الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمُ
…
وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إذا بغى النصر
فو الله لَا تَنْفِكُّ مِنَّا عَدَاوَةٌ
…
وَلَا مِنْكُمُ مَا دَامَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا [1] .
فَصْلٌ
فِي مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْأَذِيَّةِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ في بنى هاشم وبنى عبد الْمُطَّلِبِ فَدَعَاهُمْ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقِيَامِ دُونَهُ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَقَامُوا مَعَهُ وَأَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَدُوِّ اللَّهِ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ يَمْدَحُهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى مَا وَافَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدَبِ وَالنُّصْرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ
…
فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّهَا وَصَمِيمُهَا
وَإِنْ حُصِّلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا
…
فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا
…
هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ سِرِّهَا وَكَرِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وَسَمِينُهَا
…
عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا
وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نقر ظلامة
…
إذ ما ثنوا صعر الرقاب نقيمها
وتحمى حِمَاهَا كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ
…
وَنَضْرِبُ عَنْ أَحْجَارِهَا من يرومها
بنا انتعش العود الزواء وَإِنَّمَا
…
بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى وَتَنْمِي أُرُومُهَا
فَصْلٌ
فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وما تعنتوا له فِي أَسْئِلَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْآيَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ، لَا عَلَى وَجْهِ طَلَبِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ. فَلِهَذَا لَمْ يُجَابُوا إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا طَلَبُوا وَلَا مَا إِلَيْهِ رَغِبُوا، لِعِلْمِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَايَنُوا وَشَاهَدُوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم
[1] في هذا القطعة اختلاف بين الأصلين وبينهما مع ابن إسحاق وقد اجتهدنا أن يكون الأصل النسخة الحلبية الا ما كان خطأ فنعتمد فيه على ابن إسحاق فالبيت الخامس منها أثبتناه كما في الأصلين وفي ابن إسحاق جرجما. وجرجمت (بالجيم) وأنكر السهيليّ ان تكون الرواية كما عنده (ذي علق صخر)
يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 6: 109- 111.
وقال تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ 10: 96- 97. وَقَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً 17: 59. وَقَالَ تَعَالَى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا 17: 90- 93 وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا يُشَابِهُهَا فِي أَمَاكِنِهَا فِي التَّفْسِيرِ وللَّه الْحَمْدُ. وَقَدْ رَوَى يُونُسُ وَزِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ- وَهُوَ شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: اجْتَمَعَ عِلْيَةٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ- وَعَدَّدَ أَسْمَاءَهُمْ- بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ، وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذِرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ إِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيعًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُمْ في أمره بدء، وَكَانَ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذِرَ فِيكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ قَبِيحٍ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشَّرَفَ فِينَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنَّ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وإن كان هذا الّذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك- وكان يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ الرَّئِيَّ- فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ أَوْ نُعْذِرَ فِيكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا ونذيرا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» - أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ
فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَضْيَقَ بِلَادًا، وَلَا أَقَلَّ مَالًا، وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا. فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَلَيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُجْرِ فِيهَا أَنْهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يُبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَّيُّ بْنُ كِلَابٍ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا صَدُوقًا فَنَسْأَلَهُمْ عَمَّا تَقُولُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ؟ فَإِنْ فَعَلْتَ مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ فَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدنيا والآخرة، وإن تردوا عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» قَالُوا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَا هَذَا فَخُذْ لِنَفْسِكَ فَسَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ لَنَا مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ، وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَتَسْأَلُهُ فَيَجْعَلُ لَنَا جِنَانًا وَكُنُوزًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَيُغْنِيكَ عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي فَإِنَّكَ تَقُومُ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسُ الْمَعَايِشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَ مَنْزِلَتِكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ، فَقَالَ لَهُمْ «مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» . قَالُوا فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ فَقَالَ:«ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذَلِكَ» فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ مَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدَّمُ إِلَيْكَ وَيُعْلِمُكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرُكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ؟ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بِنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أَوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا باللَّه وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ- وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ عَرَضَ عَلَيْكَ قومك ما عرضوا فلم تقبله. ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فو الله لا أو من لَكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا ثم ترقى منه وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا وَتَأْتِيَ مَعَكَ بِنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ وَمَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أهله حزينا أسفا لما فاته بما طَمِعَ فِيهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ، وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَهَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مَجْلِسُ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ وَعِنَادٍ، وَلِهَذَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالرَّحْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، الا يجابوا إلى مَا سَأَلُوا لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يؤمنون
بِذَلِكَ فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالُ فَيَزْدَرِعُوا، فَقِيلَ لَهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تؤتيهم الّذي سألوا فان كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم. قَالَ:«لَا بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها 17: 59 الْآيَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عمران بن حكيم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، وقال وتفعلوا؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَدَعَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا لَهُمْ ذَهَبًا. فَمَنْ كفر منهم بعد ذلك أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ، قَالَ:«بَلِ التَّوْبَةُ وَالرَّحْمَةُ» . وَهَذَانَ إِسْنَادَانِ جَيِّدَانِ، وَقَدْ جَاءَ مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ [1] أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عز وجل أَنْ يَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ لَا يَا رَبُّ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا- أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ- فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ» لَفْظُ أَحْمَدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ- قَدِمَ عَلَيْنَا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً- عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قوله، وقالا إنكم أهل التوراة وقد جئنا كم لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا.
قَالَ فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لم يفعل فهو رجل مقتول فَرَوا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ؟ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ طَافَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ [نَبَؤُهُ] ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هِيَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وإن لم يخبر كم فإنه رجل متقول فاصنعوا في
[1] في الأصلين: القاسم بن أبى أمامة، وإنما هو القاسم بن عبد الرحمن مولى بنى أمية الدمشقيّ ولم يرو عن أحد من الصحابة إلا عن أبى أمامة. كما في الخلاصة.
أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قريش قد جئنا كم بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ فَأَخْبَرَاهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ» وَلَمْ يَسْتَثْنِ. فَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ ليلة لا يحدث له فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ الْوَحْيِ عَنْهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام من الله عز وجل بسورة الْكَهْفِ فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ [وَخَبَرُ] مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ والرجل الطواف، وقال الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17:85. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ مُطَوَّلًا فَمَنْ أَرَادَهُ فَعَلَيْهِ بِكَشْفِهِ مِنْ هُنَاكَ. وَنَزَلَ قَوْلُهُ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا من آياتِنا عَجَباً 18: 9 ثُمَّ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ أَمْرِهِمْ وَاعْتَرَضَ فِي الْوَسَطِ بِتَعْلِيمِهِ الِاسْتِثْنَاءَ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا فِي قَوْلِهِ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) 18: 23- 24 ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر، ثم ذي القرنين ثم قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً 18: 83 ثُمَّ شَرَحَ أَمْرَهُ وَحَكَى خَبَرَهُ. وَقَالَ فِي سورة سبحان وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي 17: 85 أَيْ خَلْقٌ عَجِيبٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ. وَلَيْسَ لَكُمُ الاطلاع على كل ما خلقه، وتصوير حقيقته فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَصْعُبُ عَلَيْكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا 17: 85 وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ- فَإِمَّا أَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً أَوْ ذَكَرَهَا جَوَابًا- وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا مُتَقَدِّمًا وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَاسْتَثْنَاهَا مِنْ سُورَةِ سُبْحَانَ فَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إسحاق: ولما خشي أبو طالب دهم الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ قَالَ قَصِيدَتَهُ التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه مِنْهَا، وَتَوَدَّدَ فِيهَا أَشْرَافَ قَوْمِهِ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي شِعْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مسلم لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَارِكُهِ لِشَيْءٍ أَبَدًا حَتَّى يَهْلِكَ دُونَهُ. فَقَالَ:
وَلَمَّا رأيت القوم لاود فِيهِمُ
…
وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى
…
وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنَّةً
…
يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالْأَنَامِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ
…
وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي
…
وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بالوصائل
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ
…
لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلُّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ
…
بِمُفْضَى السُّيُولِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ
مُوَسَّمَةَ الْأَعْضَادِ أو قصراتها
…
مخيمة بَيْنَ السَّدِيسِ وَبَازِلِ
تَرَى الْوَدْعَ فِيهَا وَالرُّخَامَ وَزِينَةً
…
بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالْعَثَاكِلِ [1]
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
…
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ
…
وَمِنْ مُلْحَقٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلِ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ
…
وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ حَقِّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ
…
وباللَّه إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إِذْ يَمْسَحُونَهُ
…
إِذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ
وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ
…
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إِلَى الصَّفَا
…
وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثِلِ
وَمَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ رَاكِبٍ
…
وَمِنْ كُلِّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلِّ رَاجِلِ
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له
…
إلال إِلَى مُفْضَى الشِّرَاجِ الْقَوَابِلِ
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيَّةً
…
يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ الرَّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى
…
وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ
وَجَمْعٍ إِذَا مَا الْمُقْرِبَاتُ أَجَزْنَهُ
…
سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إِذَا صَمَدُوا لَهَا
…
يَؤُمُّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ
وَكِنْدَةَ إِذْ هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيَّةً
…
تُجِيزُ بِهِمْ حُجَّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ
حَلِيفَانِ شَدَّا عَقْدَ مَا احْتَلَفَا لَهُ
…
وَرَدَّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الْوَسَائِلِ
وحطمهم سمر الرماح وَسَرْحَهُ
…
وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النَّعَامَ الْجَوَافِلِ
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مُعَاذٍ لِعَائِذٍ
…
وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يتقى الله عادل
يطاع بنا أمر العداوة أننا
…
يسد بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَتْرُكَ مَكَّةً
…
وَنَظْعَنُ إِلَّا أَمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ
كذبتم وبيت الله نبذى مُحَمَّدًا
…
وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ
…
وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضَ قَوْمٌ بِالْحَدِيدِ إِلَيْكُمُ
…
نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصلاصل
[1] في الأصل: الفناكل. وصححناه من سيرة ابن هشام والعثكول: العذق.
وَحَتَّى نَرَى ذَا الضِّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ
…
مِنَ الطَّعْنِ فِعْلَ الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ
وَإِنَّا لَعَمْرُ اللَّهِ إن جد ما أرى
…
لتلتبسا أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ
بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلِ الشِّهَابِ سَمَيْدَعٍ
…
أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيَّامًا وحولا محرما
…
عَلَيْنَا وَتَأْتِي حُجَّةٌ بَعْدَ قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ- لَا أَبَا لَكَ- سَيِّدًا
…
يَحُوطُ الذِّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
…
ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
…
فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ
…
إِلَى بُغْضِنَا وَجَزَّآنَا لِآكِلِ
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ
…
وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيًّا وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهِمْ
…
وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ
…
وَكُلٌّ تَوَلَّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلِ
فَإِنْ يُلْفَيَا أَوْ يُمْكِنِ اللَّهُ مِنْهُمَا
…
نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ الْمُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا
…
لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلِّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ
…
فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍو بِنَا ثُمَّ خَاتَلِ
وَيُؤْلِي لَنَا باللَّه ما أن يغشنا
…
بلى قد تراه جهرة غير خائل
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلَّ تَلْعَةٍ
…
مِنَ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمُجَادِلِ
وَسَائِلْ أَبَا الْوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتَنَا
…
بِسَعْيِكَ فِينَا مُعْرِضًا كَالْمُخَاتِلِ
وَكُنْتَ امْرَأً مِمَّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ
…
وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْتَ بِجَاهِلِ
فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ
…
حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ
وَمَرَّ أَبُو سُفْيَانَ عَنِّي مُعْرِضًا
…
كَمَا مَرَّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ الْمَقَاوِلِ
يَفِرُّ إِلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ
…
وَيَزْعُمُ أَنِّي لَسْتُ عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنَّهُ
…
شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدَّوَاخِلِ
أَمُطْعِمُ لَمْ أخذ لك فِي يَوْمِ نَجْدَةٍ
…
وَلَا مُعْظِمٍ عِنْدَ الْأُمُورِ الْجَلَائِلِ
وَلَا يَوْمِ خَصْمٍ إِذْ أَتَوْكَ أَلِدَّةً
…
أُولِي جَدَلٍ مِنَ الْخُصُومِ الْمُسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إِنَّ القوم ساموك خطة
…
وإني متى أو كل فَلَسْتُ بِوَائِلِ
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا
…
عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قسط لا يخيس شَعِيرَةً
…
لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا
…
بَنِي خَلَفٍ قَيْضَا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ
…
وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلَّبُوا
…
عَلَيْنَا الْعِدَى مِنْ كُلِّ طِمْلٍ وَخَامِلِ
فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمْ خَيْرُ قَوْمِكُمْ
…
فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كَلَّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُمُ
…
وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثًا حَطْبَ قَدْرٍ وَأَنْتُمُ
…
أَلَانَ حِطَابُ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ
لِيَهْنِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا
…
وَخِذْلَانُنَا وَتَرْكُنَا فِي الْمَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نَتَّئِرْ مَا صَنَعْتُمُ
…
وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ
[[1] وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
…
نَفَاهُمْ إِلَيْنَا كُلَّ صَقْرٍ حُلَاحِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرُّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى
…
وَأَلْأَمُ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ]
فَأَبْلِغْ قُصَيًّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا
…
وَبَشِّرْ قُصِيًّا بَعْدَنَا بِالتَّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلًا قُصَيًّا عَظِيمَةٌ
…
إِذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي الْمَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ
…
لَكُنَّا أُسًى عِنْدَ النِّسَاءِ الْمَطَافِلِ
فَكُلُّ صَدِيقٍ وَابْنُ أُخْتٍ نَعُدُّهُ
…
لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبَّهُ غَيْرَ طَائِلِ
سِوَى أَنَّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ
…
بَرَاءٌ إِلَيْنَا مِنْ مَعَقَّةِ خَاذِلِ
[[2] وَهَنَّا لَهُمْ حَتَّى تَبَدَّدَ جَمْعُهُمْ
…
وَيَحْسُرَ عَنَّا كُلُّ بَاغٍ وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السِّقَايَةِ فِيهِمُ
…
وَنَحْنُ الْكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالْكَوَاهِلِ
شَبَابٌ مِنَ الْمُطَّيِّبِينَ وَهَاشِمٍ
…
كَبِيضِ السُّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصَّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا
…
وَلَا حَالَفُوا إِلَّا شِرَارَ الْقَبَائِلِ
بِضَرْبٍ تَرَى الْفِتْيَانَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ
…
ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ
بَنِي أَمَةٍ محبوبة هند كية
…
بَنِي جُمَحٍ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ
وَلَكِنَّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةٍ
…
بِهِمْ نُعِيَ الْأَقْوَامُ عِنْدَ الْبَوَاطِلِ]
وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذَّبٍ
…
زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مَنْ حَمَائِلِ
أَشَمُّ مِنَ الشُّمِّ الْبَهَالِيلِ يَنْتَمِي
…
إِلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ الْمَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْدًا بِأَحْمَدٍ
…
وإخوته دأب المحب المواصل
[1] لم يرد هذان البيتان في الأصلين، وزدناهما من سيرة ابن هشام.
[2]
هذه الأبيات السبعة لم ترد في الأصلين، وزدناها من سيرة ابن هشام.