الاعثم 7 / 5 - 9 (5) السهمى: الباطل، وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال فيه أبو النجم العجلي: وذاب للشمس لعاب فنزل * وقام ميزان الزمان فاعتدل (*)
وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَعَلِيلٌ: وَهَذَا ابْنِي هُوَ أشب مني.
قال: ومن أنت؟ قال عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَسَمِعْتَ كَلَامَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي غَزَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانَ حَبَسَ أَبِي وكان شيخاً كبيراً، قال أو ليس هُوَ الَّذِي يَقُولُ: هممتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وليتني * فعلت وولَّيتُ البكاء حلائلا (1) ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ: إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ فِي قَتْلِكَ صَلَاحُ الْمِصْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قُمْ إِلَيْهِ يَا حَرَسِيُّ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فضرب عنقه وانتهب ماله، وأمر منادياً فنادى فِي النَّاسِ أَلَا أنَّ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ تَأَخَّرَ بَعْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ ثَلَاثًا فَأُمِرَ بِقَتْلِهِ، فَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى ازْدَحَمُوا عَلَى الْجِسْرِ فَعَبَرَ عَلَيْهِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمُ الْعُرَفَاءُ حَتَّى وَصَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ كِتَابًا بِوُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَدِمَ الْعِرَاقَ وَاللَّهِ رَجُلٌ ذَكَرٌ، الْيَوْمَ قُوتِلَ الْعَدُوُّ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَّاجُ لَمْ يَعْرِفْ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ حَتَّى قَالَ لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ! إِنَّ هَذَا جاء إلى عثمان بعد ما قُتِلَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ (2) ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِ.
وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَقَرَّ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحًا ثُمَّ رَكِبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا يَعْفُورَ، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَقَرَّ عَمَّهُ يَحْيَى عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ أنَّه لَمَّا رَكِبَ مِنْ الْكُوفَةِ بَعْدَ قَتْلِ عُمَيْرِ بن ضابئ قام في أهل البصرة فخطبهم نظير ما خطب أهل الكوفة من الوعيد والتشديد وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ، ثُمَّ أُتي بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي يشكر (3) فقيل هذا عاص، فقال: إن بي فتقاً وقد عذرني الله وعذرني بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ،
وَهَذَا عَطَائِي مَرْدُودٌ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، فَفَزِعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَخَرَجُوا مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى اجْتَمَعُوا عِنْدَ قَنْطَرَةِ رَامَهُرْمُزَ.
وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْحَجَّاجُ - وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - فِي أُمَرَاءِ الجيش فاقتتلوا هناك قتالاً شديداً، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَارُودِ فِي رؤوس من القبائل معه، وأمر برؤوسهم فقطعت ونصبت عند الجسر من رامهرمز، ثم بعت بها إلى المهلب فقوي بذلك وضعف أمير الْخَوَارِجِ، وَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْمُهَلَّبِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ فَأَمَرَهُمَا بِمُنَاهَضَةِ الْأَزَارِقَةِ، فَنَهَضَا بِمَنْ مَعَهُمَا إِلَى الْخَوَارِجِ الْأَزَارِقَةِ فَأَجْلَوْهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ مِنْ رَامْهُرْمُزَ بِأَيْسَرِ قِتَالٍ، فَهَرَبُوا إِلَى أَرْضِ كَازَرُونَ مِنْ إِقْلِيمِ سَابُورَ، وَسَارَ النَّاسُ وَرَاءَهُمْ
(1) في إبن الاثير: تركت على عثمان تبكي حلائله.
(2)
في مروج الذهب 3 / 157: كسر ضلعاً من أضلاعه.
(3)
في ابن الاثير 4 / 380: هو شريك بن عمرو اليشكري.
ولقب ذا الكرسفة.
(*)
فالتقوا في العشر الأواخر (1) مِنْ رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَ الْخَوَارِجُ الْمُهَلَّبَ مِنَ اللَّيْلِ فَوَجَدُوهُ قَدْ تَحَصَّنَ بِخَنْدَقٍ حول معسكره، فجاؤوا إلى عبد الرحمن بن مخنف فوجوده غَيْرَ مُحْتَرِزٍ - وَكَانَ الْمُهَلَّبُ قَدْ أَمَرَهُ بِالِاحْتِرَازِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ - فَاقْتَتَلُوا فِي اللَّيْلِ فَقَتَلَتِ الْخَوَارِجُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ وَطَائِفَةً مِنْ جَيْشِهِ وَهَزَمُوهُمْ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَيُقَالُ إِنَّ الْخَوَارِجَ لَمَّا الْتَقَوْا مَعَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الوقعة كان ذلك في يوم الأربعاء لعشرين بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى جيش المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى معسكره، فجعل عبد الرحمن يَمُدُّهُ بِالْخَيْلِ بَعْدَ الْخَيْلِ، وَالرِّجَالِ بَعْدَ الرِّجَالِ، فمالت الخوارج إلى معسكر عبد الرحمن بَعْدَ الْعَصْرِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيل، وَقُتِلَ مَعَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ جَاءَ الْمُهَلَّبُ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِمَهْلِكِهِ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعَزِيهِ فِيهِ فَنَعَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى النَّاسِ بِمِنًى، وَأَمَّرَ الْحَجَّاجُ مَكَانَهُ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُهَلَّبَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طاعة الحجاج، وكره أن يخالفه، فَسَارَ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَجَعَلَ لَا
يُطِيعُهُ إِلَّا ظَاهِرًا وَيَعْصِيهِ كَثِيرًا، ثُمَّ تَقَاوَلَا فَهَمَّ الْمُهَلَّبُ أَنْ يُوقِعَ بِعَتَّابٍ ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمَا النَّاسُ، فكتب عتاب إلى الحجاج يشكوا الْمُهَلَّبَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقَدَمَ عَلَيْهِ وَأَعْفَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْمُهَلَّبُ مَكَانَهُ ابْنَهُ حَبِيبَ بْنَ الْمُهَلَّبِ.
وَفِيهَا خَرَجَ دَاوُدُ بْنُ النُّعْمَانِ المازني بنواحي البصرة، فوجه إليه الحجاج أمير اعلى سِرِّيَّةٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ الصُّفْرِيَّةِ (2) ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الصُّفْرِيَّةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَعَهُ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ، وَالْبَطِينُ وَأَشْبَاهُهُمْ من رؤوس الْخَوَارِجِ، وَاتَّفَقَ حَجُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَهَمَّ شَبِيبٌ بِالْفَتْكِ بِهِ، فَبَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ ذلك من خبره بعد انصرافه من الحج، فكتب عبد الملك إلى الحجاج أَنَّ يَتَطَلَبَهُمْ، وَكَانَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ هَذَا يُكْثِرُ الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْإِقَامَةَ بِهَا، وَكَانَ له جماعة يلوذون به ويعتقدونه، من أهل دارا وأرض الموصل، وكان يعلمهم القرآن وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ وَكَانَ مُصْفَرًّا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَكَانَ إِذَا قَصَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي على رسوله، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي الآخرة، ويحث على ذكر الموت ويترحم عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِمَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ عُثْمَانَ فيه وَيَنَالُ مِنْهُ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ مِنْ فَجَرَةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ يَحُضُّ أصحابه على الخروج مع الخوارج للأمر
(1) في الطبري 7 / 215: في أول رمضان وفي رواية فيه: وفي ابن الاثير لعشر بقين من رمضان يوم الاربعاء.
(2)
قال في الفرق بين الفرق ص 61: هؤلاء أتباع زياد بن الاصفر وقولهم في الجملة كقول الازارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون، وكل ذنب ليس فيه حد، وان المؤمن المذنب يفقد اسم الايمان في الوجهين جميعا.
والصفرية يقولون بموالاة عبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير واتباعهما من المحكمة الاولى.
(*)
بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وإنكار ما قَدْ شَاعَ فِي النَّاسِ وَذَاعَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ القتل في طلب ذلك، ويذم الدنيا ذماً بالغاً، ويصغر أمرها ويحقره، فالتفت عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ يَسْتَبْطِئُهُ فِي الْخُرُوجِ وَيَحُثُّهُ عليه ويندب إِلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ شَبِيبٌ عَلَى صَالِحٍ وَهُوَ بِدَارَا
فَتَوَاعَدُوا وَتُوَافَقُوا عَلَى الْخُرُوجِ فِي مُسْتَهَلِّ صفر من هذه السَّنَةِ الْآتِيَةِ - وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ - وَقَدِمَ على صالح شبيب وأخوه مصاد والمجلل وَالْفَضْلُ بْنُ عَامِرٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبْطَالِ وَهُوَ بِدَارَا نَحْوُ مِائَةٍ وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، ثُمَّ وَثَبُوا عَلَى خَيْلٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ فَأَخَذُوهَا ونفروا بِهَا ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمَرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ما كان، كما سنذكره في هذه السنة التي بعدها إن شاء الله تعالى.
وكان ممن توفي فيها فِي قَوْلِ أَبِي مُسْهِرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ: الْعِرْبَاضُ بن سارية رضي الله عنه السُّلَمِيُّ أَبُو نَجِيحٍ سَكَنَ حِمْصَ وَهُوَ صَحَابِيٌّ جليل، أسلم قديما هو عمرو بن عنبسة وَنَزَلَ الصُّفَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَهُمْ عِنْدَ قوله (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) [التوبة: 92] الآية.
وكانوا تسعة (1) وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ (خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وذرفت منها العيون) الحديث إلى آخره.
ورواه أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (كَانَ يُصَلِّي عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثًا وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدَةً) وَقَدْ كَانَ الْعِرْبَاضُ شَيْخًا كَبِيرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي وَوَهَنَ عَظْمِي فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، وَرَوَى أَحَادِيثَ.
أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَغَزَا حُنَيْنًا وَكَانَ مِمَّنْ نَزَلَ الشَّامَ بِدَارَيَّا غَرْبِيِّ دِمَشْقَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ بِبَلَاطِ قَرْيَةٍ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَالْأَشْهُرُ مِنْهَا جُرْثُومُ بْنُ نَاشِرٍ، وَقَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمَكْحُولٌ الشَّامِيُّ وَأَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، وَكَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يَخْرُجُ فَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَتَفَكَّرُ ثمَّ يَرْجِعُ إِلَى المنزل فيسجد لله عزوجل، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا يَخْنُقَنِي اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَرَاكُمْ تَخْتَنِقُونَ، فَبَيْنَمَا هو ليلة يصلي من الليل إذا قُبِضَتْ رُوحُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ.
وَرَأَتِ ابْنَتُهُ فِي
(1) قالوا: نزلت في عرباض بن سارية، وقيل نزلت في عائذ بن عمرو، وقيل نزلت في بني مقرن وكانوا سبعة أخوة وعلى هذا جمهور المفسرين (تفسير القرطبي 8 / 228) .
وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى وهم البكاؤون أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم فلم يجد ما يحملهم عليه
…
فمسوا البكائين وهم: سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف، وعلبة بن زيد أخو حَارِثَةَ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ من بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ، وعبد الله بن مغفل الْمُزَنِيُّ، وَهَرَمِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخُو بَنِي واقف، وعرياض بن سارية الفزاري.
(*)