الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ ثِقَةً وَكَانَ بِهِ صَمَمٌ وَوَضَحٌ كَثِيرٌ، وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ قَبْلَ أو يموت.
عبد الله بن عامر بن ربيعة.
عمرو بن حريث.
عمرو بن سلمة.
واثلة بن الأسقع.
شَهِدَ وَاثِلَةُ تَبُوكَ ثُمَّ شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ وَنَزَلَهَا، وَمَسْجِدُهُ بِهَا عِنْدَ حَبْسِ بَابِ الصَّغِيرِ من القبلة.
قلت: وقد احترق مسجده في
فتنة تمر لنك ولم يبق منه إلا رسومه، وعلى بابه من الشرق قناة ماء.
خالد بن يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِفُنُونِ الْعِلْمِ، وَلَهُ يَدٌ طُولَى فِي الطِّبِّ، وَكَلَامٌ كَثِيرٌ فِي الْكِيمْيَاءِ، وَكَانَ قد استفاد ذلك من راهب اسمه مريانش (1) ، وكان خالد فصيحاً بليغاً شاعراً منطقياً كَأَبِيهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مروان بحضرة الحكم بن أبي العاص، فشكى إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَهُ الْوَلِيدَ يَحْتَقِرُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أذلة)[النَّمْلِ: 34] فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 16] فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ أَخُوكَ عَبْدُ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ، فَقَالَ خَالِدٌ: وَالْوَلِيدُ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ، فَقَالَ خَالِدٌ: وَأَنَا أَخُو عَبْدِ اللَّهِ لَا أَلْحَنُ، فَقَالَ الْوَلِيدُ - وَكَانَ حَاضِرًا - لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ: اسْكُتْ، فَوَاللَّهِ مَا تُعَدُّ فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ، فَقَالَ خَالِدٌ: اسْمَعْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! ثُمَّ أَقْبَلَ خَالِدٌ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَمَا هُوَ الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ غَيْرُ جِدِّي أَبِي سُفْيَانَ صَاحِبِ الْعِيرِ، وَجَدِّي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ صَاحِبِ النَّفِيرِ، وَلَكِنْ لو قلت غنيمات وجبيلات وَالطَّائِفُ، وَرَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ، لَقُلْنَا صَدَقْتَ - يَعْنِي أَنَّ الْحَكَمَ كَانَ مَنْفِيًّا بِالطَّائِفِ يَرْعَى غَنَمًا ويأوي إلى جبلة (2) الْكَرَمِ حَتَّى آوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حِينَ وَلِيَ - فَسَكَتَ الْوَلِيدُ وَأَبُوهُ وَلَمْ يُحِيرَا جَوَابًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وثمانين
فَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ نَائِبُ الْحَجَّاجِ عَلَى مَرْوٍ وَخُرَاسَانَ، بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَرْضِ التُّرْكِ
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ وتسلم قلاعاً وحصوناً وممالك، تم قَفَلَ فَسَبَقَ الْجَيْشَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ قَاصِدًا بِلَادَ الْعَدُوِّ فَكُنْ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَإِذَا قَفَلْتَ رَاجِعًا فَكُنْ فِي سَاقَةِ الْجَيْشَ - يَعْنِي لِتَكُونَ رَدْءًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَغَيْرِهِمْ بِكَيْدٍ - وَهَذَا رَأْيٌ حَسَنٌ وعليه جاءت السنة، وكان في السَّبْيِ امْرَأَةُ بَرْمَكَ (3) - وَالِدِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ -
(1) أنظر في ذلك: الفهرست لابن النديم ص 497 ووفيات الاعيان 2 / 224 وتهذيب ابن عساكر: 5 / 116.
ومفتاح السعادة 1 / 318 - 319 وفي الاعلام 1 / 300 قال: شك ابن الأثير في بعض نواحي علمه فقال: " يقال
إنه أصاب علم الكيمياء ولا يصح ذلك لاحد ".
وقال دي مييلي في كتابه العلم عند العرب (الترجمة العربية ص 99) في الحديث عن صلة خالد بالعلوم القديمة: (وليس ذلك كله إلا اسطورة محضا على الاخص ما ذكروه من تبحره في علم الصنعة) أي الكيمياء.
(2)
في وفيات الاعيان 2 / 226 حبيلة وهي الكرمة.
(3)
وكان برمك طبيبا وهو كبير سدنة النوبهار وهو بيت النار في بلخ والذي تقدره المجوس.
(*)
جُمَحَ فَيَقُولُ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هذا لا تخذنه حَنَانًا (1) .
قُلْتُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ وَرَقَةَ تُوُفِّيَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ إِنَّمَا كَانَ بعد نزول (يَا أيُّها المدَّثر) فكيف يمر ورقة ببلال، هو يُعَذَّبُ وَفِيهِ نَظَرٌ (2) .
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُرُورَ أَبِي بَكْرٍ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ، فَاشْتَرَاهُ مِنْ أُمَيَّةَ بِعَبْدٍ لَهُ أَسْوَدَ فَأَعْتَقَهُ وَأَرَاحَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَذَكَرَ مُشْتَرَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، مِنْهُمْ بِلَالٌ، وَعَامِرُ بْنُ فهيرة، وأم عميش (3) الَّتِي أُصِيبَ بَصَرُهَا ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لها، والنهدية وابنتها اشتراها مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بَعَثَتْهُمَا سَيِّدَتُهُمَا تَطْحَنَانِ لَهَا فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ لَهُمَا: وَاللَّهِ لَا أعتقكما أبداً فقال أبو بكر: حل يا أم فلان، فقالت حل أَنْتَ أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا، قَالَ فَبِكَمْ هُمَا؟ قَالَتْ بِكَذَا وَكَذَا.
قَالَ قَدْ أَخَذْتُهُمَا وَهُمَا حُرَّتَانِ، أَرْجِعَا إِلَيْهَا طَحِينَهَا.
قَالَتَا: أَوْ نَفْرَغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ نَرُدُّهُ إِلَيْهَا؟ قَالَ: [أو] ذَلِكَ إِنْ شِئْتُمَا.
وَاشْتَرَى جَارِيَةً بَنِي مُؤَمَّلٍ - حَيٌّ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ - كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ بعض أهله.
قال قال أبو قحافة لابنه أبي بَكْرٍ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَاكَ تَعْتِقُ ضِعَافًا، فَلَوْ أَنَّكَ إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ رجالاً جلداء يمنعنونك وَيَقُومُونَ دُونَكَ؟ قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا أبة إني إنما أريد ما أريد.
قال: فتحدث أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا فِيهِ وَفِيمَا قَالَ أَبُوهُ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (4) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ، رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو
بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ الله بعمه [أبي طالب] ، وَأَبُو بَكْرٍ مَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
وَرَوَاهُ الثَّوريّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مرسلاً (5) .
(1) أي لاجعلن قبره موضع حنان فاتمسح به متبركا.
(2)
وقد تقدم التعليق حول وفاة ورقة بعد فترة الوحي، كما جاء في البخاري، وأن ورقة لم يبق إلى إسلام بلال.
فليراجع في مكانه من هذا الجزء.
(3)
كذا في الأصول: وفي ابن هشام: أم عبيس، وان التي أصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر هي زنيرة - كما عند ابن هشام - فقالت قريش عند ذلك: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى.
فقالت: كذبوا وبيت الله، فرد الله بصرها.
(راجع ترجمتها في الاستيعاب لابن عبد البر على هامش الاصابة 4: 322 والاصابة ج 4 / 311) .
(4)
الخبر في سيرة ابن هشام 1 / 339 - 341 340.
(5)
أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 284 وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
وأخرجه أبو نعيم في حلية الاولياء 1 / 149 وابن عبد البر في الاستيعاب.
(*)
وَكَانَ مَوْلِدُهُ وَمَوْلِدُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْفُقَهَاءِ (1) الْمُلَازِمِينَ للمجسد التَّالِينَ لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ.
وَكَانَتْ أَسْنَانُهُ مُشَبَّكَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ أَفْوَهَ مَفْتُوحَ الْفَمِ، فَرُبَّمَا غَفَلَ فَيَنْفَتِحُ فَمُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّبَابُ، وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ أبو الذباب.
وَكَانَ أَبْيَضَ رَبْعَةً لَيْسَ بِالنَّحِيفِ وَلَا الْبَادِنِ، مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ أَشْهَلَ كَبِيرَ الْعَيْنَيْنِ دَقِيقَ (2) الْأَنْفِ مُشْرِقَ الْوَجْهِ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ حَسَنَ الْوَجْهِ لم يخضب، ويقال إنه خضب بعد.
وَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا شَابٌّ أَشَدَّ تَشْمِيرًا وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: كَانَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةً سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ، وقبيصة بن ذويب، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِمَارَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدَ النَّاسُ أَبْنَاءً وَوَلَدَ مَرْوَانُ أَبًا - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ - وَرَآهُ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كُنْتُ أُجَالِسُ بريدة بن الحصيب فقال لي يوماً: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ إِنَّ فِيكَ خِصَالًا، وَإِنَّكَ لِجَدِيرٌ أَنْ تَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاحْذَرِ الدِّمَاءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ باب الجنة بعد أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا عَلَى مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ يُرِيقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ".
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ الزبيري: عن مالك، عن يحيى بن سعيد بن داود الزبيري قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَفِتْيَانٌ مَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا جَالَسْتُ أَحَدًا إِلَّا وَجَدْتُ لِي الْفَضْلَ عَلَيْهِ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني منه، وَلَا شِعْرًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ.
وَذَكَرَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ وهو نائبه عن الْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ أَنِ ابْعَثِ ابْنَكَ عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى بَعْثِ الْمَدِينَةِ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ، فَذَكَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ وَغِنَائِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَجْلَى بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ هُنَالِكَ، فَقَدِمَ مَعَ أَبِيهِ الشَّامَ، ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الْإِمَارَةُ مَعَ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ أَقَامَ فِي الْإِمَارَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبير سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمَّا سُلِّمَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَانَ فِي حِجْرِهِ مصحف فأطبقه
(2) انظر في مقام عبد الملك في الفقه طبقات الفقهاء للشيرازي ص 62.
(2)
في فوات الوفيات 2 / 403: مشرف.
(*)
وَقَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ (1) .
وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: صُنِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ مَجْلِسٌ تُوُسِّعَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ بُنِيَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ قَبْلَ ذلك، فدخله وقال: لقد كان حثمة الأحوازي - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - يَرَى أَنَّ هَذَا عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمُصْحَفَ مِنْ حِجْرِهِ قَالَ: هَذَا آخَرُ الْعَهْدِ مِنْكَ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَهُ إِقْدَامٌ عَلَى سَفْكِ الدماء، وَكَانَ حَازِمًا فَهِمًا فَطِنًا سَائِسًا لِأُمُورِ الدُّنْيَا، لَا يَكِلُ أَمْرَ دُنْيَاهُ إِلَى غَيْرِهِ وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبُوهَا مُعَاوِيَةُ هُوَ الَّذِي جَدَعَ أَنْفَ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبير خَرَجَ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ: اللَّهُمَّ احْجِزْ بَيْنَ هَذَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وولِ الْأَمْرَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْكَ.
فظفر عبد الملك - وقد كان مصعب من أعز الناس على عَبْدُ الْمَلِكِ - وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا بُويِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ! سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) [النساء: 86] لَا أحد والسلام (2) .
وبعث به مع سلام فَوَجَدُوا عَلَيْهِ إِذْ قدَّم اسْمَهُ عَلَى اسْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فِي كُتُبِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ، فَاحْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ الواقدي: حدثني ابن أبي ميسرة عن أبي موسى الخياط عن أبي كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يَقُولُ: يا أهل المدينة أنا أحق النَّاس أن يلزم الأمر الأول، وَقَدْ سَالَتْ عَلَيْنَا أَحَادِيثُ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْمَشْرِقِ وَلَا نَعْرِفُهَا وَلَا نَعْرِفُ مِنْهَا إِلَّا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَالْزَمُوا مَا فِي مُصْحَفِكُمُ الَّذِي حملكم عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمَظْلُومُ، وَعَلَيْكُمْ بِالْفَرَائِضِ الَّتِي جَمَعَكُمْ عَلَيْهَا إِمَامُكُمُ الْمَظْلُومُ رحمه الله، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَنِعْمَ الْمُشِيرُ كَانَ لِلْإِسْلَامِ رحمه الله، فَأَحْكِمَا مَا أحكما، واستقصيا مَا شَذَّ عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَامَيْنِ (3)، فَخَطَبَنَا فَقَالَ: أمَّا بَعْدُ فإنَّه كَانَ مَنْ قَبْلِي من الخلفاء يأكلون من المال
ويوكلون، وإنِّي وَاللَّهِ لَا أُدَاوِي أَدْوَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلا بالسيف (4) ، ولست بالخليفة المستضعف - يعني
(1) تاريخ بغداد 10 / 388.
(2)
في العقد الفريد نسخة كتاب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك 2 / 262 وفيه: لعبد الملك بن مروان من عبد الله بن عمر سلام عليك فإني اقررت لك بالسمع والطاعة على سنة اللَّهِ وسنَّة رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وبيعة نافع مولاي على مثل ما بايعتك عليه.
(3)
في فوات الوفيات 2 / 403: ولما قتل عمرو بن سعيد بن العاص خطب الناس فقال: (انظر العقد الفريد 2 / 263) .
(4)
زيد في فوات الوفيات: حتى تستقيم لي قناتكم، تكلفوننا أعمال المهاجرين الاولين وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ أعمالهم، فلن تزدادوا إلا اجتراحا ولن تزدادوا إلا عقوبة وهذا حكم السيف بيننا وبينكم.
(*)
عُثْمَانَ - وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمُدَاهِنِ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ - وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمَأْبُونِ - يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ - أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نحتمل منكم كل الغرمة مَا لَمْ يَكُنْ عَقْدَ رَايَةٍ أَوْ وَثَوْبٍ عَلَى مِنْبَرٍ: هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ حَقُّهُ حقه، قرابته وابنه، قَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا فَقُلْنَا بِسَيْفِنَا هَكَذَا، وَإِنَّ الْجَامِعَةَ الَّتِي خَلَعَهَا مِنْ عُنُقِهِ عِنْدِي، وَقَدْ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لَا أَضَعَهَا فِي رَأْسِ أَحَدٍ إِلَّا أَخْرَجَهَا الصُّعَدَاءَ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ سَلْمِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
قَالَ: رَكِبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ (1) بَكْرًا فَأَنْشَأَ قَائِدُهُ يَقُولُ: - يَا أَيُّهَا الْبَكْرُ الَّذِي أَرَاكَا * عَلَيْكَ سَهْلُ الْأَرْضِ فِي مَمْشَاكَا (2) وَيْحَكَ هَلْ تَعْلَمُ مَنْ عَلَاكَا * خَلِيفَةُ اللَّهِ الَّذِي امْتَطَاكَا لَمْ يَحْبُ بَكْرًا مِثْلَ مَا حَبَاكَا فَلَمَّا سَمِعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ: إِيْهًا يَا هَنَاهُ، قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَصِرَ فَقَالَ: إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّا نَسْكُتُ حَصْرًا وَلَا نَنْطِقُ هَذْرًا، وَنَحْنُ أُمَرَاءُ الْكَلَامِ، فِينَا رَسَخَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَدَلَّتْ أَغْصَانُهُ، وَبَعْدَ مَقَامِنَا هَذَا مَقَامٌ،
وَبَعْدَ عِيِّنَا هَذَا مَقَالٌ، وَبَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا أَيَّامٌ، يُعْرَفُ فِيهَا فَصْلُ الْخِطَابِ وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيب، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا وَأَنَا أَعْرِضُ عَقْلِي عَلَى النَّاس فِي كُلِّ جُمْعَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ وَقَالَ غَيْرُهُ قِيلَ لعبد الملك: أسرع إليك الشَّيب، فقال: وتنسى ارْتِقَاءِ الْمِنْبَرِ وَمَخَافَةُ اللَّحْنِ؟ وَلَحَنَ رَجُلٌ عِنْدَ عبد الملك - يعني أسقط من كلامه ألفاً - فقال له عبد الملك زد ألف، فقال الرجل: وَأَنْتَ فَزِدْ أَلِفًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ غَيْرَ غَالٍ فِيهِ وَلَا جَافٍّ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُسَايِرُهُ فِي سَفَرِهِ: إِذَا رُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ، سَبِّحُوا بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ تِلْكَ الشجرة، كبروا بنا حتى نأتي تلك الحجرة، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَقَعَ مِنْهُ فَلْسٌ فِي بِئْرٍ قَذِرَةٍ فَاكْتَرَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ عليه اسم الله عزوجل.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ يَقُومُ السَّيَّافُونَ عَلَى رأسه بالسيف فَيُنْشِدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُ مَنْ يُنْشِدُ فَيَقُولُ: إِنَّا إِذَا نَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى * وَأَنْصَتَ السَّامِعُ للقائل
(1) سقط من العقد 2 / 274 وفيه أن الوليد بن عبد الملك كان على البعير وليس عبد الملك.
(2)
في العقد الفريد 2 / 263: قدم عمر بن علي بن أبي طالب على عبد الملك فسأله أن يصير إليه صدقة علي فقال عبد الملك متمثلا بأبيات ابن الحقيق.
(*)
وَاصْطَرَعَ النَّاسُ بِأَلْبَابِهِمْ (1) * نَقْضِي بِحُكْمٍ عَادِلٍ فَاصِلِ لا نجعل الباطل حقاً ولا * نلفظ دُونَ (2) الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا * فنجهل الحق مع الجاهل وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَشْكُو الْحَجَّاجَ وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لَوْ أنَّ رجلاً خدم عيسى بن مريم أو رآه أو صحبه تعرفه النصارى أو تعرف مكانه لهاجرت
إليه ملوكهم، ولنزل من قلوبهم بالمنزلة العظيمة، وَلَعَرَفُوا لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ موسى أو رآه تعرفه اليهود لفعلوا به من الخير والمحبة وغير ذلك ما استطاعوا، وَإِنِّي خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ ورأيته وأكلت معه، ودخلت وخرجت وجاهدت معه أعداءه، وإن الحجاج قد أضربي وفعل وفعل (3)، قال: أخبرني مَنْ شَهِدَ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَهُوَ يَبْكِي وَبَلَغَ بِهِ الْغَضَبُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِكِتَابٍ غَلِيظٍ (4)، فَجَاءَ إلى الحجاج فقرأه فتغير ثُمَّ قَالَ إِلَى حَامِلِ الْكِتَابِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ نَتَرَضَّاهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَيَّامِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنَّكَ أَعَزُّ مَا تَكُونُ بِاللَّهِ أحوج ما تكون إليه، وأذل ما تكون للمخلوق أحوج ما تكون إليهم، وَإِذَا عَزَزْتَ بِاللَّهِ فَاعْفُ لَهُ، فَإِنَّكَ بِهِ تَعِزُّ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ فَأَمَرَ من عنده بالانصراف، فلما خلا به وأراد الرجل أن يتكلم قال له عبد الملك: احذر في كلامك ثلاثاً، إِيَّاكَ أَنْ تَمْدَحَنِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْكَ، أَوْ تَكْذِبَنِي فَإِنَّهُ لَا رَأْيَ لِكَذُوبٍ، أَوْ تسعى إلي بأحد من الرعية فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي، وَإِنْ شِئْتَ أَقَلْتُكَ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: أَقِلْنِي فَأَقَالَهُ.
وَكَذَا كَانَ يَقُولُ لِلرَّسُولِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ: اعْفِنِي مِنْ أَرْبَعٍ وَقُلْ مَا شِئْتَ، لَا تُطْرِنِي، وَلَا تُجِبْنِي فِيمَا لَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَلَا تَكْذِبْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي عَلَى الرعية فإنهم إلى رأفني وَمَعْدَلَتِي أَحْوَجُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِرَجُلٍ كَانَ مَعَ بَعْضِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ فَقَالَ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كانَ هَذا جَزَائِي مِنْكَ، فَقَالَ: وَمَا جَزَاؤُكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مَعَ فُلَانٍ إِلَّا بِالنَّظَرِ لَكَ، وَذَلِكَ أني رجل مشؤوم مَا كُنْتُ مَعَ رَجُلٍ قَطُّ إِلَّا غُلِبَ وَهُزِمَ، وَقَدْ بَانَ لَكَ صِحَّةُ مَا ادَّعَيْتُ، وَكُنْتُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مَعَكَ تنصحك، لقد كنت مع فلان فكسر وهزم وتفرق جمعه، وكنت مع فلان فقتل، وكنت مع فلان فهزم - حتى عد
(1) في العقد الفريد 2 / 263: بآرائهم.
(2)
في العقد: نرضى بدون.
(3)
نسخة الكتاب في الاخبار الطوال ص 323: " بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عبد الملك أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا بعد، فإن الحجاج قال لي نكرا، واسمعني هجرا، ولم أكن لذلك أهلا، فخذ على يديه،
وأعدني عليه، والسلام ".
(4)
انظر الاخبار الطوال ص 324 فيه نسخة الكتاب.
(*)
جماعة من الأمراء - فَضَحِكَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ تَوَاضَعَ عَنْ رِفْعَةٍ وَزَهَدَ عَنْ قُدْرَةِ، وَتَرَكَ النُّصْرَةَ عَنْ قُوَّةٍ.
وَقَالَ أَيْضًا لَا طُمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ ضِدُّ الْحَزْمِ.
وَقَالَ: خَيْرُ الْمَالِ مَا أَفَادَ حَمْدًا وَدَفَعَ ذَمًّا، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَيَنْبَغِي أَنَّ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمُؤَدِّبِ أَوْلَادِهِ - وَهُوَ إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر -: عَلِّمْهُمُ الصِّدْقَ كَمَا تُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَجَنِّبْهُمُ السَّفِلَةَ فإنهم أسوأ الناس رغبة في الخير وَأَقَلُّهُمْ أَدَبًا، وَجَنِّبْهُمُ الْحَشَمَ فَإِنَّهُمْ لَهُمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَحْفِ شُعُورَهُمْ تَغْلُظْ رِقَابُهُمْ، وَأَطْعِمْهُمُ اللَّحْمَ يَقْوُوا، وَعَلِّمُهُمُ الشِّعْرَ يَمْجُدُوا وَيُنْجُدُوا، وَمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَاكُوا عَرْضًا، وَيَمُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا، وَلَا يَعُبُّوا عَبًّا، وإذا احتجت أن تتناولهم فتناولهم بِأَدَبٍ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي سِرٍّ لَا يَعْلَمُ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَاشِيَةِ فَيَهُونُوا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ إِذْنًا خَاصًّا، فَدَخَلَ شَيْخٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ لَمْ يَأْبَهْ لَهُ الْحَرَسُ، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ صَحِيفَةً وَخَرَجَ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ، وَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ (بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص: 26](أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[المطففين: 4 - 6](ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود)[هود: 104](وما تؤخره إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ)[هود: 105] إن اليوم الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لَوْ بَقِيَ لِغَيْرِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) [النَّمْلِ 52] وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات: 22] (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ على الظالمين)[هود: 18] قَالَ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَدَخَلَ دَارَ حَرَمِهِ وَلَمْ تَزَلِ الْكَآبَةُ فِي وَجْهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا.
وَكَتَبَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا وَفِي آخِرِهِ: وَلَا يُطْمِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُولِ الْبَقَاءِ مَا يظهر لك في صِحَّتِكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ وَاذْكُرْ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْأَوَّلُونَ: إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادَهَا * وَبَلِيَتْ مَنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا * تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا فَلَمَّا قَرَأَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بَكَى حَتَّى بَلَّ طَرْفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ زِرٌّ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِغَيْرِ هَذَا كَانَ أَرْفَقَ.
وَسَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُونَ سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فقال: أنهى عن ذكر عمر فإن مرارة للأمراء مَفْسَدَةٌ لِلرَّعِيَّةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يحيى القباني، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ بِدِمَشْقَ، فَقَالَتْ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ شربت الطلا بعد العبادة والنسك، فقال: أي والله، والدما أَيْضًا قَدْ شَرِبْتُهَا.
ثُمَّ جَاءَهُ غُلَامٌ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ لَعَنَكَ اللَّهُ؟ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا
الدرداء يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَعَّانٌ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ قَالَ: قَدْ صِرْتُ لَا أَفْرَحُ بِالْحَسَنَةِ أَعْمَلُهَا، وَلَا أَحْزَنُ عَلَى السَّيِّئَةِ أَرْتَكِبُهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: الْآنَ تَكَامَلَ مَوْتُ قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ عن جده قَالَ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا خُطْبَةً بَلِيغَةً ثُمَّ قَطَعَهَا وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ قَلِيلَ عَفْوِكَ أَعْظَمُ مِنْهَا، اللَّهُمَّ فَامْحُ بِقَلِيلِ عَفْوِكَ عَظِيمَ ذُنُوبِي.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ فَبَكَى وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَلَامٌ يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ لَكُتِبَ هَذَا الْكَلَامُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ نحو ذلك، أي أنه لما بلغه هذا الكلام قال مثل ما قال الحسن.
وقال مُسْهِرٍ الدِّمَشْقِيُّ: وُضِعَ سِمَاطُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: ائْذَنْ لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، فَقَالَ: مات يا أمير المؤمنين، قال: فلأبيه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: مَاتَ، قَالَ: فَلِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قال: مات، قال فلفلان وفلان - حتى عد أقواماً قد ماتوا وهو يعلم ذلك قبلنا - فأمر بِرَفْعِ السِّمَاطِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
ذَهَبَتْ لِدَّاتِي وَانْقَضَتْ أيامهم * وغبرت بَعْدَهُمْ وَلَسْتُ بِخَالِدِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ فَبَكَى فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا هَذَا؟ أَتَحِنُّ حَنِينَ الْجَارِيَةِ وَالْأَمَةِ؟ إِذَا أَنَا مِتُّ فَشَمِّرْ وَاتَّزِرْ وَالْبَسْ جِلْدَ النَّمِرِ، وَضَعِ (1) الْأُمُورَ عِنْدَ أَقْرَانِهَا، وَاحْذَرْ قُرَيْشًا.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا وَلِيدُ اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَسْتَخْلِفُكُ فِيهِ، وَاحْفَظْ وَصِيَّتِي، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُعَاوِيَةَ فَصِلْ رَحِمَهُ وَاحْفَظْنِي فِيهِ، وانظر إلى أخي محمد فأمره على الجزيرة ولا تعز له عنها، وانظر إلى ابن عمنا علي بْنِ عبَّاس فَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ إِلَيْنَا بِمَوَدَّتِهِ وَنَصِيحَتِهِ وَلَهُ نَسَبٌ وَحَقٌّ فَصِلْ رَحِمَهُ وَاعْرِفْ حقه، وانظر إلى الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ فَأَكْرِمْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي مهد لك البلاد وقهر الأعداء وخلص لَكُمُ الْمُلْكَ وَشَتَّتَ الْخَوَارِجَ، وَأَنْهَاكَ وَإِخْوَتَكَ عَنِ الْفِرْقَةِ وَكُونُوا أَوْلَادَ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَكُونُوا فِي الْحَرْبِ أَحْرَارًا، وَلِلْمَعْرُوفِ مَنَارًا، فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تُدْنِ مَنِيَّةً قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنَّ الْمَعْرُوفَ يُشَيِّدُ ذِكْرَ صَاحِبِهِ وَيُمَيِّلُ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ، وَيُذَلِّلُ الْأَلْسِنَةَ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: إِنَّ الْأُمُورَ (2) إِذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا * بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ مفند عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بدِّدت * فَالْكَسْرُ والتوهين للمتبدد (3)
(1) في مروج الذهب 3 / 196 وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه، وانظر الاخبار الطوال ص 325.
(2)
في مروج الذهب: إن القداح
…
وبطش باليد.
(3)
في مروج الذهب 3 / 203: فالوهن والتكسير للمتبدد.
وفي ابن الاعثم 7 / 203: فالوهن والتضييع.
وفيه ان الوليد أجابه: إني لما أوصيتنيه لحافظ * أرعاه غير مقصر في المحتد
ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَادْعُ النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِكَ فَمَنْ أَبَى فَالسَّيْفُ، وَعَلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ إلى أخواتك فَأَكْرِمْهُنَّ وَأَحَبُّهُنَّ إليَّ فَاطِمَةُ - وَكَانَ قَدْ أَعْطَاهَا قُرْطَيْ مَارِيَةَ وَالدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ - ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي فِيهَا.
فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا (1) .
وَلَمَّا احْتُضِرَ سَمِعَ غَسَّالًا يَغْسِلُ الثِّيَابَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا غَسَّالٌ، فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتَ غَسَّالًا أَكْسِبُ مَا أَعِيشُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَلَمْ أَلِ الْخِلَافَةَ.
ثُمَّ تَمَثَّلَ فَقَالَ: - لَعَمْرِي لَقَدْ عُمِّرْتُ فِي الْمُلْكِ بُرْهَةً * وَدَانَتْ لِيَ الدُّنْيَا بِوَقْعِ الْبَوَاتِرِ وَأُعْطِيتُ حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الْمُلُوكِ الْجَبَابِرِ فَأَضْحَى الَّذِي قَدْ كَانَ مِمَّا يسرني * كحلم مضى في المزمنات الغوابر فياليتني لَمْ أُعْنَ بِالْمُلْكِ لَيْلَةً * وَلَمْ أَسْعَ فِي لذات عيش نواضر وَقَدْ أَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظهوركم) الآية [الانعام: 94] .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمَرَ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ مِنْ قَصْرِهِ، فلما فتحت سمع قصاراً بالوادي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا قَصَّارٌ، فَقَالَ: يَا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فَلَمَّا بَلَغَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَوْلُهُ قَالَ: الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم.
وقال: لما حضره الموت جعل يندم ويندب وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي اكتسبت قوتي يوماً بيوم واشتغلت بعبادة ربي عزوجل وطاعته.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ فَوَصَّاهُمْ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يسأل أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ثُمَّ يُنْشِدُ: - فَهَلْ مِنْ خَالِدٍ إِمَّا هَلَكْنَا * وَهَلْ بالموت للباقين غارُ (2) وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: ارْفَعُونِي، فَرَفَعُوهُ حَتَّى شَمَّ الْهَوَاءَ وَقَالَ: يَا دُنْيَا مَا أَطْيَبَكِ! إِنَّ طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإنا كُنَّا بِكِ لَفِي غُرُورٍ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ البيتين:
= وأكون للاعداء سما ناقعا * والذي القرابة كالحميد الايد واقوم بعدك في الرعية بالذي * أوصيتني بهم بحسن تودد (1) انظر في وصيته مروج الذهب 3 / 196 - 197 ابن الاثير 4 / 517 - 518 والاخبار الطوال ص 325 وابن الاعثم 7 / 201 - 202.
(2)
في تاريخ الاسلام للذهبي 3 / 281: وهل بالموت يا للناس عار.
والبيت في ابن الاعثم 7 / 204: فهل من خالد إن نحن متنا * وهل بالموت للاحياء عار (*)
إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ * عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رب صفوح * عن مسئ ذُنُوبُهُ كالترابِ قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَقِيلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَقِيلَ الْخَمِيسِ، فِي النصف من شوال سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ سِتِّينَ سَنَةً.
قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَصَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَقِيلَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً.
قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ، وقيل ثماني وَخَمْسِينَ.
وَدُفِنَ بِبَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ذِكْرُ أَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ: مِنْهُمُ الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَمَرْوَانُ الْأَكْبَرُ دَرَجَ وَعَائِشَةُ، وَأُمُّهُمْ وَلَّادَةُ بِنْتُ العبَّاس بْنِ جَزْءِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضٍ، وَيَزِيدُ وَمَرْوَانُ الْأَصْغَرُ وَمُعَاوِيَةُ دَرَجَ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهِشَامٌ وَأُمُّهُ أُمُّ هِشَامٍ عَائِشَةُ - فِيمَا قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ - بِنْتُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ.
وَأَبُو بَكْرٍ وَاسْمُهُ بَكَّارٌ وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، وَالْحَكَمُ دَرَجَ وَأُمُّهُ أُمُّ أَيُّوبَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الأموي، وفاطمة وأمها أم الغيرة بِنْتُ الْمُغِيرَةِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ وَمَسْلَمَةُ وَالْمُنْذِرُ وَعَنْبَسَةُ وَمُحَمَّدٌ وَسَعْدُ (1) الْخَيْرِ وَالْحَجَّاجُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى، فَكَانَ جُمْلَةُ أَوْلَادِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ مُشَارِكًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَنَصِفٌ مُسْتَقِلًّا بِالْخِلَافَةِ وَحْدَهُ.
وَكَانَ قَاضِيَهُ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَكَاتِبُهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ، وَحَاجِبُهُ يُوسُفُ مَوْلَاهُ، وَصَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ وَالْخَاتَمِ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ.
وَعَلَى شُرْطَتِهِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا عُمَّالَهُ فِيمَا مَضَى.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ أُخَرَ، شَقْرَاءُ بِنْتُ سَلَمَةَ بْنِ حَلْبَسٍ الطَّائِيِّ، وَابْنَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ أَبِيهَا بنت عبد الله بن جعفر.
وَمِمَّنْ يُذْكَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تقريباً.
أرطأة بن زفر ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَدَّادِ (2) بْنِ ضمرة بن غقعان بن أبي حارثة بن مرة بن شبة بن نميط بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ الْوَلِيدِ الْمُرِّيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ سُهَيَّةَ (3) ، وَهِيَ أُمُّهُ بنت رامل (4) بْنِ مَرْوَانَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خديج بن جشم بن كعب بن عون بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفٍ - سَبِيَّةٌ مِنْ كَلْبٍ - وَكَانَتْ عِنْدَ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ، ثُمَّ صَارَتْ إلى زفر وهي
(1) في الطبري 8 / 57 والمعارف ص 157: سعيد الخير.
(2)
في الاصابة 1 / 101: سواد.
(3)
من الاصابة 1 / 101 ووفيات الاعيان 6 / 103 وفي الاصل شهبة.
وفي حماسة الشجري ص 63: أرطأة بن سمية المزني وهو تصحيف.
وفي الاصابة تكرر فيها المزني مكان المري.
(4)
في الاعلام للزركلي 1 / 288: زامل.
(*)