المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الصيام الصيام والصوم في اللغة بمعنى الإمساك، وفي الشرع: إمساك - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٥

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌ ‌كتاب الصيام الصيام والصوم في اللغة بمعنى الإمساك، وفي الشرع: إمساك

‌كتاب الصيام

الصيام والصوم في اللغة بمعنى الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة (1)، وقال صاحب المحكم: الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام، يقال صام صومًا وصيامًا، ورجل صائم وصوم.

وقال الراغب (2): الصوم في الأصل الإمساك عن الفِعْلِ، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير "صائم".

وفي الشرع: إمساك المكلف بالنية عن تناول المطعم والمشرب والاستقاء من الفجر إلى المغرب (3).

497 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إِلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه" متفق عليه (4).

اعلم أنه فُرِضَ صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، واختلف العلماء هل قد كان سبقه فرضية صوم أولًا؟ فالجمهور على أنه لم يكن قد سبقه فرضية صوم، وأشار البخاري (5) إلى ذلك حيث أورد الآية وهي

(1) المطلع على أبواب المقنع 145.

(2)

المفردات 291.

(3)

الفتح 102:4.

(4)

البخاري الصيام، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين 4: 127 ح 1914، مسلم الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين 2: 762 ح 21 - 1082 (واللفظ له).

(5)

البخاري 4: 102.

ص: 5

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (1) حجة على وجوب الصيام على الإطلاق. ثم بينه سبحانه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} (2) الآية، وذهبت الحنفية -وهو وجه للشافعية- إلى أنه تقدم أولًا فرضية عاشوراء فلما نزل رمضان نسخ، ويدل على ذلك حديث عائشة أنه أمر بصيامه حتى فرض رمضان فقال:"من شاء فليصمه ومن شاء أفطر" أخرجه البخاري (3).

ويدل على الأول حديث معاوية مرفوعًا: "لم يكتب الله صيامه"(4) يعني عاشوراء.

قوله: "لا تقدموا رمضان" إلخ، في الحديث دلالة على النهي عن صوم يوم أو يومين قبل رمضان، قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان، قال الترمذي (5)، لما أخرج هذا الحديث: العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. انتهى.

والعلة بذلك أن حُكْم الصيام لا علق بالرؤية فمن تقدم بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، ومعنى الاستثناء أن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده وألفه، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويستثنى أيضًا القضاء والنذر بالقياس على ما ذكر لعدم كونه مستقبلًا لرمضان، فالصوم من أجله، ولكنه يلزم من التعليل المذكور أنه لا نهي عن مطلق الفعل لعدم تناول العلة له، ولعله يقال إن النهي عام لما لا سبب له، وإن لم يقصد استقبال رمضان به، وفي ذلك تكميل لحصول المَقْصِد

(1) البقرة الآية 183.

(2)

البقرة الآية 185.

(3)

البخاري الصوم، باب صيام يوم عاشوراء 4: 244 ح 2001.

(4)

البخاري (السابق) 4: 244 ح 2003.

(5)

سنن الترمذي 3: 69 ح 684.

ص: 6

الذي اعتبره الشارع، ولا يخرج عنه إلَّا مَا له سبب واضح، والله أعلم.

وفي ذلك رد على الرافضة في تجويزهم تقديم الصوم على الرؤية وعلى مَنْ جَوَّزَ النفل المطلق، وإنما اقتصر على اليوم أو اليومين لأنه الغالب في حق مَنْ يقصد ذلك، إذ لا يقع الاحتمال في أكثر من ذلك، وقال بعضهم: ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره (1)، وقال الروياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث الباب، ويكره مِنْ نِصْف شعبان للحديث الآخر.

وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعًا بعد النصف من شعبان وضعف الحديث الوارد فيه، وقد قال أحمد وابن معين إنه مُنْكَرٌ، واستظهر بحديث أنس مرفوعًا:"أفضل الصيام بعد رمضان شعبان"(2) لكن إسناده ضعيف.

498 -

وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" ذكره البخاري تعليقًا، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان (3).

قال البخاري وقال صِلَة: عن عمار. وصلة -هو بكسر الصاد المهملة

(1) أبو داود الصوم، باب في كراهية ذلك 2: 751 ح 2337، الترمذي الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان 2: 751 ح 2337 ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان 1: 528 ح 1651، ابن حبان 5: 240 ح 3583.

(2)

كنز العمال 8: 572 ح 24228 وعزاه إلى البيهقي في شعب الإيمان.

(3)

البخاري (تعليقًا) الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال فصوموا 4: 119، أبو داود الصيام، باب كراهية صوم يوم الشك 2: 749: 750 ح 2334، الترمذي الصيام، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك 3: 70 ح 686 النسائي الصوم، باب صيام يوم الشك 4: 126، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في صيام يوم الشك 1: 527 ح 1645 ابن حبان، فصل في صوم يوم الشك 5/ 239 ح 3577. الحاكم الزكاة 1:424.

ص: 7

وتخفيف اللام المفتوحة- ابن زُفر -بضم الزاي-.

وقد وصله أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عنه، ولفظه عندهم: "كنا عند عمار بن ياسر رضي الله عنه فأتي بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال: إني صائم، فقال عمار: من صام يوم الشك

"، وفي رواية ابن خزيمة وغيره: "من صام اليوم الذي نشك

"، وله متابع بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن ربعي أن عمارًا وناسًا معه أتوهم يسألونهم في اليوم الذي يشك فيه فاعتزلهم رجل فقال له عمار: "إنْ كنتَ تُؤمن بالله واليوم الآخر فتعال وكل (1) "، ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن منصور عن ربعي عن رجل عن عمار، وله شاهد من وجةٍ آخر أخرجه إسحاق بن راهويه من رواية سماك عن عكرمة، ومنهم من وصله بذكر ابن عباس فيه.

والحديث فيه دلالة على تحريم صوم يوم الشك، وهو يوم الثلاثين من شعبان حيث لم يُرَ فيه الهلال لساتر من غيم وغيره فيجوز كَوْنه من رمضان أو من شعبان، لأن الصحابي لا يقول ذلك مِنْ قِبَل رأيه فيكون من قبيل المرفوع.

قال ابن عبد البر: هو مستند عندهم لا يختلفون في ذلك وهو موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا، وهذا المعنى مدلول عليه بأحاديث النهي عن استقبال رمضان بصوم، والأمر بإكْمال عدة شعبان، والأمر بالصوم لرؤيته، والإفطار لرؤيته، وقد ذهب إلى هذا الشافعي فقال: لا يجوز صومه فرضًا ولا نفلًا مطلقًا بل قضاء وكفارة ونذرًا ونفلًا يوافق عادة.

وقال مالك: لا يجوز عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك، وبالقولين المذكورين قال أحمد، وله قول ثالث، وهو: إن المرجع إلى

(1) ابن أبي شيبة 3: 72.

ص: 8

رأي الإمام في الصوم والإفطار، وهو مذهب الحسن البصري، ليذهب علي وابن عمر وعائشة وأسماء بنت أبي بكر وعمر وأنس بن مالك وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص والحكم بن أيوب الغفاري وسالم بن عبد الله ومجاهد وطاوس وأبو عثمان النَّهْدِيّ ومطرف بن الشِّخِّير وميمون بن مهران وبكر بن عبد الله المزني وأحمد بن حنبل والهادوية والناصر إلى أنه يندب (أ) صومه، فأما عمر فأخرج الوليد بن مسلم عن مكحول أن عمر بن الخطاب، كان يصوم إذا كانت السماء في تلك الليلة مغيمة، ويقول:"ليس هذا بالتقديم ولكنه التحري". وأخرج الشافعي عن فاطمة بنت حسين أن (ب) علي بن أبي طالب قال: "لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إلى من أن أُفْطِرَ يومًا من رمضان"، [ولفظ الرواية أن رجلًا شهد عند علي على رؤية الهلال فصام وأمر الناس أن يصوموا، وقال:"أصوم يومًا من شعبان" الحديث، وفيه انقطاع (1).

وأخرجه الدارقطني (2) من طريق والشافعي وسعيد بن منصور عن شيخ الشافعي عبد العزيز بن محمد الدراوردي] (ب)، وفي كتاب عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن عمر قال:"كان إذا كان سحاب أصبح صائمًا وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا".

وأخرج أحمد (3) بإسناد الصحيح عن نافع قال: "كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم

(أ) هـ: مندوب.

(ب) هـ: بن.

(جـ) بحاشية الأصل.

_________

(1)

الأم 2: 80.

(2)

الدارقطني 2: 161، الأم 2:80.

(3)

أحمد 2: 5. (الفتح الرباني 9: 250 - 251).

ص: 9

ير ولم يَحُلْ دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائمًا".

وأخرج أحمد عن يحيى بن إسحاق قال: رأيتُ الهلال إما الظهر وإما قريبًا منه فأفطر ناس من الناس، فأتينا أنس بن مالك وأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار من أفطر، فقال:"هذا اليوم يكمل لي أحد وثلاثون يومًا، وذلك أن الحكم بن أيوب أرسل إلى قبل صيام الناس إني صائم غدًا فكرهت الخلاف عليه فصمت، وأنا متم صومي هذا إلى الليل".

وأخرج أحمد أيضًا عن مكحول أن معاوية كان يقول: "لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يومًا من رمضان".

وأخرج أحمد عن عمرو بن العاص أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان.

وأخرج أحمد عن ابن أبي مريم قال سمعتُ أبا هريرة يقول: "لأن أتعجل في (أ) صوم رمضان بيوم أحب إلى من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني وإذا تأخرت فاتني".

وأخرج سعيد بن منصور عن يزيد بن جبير عن الرسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشك فيه من رمضان، قال: قالت عائشة: "لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يومًا من رمضان".

وأخرج سعيد بن منصور عن فاطمة بنت المنذر قالت: "ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء متقدمة بيوم وتأمر بتقدمه".

وأخرج أحمد عن فاطمة عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان.

وهذا المروي جميعه يدل على استحباب صوم يوم الشك، وقد روي

(أ) ساقط من هـ.

ص: 10

عن عمر وعلي وابن عمر كراهة صوم يوم الشك حتى قال ابن عمر: "لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه" أخرجه الثوري (1) في جامعه عن ابن عمر، وقد يجاب عن هذه الآثار مع فرض صحتها أنها موقوفة وللاجتهاد في ذلك مسرح، بل في كثير من الألفاظ ما يفهم منه الاجتهاد لأجل التحري في إكمال العدة، فلا يقاوم أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم، والأمر بإكمال عدة شعبان مع اللبس، ومن الصريح في ذلك، ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عباس (2)"فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان" ورواه النسائي من طريق أخرى بلفظ: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"(3).

وروى الدارقطنيي وصححه وابن خزيمة في صحيحه من حديث عائشة (4): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه كمله ثلاثين يومًا ثم صام"، وأخرجه أبو داود وغيره.

وروى أبو داود وابن خزيمة عن حذيفة مرفوعًا: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة"(5).

وفي هذا المعنى من الكثير الطيب، وهو المناسب لما عرف من التشديد

(1) الفتح 4: 122.

(2)

أبو داود الصوم، باب مَنْ قال فإن غم عليكم

2: 745 ح 2327، الترمذي الصوم، باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال

2: 72 ح 688، النسائي الصوم، باب الاختلاف على منصور في حديث ربعي 4:109.

(3)

النسائي، ذِكْر الاختلاف على حديث عمرو بن دينار 4:109.

(4)

أبو داود الصوم، باب إذا أغمي الشهر 2: 744 ح 2325.

(5)

أبو داود 2: 744: 745 ح 2326.

ص: 11

في المنع من التطوع المشبه للفرض، وكان وصل نافلة الصلاة بالفريضة هلكة، والله أعلم.

[وقوله: "فقد عصى أبا القاسم" قيل: إنما أتى بهذه الكنية إشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زمانًا ومكانا وغير ذلك](أ).

وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا".

رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي إرساله (1).

وأخرجه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث سماك عن عكرمة عنه، قال الترمذي: روي مرسلًا، وقال النسائي إنه أولى بالصواب، وسماك إذا انفرد بأصل لم يكن حجة.

وفي الحديث دلالة على قبول خبر المستور (2) الذي لم نعلم في حقه بقادح وأنه يعامل معاملة العدل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى منه بعد معرفته لتصديقه بظاهر الحال من السلامة عن القادح وأنه لا يتم التصديق

(أ) في حاشية الأصل.

_________

(1)

أبو داود الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان 2: 754، 755 ح 2340، الترمذي الصوم باب ما جاء في الصوم بالشهادة 3: 74 ح 691. النسائي الصوم باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان 4: 106. ابن ماجه الصيام باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال 1: 529 ح 1652، الحاكم في العيدين 1: 297، ابن حبان ذكر إجازة شهادة الواحد 3: 187 ح 3437.

(2)

الصحابة كلهم عدول. ولذا قال الصنعاني في هذا الموطن: الأصل في المسلمين العدالة إذ لم يطلب صلى الله عليه وسلم من الأعرابي إلا الشهادة 2: 301.

ص: 12

إلا بعد الإقرار بالشهادتين جميعًا وأنه لا يحتاج في التصديق إلى إظهار التبري من سائر الأديان، والله أعلم.

499 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذا رأيتموه فصوموا، وإِذا رأيتموه فأفطروا، فإِن غم عليكم فاقدروا له" متفق عليه (1)، ولمسلم "فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين"(2)، وللبخاري "فأكملوا العدة ثلاثين"(3) وله في حديث أبي هريرة "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"(4).

قوله: "إِذا رأيتموه" الضمير للهلال، وقد أخرجه الإسماعيلي بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهلال رمضان:"إذا رأيتموه فصوموا" الحديث (5). وكذا أخرجه عبد الرزاق (6) عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهلال رمضان "إذا رأيتموه فصوموا".

الحديث ظاهره وجوب الصوم عقيب الرؤية ليلًا كانت أو نهارًا، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وليس المراد أنه لا يثبت الصيام لكل أحد (أ) إلا برؤيته، بل المراد برؤية (ب) من يثبت بإخباره الحكم، إما واحد

(أ) هـ: واحد.

(ب) هـ: رؤية.

_________

(1)

البخاري الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال فصوموا .... ، 4: 119 ح 1906: (بنحوه)، مسلم الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال .... ، 2: 760 ح 8 - 1080 (واللفظ له).

(2)

مسلم (السابق) 2: 759 ح 4 - 1080.

(3)

البخاري (السابق) 4: 119 ح 1907.

(4)

البخاري 4: 119 ح 1909.

(5)

الفتح 121:4.

(6)

مصنف عبد الرزاق 4: 156 ح 7307.

ص: 13

على رأي بعض، أو اثنان على رأي آخرين، ويدل على هذا التأويل فعله صلى الله عليه وسلم والحنفية قالوا: واحد إن كان في السماء غيم وإلا فلا بد من جمع كبير يفيد خبرهم العلم إذا كان صحوًا، والخطاب في قوله:"إِذا رأيتموه" بمعنى إذا وجد فيما بينكم الرؤية، فيدل هذا على أن رؤية بلد رؤية لجميع البلاد فيلزمهم الحُكْم، ويحتمل خلاف ذلك، لأن قوله:"إِذا رأيتموه" خطاب لأناس مخصوصين، وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب أحدها: تعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم (1)، وفي صحيح مسلم (2) من حديث ابن عباس في قدوم كريب من الشام ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي (3) عن أهل العلم ولم يحك سواه، وحكاه الماوردي وجهًا للشافعية.

ثانيها: إذا رئي ببلدة لزم أهل البلاد كلها وهو المشهور عند المالكية، [واختاره الإمام المهدي (4) على أصل الهادوية، قال: إذ لم يفصل دليل الرؤية](1)، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه، قال: وأجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كخراسان والأندلس، قال القرطبي (5): قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم، وقال ابن الماجشون (6): لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة

(أ) بحاشية الأصل.

_________

(1)

وهذه المسألة مما عمت بها البلوى واختلف الناس في ذلك. وأصبح كل فريق فرحًا بما لديه من الحجج ولو وسع الناس على أنفسهم وجعلوا الأمر واسعًا لكان في ذلك خير.

(2)

مسلم الصيام، باب بيان أن لكل بلد رؤيته .... ، 2: 765 ح 28 - 1087.

(3)

الترمذي الصوم، ما جاء أن لكل أهل بلدة رؤيتهم 77:3 ح 693.

(4)

البحر 243:2.

(5)

الفتح 4: 123.

(6)

الفتح 4: 123.

ص: 14

إلا إن ثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقه في حكم البلدة الواحدة لنفوذ حكمه في الجميع.

وقال بعض الشافعية: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدًا، وإن تباعدت فوجهان: لا يجب عند الأكثر، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب، وحكى البغوي عن الشافعي في ضبط البُعْد أوجهًا: أحدها: اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني، وصححه النووي في "الروضة" و "شرح المهذب".

ثانيها: مسافة القَصْر قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في "الصغير"، والنووى في شرح مسلم (1).

ثالثها: باختلاف الأقاليم.

رابعها: حكاه السرخسي فقال: يلزم كل بلد لا يتضور خفاؤه عنهم يلي عارض دون غيرهم.

خامسها: قول ابن الماجشون المتقدم.

سادسها: ما حكاه في "البحر" عن الإمام يحيى لمذهب الهادوية مسافة القصر وأن تختلف الجهتان ارتفاعًا وانحدارًا، قيل وكان كل واحد منهما إقليمًا.

والذي في "الانتصار" للإمام يحيى أن يكون اختلاف البلدين بأحد اعتبارين، إما بأن يكونا إقليمين، قال: لأن الأقاليم ينقطع بعضها عن بعض، وإما بأن يكون أحدهما سهلًا والآخر جبلًا، لأنهما إذا كانا على هذه الصفة اختلفت فيها المطالع والمغارب.

(1) شرح مسلم 197:7 (ط. المصرية).

ص: 15

قال الإمام يحيى: فبغداد والبصرة والكوفة سهلين فتكون الرؤية في أحدهما رؤية للآخر، والعراق والحجاز وخراسان وجبلان وديلمان كلها جبلية يختلف فيها المطالع والمغارب فلا تكون الرؤية فيها للغير.

ويدل الحديث على أن مَنْ انْفَرَدَ بالرؤية يلزمه الإفطار والصوم، وقد ذهب إلى هذا العترةُ جميعًا، والأئمة الأربعة في الصوم، واختلفوا في الإفطار فقال الشافعي: يفطر ويخفيه، وقال الأكثر: يستمر صائمًا احتياطًا. [ويدل عليه حديث كريب (1)، فإنه قال لابن عباس: أولًا تكتفي -شك أحد رواته في أنه بالخطاب لابن عباس الجمع للمتكلم والمخاطب- فقال له ابن عباس: لا. فأمره بالبقاء على الإمساك حتى يعيّد أهل بلده](أ).

وقوله: "فإِن غُمَّ": يغم بضم المعجمة وتشديد الميم، أي حال بينه وبينكم غيم، يقال غممت الشيء إذا غطيته، ووقع في رواية أبي هريرة (2) بلفظ: غم وأغمي وغبي من الغباوة وهو عدم الفطنة استعارة لخفاء الهلال.

ونقل ابنُ العربي (3) أنه روي عمي بالعين المهملة من العمى، قال: وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات، أو ذهاب البصر عن المعقولات.

وقوله: "فاقدروا له": أي قدروا عدد الشهر ثلاثين يومًا، والمعنى: أفطروا يوم الثلاثين واحسبوه تمام الشهر الأول، وهذا تفسير مالك وأبي حنيفة والشافعي، وهو بصيغة الأمر بوصل الهمزة وكسر الدال وضمها، وقال المطرزي: الضم خطأ، وهذا التأويل ترجحه الروايات الأخر المصرحة

(أ) بحاشية الأصل.

_________

(1)

مسلم الصيام، باب أن لكل بلد رؤيتهم .... ، 2: 765 ح 28 - 1087.

(2)

البخاري الصوم، باب قول النبي إذا رأيتم الهلال فصوموا .... ، 4: 119 ح 1909.

(3)

عارضة الأحوذي 3: 205.

ص: 16

بالمراد وهي "فاقدروا ثلاثين" و "أكملوا العدة ثلاثين" ونحوها، وأولى ما يفسر الحديث بالحديث، وقال أحمد: معناه ضيفوا له وقدروه تحت السحاب، وقال أبو نعيم: معناه أقسطوا النظر والطلب للموضع الذي تقدرون أنكم ترونه منه، وقال أبو العباس ابن سُرَيْج من الشافعية ومطرف ابن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين أن معناه قدروه بحسب المنازل، قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يُعَرَّجُ عليه في مثل هذا، ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج، والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور، ونقل ابن عبد البر عن ابن سريج أن قوله:"فاقدروا له" خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله:"فأكملوا العِدَّة" خطاب للعامة.

قال ابنُ العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، وقال: وهذا بعيد عن النبلاء.

وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هو معرفة سَيْر الأَهلَّة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بِمعرفة الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمرٍ محسوس يدركه مَنْ يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراده ابن سريج، وقال في حق العارف بها في خاصة نفسه، ونقل الروياني عنه أنه لم يَقُلْ بوجوب ذلك، وإنما قال بجوازه، وهو اختيار القفال وأبي الطيب، وأما أبو إسحاق في "المهذب" فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة.

فتعدد الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل أحدها: الجواز ولا يجزيء عن الفرض.

ثانيها: يجوز ويجزيء.

ثالثها: يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.

ص: 17

رابعها: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم.

خامسها: يجوز لهما ولغيرهما مطلقًا.

وقد ذهب إلى هذا الروافض، قال الباجي: وإجماع السلف الماضي الصالح حُجَّة عليهم، وقال ابن بريزة: وهو مذهب باطل قد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن.

وأقول: والجواب الواضح عليهم ما أخرجه البخاري عن ابن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا"(1): يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، إنه مصرح بعدم الرجوع في هذه الشريعة المحمدية إلى النجوم في هذا الحُكْم [كما في غيره في سائر](أ) الأحكام، وهل يجوِّز العاقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لا يحسبون ولا يعتبرون سير الأفلاك ويأتي من بعده من يتأسى به ويسلك غير ذلك المنهج السهل الواضح.

قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المُعَوّل على رؤية الأهلة، وقد نُهينا عن التكلف، ولا شك أن في مراعاة ما غَمُض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف.

واختار الإمام المهدي في "البحر" أن العارف بالنجوم إذا عرف ذلك يقينًا عاديًا عمل به كمن انفرد بالرؤية، والله أعلم.

[فائدة: أخرج أبو داود (2) عن الحسن في رجل كان بمصْر من الأمصار فصام يوم الإثنين، وشهد رجلان أنهما رأيا الهلال ليلة الأحد فقال: لا يقضي ذلك اليوم الرجل ولا أهل مصره إلا أن يعلموا أن أهل

(أ) بحاشية الأصل.

_________

(1)

البخاري الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نكتب ولا نحسب" 4: 126 ح 1913.

(2)

أبو داود الصوم، باب إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين 2: 749 ح 2333.

ص: 18

مصر من أمصار السلمين قد صاموا يوم الأحد فيقضونه] (أ).

500 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "تراءى الناسُ الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أو رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه الدارمي والدارقطني والبيهقي، وصححه ابن حزم كلهم من طريق أبي بكر بن نافع عن نافع عنه (1).

وأخرجه الدارقطني والطبراني في "الأوسط" من طريق طاوس قال: "شهدتُ المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلى واليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين".

قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي، وهو ضعيف (2).

والحديث يدل على قَبُول خبر الواحد في ابتداء الصوم، وقد ذهب إلى هذا الشافعي في أحد قولَيْه وأحمد وابن المبارك، وتخريج أبي مضر للمؤيد باللهِ، وللشافعية في الواحد اشتراط العدالة في الأصح لا عَبْد وامرأة، وهذا ما نَصَّ عليه الشافعي في "الأم"(3)، واحتمال أنه يصح من المرأة والعبد

(أ) بحاشية الأصل.

_________

(1)

أبو داود الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان 2: 756: 757 ح 2342، ابن حبان باب رؤية الهلال، ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به سماك بن حرب وأن رفعه غير محفوظ في زعمه 3: 187 ح 3438، الحاكم، كتاب الصوم 1: 423، الدارمي كتاب الصوم، باب الشهادة على رؤية هلال رمضان 2: 4، الدارقطني، كتاب الصيام 2: 156، المحلى 6:236.

(2)

الدارقطني 2: 156.

(3)

قال الشافعي: "فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط

" 2: 80.

ص: 19

لأنه رواية، والأصح في الصبي المميز الثقة عدم القبول، وذهب الهادوية ومالك والثوري والنخعي وأحد قولي الشافعي إلى اعتبار العدد فلا يكفي الواحد لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين يومًا، إلا إن شهد شاهدان" رواه النسائي (1)، فدل بمفهوم العدد أنه لا يكفي الواحد، قال الإمام المهدي (2): وحديث ابن عمر وحديث الأعرابي يحتمل أنه قد كان شهد غيرهما بذلك كما أنه صلى الله عليه وسلم رآه فلم يعلم برؤيته حتى أخبره غيره فقال: وآخر معك، وأجيب عن ذلك بأن المفهوم يترك لما هو أقوى منه، وقد وجد ما هو أقوى منه، والاحتمال الذي ذكره خلاف الظاهر، فإن سياق الإخبار يقضي بأنه لم يكن قد سبق خبر بذلك، وحكاية رؤيته صلى الله عليه وسلم وحده لم تثبت ولم يخرجها أحد من الأئمة المعتبرين، وذهب الصادق [ورواية عن زيد بن علي](أ) وأحد قولَي المؤيد بالله وأبو حنيفة إلى أنه يقبل الواحد في الغيم لاحتمال خفائه عن غيره لا الصحو فلا بد من جماعة لِبُعْد خفائه، وظاهر أقوالهم أن المشترط العدد مع العدالة فيصح أن يكون المخبر امرأتين، ونص عليه القاضي زيد إذ لا دليل على اعتبار غيرهما، وقد يجاب عنه بأن قوله "شاهدان" دليل على كونها شهادة، فلا تكفي المرأتان، وقد ذهب إليه الناصر وقال: لا تُقْبَلُ شهادة النساء.

وعلى قول من لم يعتبر العدد هو خبر فيكفي في غير محضر الحاكم، ولا يشترط لفظ الشهادة، وعلى القول بالعمل بخبر الواحد في الصوم دون الإفطار إذا صمنا وكملت الثلاثين وجب الإفطار على الأصح لأنا لم نفطر

(أ) بحاشية الأصل.

_________

(1)

النسائي الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان .... 4/ 132: 133 (ط. مصطفى محمد).

(2)

البحر 245:2.

ص: 20

بخبر الواحد صريحًا، وإنما هو متضمن، واحتمل أن لا يجب الإفطار لأنه يؤدي إلى الفطر بقول واحد، وهو ممتنع ابتداء، فكذلك إذا اقتضاه الشهادة السابقة، وأجاب الأول بأنه قد يثبت الشيء ضمنًا ولا يثبت صريحًا.

501 -

وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له".

رواه الخمسة، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه مرفوعًا ابنُ خزيمة وابن حبان (1).

وللدارقطني: "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل"(2).

الحديث لفظ النسائي، وغيره بلفظ:"من لم يجمع"، وقد اختلفت الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه (3): لا أدري أيهما أصح، يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعًا، ورواية إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم عن أبيه عن حفصة مرفوعًا بغير واسطة الزهري، لكن الوقف أشبه، وقال أبو داود (4):"ووقفه (أ) على حفصة: مَعْمَر بن راشد والزبيدي وابن عيينة ويونس الأيلي كلهم عن الزهري"، وقال الترمذي (5):"الموقوف أصح" ونقل في "العلل" عن البخاري أنه قال:

(أ) الأصل (أوقفه)، في جـ:"ووافقه" وهـ: (واقفه).

_________

(1)

أبو داود الصوم، باب النية في الصيام 2: 823: 428 ح 2454، الترمذي الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل 3: 108 ح 730، النسائي الصوم، ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة 4: 166، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل

، 1: 542 ح 1700 (بنحوه)، أحمد 6:287.

(2)

الدارقطني 2: 172.

(3)

علل الحديث 1: 225.

(4)

أبو داود 2: 824.

(5)

الترمذي 3: 108.

ص: 21

هو خطأ، وهو حدَّثنا فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف.

وقال النَّسائيّ: الصواب عندي موقوف، ولم يصح رفعه.

وقال أحمد: ما له عندي ذلك الإسناد.

وقال الحاكم في "الأربعين": صحيح على شرط الشيخين (1)، وقال في "المستدرك": صحيح على شرط البُخاريّ (1).

وقال البيهقي (2): "رواته ثقات إلَّا أنه رُوِيَ موقوفًا"(1).

وقل الخطابي (3): أسنده عبد الله بن أبي بكر، والزيادة من الثقة مقبولة.

وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة لأنَّ مَنْ رواه مرفوعًا قد رواه موقوفًا (4).

وأخرَجه الدارقطني من طريق أُخْرَى وقال: "رجالها ثقات"(5) وأخرجه ابن ماجه أيضًا (6).

وفي الباب عن عائشة أخرجه الدارقطني (7)، وفي إسناده عبد الله بن عباد، وهو مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الضعفاء (8).

وعن ميمونة بنت سعد (9)، ورواه أيضًا، وفيه الواقدي (10).

والحديث يدل على أنه لا يصح الصوم إلَّا بتبييت النية، ويبيتها بأن

(1) التلخيص 2: 188 (ط. هاشم اليماني).

(2)

البيهقي 4: 202 (بنحوه).

(3)

معالم السنن 2: 824.

(4)

المحلى 6: 162.

(5)

الدارقطني 2: 172.

(6)

ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل 1: 542 ح 1700.

(7)

الدارقطني 2: 171، 172.

(8)

المجروحين 2: 46، وانظر الميزان 2:450.

(9)

الدارقطني 2: 173.

(10)

الواقدي متروك تقدم في الحديث الثاني. ص 53.

ص: 22

ينوي في أي جزء مِنْ آخر الليل، وأول وقتها من الغروب عند الأكثر، وقال بعضُ أصحاب الشافعي: من النصف الأخير، ولا وجه له، وتقدم النية على الصوم هو على نحو سائر العبادات، فإن بيتها (أ) مقارِن (ب) لأول جزء، أو متقدمة مستصحب حكمها، وهو موافق لحديث:"الأعمال بالنية"(جـ)، فإن ابتداء الصوم عمل (د) فلا بد أن يكون مصحوبًا بالنية، وآخر النهار غير منفصلة عن الليل بفاصل يتحقق، فلا يتحقق إلَّا إذا كانت النية واقعة في جزء من الليل، وظاهر هذا شمول الفرض والنفل، وأنه لا يصح إلَّا بتبييت، وقد ذهب إلى هذا ابن عمر ومالك والليث وابن أبي ذؤيب (هـ) والمؤيد والناصر، إلَّا أن مالكًا خصص مَنْ سرد الصوم فلا يحتاج إلى التبييت، وذهب الشافعي والإمام يحيى إلى أنه يجب التبييت في الفرض دون النفل لهذا الحديث، وخصص النفل حديث عائشة الآتي وغيره ممَّا في معناه، إلَّا أن للشافعي قولَيْن فيما بعد الزوال، نص في معظم كُتبه على صحة النية قبل الزوال فقط، ونقل ابن المنذر الجواز مطلقًا، وذَهب عليّ وابن مسعود والنخعي والهادوية إلى أنها تصح نية الصوم إلى آخر جزْء من النهار فِي غير القضاء والنذر المطلق والكفارات، قالوا: لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا ينادي في النَّاس يوم عاشوراء: أن مَنْ أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل، أخرجه البُخاريّ (1).

(أ) الأصل، هـ،: فإن نيتها.

(ب) الأصل، هـ، جـ: مقارنة.

(جـ) هـ: بالنيات.

(د) هـ: عملًا.

(هـ) هـ: ذؤيب، الأصل، جـ: ذئب.

_________

(1)

البخاري الصوم، باب إذا نوى بالنهار صومًا (من حديث سلمة بن الأكوع) 4: 140 ح 1924.

ص: 23

وكان واجبًا ثم نسخ، ونسخ وجوبه لا يرفع سائر الأحكام، فقِيس عليه رمضان، وفي حكمه النذر المعين والتطوع لحديث عائشة وغيره فخصص مِن عموم، فلا صيام له، وبقي ما عدا ذلك داخلًا تحت العموم، وادعى في "البحر"(1) الإجماع على وجوب التبييت في القضاء والنذر المطلق والكفارات، فإن صح الإجماع فهو دليل، وإلا فيمكن قياسها أيضًا على عاشوراء أو (أ) التطوع، ويكون قرينة على تأويل الحديث بأن المعنى لا صيام كامل كما في غير ذلك، مثل:"لا صلاة لحاقن"، ونحوه.

وقال الطحاوي: إنْ كان صوم الفرض في يوم يعينه كعاشوراء أجزت النية في النهار، وإن كان في يوم لا يعينه كرمضان فلا يجزئ إلَّا بالتبييت، وصوم التطوع يجزئ في الليل وفي النهار.

قال إمام الحرمين: هذا كلام لا أصل له.

والحديث يدل أيضًا أن (ب) لا بد من النية، وهو مطابق لعموم الأعمال بالنيات، وهو قول الأكثر.

وقال زفر: يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية.

وبه قال عطاء ومجاهد، واحتج زفر بأنه متعين فيه الصوم، فالزمان معيار له فلا يحتاج إلى تعيينه بالنية، وألزمه أبو بكر الرازي بأنه يصح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل ويشرب لوجود الإمساك بغير نية، وألزمه غيره أن منْ أخَّرَ الصَّلاة حتَّى لم يبق من وقتها إلَّا قدرها فصلى أن يجزيه لتعين الوقت.

(أ) الأصل، هـ: و.

(ب) الأصل، هـ، جـ: أنه.

_________

(1)

البحر 2: 237.

ص: 24

502 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم شِيء؟ " قلنا: لا، قال "فإِني إِذًا صائم" ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: أُهْدِيَ لنا حيس، فقال:"أرينيه، فلقد أصبحت صائمًا"، فأكل. رواه مسلم (1).

هذه إحدى روايتي مسلم، والرواية الأخرى (2): قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "يا عائشة، هل عندكم شيء؟ قالتْ: قلت: يا رسول الله ما عندنا شيء، قال: فإني صائم، قالت: فخرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زور، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أهديت لنا، أو جاءنا زور، وقد خبأت لكَ شيئًا، قال: ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئتُ به فأكل ثم قال: قد كنتُ أصبحت صائمًا".

قال القاضي وغيره، الروايتان حديث واحد (3).

وفيه دلالة على مذهب الجمهور أن صوم التطوع لا يشترط فيه التبييت، وتأوله مشترط التبييت بأنه قد كان نوى الصوم من الليل، وإنما أراد الفِطْر لما ضعف عن الصوم، وهو محتمل لا سيما على رواية:"فلَقَدْ أصبحتُ صائمًا".

وفي الحديث أيضًا دلالة على أن المتطوع أمير نفسه وأن له أن يُفْطِرَ في أي جزء من أجزاء النهار، ولا يجب عليه القضاء، وقد قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وغيرهم، ولكنهم متفقون على استحباب إتمامه.

(1) مسلم الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلًا من غير عذر 169 - 1154.

(2)

مسلم (السابق) رقم - 17 - 1154.

(3)

شرح مسلم للنووي 3: 211.

ص: 25

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز قطعه ويأثم بذلك، وبه قال الحسن البصري ومكحول والنخعي، وأوجبوا قضاءه على مَنْ أفطر بلا عذْر.

قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه لا قضاء على من أفطر لعذر.

والحَيْس: بفتح الحاء المهملة هو التمر مع السمن والأقط.

وقال الهروي: ثريدة من أخلاط، والأول هو المشهور.

والزَّوْر: بفتح الزاي تقع على الواحد والجمع، أي الزوار.

وقد خبأت لك معناه: جاءنا زائر ومعهم هدية خبأت لك منها، أو يكون معناه: جاءنا زور فأهدي لنا بسببهم هدية فخبأت لك منها.

305 -

وعن سَهْل بن سَعْد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناسُ بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه (1).

وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قال الله -تعالى-: "أحب عبادي إليّ أعجلهم فطرًا"(2).

الحديث فيه دلالة على أن الأفضل الموافق للسنة التي بسببها ينال الخير ويندفع الشر، وهو تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار من يجوز العمل بقوله، وقد رواه ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضًا بلفظ:"لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم"(3)، وفيه بيان العلة في ذلك، وقد صرح بها أيضًا في حديث أبي هريرة:"لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أخرجه أبو داود (4)، فلما كان ذلك شعارًا

(1) البُخاريّ الصوم، باب تعجيل الإفطار 4: 198 ح 1957، مسلم الصيام، باب فصل السحور

وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر 2: 771 ح 48 - 1098.

(2)

التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء في تعجيل الإفطار 3: 83 ح 700.

(3)

ابن حبان 5: 209 الحاكم 1: 434.

(4)

أبو داود الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر 2: 763 ح 2353.

ص: 26

للمخالفين في الملة، وقد كثر من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إظهار مخالفتهم فيما يتدينون به، فكان ذلك شعارًا (أ) لسنة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وموافقة لا ألفه ومضى عليه.

قال المهلب: والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل، ولأنه أرفق (ب) بالصائم وأقوى له على العبادة (1).

قال الشافعي في الأم (2): "تعجيل الفطر مستجب ولا يكره تأخيره إلَّا لمن تعمده ورأى الفضل فيه".

وقال في "شرح المصابيح": ولو أن بعض النَّاس صنع هذا الصنيع، وقصده في ذلك تأديب النفس ودفعُ حاجتها أو مواصلة العشاءين بالنوافل غير معتقد ما يعتقده الفرقة الغوية من الشيعة أن ذلك أفضل لم يضره ذلك، ولم يدخل به في جملتهم.

ويصحح هذا التأويل حديث أبي سعيد: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحَر"(3) فإباحة المواصلة إلى السحر تأخير للإفطار، وتأخير الإفطار نظر، إلى سياسة النفس وقمع الشهوة أمر قد صنعه كثيرٌ من الربانيين وأصحاب النظر في الأحوال والمعارف -أعاد الله علينا من بركتهم-، وقد صح من ابن الزُّبير أنه كان يواصل سبعًا، ولم ييلغ إنكار أحد من الصحابة عليه. وفي الحديث القدسي أيضًا دلالة على محبوبيَّة الله سبحانه لما جرى على وفق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

(أ) هـ: إشعارًا.

(ب) هـ: أوفق - بالواو.

_________

(1)

الفتح 4: 199.

(2)

الأم 2: 82 (بنحوه)، فتح الباري 4:199.

(3)

البُخاريّ الصوم، باب الوصال إلى السَّحَر 4: 208 ح 1967.

ص: 27

504 -

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإِن في السحور بركة" متفق عليه (1).

وفي الباب من حديث أبي سعيد عند أحمد بلفظ: "السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين"(2)، ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة:"تسحروا ولو بلقمة".

قوله: "تسحروا": ظاهر الأمر الوجوب ولكنه محمول على الندب هنا لأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا، وسيأتي الكلام في حكم الوصال، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ندبية السحور.

والسّحور: يروى بالضم مصدر، وبالفتح اسم لما يتسحر به فإن كان مصدرًا فالمراد بالبركة الأجر والثواب، وإن كان اسمًا لما يتسحر به فالمراد بالبركة هو ما يحصل به من القوة على الصوم والنشاط وتخفيف المشقة، وقيل: المراد بالبركة ما يتضمن من الاستيقاظ (أ) والدعاء في السحر، والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي اتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم:"فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السَّحَر"(3) رواه مسلم.

والتقوي به على العبادة والزيادة في النشاط والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، والسحور يحصل بأقل ما يتناوله المرء من مأكول أو مشروب.

(أ) هـ: الاستنباط.

_________

(1)

البُخاريّ الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب 4: 139 ح 1923 مسلم الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه. . . .، 2: 770 ح 45 - 1095.

(2)

أحمد 3: 12: بلفظ: "السحور أكله بركة

".

(3)

مسلم الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه. . . .، 2: 770، 771 ح 46 - 1096.

ص: 28

505 -

وعن سلمان بن عامر الضبيّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا أفطر أحدكم فليُفْطِر على تمر فإِن لم يجد فليفطر على ماء فإِنه طهور" رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (1).

قال ابن عبد البر في "الاستيعاب"(2): قال بعض أهل العلم بهذا الشأن: ليس في الصحابة من الرواة ضبيّ غير سلمان بن عامر، وقال ابن أبي خيثمة: قد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من بني ضبة عتاب بن شمير (أ).

سكن سلمان بن عامر البصرة، وله بها دار قريب من الجامع، روى عنه محمد بن سيرين، والرباب بنت ضليع بن عامر بنت أخي سلمان، وعداده في الشاميين.

الحديث صححه أيضًا أبو حاتم الرازي (3)، وروى ابن عدي عن عمران بن حصين معناه وإسناده ضعيف، وروى التِّرمذيُّ (4) والحاكم وصححه من حديث أنس مثل حديث سلمان، ورواه أحمد والترمذي والنَّسائيُّ وغيرهم عن أنس مِنْ فعْله صلى الله عليه وسلم قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قَبل أن يصلِّي فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء"(5).

(أ) الأصل: غياث بن شمير، هـ، جـ: غياث بن سمير.

_________

(1)

أحمد 4: 17. التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار 3: 78 ح 695 وزاد بعد تمر فإنّه بركة، أبو داود (نحوه) الصوم باب ما يفطر عليه 2: 764 ح 2355، النَّسائيّ - الكبرى - تحفة الأشراف 4: 24، ابن ماجه (نحوه) الصيام باب ما جاء على ما يستحب الفطر الفظ 1: 542 ح 1699، ابن حبان (نحوه) ذكر الاستحباب للمرء أن يكون إفطاره على التمر أو على الماء عند عدمه: 5: 120 ح 3506، الحاكم 1: 431 - 432.

(2)

الاستيعاب 2: 62 (مطبعة السعادة).

(3)

العلل 1: 237 ح 687.

(4)

التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار 3: 77 ح 694.

(5)

التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار 3: 79 ح 696، أحمد 3:164.

ص: 29

قال ابن عدي (1): تفرد به جعفر بن ثابت والحديث مشهور بعد (أ) الرَّزاق تابعه عمار وهارون وسعيد بن سليمان النشيطي قال (ب) البزار: رواه النشيطي، فأنكروا عليه وضعف حديثه.

قال المصنف رحمه الله: وأخرج أبو يعلى عن إبراهيم بن الحجاج عن عبد الواحد بن ثابت عن ثابت عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار".

وعبد الواحد، قال البُخاريّ: منكر الحديث.

وروى الطّبرانيّ (2) عن أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان صائمًا لم يُصَل حتى نأتيه برطب وماء فيأكل ويشرب، وإذا (جـ) لم يكن رطب لم يصل حتى نأتيه بتمر وماء"وقال: تفرد به مسكين بن عبد الرحمن عن يحيى بن أيوب، وعنه زكريا بن عمر.

في الحديث دلالة على اختيار ما ذكر للإفطار به، وقد تقدمت المناسبة لذلك في باب صلاة العيد، والله أعلم.

506 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوِصَال، فقال رجل من المسلمين: فإِنك تواصل يا رسول الله، فقال: وأيكم مثلي؟! إِني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال فقال:

(أ) المثبت في الأصل، هـ، وفي جـ: لعبد- باللام.

(ب) سقط من جـ: (قال).

(جـ) هـ: فإذا.

_________

(1)

الكامل 2: 175 ولفظه غير هذا .... التلخيص 2: 211.

(2)

عزاه الهيثمي للطبراني في "الأوسط"، وقال عقبة:"وفيه مَن لم أعرفه". (مجمع- الزوائد 3: 156). وانظر: التلخيص 2: 211.

ص: 30

لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا" متفق عليه (1).

الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر (2)، ومن حديث أبي هريرة وعائشة وأنس، وتفرد به البُخاريّ من حديث أبي سعيد (3).

الحديث فيه دلالة على المنع من الوِصَال، والوصال هو تَرْك المفطر في النهار وفي ليالي رمضان بالقصد، فيخرج من أمسك اتفاقًا ويدخل فيه من أمسك الليل جميعه أو بعضه، ويدل عليه حديث أبي سعيد:"فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، فإنّه صريح في أن إمساك بعض الليل مواصلة، وهذا يرد على مَنْ قال: الليل ليس محلًا للصوم فلا تنعقد فيه نيته، قالوا: لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إِلى الليل} (4)، وما أخرجه التِّرمذيُّ (5)، من حديث عبادة بن نسي عن أبي سعيد الخير مرفوعًا "إن الله لم يكتب الصيام بالليل، فمن صام فقد تعنى ولا أجر له" قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه. قال التِّرمذيُّ: سألت البُخاريّ عنه فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد الخير.

وأخرج أحمد (6) والطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حمَيْد وابن أبي

(1) البُخاريّ الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال .... ، 4: 205: 206 ح 1965، مسلم الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم 2: 774 ح 57 - 1103) (واللفظ له).

(2)

البُخاريّ ح ابن عمر 1962 وحديث عائشة 1964 وحديث أنس 1961، مسلم ح ابن عمر 55 - 1102 وحديث عائشة 61 - 1105 وحديث أنس 59 - 1104.

(3)

البُخاريّ 4: 202 ح 1963.

(4)

سورة البقرة الآية: 187.

(5)

ليس لأبي سعيد حديث عند التِّرمذيِّ انظر التهذيب 408، الخلاصة 451 قال الحافظ في الفتح (4/ 202):"وهو حديث ذكره التِّرمذيُّ في الجامع، ووصله في العلل المفرد، وأخرجه ابن السكن وغيره في الصحابة والدولابي- وغيره في الكنى كلهم من طريق أبي فروة الرهاوي عن معقل الكندي عن عبادة بن نسي عنه، ولفظ المتن مرفوعًا": "إن الله لم يكتب .... " الحديث.

(6)

أحمد 5: 225.

ص: 31

حاتم في تفسيرهما بإسنادٍ صحيح إلى ليلى امرأة بشير ابن الخَصَاصية قالت: "أردتُ أن أصوم يوميْن مواصلة فمنعنى بشير وقال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، قال: تفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) فإذا كان الليل فأفطروا".

وروى ابنُ أبي حاتم وابن أبي شيبة (2) من طريق أبي العالية التابعيّ أنه سُئل عن الوصال في الصيام فقال: "قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، فإذا جاء الليل فهو مفطر".

وأخرج الطّبرانيّ (3) عن أبي ذر رفعه قال: "لا صيام بعد الليل" أي بعد دخول الليل ذكره في أثناء حديث، وترد هذه الأحاديث بأنه قد ثبت النهي عن الوصال، ومواصلته، صلى الله عليه وسلم، ولو كان كما قالوا لما كان لذلك مفهوم ينهى عنه أو يسأل عنه، وهي متأولة بأن ذلك الوقت هو الوقت الذي أبيح فيه الإفطار، وهو غاية ما يجب فيه الإمساك، ولا ينافي كون الليل تصح نية الإمساك فيه عن المفطرات، والفرق واضح.

وقوله: "قال رجل من المسلمين": هكذا في رواية أبي هريرة، وفي غيرها في أكثر الروايات:"قالوا إنك تواصل" فكأن القائل واحد (أ) ونسب القول إلى الجميع لرضاهم به.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- (4): "ولم أقف على تسمية السائل في شيءٍ من الطُّرق".

(أ) جـ: واحد أو نسب.

_________

(1)

البقرة الآية: 187.

(2)

ابن أبي شيبة 3: 83، 84.

(3)

الطّبرانيّ في الأوسط (الفتح 4: 203).

(4)

الفتح 203:4.

ص: 32

وقوله: "وأيكم مثلي؟ ": استفهام إنكار للتوبيخ، ومثلي أي على صفتي أو منزلتي من ربي، وقد وقع في لفظ للبخاري:"لست كأحدٍ منكم"، وفي حديث ابن عمر:"لستُ مثلكم"، وفي حديث أبي سعيد:"لست كهيئتكم"، وفي حديث أبي (أ) زُرْعة عن أبي هريرة عند مسلم:"لستم في ذلك مثلي"(1)، ونحوه في مرسل الحسن عند سعيد بن منصور.

وقوله (ب)"إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني": وقع هذا اللفظ في البُخاريّ عن أبي هريرة من طريقين (2)، ووقع عند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة (3) عن أبي هريرة "إنِّي أظَلُّ عند ربي يطعمني ويسقيني".

وأخرَج الإسماعيليّ (4) في حديث عائشة: "أظَلُّ عند الله يطعمني ويسقيني"، ومن طريقٍ بلفظ:"عند ربي" ووقعت أيضًا كذلك عند سعيد بن منصور (5) وابن أبي شيبة في مرسل الحسن بلفظ: "إني أبيت عند ربي"(6).

ورواية "أبيت" هي المناسبة لما عنه (جـ) الحكم، وهو الإمساك بالليل، وأما رواية "أظل" فلا تناسب ظاهرًا لأنَّ ذلك للنهار إلَّا أنها محمولة على

(أ) سقط من هـ (أبي).

(ب) هـ: قوله- بدون الواو.

(جـ) هـ، جـ: عند.

_________

(1)

تقدم تخريج الاُحاديث.

(2)

البُخاريّ الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال 4: 205 - 206 ح 1965، 1966.

(3)

ابن أبي شيبة 3: 82.

(4)

و (5) الفتح 4: 207.

(6)

ابن أبي شيبة 3: 83.

ص: 33

مطلق الكون، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (1) وهي في الحقيقة بمعنى صار لا يختص بوقتٍ دونَ آخر.

واختلف العلماء في معنى "يطعمني ويسقيني"، فقيل: هو على حقيقته، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم ويسقى من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بَطَّال بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلًا، وأجيب عنه بأنَّ ما كان على هذه الكيفية من طعام الجنة للتكريم فهو لا ينافي التكليف ولا يكون له حكم طعام الدنيا، كما أنه صلى الله عليه وسلم غسل صدره (أأي قلبها" أ) -في طشت الذهب مع تحريم آنية الذهب، وقال الزين بن المُنيِّر (2): إن أكله وشربه في تلك الحالة كحالة النائم الذي يحصل له الشبع والري في حال النوم، ويستمر له ذلك (ب) حتَّى يستيقظ، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم مستغرق في أحواله الشريفة حتَّى لا يؤثر فيه شيء من الأحوال البشرية.

وقال الجمهور: المعنى أن له قوة الآكل الشارب لا يضعفه الوصال عن وظائف العبادة ولا يضعف جسمه عن الكيفية البشرية، أو أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فيكون في كيفية الآكل الشارب، ويرجح الأول بأن روح عبادة الصوم هو إدراك خلق (جـ) الباطن فلا يناسب خلق الشبع والري فيه. قال القرطبي: مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع أكثر ممَّا يشبع، وربط على بطنه الحجارة من الجوع، وإن كان ابن

(أ - أ) سقط في جـ.

(ب) هـ: كذلك.

(جـ) غير ظاهر بالنسخ فالأشبه في الأصل، جـ: خلو.

_________

(1)

النحل الآية: 58.

(2)

الفتح 207:4.

ص: 34

حبان (1) قال بأنه كان لا يجوع وتمسك بظاهر هذا الحديث، وضعف الأحاديث الواردة بأنه كان صلى الله عليه وسلم يجوع وشد الحجر على بطنه، وقال أيضًا ما يغني الحجر عن الجوع، وقد أكثرَ النَّاس عليه الرد في ذلك، ويرد عليه بما أخرجه هو أيضًا في "صحيحه" من حديث ابن عباس أنه خرج صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فرأى أبا بكر وعمر فقال: ما أخرجكما؟ قالا: ما أخرجنا إلَّا الجوع، قال: وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلَّا الجوع، وفائدة الشد بالحجر أنه يقيم الصلب لأنَّ البطن إذا خلا ضعف صاحبه عن القيام لانثناء بطنه، فإذا ربط عليه الحجر اشتد وقوي صاحبه على القيام حتَّى قال بعض من وقع له ذلك: كنتُ أظن الرِّجْلَيْن تحملان البطن، فإذا البطن تحمل الرِّجْلين، والظاهر أنه أراد صلى الله عليه وسلم أن ما هو فيه من الاشتغال بالتفكر في عظمة ربه والتملي بمشاهدته والتغذي بمحبته، والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه مغنٍ عن الطعام والشراب، وإلى هذا جنح ابنُ القيِّم قال: وقد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذَوْق عَلِمَ استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثيرٍ من الغِذَاء الجسماني، ولا سيما الفرح والسرور بمطلوبه الذي قرت عينه بمحبوبه.

وقوله: "واصل بهم يومًا ثم يومًا": ظاهره أنَّ قدرَ المواصلة لهم كانت يومَيْن، وقد صرح بذلك البُخاريّ في رواية (2)، وقوله:"لو تأخر": يستدل بهذا على جواز التمني بليت، ويحمل النهي على ذلك فيما إذا كان في الأمور الشرعية.

وقوله: "لزدتكم" أي: في الوصال إلى أنْ تعجزوا عنه فتسألوا

(1) صحيح ابن حبان 5: 236.

(2)

البُخاريّ 4: 205 - 206 ح 1965.

ص: 35

التخفيف عنكم بتَرْكه.

وقوله (أ): "كالمُنَكِّل": هي في رواية معمر، ووقع في أخرى "كالتنكيل"، ووقع عند المستملي كالمنكر" بالراء وسكون النون من الإنكار، وللحموي "كالمنكي" بتحتانية ساكنة قبلها كاف مكسورة خفيفة من النكاية، والتنكيل: هو المعاقبة (1).

وفي الحديث دلالة على أنَّ الوِصَال من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأن غيره ممنوع منه إلَّا (ب) ما أذن فيه إلى السَّحَر، ثم اختلف العلماء في المنع منه فقيل على سبيل التحريم، وقيل الكراهة، وقيل يحرم على منْ شق (ب) عليه ويباحُ لمن لم يشق عليه، وقد اختلف السلف في ذلك فنقل التفضيل عن عبد الله بن الزُّبَير، وروي ابن أبي شيبة (2) بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يومًا.

وذهب إليه أيضًا من الصحابة أخت أبي سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزُّبير، وإبراهيم بن يزيد التَّيْمي، وأبو الجوْزَاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في "الحلية"(3) وغيرهم، رواه الطّبرانيّ وغيره، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم وَاصلَ بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم مطلقًا لما أقرهم على فعله، فَعُلِمَ أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم، وقد صرحت بذلك عائشة في روايتها (4)،

(أ) سقط من هـ: (وقوله).

(ب) هـ: إلى.

(جـ) هـ: يشق.

_________

(1)

انظر: الفتح 4: 206.

(2)

ابن أبي شيبة 3: 84.

(3)

حلية الأولياء في ترجمة عبد الرحمن بن أبي نعيم 5: 69.

(4)

البُخاريّ الصوم، باب الوصال ومنَ قال ليس في الليل صيام

، 4: 202 ح 1964.

ص: 36

وذهب الأكثرون (أ) إلى تحريمه، وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم والكراهة، هكذا اقتصر عليه النووي، وقد نص الشافعي في "الأم"(1) على أنه محظور، وصرح ابن حزم بتحريمه (2)، وصححه ابن العربي من المالكية (3)، واعتذروا عن مواصلته صلى الله عليه وسلم بهم بأن ذلك تقريعًا لهم وتنكيلًا، واحتمل جواز ذلك منه لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي وكان ذلك أدعى (ب) إلى قبولهم لما يترتب عليه من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف العبادات.

وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السَّحَر للإذن بذلك وهذا حيث لم (جـ) يشق على الصائم وإلا فليس بقربة، وأجاب بعض الشافعية بأن ذلك ليس وصالًا، وقد عرفت فيما تقدم أنه وصال، (د وقد ورد د) أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر، أخرجه أحمد وعبد الرَّزاق (4)، واختار المصنف - رحمه الله تعالى (هـ) - أن الوصال غير محرم، قال لما أخرجه أبو داود (5)

(أ) هـ: الأكثر.

(ب) جـ: داعى.

(جـ) هـ: لما.

(د- د) ساقط من جـ.

(هـ) في الأصل: (إلى أن)، كما ألحقت (إلى) بحاشية هـ.

_________

(1)

الأم 2: 26.

(2)

المحلى 21:7.

(3)

عارضة الأحوذي 3: 307.

(4)

أحمد 1: 141، عبد الرَّزاق 4: 267 ح 7752.

(5)

أبو داود الصوم، باب في الرخصة في ذلك 2: 774 ح 2374.

ص: 37

وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رَجُلٍ من الصحابة قال: "نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما (أ) إبقاءً على أصحابه" وإسناده صحيح.

وروي البزار والطبراني في "الأوسط" من حديث سمرة: "نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الوصال وليس بالعزيمة (1) " وأما ما رواه الطّبرانيّ في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك. فليس إسناده بصحيح (2).

ويدل على الجواز أيضًا إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي فلولا أنهم فَهِمُوا أنه ليس للتحريم لما أقدموا على ذلك.

وفيه مناسبة من حيث المعنى من جهة فطم النفس عن شهواتها وقمعها عن مستلذاتها، ولهذا استمر على القول بجوازه مطلقًا ومقيدًا من يقدم ذكره، والله أعلم.

وفي الحديث دلالة على التأسي به صلى الله عليه وسلم ومعارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستفتي بسر المخالفة والاستكشاف عن حكمة النهي وثبوت خصائصه وأن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته إلَّا أن يتبين له الخصوصية به.

507 -

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن

(أ) هـ، ب: يحرمها، والمثبت في الأصل وفي سنن أبي داود.

_________

(1)

البزار (كشف الأستار 1: 482 ح 1024)، الطّبرانيّ في المعجم الكبير 7: 300 ح 7012، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 158: "في إسناده ضعف".

(2)

عزاه الهيثمي للطبراني في "الأوسط" وقال عقبة: "رواه الطّبرانيّ في الأوسط عن عبد الملك عن أبي ذر، ولم أعرف عبد الملك وبقية رجاله رجال الصحيح".

ص: 38

لم يَدَعْ قَوْل الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طَعَامَهُ وشرابه" رواه البُخاريّ وأبو داود واللفظ له (1).

الحديث رواه البُخاريّ في كتاب الصيام بدون زيادة "والجهل"(2)، ورواه بالزيادة في الأدب، وفي رواية ابن وهب (أ) بزيادة "والجهل" في الصوم، ولابن ماجه "من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به"(3).

وأخرَج الطّبرانيّ في "الأوسط"(4) عن أنس بلفظ "من لم يدع الخنا والكذب"، والمراد بمن لم يَدَعْ أي يترك ما ذكر، والزور المراد به الكذب، والجهل: السَّفَه.

وعلي رواية الأصل الضمير في "به" يعود إلى الزُّور، وفي رواية ابن ماجه يعود إلى الجهل، ويحتمل العودُ إلى كل واحد منهما.

وقوله: "ليس لله حاجة": أي ليس له إرادة، والغَرَض من هذا التحذير والتعظيم لإثمه، وأن صيامه كلا صيام (ب) ولا معنى معتبر للمفهوم هنا، فإن الله لا يحتاج إلى أحد، هو الغني سبحانه وتعالى، ذكر هذا ابن بطال.

وقال ابن المُنيِّر في حاشيته على البخاريّ: هو كناية عن عدم القَبُول، كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئًا طلبه منه لم يقم به: لا حاجة لي

(أ) هـ: من ذهب.

(ب) جـ: خلا صيام، وسقط من جـ (ولا معنى).

_________

(1)

البُخاريّ الأدب، باب قول الله تعالى:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} 10: 473 ح 6057، أبو داود الصوم، باب الغيبة للصائم 2: 767 ح 2362.

(2)

البُخاريّ الصوم، باب مَن لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم 4: 116 ح 1903.

(3)

ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم 1: 539 ح 1689.

(4)

مجمع الزوائد 3: 171، وقال الهيثمي عقبه:"وفيه منْ لم أعرفه".

ص: 39

إلى كذا، مثل قوله تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (1).

وقال ابن العربي: معناه أن ثواب الصيام لا يقاوم في حكم الموازنة ما استحق من العقاب لما ذكر (2). وقال (أ) البيضاوي: إن المقصود من شرعية الصيام هو قمع النفس ومنعها عن المشتهيات، وأن تطيع النفس الأمارة النفس (ب) المطمئنة، وهو لا يتم إلَّا بترك المنهيات، فإذا لم يحصل ذلك لم يتقبل الله منه، فيجوز بما ذكر عن عدم القبول فنفى السبب وهو (جـ) الاحتياج (د) إلى الشيء في الجملة الذي يكون سببًا لقبوله وتلقيه، وأراد المسبب وهو القبول، والله أعلم.

508 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقَبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإِرَبِهِ" متفق عليه، واللفظ لمسلم (3).

وأراد في رواية في رمضان المراد بالمباشرة هنا هو التقاء البشرتين من غير جماع، وقد يستعمل في الجماع مثل قوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (4).

(أ) سقط من جـ: (وقال).

(ب) سقط من جـ: (النفس).

(جـ) سقط من جـ: (وهو).

(د) زادت جـ: (وإن كان فيمتنع في حق الله).

_________

(1)

الحج الآية: 37.

(2)

عارضة الأحوذي 3: 229.

(3)

مسلم الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته 2: 777 ح 65 - 1106 البُخاريّ الصوم، باب المباشرة للصائم 4: 149 ح 1927.

(4)

البقرة الآية: 187.

ص: 40

والإِرَب: رُوِيَ على وجهَيْن أشهرهما - ورواية الأكثرين (أ) -بكسر الهمزة وإسكان الراء، وكذا (ب) نقله الخطابي والقاضي عن رواية الأكثرين (1).

والثاني بفتح الهمزة والراء، ومعناه بالكسر: الوَطَر والحاجة، وكذا بالفتح ولكنه يطلق المفتوح أيضًا على العضو.

قال العلماء: معنى كلام عائشة رضي الله عنها أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة، ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في استباحتها، لأنَّه يملك نفسه ويأمن الوقوع من قبلة أن يتولد منها إنزال أو شهوة وهيجان نفسٍ ونحو ذلك، وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم الانكفاف عنها، وقد أخرج النَّسائيّ (2) من حدَّثنا الأسود قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه.

وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قاله القرطبي قال: وهو اجتهاد منها، انتهى.

ولكنه مُتَأَوِّل بأنها كرهت ذلك للسائل كراهة تنزيه لا تحريم، وهو يفهم من قولها:"أملككم لإربه" فإنّه لا دلالة فيه على الخصوصية، وإنما هو استبعاد منهم أنهم يملكون أنفسهم عند قوة الداعي وسبب تحرّك الشهوة.

(أ) جـ: الأكثر.

(ب) هـ: وكذلك.

_________

(1)

غريب الحديث 3: 223، المشارق 1:27.

(2)

النَّسائيّ الكبرى الصيام (كما في تحفة الأشراف 11: 359).

ص: 41

قال المصنف -رحمه الله تعالى (1) -: وقد رويناه في كتاب "الصيام" ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بلفظ: سألتُ عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها.

ويدل أيضًا على أن عائشة لا تُحَرِّمها ولا تعدها من الخصائص ما رواه مالك في "الموطأ"(2) عن أبي النَّضْر أن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها (أ) وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟! قالت: نعم.

وأخرَج ابن حبان في "صحيحه"(3) أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يمس شيئًا من وجهها وهي صائمة، فيدل أيضًا على أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يجنبها ذلك إذا صابها تنزيهًا منه لها عن تحرك الشهوة، لكونها ليست مثله.

وفي قولها "في رمضان": إشارة إلى أنه لا فَرْق بين صوم النَّفْل والفَرْض، وظاهر الحديث يدل على إباحة التقبيل والمباشرة للصائم لدليل التأسي به صلى الله عليه وسلم ولأن ما ذكرته جواب عن سؤال مَنْ سأل عن القُبْلَة وهو صائم، فالجواب يقضي بالإباحة لذلك مستشهدة بما كان يفعله (ب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ب) - وقد اختلف في ذلك فكرهها قَوْمٌ مطلقًا، وهو المشهور عند المالكية، وأخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن

(أ) هـ: لتلاعبها.

(ب- ب) ساقط من هـ.

_________

(1)

الفتح 4: 150.

(2)

الموطأ الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم 196 ح 16.

(3)

ابن حبان الصيام 5: 223 ح 3538.

ص: 42

عمر (1)، ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم التحريم واحتجوا بقوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية (2)، فمنع من المباشرة في النهار، ويجاب عنه بأن المراد بالمباشرة في الآية هو الجماع، ويدل على ذلك بيان النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث وغيره، وأفتى ابن شبرمة من فقهاء الكوفة بإفطار من قبّل، ونقله الطحاوي عن قوم ولم يسمهم، وأباح ذلك قوم وهو منقول صحيحًا عن أبي هريرة وسعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، وبالغ بعض الظاهرية فاستحبها، وفَرَّق آخرون بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب وأباحها للشيخ، وهو مشهور (أ) عن ابنِ عباس أخرجه مالك (3) وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان ضعيفان مرفوعان، أخرج أحدهما أبو داود من حديث أبي هريرة (4)، والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمرو (5)، وَفَرَّق آخرون بين من يملك إربه ومن لا، كما أشارت إليه عائشة.

وقال التِّرمذيُّ (6)، ورَوَى بعض أهل العلم أن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبّل وإلا فلا ليسلم له صومه، وهو قول سفيان والشافعي، ويدل على ذلك ما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة لما سأل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته أم سلمة أمه (ب) "أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله قد

(أ) هـ: المشهور.

(ب) هـ: (أمه أم سلمة).

_________

(1)

ابن أبي شيبة 3: 61.

(2)

سورة البقرة الآية: 187.

(3)

الموطأ الصيام، باب ما جاء في التشديد في القبلة للصائم 196 ح 19.

(4)

أبو داود الصوم، باب كراهيته للشاب 2: 780: 781 ح 2387.

(5)

أحمد 2: 185، 220: 221 فيه ابن لهيعة تقدم في ح 28.

(6)

التِّرمذيُّ 3: 106.

ص: 43

غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: أنا والله لأتقاكم لله وأخشاكم له" (1)، فدل على أن الشاب والشيخ سواء لأنَّ عمر كان شابًّا لعله كان أول ما بلغ، وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص.

وأخرج أيضًا (أ) النَّسائيّ (2) من حدَّثنا عائشة قالت: أهوى إليَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليقبلني، فقلت: إني صائمة، فقال:"وأنا صائم" فقبلني.

مع أن عائشة أيضًا شابة، وهذا يعارض ما تقدم من تركه لتقبيلها وهي صائمة، ولعله اختلف الحال بالنظر إلى ما يعرض للإنسان مع شدة الشهوة في وقت وعدم ذلك.

واختلف العلماء أيضًا فيما إذا باشر أو قَبَّلَ أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الإمذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر إلَّا في الإمذاء فيقضي فقط، واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يطلب في الجماع من الالتذاذ في ذلك، وتعقب بأن الحكم علق بالجماع فقط.

وروى ابن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فأنعظ وإن لم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك، وأبلغ من ذلك ما رواه عبد الرَّزاق عن حذيفة:"من تأمل خلْق امرأته وهو صائم بطل صومه" وإسناده ضعيف (3).

(أ) سقط من جـ: (أيضًا).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة 2: 779 ح 74 - 1108.

(2)

النَّسائيّ في السنن الكبرى كتاب الصيام وعشرة النساء (كما في تحفة الأشراف 11: 427 ح 16164).

(3)

مصنف عبد الرَّزاق 193:4 ح 7452.

ص: 44

وقال ابن قدامة: إنْ قَبَّلَ فأنزل أفطر بلا خلاف (1). وقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل (2).

وقال الماوردي: ينبغي أنْ يُعْتَبَرَ حال المقبل فإن أثارت القبلة منه الإنزال حرمت عليه لأنَّ الإنزال يمنع من الصيام، فكذلك ما أدى إليه وإن كان عنها المذي، فمن رأى (أ) الإفطار به ووجوب القضاء قال: يحرم في حقه، ومن قال: يكره، وإن لم تؤدِّ القبلة إلى شيء فلا معنى للنهي عنها إلَّا على القَوْل بسد الذرائع، قال: ومِنْ بديع ما روي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للسائل عنها: "أرأيت لو تمضمضت"(3) فأشار إلى فقهٍ بديع، وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم (ب) وهي أول الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع فكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل (جـ) الجماع. انتهى.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنَّسائيُّ من حديث عمر، قال النَّسائيّ: منكر (4)، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

(أ) جـ: روي.

(ب) جـ: الوضوء.

(جـ) سقط من جـ: (أوائل).

_________

(1)

المسألة فيها خلاف وذكر ابن قدامة الخلاف في المغني 3: 111.

(2)

المحلى 205:6.

(3)

أحمد 1: 21، أبو داود الصوم، باب القبلة للصائم (بلفظ "مضمضت") 2: 779: 780 ح 2385، النسائي في الكبرى الصيام (تحفة الأشراف 10422)، الحاكم 1: 431، ابن حبان 5: 223 ح 3536 (بلفظ مضمضت)، ابن خزيمة 3: 245 ح 1999.

(4)

تحفة الأشراف 8: 17 ح 10422.

ص: 45

وفي الحديث دلالة على أنه لا بأس بذكر ما يقع بين الزوجَيْن عند الاحتياج إلى ذلك، والنهي عنه إذا كان لغير حاجة، والله أعلم.

509 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه "أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحْرِم، واحتجم وهو صائم". رواه البُخاريّ (1).

ظاهر هذا اللفظ أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم الأمران (أ) مقترنين (ب): وهو الحِجَامَة وهو محرم، والحجامة وهو صائم، ولم يكن ذلك في وقت واحد لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائمًا في حجة الوداع، فإنها لم تكن في رمضان، ولم يكن مُحْرِمًا في سفره في رمضان في عام الفتح، وقد صام في ذلك كما في الصحيحين [بلفظ "وما منا صائم إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة"](2) ويدل على ذلك أن غالب الروايات ورد مفصلًا، قال بعض الحفَّاظ: حديث ابن عباس ورد على أربعة أوجه:

الأول: احتجم وهو مُحْرِم. وقد روي من طرق شتى عن ابن عباس (3)، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن بُحينَة (4)، وفي النَّسائيّ وغيره من

(أ) جـ: الأمرين.

(ب) كذا في الأصل، وهـ، وفي جـ:(مفترقين) وكذا. حاشية الأصل: في سبل السلام "مفترقين" وهو الظاهر.

_________

(1)

البُخاريّ كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم 4: 174 ح 1938.

(2)

البُخاريّ الصوم، باب: 4: 182 ح 1945، مسلم الصوم، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر 2: 790 ح 108 - 1222.

(3)

البُخاريّ جزاء الصيد، باب الحجامة للمحرم 4: 50 ح 1835، مسلم الحج، باب جواز الحجامة للمحرم 2: 862 ح 87 - 1202.

(4)

البُخاريّ (السابق) 4: 50 ح 1836، مسلم (السابق) 2: 862 ح 88 - 1203.

ص: 46

حديث أنس (1) وجابر (2).

والثاني: احتجم وهو صائم. رواه أصحاب السنن، وفي إسناده مقال (3)، وزاد ابن سعد في آخره:"فلذلك كرهت الحجامة للصائم".

وفيه ضعف أيضًا، وقد رواه البزار وفي آخره:"فغشي عليه"(4).

والثالث: ما رواه البُخاريّ كما في الأصل.

والرابع: "احتجم وهو صائم مُحْرِم". رواه النَّسائيّ وغيره (5)، وقال أحمد وابن المدينيّ: ليس فيه صائم، وقال أحمد: هؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صيامًا، وقال أبو حاتِمٍ:"أخطأ فيه شريك، إنما هو احتجم وأعطى الحجام أجره، وشريك حدث به من حفظه وقد ساء حفظه فغلط فيه"(6).

والحديث فيه دلالة على أن الحجامة لا تفطر الصائم، وقد ذهب إليه الأكثر من الصحابة والتابعين والفقهاء ذهابًا منهم إلى أن هذا ناسخ لحديث شداد بن أوس وغيره، وبعضهم تأول ذلك وسيأتي، وذهب أبو هريرة وعائشة والأوْزاعِي وأحمد وإسحاق إلى أنها تفطره لما سيأتي.

(1) النسائي مناسك الحج، باب حجامة المحرم على ظهر القدم 5/ 194.

(2)

النَّسائيّ مناسك الحج، باب حجامة المحرم من علة تكون به 5/ 193.

(3)

أبو داود الصوم، باب في الرخصة في ذلك 2: 773 ح 2372، التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء من الرخصة في ذلك 3: 146 ح 776، النَّسائيّ في الكبري الصيام (-كما في تحفة الأشراف 5: 249 ح 6495)، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم 1: 537 ح 1682.

(4)

كشف الأستار 1: 478 ح 1015.

(5)

أبو داود الصوم، باب في الرخصة في ذلك 2: 773 ح 2373، التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء من الرخصة في ذلك 3: 146 ح 775، والنَّسائيُّ في الكبرى الصيام (كما في تحفة الأشراف 5: 249 ح 6495).

(6)

علل الحديث ص 230 ح 668 (بنحوه).

ص: 47

510 -

وعن شَداد بن أوْس أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: "أتى على رَجُل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان فقال: أفطر الحاجم والمحجوم له" رواه الخمسة إلَّا التِّرمذيّ، وصححه أحمد وابن خزيمة، وابن حبان (1).

هو أبو يعلى شداد -بالشين المعجمة- بن أوس الأنصاري، ابن أخي حسَّان بن ثابت، يقال إِنه شهد بدرًا، ولا يصح، ونزل بيت المقدس، وعداده في أهل الشام، وروَى عنه ابنه يعلى ومحمود بن الرَّبيع وضمرة بن حبيب، مات بالشام سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: مات سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة أربع وستين.

قال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: كان شداد ممن أوتي العلم والحلم (2).

الحديث أخرج من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وهم: شداد بن أوس، وثوبان، ورافع بن خديج، وأبو موسى، ومَعْقل بن يسار، وأسامة بن زيد، وبلال، وعلي، وعائشة، وأبو هريرة، وأَنس، وجابر، وابن عمر، وسَعْد بن أبي وَقَّاص، وأبو سويد الأنصاري، وابن مسعود (أ). وصحح البُخاريّ حديث شداد من طريقين.

وقال أحمد في حديث رافع بن خديج أنه أصح شيء في هذا الباب

(أ) سقط من جـ: (وابن مسعود).

_________

(1)

أبو داود الصوم، باب في الصائم يحتجم 2: 772 ح 2369، النَّسائيّ الكبرى الصيام (-كما في تحفة الأشراف 4: 141 ح 4818)، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم 1: 537 ح 1681، أحمد 4: 124، ابن حبان الصوم، باب حجامة الصائم 5: 219 ح 3526.

(2)

سير أعلام النبلاء 2: 460: 467.

ص: 48

حكاه عنه التِّرمذيُّ (1)، وصححه ابن حبان والحاكم (2)، وتكلم فيه أبو حاتم وبالغ (أ) حتَّى قال: هو عندي من طريق رافع باطل (3)، ونقل عن يحيى (4) بن معين أنه قال: هو أضعف أحاديث الباب، وحديث (ب) أبي موسى صححه عليّ بن المدينيّ، وقال النَّسائيّ: رفعه خطأ (5).

وحديث معقل ذكر فيه النَّسائيّ اختلافًا، وكذا حديث بلال وحديث علي.

وحديث عائشة في إسناده ليث بن [أبي](جـ) سليم وهو ضعيف.

وحديث أبي هريرة أخرجه النَّسائيّ من طريقين (6).

والحديث فيه دلالة على أن الحجامة تفطر الصائم وأنه مستوٍ في ذلك الحاجم والمحجوم، وقد ذهب إليه من عرفت، ولكنه في حق المحجوم، وأما الحاجم فمجمع في حقه على عدم الإفطار، وأجاب الجمهور بأنه منسوخ بالحديث الأول، قالوا: لأنَّ ابن عباس صحب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع سنة عشر، وحديث شداد وَقَعَ في عام الفتح سنة ثمان ولم

(أ) سقط من جـ: (وبالغ).

(ب) هـ: (وفي حديث).

(جـ) في الأصل، هـ، جـ:"ليث بن أبي سليم".

_________

(1)

سنن التِّرمذيِّ 3: 145.

(2)

ابن حبان 5: 219 ح 3527، الحاكم 1:428.

(3)

علل الحديث 1: 249 ح 732.

(4)

التلخيص الحبير 2: 205.

(5)

التلخيص الحبير 2: 193 (ط. هاشم اليماني).

(6)

انظر التلخيص فقد أطال الحافظ في تتبع طرق الحديث 2: 193، 194 (ط. هاشم اليماني)، نصب الراية 2: 472 - 477.

ص: 49

يكن ابن عباس مصاحبًا فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الشافعي (أ) في حكاية الرَّبيع عنه. قال: وإسناد الحديثين جميعًا مشتبه وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادًا، فإن توقى أحدٌ الحجامة كان أحب إلي احتياطًا، أو لئلا يعرِّض صومه للضعف. قال: والذي أحفظ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وعامة المدنيين أنه لا يفطر أحد بالحجامة (1). انتهى.

ومن (ب) روي عنه ذلك من الصحابة سعد بن أبي وقاص والحسين بن عليّ وابن مسعود وابن عباس يزيد بن أرقم وابن عمر وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة.

ومن التابعين والعلماء: الشعبيّ وعروة بن الزُّبير والقاسم بن محمد وعطاء يزيد بن أسلم وعكرمة وأبو العالية وإبراهيم وسفيان ومالك والشافعي وأصحابه إلَّا ابن المنذر.

وأخرَج ابن أبي شيبة عن أنس قال: "أول ما كرهتُ الحجامة للصائم أن جعفر ابن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم فكان أنس يحتجم وهو صائم". قال الدارقطني: كلهم ثقات ولا أعلم له علة (2).

وأخرج الحازمي عن أبي سعيد الخدري قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم ثم رخص في الحجامة.

(أ) جـ: للشافعي.

(ب) هـ: وممن.

_________

(1)

اختلاف الحديث في حاشية الأم 7: 236.

(2)

سنن الدارقطني 2: 182. ولم أقف عليه في مصنف ابن أبي شيبة، وقال صاحب التنقيح: "لم يروه غير الدارقطني ولم يروه أصحاب الأمهات مثل ابن أبي شيبة وأحمد والطبراني" ا. هـ ملخصًا. (نصب الراية 2: 480).

ص: 50

وأخرج من حديث أبي هريرة قال: يقولون أفطر الحاجم والمحجوم، ولو أحتجم ما باليت، وهذا القول من أبي هريرة يدل على أنه قد ثبت عنده الرخصة. وقال الشافعي في "تأويل الحديث" (1) في رواية حرملة: وقد قال بعض من يروي: "أفطر الحاجم والمحجوم" أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مر بهما وهما يغتابان رجلًا.

وأخرج الحازمي من حديث ثوبان قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يحتجم وهو يُعرِّضُ برجل فقال عليه السلام (أ) أفطر الحاجم والمحجوم" قال كذا رواه أبو النضر، ورواه الوحاظي عن يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث الصنعاني أنه قال: إنما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم لأنهما كانا يغتابان"، ثم حمل الشافعي الإفطار بالغيبة على سقوط أجر الصوم مثل قوله صلى الله عليه وسلم للمتكلم يوم الجمعة:"لا جمعة لك"(2) فإن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة فدل على أنه محمول على إسقاط الأجر ومثله، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (3)، فإن الحابط هو أجر العمل، فلا وجه لتعجب ابن خُزيمة من هذا التأويل حيث قال: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" لأنهما كانا يغتابان، قال فإذا قيل له: فالغيبة (ب) تفطر الصائم؟ قال: لا، قال: فعلى هذا لا يخرج من مخالفة الحديث فلا شبهة، انتهى.

(أ) المثبت من هـ، جـ، وفي الأصل:(عليلم) - كذا!

(ب) هـ: بالغيبة.

_________

(1)

اختلاف الحديث 7: 236.

(2)

تقدم في باب الجمعة.

(3)

الزمر الآية 65.

ص: 51

وقال ابن حزم (1): صح حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث سعيد "أرخص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم"، وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأنَّ الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على النسخ سواء كان حاجمًا أو محجومًا، وقد تأول أيضًا بأنه محمول على الكراهة فقط.

وقد أخرج عبد الرَّزاق وأبو داود بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه"(2) إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر.

وقوله: "آنِفًا على أصحابه" يتعلق بنهى، وقد رواه ابن أبي شيبة (3) عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف، أي: لئلا يَضْعُف، وتأول بعضهم أيضًا الحديث بأن المراد أنهما سيفطران وهو أن حالهما يؤول إلى الإفطار كقوله {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (4) وقال البغوي (5): المعنى أنهما يعرضا للإفطار، وأما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعفًا من قوته بخروج الدم فيؤول إلى الإفطار.

وقيل: أفطر أي فعل مكروهًا وهو الحجامة، فكأنه غير متلبس بالعبادة.

(1) المحلى 6: 204 - 205.

(2)

تقدم في حديث الوصال أبو داود 2: 774 ح 2374، عبد الرَّزاق 4: 212 ح 7535.

(3)

ابن أبي شيبة 3: 52.

(4)

يوسف الآية 36.

(5)

شرح السنة 6: 304 (بنحوه).

ص: 52

وأعلم أنه قال التِّرمذيُّ حكاية عن الزعفراني: أن الشافعي علق القول بأن الحجامة تفطر على صحة الحديث. قال التِّرمذيُّ: "كان الشافعي يقوله ذلك ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة"(1)، والله أعلم.

511 -

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه احتجم وهو صائم، فمر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان (أ) أنس يحتجم وهو صائم". رواه الدارقطني وقواه (2)، وقد عرفت ما فيه كفاية، يقول الدارقطني:"رجاله كلهم ثقات ولا أعلم له علة".

512 -

وعن عائشة رضي الله عنها: "أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم" رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيف (3).

قال التِّرمذيُّ (4): لا يصح فيه شيء، في إسناده بقية (5) رواه عن الزبيدي واسمه سعيد بن أبي سعيد وهو ضعيف (6).

ورواه البيهقي (7) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتحل وهو صائم".

(أ) هـ: فكان.

_________

(1)

سنن التِّرمذيِّ 3: 145 - 146.

(2)

سنن الدارقطني باب القبلة للصائم 2: 182 ح 7.

(3)

ابن ماجه كتاب الصيام، باب ما جاء في السواك والكحل للصائم 1: 536 ح 1678.

(4)

سنن التِّرمذيِّ في حديث 3: 105 (بنحوه).

(5)

تقدم في حديث 12 ص 106.

(6)

سعيد بن عبد الجبار الزبيدي أبو عثمان الحمصي ضعيف. التقريب 123 وقد ذكره الحافظ في التقريب ولم يذكر له رواية وذكر في التهذيب أن له رواية عند ابن ماجه 4: 53.

(7)

سنن البيهقي 4: 262.

ص: 53

قال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا حديث منكر، وقال في محمد: إنه منكر الحديث، وكذا قال البُخاريّ (1)، وألان البيهقي (2) القول فيه فقال: ليس بالقوي، وأما شيخه الحاكم فوثقه وأخرج له في فضائل الحسنين ورواه ابن حبان في "الضعفاء" من حديث ابن عمر وسنده مقارب (3) ورواه ابن أبي عاصم في "كتاب الصيام" (4) له من حديث ابن عمر أيضًا ولفظه:"خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان من الإثمد، وذلك في رمضان وهو صائم".

ورواه التِّرمذيُّ من حديث أنس في الإذن فيه لمن اشتكت عينه ثم قال: ليس إسناده بالقوي ولا يصح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء (5)، ورواه أبو داود من فِعْل أنس ولا بأس بإسناده (6).

وفي الباب عن بريرة مولاة عائشة في الطبراني في الأوسط، وعن ابن عباس في "شعب الإيمان" للبيهقي.

والحديث فيه دلالة على أن الاكتحال لا يفطر الصائم سواء كان من الكُحْل أو من غيره أو ذروراء في العين، وقد ذهب إلى هذا العترة والفقهاء.

وأخرج أبو داود عن الأعمش قال: "ما رأيت أحدًا من أصحابنا يكره الكحْلَ ما لم يجد طعمه"(7).

وقال الحسن: "لا بأس بالكحل للصائم"(8).

(1) تاريخ البُخاريّ الصغير 104.

(2)

سنن البيهقي 4: 262.

(3)

و (4) التلخيص 202:2.

(5)

سنن التِّرمذيِّ كتاب الصوم، باب ما جاء في الكحل للصائم 3: 105 ح 726.

(6)

سنن أبي داود كتاب الصوم، باب في الكحل عند النوم للصائم 2: 776 ح 2378.

(7)

أبو داود كتاب الصوم، باب في الكحل عند النوم للصائم 2: 776 ح 2379.

(8)

مصنف ابن أبي شيبة 3: 47، عبد الرَّزاق 4: 208 ح 7516.

ص: 54

وقال إبراهيم النَّخعيُّ (1) لما سأله القعقاع بن زيد: أيكتحل الصائم؟ قال: نعم، قلت: أجد طعم الصبر في حلقي، قال: وليس بشيء. أخرجه سعيد بن منصور، والخلاف لابن شبرمة وابن أبي ليلى فقالا: يفطر الصائم لقوله صلى الله عليه وسلم: "الفطر ممَّا دخل وإذا وجد طعمه فقد دخل"(2).

والجواب أنه لا يسلم كونه داخلًا لأن العين ليست بمنفذ وإنما يصل من المسام، ألا ترى أن الإنسان قد يُدَلِّك باطن قدمه بالحنظل فيجد طعمه في فيه ولا يفطر، وقد يقبض على الثلج بيده فيجد برده في فؤاده ولا يفطر.

والحديث المذكور علَّقَه في البُخاريّ على ابن عباس موقوفًا (3)، وقد وصله ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم، فقال:"الفطر ممَّا دخل وليس ممَّا خرج"(4)، وفي لفظ:"الصوم والوضوء ممَّا خرج وليس ممَّا دخل"(5).

وروي من طريق إبراهيم النَّخعيُّ أنه سئل عن ذلك فقال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- فذكر مثله، وإبراهيم لم يلق ابن مسعود، وإنما أخذ عن كِبَار أصحابه، وقد أخرج أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإثمد: ليتقه الصائم (6). قال أبو داود: قال يحيى بن معين: "هو حديث منكر"(7).

(1) عبد الرَّزاق (نحوه) 4: 208 ح 7515.

(2)

كشف الخفاء 2: 112، 465، السلسلة الضعيفة للألباني 2:377.

(3)

البُخاريّ الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم 4: 173 (تعليقًا).

(4)

السنن الكبرى للبيهقي 1: 116.

(5)

ابن أبي شيبة 1: 49 (بلفظ: الوضوء ممَّا خرج وليس ممَّا دخل).

(6)

أبو داود الصوم، باب في الكحل عند النوم للصائم 2: 775: 776 ح 2377.

(7)

سنن أبي داود 2: 776.

ص: 55

513 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسى وهو صائم فأكل وشرب فليتم صوومه، فإِنما أطعمه الله وسقاه" متفق عليه (1).

وللحاكم: "من أفطر في رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة". وهو صحيح (2).

قوله: "فأكل وشَرِبَ": ظاهره اختصاص الحكْم المذكور بالأكِل والشرب دون سائر المفطرات، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث:"من أفطر" فيعم الجماع.

وذكر ابن دقيق العيد في شرح العمدة (3) أن تعليق الحكم بالأكل والشرب إنما هو لكونهما الغالب في النسيان دون الجماع، وذكر الغالب لا يقتضي مفهومًا، قال: وقد اختلف فيه القائلون بظاهر الحديث، ومدار إلحاق المجامع بهما إنما هو بالقياس دون النص مع وجود الفارق وهو ندور نسيان المُجامِع دونهما فإنّه يكثر إلَّا أن يبين القائس أن الوصف الفارق ملغي، انتهى (4).

وقد عرفت أن ذلك مدلول عليه بالعموم، وفي رواية "من أفطر" وإنما خص الأكل والشرب في الرواية الأخرى لكونهما أغلب وقوعًا، ولعدم الاستغناء عنهما غالبًا.

وقوله: "فليتم صومه"، وفي رواية التِّرمذيِّ (5) من طريق قتادة عن

(1) البُخاريّ الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا 4: 155 ح 1933، ومسلم الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر 2: 809 ح 171 - 1155. (واللفظ له).

(2)

الحاكم 1: 430، البيهقي 4:229.

(3)

3: 341.

(4)

3: 443 مع بعض التصرف.

(5)

سنن التِّرمذيِّ الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسيًا 3: 100 ح 721.

ص: 56

ابن سيرين: "فلا يفطر"(1).

وقوله: "إِنما أطعمه الله وسقاه" في رواية التِّرمذيِّ: "إِنما هو رزق ساقه الله إِليه"(2).

والحديث فيه دلالة على أن الأكل والشرب في حال النسيان لا يفطران (أ) لأنَّ ظاهر قوله: "فليتم صومه" أن الصوم باقٍ، فلو كان قد أفطر وإنما أمره بالإمساك لحرمة اليوم كما قاله منْ تأول الحديث لقال فليمسك عن الأكل لأنَّ الصوم الشرعي هو ما له حكم الصحة، وهو يجب حمل اللفظ على حقيقته الشرعية ما لم تظهر قرينة صارفة عن ذلك، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، والخلاف في ذلك للقاسمية ومالك وابن أبي ليلى فقالوا: إنه قد أفطر بذلك لأنَّ الصوم ركنه الإمساك عن المفطرات فحكمه حكم من نسي ركعة من الصَّلاة فإنّه يجب عليه الإعادة لما فات الركن، وإن كان ناسيًا، قالوا: والحديث متأوَّل بأن المعنى من قوله: "فليتم صومه" هو الأمر له بالإمساك لحُرمة اليوم وإنْ وجب عليه القضاء.

وأجيب عن ذلك بأن رواية الحاكم المذكورة في الأصل مصرحة بصحة الصوم وعدم وجوب القضاء، وهي حُجَّة واضحة، وإنما قال ابن العربي (3) ليته صح فتبعته وأقول به، وأما مالك فلا يلزمه القَول به لأنَّ خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به، وقد جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم فعملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم (ب)

(أ) جـ: لا يفطر - بالإفراد.

(ب) هـ: فلا.

_________

(1)

سنن التِّرمذيِّ الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسيًا 3: 100 ح 721.

(2)

المرجع السابق.

(3)

عارضة الأحوذي 3: 248.

ص: 57

يعمل به انتهى كلامه.

ومراده أن حديث "فلا قضاء عليه ولا كفارة" مخالف للقواعد فإن القاعدة المتأصلة أنه: إذا فات ركن الشيء لم يُعْتَبر حكمه، وقال القرطبي: احتج به مَنْ أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة لأنَّ المطلوب صيام يوم (أ) لا حرام فيه، لكن روى الدارقطني فيه سقوط القضاء (1)، وهو نصّ لا يقبل الاحتمال، لكن الشأن في صحته، فإن صح وجب الأخذ به وسقط القضاء، انتهى.

وحمل بعضُ المالكية الحديث على صوم التطوع، وبه قال ابن شعبان وابن القصار، وأجيب بأن حدَّثنا الحاكم فيه تصريح برمضان.

والحديث أيضًا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني (2) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ الحاكم (3)، قال الدارقطني: تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاريّ.

وتعقب بأنّ ابن خزيمة أخرجه أيضًا (ب) عن إبراهيم بن محمد الباهلي، وبأن الحاكم (3) أخرجه من طريق أبي حاتم الداري كلاهما عن الأنصاري فهو المنفرد به كما قال البيهقي (4)، وهو ثقة، والمراد أنه انفرد بذِكْر

(أ) سقط من هـ: (يوم).

(ب) سقط من جـ: (أيضًا).

_________

(1)

الدارقطني 2: 178.

(2)

الدارقطني 2: 178 ح 28، ابن حبان 5: 212 ح 3512، ابن خزيمة 3: 399 ح 1990.

(3)

الحاكم 1/ 430.

(4)

السنن 4: 229.

ص: 58

إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان.

قال النَّسائيّ (1): أخرج الحديث من طريق عليّ بن بكار عن محمد بن عمرو، ولفظه:"في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيًا قال: الله أطعمه وسقاه".

وقد ورد إسقاط القَضَاء من وجه آخر عن أبي هريرة أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عيسى بن الطباع (أ) عن ابن عُليَّة عن هشام عن ابن سيرين ولفظه: "فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه"، وقال بعد تخريجه: هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات (2).

قال المصنف -رحمه الله تعالى (3) -: لكن مسلم أخرجه من طريق ابن عُليَّة وليس فيه زيادة: "ولا قضاء عليه"(4).

وروى الدارقطني (5) إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وسعيد المَقبرِيّ، الوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يَسَار وكلهم عن أبي هريرة (5).

وأخرج أيضًا من حديث أبي سعيد رفعه: "منْ أكل في شهر رمضان ناسيًا فلا قضاء عليه"(6)، وإسناده وإن كان ضعيفًا لكنه صالح للمتابعة، فأقل (ب) درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنًا فيصلح للاحتجاج

(أ) جـ: الصباغ.

(ب) جـ: وأقل.

_________

(1)

سنن النَّسائيّ الكبرى (انظر تحفة الأشراف 11: 14).

(2)

الدارقطني 2: 178 ح 27.

(3)

الفتح 4: 157. (بنحوه).

(4)

حديث الباب.

(5)

الدارقطني 2: 179 ح 30، 31، 33 م.

(6)

الدارقطني 2: 178 ح 25.

ص: 59

به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة (1)، ويعتضد بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير نكير عليهم كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرهما عن عليّ بن أبي طالب يزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم، ثم هو موافق لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) فالنسيان ليس من كَسْب القلب، وموافق للقياس في إبطال عمد الأكل للصلاة لا نسيانه، وكذلك الصيام، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يُسْمع، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القياس ليس بمسَلَّم، لأنَّه قاعدة مستقلة في الصيام، فمن عارضه بالقياس على الصَّلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح هذا ورد به الأخبار الصحيحة لما بقي من الحديث إلَّا القليل، وفي هذه التوسعة لطف من الله -تعالى- بعباده وتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج، وقد روى أحمد (3) لهذا الحديث سببًا آخر فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق إنها كانت عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأتى بقصعة من ثريد، فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت! فقال لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك" وفي هذا رد على من فَرَّق بين قليل الأكل وكثيره.

ومن المستظرف ما رواه عبد الرَّزاق: "أن إنسانًا جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائمًا فطعمت، فقال: لا بأس، قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت فطعمت وشربتُ، قال: لا بأس أطعمك الله وسقاك، قال: ثم

(1) انظر: الفتح 4: 157.

(2)

البقرة الآية 225.

(3)

أحمد 6: 367.

ص: 60

دخلتُ على آخر فنسيتُ فطعمتُ، فقال أبو هريرة، أنت إنسان لم يتعود الصيام" (1).

وفي قوله: "أطعمه الله وسقاه": نسبة الفعل إلى الله -تعالى- مجاز (2) عن كونه لا إثم عليه لأنَّه لا يأثم المكلف إلَّا بما فعل فلما لم يكن مستحقًا للإثم وقد فعل الفعل أشبه من لم يكن قيل فعلًا.

فائدة: أخرج عبد الرَّزاق عن ابن جريج قلت لعطاء: إنسان يستنثر فدخل الماءُ حلقه؟ قال: لا بأس بذلك إن لم يملك (3). قال عبد الرَّزاق: وقاله معمر عن قتادة (3).

وقال ابن أبي شيبة (4): حدَّثنا مخلد عن ابن جريج أن إنسانًا قال لعطاء: أتمضمض فيدخل الماء حلقي؟ قال: لا بأس به (4).

وفرق إبراهيم النَّخعيُّ بين مَنْ (أ) كان ذاكرًا لصومه حال المضمضة فأوجب عليه القضاء دون الناسي.

وعن الشعبيّ: إنْ كان لصلاة فلا قضاء وإلا قضى (5). والعلة في ذلك هو كونه غالبًا.

(أ) جـ: لما.

_________

(1)

رواه عبد الرَّزاق 4: 174 ح 7378 بلفظ "لم تعاود" كما رواه ابن أبي الدنيا في "المزاح" والزبير بن بكار (كما عزاه إليهما ابن حجر في الإصابة 4/ 210 س 5: 10)(مطبعة السعادة).

(2)

لا ينبغي هذا بل يقال يليق به سبحانه وتعالى.

(3)

عبد الرَّزاق 4: 174 ح 7379 (دون قوله إن لم يملك).

(4)

ابن أبي شيبة 3: 70. (بنحوه).

(5)

ابن أبي شيبة 3: 70.

ص: 61

وقال الحسن: إنْ دخل الذباب في حلقه فلا شيء عليه (1).

وفي مذهب الهادوية تفصيل إن كان دخول الذباب بفعله أو سببه أفسد، وإلا لم يفسد، وذلك بأن يفتح فاه للتثاؤب أو لتحديث الغير أو قراءة فيدخل الذباب، وأما لو فتحه لغير غرض فدخل الذباب، فخرج المؤيد وأبو طالب للهادي أن ذلك لا يفسد، وهو مذهب الشافعي، وهو مطابق لقول الحسن (أ)، وقال أبو حنيفة: إنه يفسد.

514 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْء فلا قضاء عليه، ومن استَقَاءَ فعليه القضاء" رواه الخمسة وأعله (ب) أحمد وقواه الدارقطني.

وأخرجه الدارمي وابن حبان والحاكم (2).

قال النَّسائيّ: "وقفه عطاء على أبي هريرة"، وقال التِّرمذيُّ:"تفرد به عيسى بن يونس، وقال البُخاريّ: لا أراه محفوظًا، وقد روي من غير وجه ولا (جـ) يصح إسناده (3)، وقال الدَّارميُّ: "زعم أهل البصرة أن هِشَامًا

(أ) هـ: القول الحسن، جـ: لقول حسن، والمثبت من الأصل.

(ب) جـ: وعله.

(جـ) هـ: فلا.

_________

(1)

ابن أبي شيبة 3: 70 ولفظه: "إذا مضمض فدخل حلقه شيء لم يتعمده فليس عليه شيء يتم صومه".

(2)

أحمد 2: 498، وأبو داود (بنحوه) الصوم، باب الصائم يستقيء عامدًا 2: 776 ح 2380، التِّرمذيُّ (بنحوه) الصوم، باب ما جاء فيمن استقاء عمدًا 3: 98 ح 720، النَّسائيّ الكبرى الصيام (-كما في تحفة الأشراف 10: 354 ح 14542)، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في الصائم يقيء 1: 536 ح 1676 الدارمي الصيام، باب الرخصة فيه 2: 14 (بنحوه)، ابن حبان الصيام، باب قضاء الصوم 5: 211: 212 ح 3509 الحاكم 1: 427، الدارقطني باب القبلة للصائم 2: 184 ح 20.

(3)

سنن التِّرمذيِّ 3: 99.

ص: 62

أوهم فيه" (1)، وقال أبو داود: "وبعض (أ) الحفاظ لا يراه محفوظًا، وأنكره أحمد وقال في روايته: ليس مِنْ ذا شَيْءٌ، قال الخطابيّ: يريد أنه غير محفوظ" (2)، وقال مهنا عن أحمد: حدث به عيسى وليس هو في كتابه، غلط فيه وليس هو من حديثه، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأخرجه من طريق حفص بن غياث أيضًا، وأخرجه ابن ماجه أيضًا.

قوله: "ذَرَعَهُ": بالذال المعجمة المفتوحة والراء المهملة والعين المهملة أيضًا أي: غلبه.

وقوله: "فلا قضاء عليه": فيه دلالة على أنه لا يفطر بالقيء الغالب إذ عدم القضاء فرع الصحة.

قوله: "ومن استقاء" أي: طلب خروج القيء بأن يكون مستدعيًا لخروجه، وثبوت القضاء عليه فرع على كونه قد أفطر بذلك، وقد ذهب إلى هذا عليّ وابن عمر وزيد بن أرقم، واختلفَت الرواية عن أبي هريرة، والصحيح عنه القول بما في هذا الحديث، وذهب إليه زيد بن عليّ والناصر والإمام يحيى والشافعي، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفطر، وذهب ابن عباس وابن مسعود ورواية عن مالك وربيعة والهادي والقاسم إلى أنَّ القَيءَ لا يفسد الصوم مطلقًا ما لم يرجع منه شيء وإلا أفسد (ب) إنْ تعمد لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يُفطرن: القيء

(أ) هـ: في بعض.

(ب) جـ: (فسد).

_________

(1)

سنن الدارمي 2: 14.

(2)

معالم السنن 2: 777 (المطبوع مع سنن أبي داود ط. الدعاس).

ص: 63

والحجامة والاحتلام" أخرجه التِّرمذيُّ والبيهقي بإسناد ضعيف (1)، وأخرجه الدارقطني وأعله (2)، وقال التِّرمذيُّ: "هو غير محفوظ"، ورواه الدراوردي مرسلًا (3).

وأخرجه أبو داود: وفي إسناده رجل مجهول غير صحابيّ عن صحابيّ مجهول (4)، ورجحه أبو حاتم وقال: إنه أصح وأشبه بالصواب (5)، وتبعهما البيهقي وتأوله بمنْ ذَرعَهُ القَيء (6).

وسئل عنه الدارقطني فذكر الاختلاف في وصله وإرساله وضَعَّفَ وَصْلَه وقال: لا يصح، وأخرج البُخاريّ عن أبي هريرة موقوفًا:"إذا قَاءَ فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج"(7).

ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر، والأول أصح، وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم ممَّا دخل وليس ممَّا خرج. انتهى (8).

وقد يُجَاب عنه بأن حديث أبي هريرة خاص وهذا عام، أو مطلق على طريقة حَمْل الخاص على العام فهو معمول بالخاص فيما يتناوله وبالعام فيما بقي فهذا مخصص بمن استقاء، وإنما يُشْكِل الأمر على مَن لا يقول

(1) التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء 3: 97 ح 719، البيهقي 4: 220 الدارقطني 2: 183 (16).

(2)

في العلل، انظر: التلخيص 206.

(3)

التِّرمذيُّ 3: 97 (بنحوه).

(4)

أبو داود الصوم، باب في الصائم يحتلم نهارًا في شهر رمضان 2: 775 ح 2376.

(5)

العلل لابن أبي حاتم 1: 239، 240 ح 698.

(6)

السنن الكبرى للبيهقي 4: 220.

(7)

البُخاريّ الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم 4:173.

(8)

المصدر السابق.

ص: 64

بذلك ويحتاج إلى الترجيح مع عدم (أ) معرفة التاريخ، وترجح حديث أبي هريرة بأنه أقوى في سنده، وأحوط من حيث دلالته فيكون العمل به أولى والله أعلم.

وذهب عطاء وأبو ثور إلى أنه إنْ تعمد قضى وكفر وإلا قضى ولا كفارة.

515 -

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرج عام الفتح إِلي مكّة في رمضان فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم فصام النَّاس، ثم دعا بقَدَح من ماء فرفعه حتى نظر النَّاس إِليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إِن بعض الناس قد صام، قال:"أولئك العصاة، أولئك العصاة"(1).

وفي لفظ: فقيل له: "إِن الناس قد شق عليهم الصيام وإِنما ينظرون فيما فعلت. فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب"(2) رواه مسلم.

قوله: "خرج عام الفتح": كان خروجه في ستة عشر من رمضان في (ب) سنة ثمان من الهجرة، وذكر ابن إسحاق (3) أنه خرج في يوم عاشر وهو الذي اتفق عليه أهل السنن.

ودخل مكّة لتسعة عشر خلت منه فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم وهو بفتح الغين المعجمة، وهو وادٍ أمام عسفان بثمانية أميال، كذا قال القاضي عياض (4)، وبين عسفان ومكة ستة وثلاثون ميلًا، وعسفان قرية

(أ) سقط من هـ: (عدم).

(ب) سقط من هـ (في).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر .. 2: 785 ح 90 - 1114.

(2)

مسلم 2: 786 ح 91 - 1114 م.

(3)

السيرة 20:4.

(4)

المشارق 1: 350.

ص: 65

جامعة، والصحيح أن بينهما ثمانية وأربعين ميلًا لأنها مسافة أربعة بُرُد، وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، وهذا هو المعروف عند الجمهور، وفي رواية لمسلم (1):"حتَّى بلغ الكديد (2) "، وهو بفتح الكاف وكسر الدال المهملة، عَيْن جارية بينها وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها، وبينها وبين مكّة قريب من مرحلتَيْن، وكراع الغميم والكديد جميعها (أ) من أعمال عسفان فذكرت هذه المواضع لتقاربها، وعسفان قريب منها، وهما ممَّا يضاف إلى عسفان، ويشتمل اسم عسفان عليهما، والكراع: كل أنف سال مِنْ جَبَلٍ أو حَرَّة، وهو هنا جبل أسود متصل بالغميم الذي هو اسم الوادي (3).

والحديث فيه دلالة على أن المسافر له أن يصوم وله أن يُفْطر (ب وأن له الفطر ب) وإنْ صام بعض النهار أو أكثره كما في رواية "بعد العَصر"، وقد خالف في الطرف الأول الإمامية وداود، ورواية عن أبي هريرة، وقالوا: إنه لا يجزئ المسافِرَ الصوم قالوا: لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (4) وقال في حق منْ صام: "أولئك العُصاة"، وقالَ "ليس من البر الصيام في السفر"(5)، وفِعْل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يرُدُّ عليهم.

(أ) هـ، جـ: جميعًا.

(ب- ب) سقط في هـ.

_________

(1)

مسلم 784:2 ح 88 - 1113.

(2)

المشارق 1: 351.

(3)

المشارق 1: 350، معجم البلدان لياقوت 4:443.

(4)

البقرة الآية 184.

(5)

البُخاريّ الصوم، باب قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر .. 4: 183 ح 1946، مسلم الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر .... 2: 786 ح 92 - 1115.

ص: 66

وفي قوله: "أولئك العصاة" إنما قاله في حق من خالف أمره بالإفطار، وقد معين عليهم الإفطار وإن كان رخصة لأمره لهم.

وحديث (أ)"ليس من البر" في حَقِّ مَنْ شق عليه الصوم وغلبه الضعف، وذهب جماهير العلماء إلى العمل بالحديث، وأما الطرف الثاني فذهب إليه الجمهور وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجهٍ للشافعية: ليس له أن يُفْطِرَ، ومستند ذلك ما وقع في البويطي منْ أن الشافعي علق القول به على صحة حديث ابن عباس، وهذا إذا نوىَ الصوم في السفر، فأما (ب) إذا نواه وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار، فذهب الجمهور إلى أنه ليس له أن يفطر، وأجازه أحمد وإسحاق وغيرهما، واختلفوا في الأفضل، فذهب أنس وعثمان بن أبي العاص والعترة وأبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر فالفطرْ أفضل، وقال سعيد بن المُسيَّب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطرْ أفضل مطلقًا، وحكاه بعضُ الشافعية قولًا للشافعي، واحتجوا بما احتج به الأولون، وبحديث حمزة بن عمرو الآتي فإن قوله:"ومن أحب أن يصوم فلا جُنَاح عليه" فنَفْي الجُنَاح دليل على أن الإفطار هو الأفضل، وأجاب الأكثرون بأنه فيمن يخاف ضررًا أو (جـ) يجد مشقة واعتمدوا على فعْل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فإن أغلب أحواله الصوم في السفر، وقال بعضُ العلمَاء: الفِطرْ والصوم سواء لتعادل الأحاديث، وهو أيضًا ظاهر من حديث أنس وهو قوله: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَعِب الصائم على المفطر

(أ) هـ: (ففي حديث).

(ب) هـ، جـ:(وأما).

(جـ) هـ: (ويجد).

ص: 67

ولا المفطر على الصائم" (1)، وظاهره التسوية بين الأمرين.

615 -

وعن حمزة بن عمرو الأسْلَمِيِّ أنه قال: يا رسول الله أجد لي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحَسنٌ، ومَنْ أحب أن يصوم فلا جُناح عليه" رواه مسلم (2)، وأصله في المتفق من حديث عائشة أن حمزة ابن عمرو سأل (3) هو أبو صالح، وقيل أبو محمد (أ) حمزة -بالحاء المهملة- ابن عمرو بن عويمر الأسلمي منسوب إلى أسلم بن أفصى -بالفاء والصاد المهملة- يعد في أهل الحجاز.

روي عنه محمد ابنُه (ب) وعائشة وعروة بن الزُّبير وسليمان بن يسار، مات سنة إحدى وستين وله ثمانون سنة، وقيل إحدى وسبعون سنة (4).

قوله: "أجد لي قوة": ظاهر في أن الصوم لا يشق عليه ولا يفوت عليه حق، وفي رواية أخرى لمسلم:"إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: صُمْ إنْ شِئْتَ وأَفْطِرْ إن شئت"(5) وفي هذه الرواية دلالة

(أ) سقط من جـ (محمد).

(ب) جـ: (ابنه محمد).

_________

(1)

البُخاريّ الصوم، باب لا يعيب أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضًا في الصوم والإفطار 4: 681 ح 7491، ومسلم الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر .... 2: 787 ح 98 - 1118. (واللفظ له).

(2)

مسلم الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر .... 2: 790 ح 107 - 1121 م.

(3)

البُخاريّ الصوم، باب الصوء في السفر والإفطار 4: 179 ح 1943، ومسلم الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر 2: 789 ح 103 - 1121.

(4)

الاستيعاب 3: 83، 542.

(5)

مسلم الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر 2؛ 789 ح 104، 105 - 1121.

ص: 68

على أنهما سواء، وقد عرفت ما في ذلك، أولًا يفوت عليه حق بشرط فطر يومي العيدين (أ) والتشريق لأنَّه أخبر بسرده، ولم ينكر عليه بل أقره عليه، وأذن له في السفر ففي الحضر أولى، ولا يعارضه إنكاره صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو صوم الدهر (1) لأنَّه صلى الله عليه وسلم علم أنه سيَضْعف عنه، وهكذا جاء (ب) فإنّه ضعف في آخر عمره، وكان يقوله: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يحب العمل الدائم وإن قل ويحثهم عليه (2).

517 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليه". رواه الدارقطني والحاكم وصححاه (3).

قوله: "رخص": ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} الآية (4)، قال: نزلَتْ في الكبير والمريض اللذين (جـ) لا يَقْدرَان على الصوم، فالآية عنده غير منسوخة لكن المريض يقضي إذا بَرِئ ويلزمه الكفارة، وأكثر العلماء على أنه لا كفارة على المريض، وذهب ابن عمر والجمهور إلى أن حكم الإطعام باقٍ

(أ) هـ: (العيد).

(ب) هـ: (أجاب).

(جـ) جـ: (اللذان).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به .... 2: 812 ح 181 - 1159.

(2)

انظر: البُخاريّ الإيمان، باب أحَبُّ الدين إلى الله أدومه 1: 101 ح 43.

(3)

الدارقطني الصيام، باب طلوع الشمس بعد الإفطار 2: 205 وقال: "وهذا إسناد صحيح"، الحاكم 1: 440، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط البُخاريّ ولم يخرجاه".

(4)

البقرة الآية 184.

ص: 69

في حق من لم يُطق الصيام لكبر، منسوخ في غيره. وقال جماعة من السلف ومالك وأبو ثور وداود: جميع الإطعام منسوخ، وليس على الكبير إذا لم يُطِقْ إطعام (أ)، استحبه مالك.

وقال قتادة: كان الرخصة لكبير يقدر على الصوم ثم نُسِخَ فيه، وبقي فيمن لا يطيق.

وقال زيد بن أسلم والزهري ومالك: هي مُحْكَمَة نزلت في المريض يفطر ثم بيرأ فلا يقضي حتَّى يدخل رمضان آخر فيلزمه صومه ثم يقضي بعد ما أفطر، ويطعم عن كل يوم مُدا من حنطة فإن اتصل مرضه برمضان الثاني فليس عليه إطعام بل عليه القضاء فقط.

وقال الحسن البصري وغيره: الضمير في {يُطِيقُونَهُ} (1) عائد على الإطعام لا على الصوم ثم نسخ ذلك فهي عنده عامة.

والحديث فيه دلالة على أن الشَّيخ الكبير -والظاهر أنه مقيَّد بالعاجز إذ لا قائل بغير ذلك- يُفْطِر وتَجب عليه الكفارة.

قال الإمام المهدي: وكذا يُقَاس عليه إذا أيس عن قضاء ما أفطره للعجز أو المرض المأيوس في وجوب الكفارة.

واختلف في قدر إطعام المسكين فقال أبو طالب وأبو العباس: هي نصف صاع عن كل يوم من أي قوت لقوله صلى الله عليه وسلم: "أطعم عن كل يوم نصف صاع"(2)، ولم يفصل، وذهب المؤيد وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنها صاع من غير البُرّ ونصف صاع من البُرّ كالكفارة، وذهب الشافعي

(أ) هـ: (الطعام).

_________

(1)

البقرة الآية 184.

(2)

الدارقطني 2: 208 (21)(بنحوه).

ص: 70

إلى أنها مُدّ من بر أو (أ) نصف صاع من غيره، وهي واجبة من رأس المال كالدين، والله أعلم.

518 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إِلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: هلكتُ يا رسول الله. قال: "وما أهلكك"؟ قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال (ب): "هل تجد ما تعتق رقبة"؟. قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ قال:. لا. وقال: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا"؟ قال: لا، ثم جلس، فأتى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر، فقال: "تصَدَّق بهذا". فقال: أعلى أفقر منا؟ فما بين لابتيها أفقر (جـ) أهل بيت أحوج إِليه منا.

فضحك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى بدت أنيابه، ثم قال:"اذهب فأطعمه أهلك" رواه السبعة واللفظ لمسلم (1).

قوله: "جاء رجل": قيل هو سلمة -أو سلمان- بن صَخْر البياضي، كذا ذكر (د) عبد الغني في "المبهمات"، وأخرج ابن عبد البر

(أ) جـ: (و).

(ب) هـ: (قال).

(جـ) في حاشية الأصل وحاشية هـ: "لم يثبت لفظ أفقر بنسخة صحيحة في مسلم".

(د) هـ: (ذكره).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم إلخ 2: 779 ح 75 - 1109 (واللفظ له) البُخاريّ الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر 4: 163 ح 1936، أبو داود الصوم، باب كفارة مَنْ أتى أهله في نهار رمضان 2: 783 ح 2390 التِّرمذيُّ الصوم، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان 3: 102 ح 724 النَّسائيّ الكبرى الصوم (كما في تحفة الأشراف 9: 327 ح 12275)، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان 1: 534 ح 1671 أحمد 2: 241.

ص: 71

ذلك في "التمهيد" في ترجمة عطاء الخراساني، وتعيين أنه سلمان بن صخر، قال: والظاهر أنه وهْم لأن المحفوظ أنه ظاهرَ مِن امرأته ووقع عليها في الليل لا أن (أ) ذلك كان منه بالنهار، انتهى.

قال المصنف -رحمه الله تعالى (1) -: والظاهر أنهما قضيتان (ب)، فإنَّ في بعض ألفاظ الحديث أنه كان صائمًا.

وقوله: "هلكتُ": في رواية "أنا الأخِر هلكتُ" بفتح الهمزة والخاء المعجمة المكسورة بغير مَدّ، أي: الأبعد، وقيل: الأرذل، وفي رواية "احترقتُ"، وفي رواية:"ما أراني إلا قد هلكتُ" وهذا يفهم أنه كان عامدًا؛ لأن الهلاك والاحتراق مَجاز عن العِصيان المؤدي إلى ذلك، فجعل المتوقع كالواقع إقامة للمُسبب مقام سببه لإفضائه إليه، وفي ذلك دلالة على أن حُكم الكفارة المذكور (جـ) لا يتعلق بالناسي إذ لا إثم عليه، وهو قول الجمهور ومشهور من قول مالك.

وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناسي، قالوا: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصله عن ذلك، وتَرْك الاستفصال عن الفِعْل ينزله منزلة العموم في القول.

والجواب بأنه قد عُرف حاله من العمدية بما (د) ذَكَرَ فلا إيهام حتى يستفصل، وقد ورد في بعض ألفاظه أيضًا (2)، أنه جاء وهو ينتف شعره

(أ) هـ: (لأن).

(ب) غير منقوطة بالأصل، ولا هـ، جـ.

(جـ) هـ، جـ:(المذكورة) - بالتأنيث، وغير ظاهر آخرها بالأصل.

(د) هـ: (لما).

_________

(1)

الفتح 4: 164 (بنحوه).

(2)

الفتح 4: 164.

ص: 72

ويدق صدره ويقول: "هلك الأبعد"، وفي بعضها:"يلطم وجهه"، وفي بعضها:"يحثي التراب على رأسه"، وهذه قرائن تَدُلُّ على تَعَمُّدِ الفعْل منه، وفيها دلالة على أنه لا بأس في إظهار (أ) الجَزَع عند وقوع المصيبة في الدِّين، والنهي إنما هو في مصيبة الدنيا، أو (ب) أن هذه القصة قبل النَّهي، وأنه لا يستحق التعزير مرتكب المعصية إذا جاء تائبًا، وهو مناسب الحكمة في التعزير، وهو لأجل إصلاح الحال بالتوبة وقد وقعَت.

وعن البغوي (1): أنه يستحق التعزير والكفارة والقضاء، وهو محمول على عَدَم التوبة.

قوله: "قال: وما أهلكك؟! " في رواية: "قال: مَا لَكَ؟! " بفتح اللام استفهام عن حاله، وفي رواية "ويحك وما شأنك؟! " وفي رواية "وما الذي أهلكك وما ذاك؟! " وفي رواية:"ويحك وما صنعت؟! " وفي رواية: "ويلك! " والأرجح أنه قال: "ويحك" دون "ويلك" لأن "ويل" كلمة عذاب، و "ويح" كلمة رحمة، وهو الأنسب بالمقام.

وقوله: "وقعتُ على امرأتي": وفي رواية "أصبت أهلي"، وفي رواية "وطأتُ امرأتي"، وفي رواية مالك وابن جريج وغيرهما:"أن رجلًا أفطر في رمضان"

الحديث، وظاهره عموم الإفطار بأي مُفْطر، ولكنه قد يُحْمَلُ المطلق على المقيد في هذه الروايات الأُخَر، فيراد أَفطر بجماع، وإنْ كان القرطبي ادعى تعدد القصة وهو بعيد.

وقوله: "في رمضان": وفي رواية "أصبْت امرأتي ظهرًا في رمضان"،

(أ) هـ: (لا بأس بإظهار).

(ب) جـ: (و).

_________

(1)

شرح السنة 6: 284.

ص: 73

وتعيين رمضان معمولٌ به دليل على أنَّ الحُكْمَ لا يلزم من فِعْل ذلك في صوم غير رمضان، وإن كان واجبًا، وكلام أبي عوانة في "صحيحه" إشارة إلى وجوب ذلك على منْ وَقَعَ منه في رمضان نهارًا سواء كان الصوم واجبًا أو غير واجب.

وقوله: "هل تجد ما تعتق": في رواية "هل تجد رقبة"، وفي رواية "أعتق رقبة"، وفي رواية "بئس ما صنعتَ، أعتق رقبة".

وقوله: "قال: لا": وفي رواية "والله يا رسول الله"، وفي رواية:"والذي بعثك بالحق ما ملكتُ رقبةً قط" وقد يستدل بإطلاق الرقبة أنها تجزئ الكافرة، كما ذهب إليه (أ) الحنفية في صحة إعتاق الذمية في الكفارة، والجمهور حملوا هذا المطلق على المقيد في كفارة القتل، فقالوا: لا تجزئ الكافرة، وهي مسألة خلاف بين الأصوليين فيما إذا اختلف السبب واتحد الحكم هل يُقَيَّد المُطْلَق أم لا؟، وفيه إطلاقان وتفصيل، فالإطلاق الأول للحنفية، وهو أنه لا يقيد المطلق بالمقيد سواء اقتضى القياس التقييد أم لا، قالوا: لأن إعمال الدليلين واجب ما أمكن، فيجب إجراء المطلق على إطلاقه، والمُقيد على تقييده إذْ لو حمل عليه لزم إبطال المطلق من غير ضرورة، والإطلاق الثاني أنه يُحْمل عليه مطلقًا، وقد روي عن الشافعي وبعض أصحابه قالوا: لأنَّ كلام الله سبحانه في حُكْم الخطاب الواحد فيترتب فيه المطلق على المقيد، وقد تكلم على هذا الجويني وزيفه.

والتفصيل: أنه يقيد إذا اقتضى القياس التقييد فيكون تقييدًا بالقياس وذلك إذا وُجِدتْ علة جامعة بين ما ورد فيه الإطلاق وما ورد فيه التقييد،

(أ) سقط من هـ (إليه).

ص: 74

فيكون التقييد حينئذ بالقياس كالتخصيص بالقياس، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وهو الصحيح (أ) مِنْ مذهب الشافعي، والعلة الجامعة هو ان جميع ذلك كفارة عن ذنب مكفر للخطيئة، وقد أبدى بعضُ الحنفية فارقًا مانعًا من اعتبار القياس فيما ذكر وهو أن القاتل لما أخرج رقبة من الحياة وجب عليه التدارك بإحياء رقبة من موت الرقبة وإدخالها في حياة الحرية، والله أعلم.

وقوله: "لا": وفي رواية "لا أقدر"، وفي رواية "هل لقيت ما لقيت إلا من الصيام"، ولفظ الأصل فيه (ب) دلالة على أنه لا يعدل عن الصوم إلى الإطعام إلا مع عدم القدرة على الصيام، والأمر في ذلك واضح، وعلى رواية:"هل لقيت ما لقيت" يفهم أنه إذا شق ذلك بوجهٍ من الوجوه، أو لشدة شغفه بالمواقعة في أنه يجوز الانتقال إلى البَدل، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وألحقوا به مَنْ وجد رقبة لا غناء به عنها فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد، وقد ذهب إلى هذا المنصور بالله، وأما ما رواه الدارقطني (1) عن سعيد بن المسيب في هذه القصة مرسلًا أنه قال في جواب قوله:"هل تستطيع أن تصوم؟ ""إني لا أدع الطعام ساعة فما أطيق ذلك" ففي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته فلعله اعتل بالأمْرين.

وقوله: "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ ": وقع في رواية "إطعام ستين مسكينًا"، زاد في رواية "يا رسول الله"، وفي رواية:

(أ) جـ: (المصحح).

(ب) هـ: (في).

_________

(1)

لم أقف عليه في السنن، ولعله في العلل، انظر الفتح 4:166.

ص: 75

"فهل تستطيع إطعام"، وفي رواية "فتطعم ستين مسكينًا. قال: لا أجد". وفي رواية "فتستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا"، وفي رواية "قال: والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي" وذكر الستين فيه دلالة بمفهوم العدد أنه لا يجزئ إطعام أقل من ذلك، ولا يجب أكثر، فالثاني مجْمعٌ عليه، والأول فيه خلاف الحنفية فعندهم يجزئ الصرف في واحد والإطعام إما إباحة أو تمليك، واللفظ محتمِل له، وظاهر الحديث أن الكفارة مترتبة على هذه الكيفية حتى لا يجزئ العدول إلى الثاني مع إمكان الأول لوقوعه مرتبًا في رواية الصحيحَيْن، بل، ورَوَى الترتيب عن الزهري ثلاثون نفسًا أو أكثر (1)، وروى الترتيب أيضًا ابن عيينة ومعمر والأوزاعي، ورواة التخيير في الحديث: مالك وابن جريج وفليح بن سليمان وعمر بن عثمان المخزومي فهو مرجح بأنه في الصحيحين، وأن رواته أكثر، وأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من سورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث فيحتمل أنه مِن تصرُّف الراوي وأنه أحوط لأن العامل به قد عمل بواحد.

وقد يُجَابُ عنه بأن وقوع مثل هذا في الجواب لا يدل على الترتيب، فإن شخصًا لو استفتى في حنثه، فقال له المفتي: أعتق رقبة، فقال: لا أجد، فقال: صم ثلاثة أيام إلى آخره لم يكن مخالفًا لحقيقة التخيير بل يحمل على أن (أ) إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجبر الكفارة، كذا قاله عياض.

قال البيضاوي: ترتب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فَقْد الثاني يدل على عدم التخيير مع كونها في معرِض البيان،

(أ) سقط من جـ: (أن).

_________

(1)

الفتح 4: 167.

ص: 76

وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم، انتهى كلامه، وفيه بُعْد.

وقال بعضهم: بل "أو" في الرواية التي وردت فيها ليست للتخيير وإنما هي للتفسير (أ)، وتقدير الكلام أمر رجلًا أن يعتق أو يصوم إن عجز عن العتق، أو يطعم إن عجز عنهما، وهو محتمل إذا ظهرت قرينة على هذا.

وذكر الطحاوي أن سبب إتيان بعض الرواة بالتخيير أن الزهري راوي الحديث قال في آخر حديثه: "فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو الإطعام"، قال: فرواه بعضهم مختصرًا مقتصرًا على ما ذكر الزهري أنه آل إليه الأمر، وقد قص عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري القصة على وجهها ثم ساقه من طريقه مثل الحديث المذكور في الأصل إلى قوله:"أَطْعمْهُ أهلك" قال -أي الزهري-:

فصارت الكفارة إلى عِتْق رقبة، أو صيام شهرَين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا (1).

وكذلك رواه الدارقطني في "العلل" من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، وقال في آخره:"فصارت سنته عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينًا" فعرفت من هذا أنه وقع التخيير في لفظ الزهري غير مقصود به استواء الثلاث، وإنما المقصود الانحصار في الثلاثة، وهي مرتبة على ما وقع في أصل الرواية.

وأقول: قد عرفت ما في فَهْم الترتيب من القصة من النظر، والأولى أن الترتيب مأخوذ من القياس على كفارة الظهار، والجامع أن الكَفارَتين هما سبب وطء محرم، والله أعلم.

(أ) هـ: (التفسير).

_________

(1)

الفتح 4: 168.

ص: 77

وقد ذهب إلى التخيير مالك كما هو المشهور (أ). إلا أنه وقع في "المدونة": ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام.

قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدى إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت (1)، وبعض أصحاب مالك حمل ما في "المدونة" على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخِصَال، ووجه ذلك بأن الله سبحانه جعله معادِلًا للصيام في حق القادر في صدر الإسلام ثم نسخ، ولا يلزم من نسخ الحُكْمِ نسخ الفضيلة، وكذا في حَقّ مَن لم يكن قادرًا على الصوم، وفي حق من حال عليه رمضان، وفيما نحن فيه العلة في الكفارة هو فوات الصيام بالجماع، فالمناسبة حاصلة، وأيضًا فإن حديث عائشة أخرجه البخاري (2) ولم يذكر فيه إلا الإطعام، وقد أجيب عنه بأن حديث عائشة هو وارد في هذه القصة، وهي متحدة وقد حفظها أبو هريرة فقصها على وجهها أو أوودتها عائشة مختصرة، ولعل الاختصار منْ بعض الرواة، وإلا فإنه قد روي عنها بذكْرِ الإعتاق أولًا وبعده الإطعام أخرجه أبو داود وابن خزيمة في "صحيحه" والبخارى في "تاريخه" والبيهقي أيضًا (3)، ولم يذكر عنها الصيام، ومنْ حفِظَ حجَّة على من لم يحفظ.

واعلم أنها قد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور عنه ما تقدم، وعنه يكفِّر في الأكل بالتخيير وفي الجماع بالإطعام فقط وعنه بالتخيير مطلقًا، وقيل يراعى زمن الخصب والجَدْب، وقيل: يعتبر حالة

(أ) جـ: (مشهور).

_________

(1)

شرح العمدة 3: 49.

(2)

البخاري الصوم، باب إذا جامع في رمضان 4: 161 ح 1935.

(3)

أبو داود الصوم، باب كفارة مَنْ أتى أهله في رمضان 2: 783: 785 ح 2390، البيهقي 4: 223:222.

ص: 78

المكفِّر، وقيل غير ذلك.

وقال ابن جرير الطبري: هو مخيّر بين العتْق والصوم ولا يطعم إلا عند العَجْز عنهما، وظاهر الحديث أنه لا يدخل (أ) في الكفارة لغير الثلاث، وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة، وقد ذكره مالك في "الموطأ" عن عطاء الخراساني عن سعيد بن السيب مرسلًا (1)، ولكنه في رواية سعيد بن منصور عن ابن عُليَّة عن خالد الحَذَّاء عن القاسم بن عاصم قلتُ لسعيد بن المسيب: ما حديثًا حدثناه عطاء الخراساني عنك في الذي وقع على امرأته في رمضان أنه يعتق رقبة، أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب فذكر الحديث (2).

وقد أخرج ابن عبد البر من طريق أخرى عن أبي هريرة مثل حديث عطاء الخراساني، وفي الإسناد ليث بن [أبي] سليم، وهو ضعيف، وقد اضطرب أيضًا في روايته (3).

واعْلَم أنه قد ذُكِر في مناسبة الكفارة المذكورة للسبب الذي هو الإفطار في رمضان، وهو أنه قد أهلك نفسه بالمعصية فناسب الإعتاق الذي فيه افتداء النفس، وقد صح أنَّ مَنْ أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا

(أ) هـ: (مدخل).

_________

(1)

الموطأ الصيام، باب كفارة مَنْ أفطر في رمضان 198 ح 29.

(2)

الفتح 4: 167.

(3)

انظر ترجمته في: المجروحين لابن حبان 2: 231 - 234، سنن الترمذي 5: 103، 586، الضعفاء للنسائي ص 209، تقدمة المعرفة ص 151، سؤالات البرقاني رقم 13، النكت على ابن الصلاح لابن حجر ص 341، 435، طبقات خليفة بن خياط ص 166، التاريخ الصغير للبخاري 2/ 57، العلل المتناهية لابن الجوزي 1: 73، 77، 95، المستدرك للحاكم 4:411.

ص: 79

منه من النار (1)، والصوم فيه مقاصة (أبحسب الجناية أ).

وأما كونها شهرين فلأنه لما أمر بصوم شهر على جهة الولاء فلما أفسد منه صومًا (ب) كان كمن أفسد صوم الشهر كله لفِوَات الولاء فوجب عليه صوم شهرين مضاعفة على سبيل المقابلة بنقيض قصده.

وأما الإطعام فلا، وكل يوم مقابل بإطعام مسكين.

وقوله: "فجلس": وفي رواية ابن عُيَيْنَة: "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس، فجلس"، قال بعضهم: يحتمل أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحَى إليه في حقه، ويحتمل أن يكون قد عرف أنه سيؤتى بشيء يعينه به.

وقوله: "فأُتِيَ": بضم أوله على البناء للمجهول، وفي رواية ابن عيينة "فبينما هو جالس كذلك إذ أتى"، وفي رواية:"فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم": والآتي لم يسم.

ووقع في البخاري في باب الكفارة (2): "فجاء رجلٌ من الأنصار"(3)، وفي الدارقطني عن ابن المسيب اسمه ضربة العاني رجلًا (جـ) من ثقيف، وهو يحتمل أنه كان حليفًا للأنصار، أو أطلق عليه اسم الأنصار (د) بالمعنى الأعم، وفي رواية ابن إسحاق:"فجاء رجل بصدقته يحملها"(3)، وفي مرسل الحسن:"بتمر من تمر الصدقة"(4).

(أ - أ) غير ظاهر بالنسخ.

(ب) هـ: يومًا.

(جـ) جـ: رجل.

(د) هـ: الأنصاري.

_________

(1)

البخاري العتق، باب في العتق وفضله 5: 146 ح 2517.

(2)

البخاري الكفارات، باب مَنْ أعان المعسر في الكفارة 11: 596 ح 671.

(3)

و (4) انظر الفتح 4: 168.

ص: 80

وقوله: "بعَرَق": بفتح المهملة والراء بعدها قاف، وهو في رواية الأكثر، وفي رواية أبي الحسن القابسي بإسكان الراء، وقد أنكر بعضهم الإسكان، وإنما هو العظم عليه اللحم (1).

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "الراجح هو الفتح، والإسكان ليس بمنكر، بل قد أثبته بعضُ أهل اللغة، وهو المِكْتَل -بكسر اليم وسكون الكاف وفتح التاء النقوطة باثنتين من أعلى- الضخم، قال الأخفش: يسمى المكتل عَرَقًا لأنه نصف عرقة، فالعَرَق جمع عَرقة كعلق وعلقة، والعرقة الضفيرة من الخوص"(2).

وفي بعض طرق عائشة عند مسلم (3): "فجاءه عَرَقَان"(3) مثنى، قال المصنف -رحمه الله تعالى-:"إن التمر كان أولًا" عند حمله على الدابة عَرَقَان ليكون (ب) أسهل في الحمل، ويحتمل أنه لما وصل به أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال، ومن قال عَرَق أراد ما آل إليه، والله أعلم" (4).

وهذا أولى مما ذهب إليه البيهقي من تعدد الواقعة.

واعلم أنه لم يقع تعيين قَدْر ما في الِمكتَل من التمر في شيء من طرق الصحيحَيْن في حديث أبي هريرة، ووقع في رواية ابن أبي حفصة: "فيه

(أ) هـ: أولى.

(ب) هـ: فيكون.

_________

(1)

انظر الفتح 4: 168.

(2)

فتح الباري 4: 168 (بنحوه).

(3)

مسلم الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم

2: 783 ح 85 - 1112.

(4)

الفتح 4: 169 (بنحوه).

ص: 81

خمسة عشر صاعًا"، وفي رواية سفيان: "فيه خمسة عشر أو نحو ذلك"، وعند ابن خزيمة عن الثوري: "فيه خمسة عشر أو عشرون" (1)، وكذا عند مالك، وعن سعيد بن المسيب في مرسله عند عبد الرزاق (2)، وفي مرسله عند الدارقطني الجزم بعشرين صاعًا، وكذا عند ابن خزيمة في حديث عائشة. قال البيهقي (3): وهو بلاغ محمد بن جعفر أحد رواته، ووقع في مسند عطاء عند مسدد: "فأمر له ببعضه (أ) ".

قال المصنف -رحمه الله تعالى (4) - في الجمع بين الروايات: فمن قال: إنه كان عشرون أراد أصل ما كان فيه، ومن قال: خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة، وبين ذلك حديث علي رضي الله عنه عند الدارقطني:"يطعم ستين مسكينًا لكل مسكين مدّ"، وفيه:"فأتى خمسة عشر صاعًا" فقال: "أطعمه ستين مسكينًا"، وكذا في حديث أبي هريرة عند الدارقطني (5) من طريق الزُّهْرِي وفيه رَد على الكوفِيِّين في قولهم: إن واجبه من القمح ثلاثون صاعًا ومن غيره ستون، وعلى أشهب في قوله: لو غداهم أو عشاهم كفى لصدق الطعام، ولقول الحسن:"يطعم أربعين مسكينًا عشرين صاعًا"، ولقول عطاء: إنْ أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعًا أو بالجماع أطعم خمسة عشر (6)، وفيه رد على

(أ) هـ: ببضعة.

_________

(1)

الفتح 4: 169.

(2)

عبد الرزاق 4: 195 ح 7458، 7459، الموطأ الصيام، باب كفارة من أفطر في رمضان 198 ح 28.

(3)

سنن البيهقي 4: 223.

(4)

الفتح 4: 169.

(5)

الدارقطني 2: 190.

(6)

الفتح 4: 169.

ص: 82

الجوهري حيث قال في "الصحاح"(1): المكْتَل شبه الزِّنبيل يَسَع خمسة عشر صاعًا لأنه لا حصر في ذلك.

وروي عن مالك (2) أنه قال: يسع خمسة عشر أو عشرين، ولعله قال ذلك في هذه القصة الخاصة فيوافق رواية مهران، وإلا فالظاهر أنه لا حَصْر، وأما ما وقع في رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة عند الطبراني في "الأوسط" "أنه أُتي بمِكتل فيه عشرون صاعًا فقال: تصدق بهذا" وقال قبل ذلك: "تصدق بعشرين صاعًا أو بتسعة عشر أو بأحد وعشرين"، فلا حجة لما فيه من الشَّك، ولأنه من رواية ليث بن أبي سليم (3)، وهو ضعيف، وقد اضطرب فيه وفي الإسناد إليه مع ذلك [من لا يحتج به](أ) انتهى كلامه (4).

قوله: "تصدق بهذا": وقع في رواية الأكثر: "خُذْ هذا فتصدق به"، وزاد ابن إسحاق:"فتصدق به عن نفسك"، وفي رواية "أطعِم هذا عنك"(5)، وفي رواية:"نحن نتصدق به عليك"، وقد يستدل بهذا على أنه لا يلزم إلا كفارة واحدة، ولا تجب على الزوجة وهو الأصح من قولي الشافعي، وبه قال الأوزاعي، وقال الجمهور وأبو ثَور وابن المنذر: تجب الكفارة على المرأة أيضًا معتلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يذكرها مع الزوج لأنها لم تعترف، واعتراف الزوج لا يوجب عليها الحُكْم، واحتمال أن المرأة لم تكن صائمة بأن تكون طاهرة من الحيض بعد طلوع

(أ) كذا في النسخ والزيادة من الفتح والمقام يتطلب ذلك.

_________

(1)

الصحاح ص 981 مادة كتل (- الصحاح في اللغة والعلوم).

(2)

الموطأ 198.

(3)

تقدم في ح 46.

(4)

الفتح 4: 169.

(5)

البخاري الصوم، باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة .... 4: 173 ح 1937.

ص: 83

الفجر، أو أن بيان الحكم في حق الرجل يثبت الحكم في حق المرأة أيضًا لم عُلم من تعميم الأحكام.

أو أنه عَرف فقرها كما ظهر من حال زوجها، وقال القرطبي، اختلفوا في الكفارة هل هي على الرجل وحده على نفسه فقط، أو عليه وعليها، أو عليه كفارتان عنه وعنها، أو عليه عن نفسه وعليها عنها، وليس في الحديث ما يدل على شيءٍ من ذلك، ولهم تفاصيل في الحُرَّة والأَمَة والمطاوعة والمُكْرَهة، وهل هي عليها أو على الرجل عنها، والقائل بوجوب كفارة واحدة على الزوج عنه وعن موطوءته يقول: يعتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أجزأت رقبة واحدة، وإن كانا من أهل الإطعام أطعم كما سبق، وإن كانا من أهل الصيام صاما جميعًا، فإن اختلف حالهما ففيه تفريع محله كتب الفروع.

وقوله: "أَعَلَى أفقر منا! ": أي أتصدق به على شخص أفقر منا، أو على أهل بيت أفقر منا، وفي هذا دلالة على أنه فهم منه الأمر له بالتصدق على من يتصف بالفقر، وقد بين ذلك في حديث مالك عن ابن عمر بزيادة:"إلى مَنْ أدفعه؟! إلى أفقر من أهلي"، ولابن مسافر:"أعلى أهل بيت أفقر مني"، وللأوزاعي:"أعلى غير أهلي أهل"، ولمنصور:"أعلى أحوج منا"، ولابن إسحاق:"وهل الصدقة إلا لي وعليَّ".

وقوله: "ما بين لابتيها": هو تثنية لابة، واللابة: هي الحَرَّة، وهي أبيض ملتبسة بحجارة سود يقال: لابَة، لُوَبة ونُوبة بالنون حكاهن أبو عبيد والجوهري (1)(أ) ومَنْ لا يحصى من أهل اللغة، وجمع اللابة: لُوبٌ

(أ) زادت هـ هنا: "هو تثنية لابة، واللابة هي الحرة".

_________

(1)

النهاية 4: 274، الصحاح ص 1067 (الصحاح في اللغة والعلوم).

ص: 84

ولابٌ (أ) ولابات (ب) وهي غير مهموزة، واللابتان هما الحرتان، والضمير للمدينة، وما: هي النافية المشبهة بليس، اسمها "أفقر" مرفوع وخبرها "بين"، فهي ملغاة عن العمل لتقدم الخبر فيُرفعان على الابتداء أو الخبر إلا على قول سيبويه من الإعمال مع تقدم الخبر، و"أحوج" بدل من "أفقر" فحكمه حكمه، ومنا هو المفَضَّل عليه.

وقوله: "حتى بَدَتْ أنيابه": وفي رواية ابن إسحاق: "حتى بدت نواجذه"، ولأبي قرة في "السنن":"حتى بدت ثناياه"، ولعلها تصحيف من أنيابه، فإن الثنايا تتبين بالتبسم غالبًا، وهو ظاهر السياق أنه زاد على التبسم، وما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان تبسما (1) بناء على الغالب، وقيل كان في أمر الدنيا لا يزيد على التبسم، وفي أمرٍ يتعلق بالآخرة يزيد على ذلك، وقيل: إن سبب ذلك هو اختلاف حال السائل فإنه جاء خائفًا على نفسه راغبًا في فداها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أَن يأكل ما أُعطيه في الكفارة، وقيل: ضحك مِنْ حسْن بيان المتكلم وتلطفه في الخطاب وتوسله في توصله إلى مقصده.

وقوله: "اذهب فأطعمه أهلك": وفي رواية "أطعمه عيالك"(2)، وفي رواية "فأنتم إذا" وقدم ذلك على ذكر الضحك، وفي رواية:"ثم قال كُلْهُ"، وفي رواية "خذها وكُلها وأنفقها على عيالك"(3)، وفي

(أ) هـ: (الاب).

(ب) جـ: (لاب).

_________

(1)

البخاري الأدب، باب التبسم والضحك 10: 504 ح 6092.

(2)

البخاري الكفارات، باب قوله تعالى، {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} 11: 595: 596 ح 6709.

(3)

الفتح 171:4.

ص: 85

رواية "عُدْ به عليك وعلى أهلك"(1).

واعلم أن في توسيعه صلى الله عليه وسلم بأكل ذلك هو وعياله احتمال أن الكفارة ساقطة عليه بسبب الإعسار المقارن لوجوب الكفارة؛ لأن الكفارة من قاعدتها أن لا تُصرف في النفس، ولم يبين له صلى الله عليه وسلم أنها باقية في ذمته يخرجها متى أيسر، وهو أحد قَوْلَي الشافعي، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية، ويتأيد ذلك بالقياس على صدقة الفِطْر.

وقد يُجَابُ بأن صدقة الفطر لها أَمَد ينتهى إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة، وليس في الحديث ما يدل على السقوط، وفيه احتمال أن الكفارة غير ساقطة، وصرفها فيه وفي أولاده خصوصية له، وقد ذهب إلى هذا إمام الحَرَمين، وهو قول الزُّهْرِي.

ورُدَّ بأن الأصل عدم الخصوصية، وقال بعضهم: هذا منسوخ، وتقصى عنه بعضهم بأن الأهل الذين أمر بالصرف إليهم هم مَن لا تلزمه نفقتهم من أقاربه.

ورُدَّ بأنه قد بين الأهل في رواية "عيالك"(2)، وأيضًا في رواية "أكله بنفسه منه" وبعضهم قال: إنه لما كان معسرًا سقطت عنه نفقة أولاده فجاز الصرف فيهم، ولكنه يشكِل برواية "أكله".

وقال الشيخ تقي الدين: إن إعطاءه ليس لأجل أن يخرجه عن الكفارة، وإنما هو لقصد التصديق عليه وعلى أهله لما ظهر من حاجتهم، والكفارة باقية في ذمته، وليس في الحديث ما يدل على سقوطها، وليس فيه تأخير

(1) ابن خزيمة 219:218:3 ح 1947.

(2)

البخاري الكفارات، باب قوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ....} 11: 595: 596 ح 6709.

ص: 86

البيان عن وقت الحاجة لما أنه قد علم لزوم الإخراج بسبب المقتضي لذلك، وإن سُلِّمَ ذلك فوقت الحاجة هو وقت القدرة على الإخراج، ولما يحصل ويجاب عن هذا بأن قد ورد ما يدل على سقوط الكفارة، فإنه قال في حديث عليّ "كله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك"(1) ولكنه حديث ضعيف، وكذا ما أخرجه أبو داود (2) في حديث أتي هريرة "كله أنت وأهل بيتك وصم يومًا واستغفر الله".

ويمكن الجواب عن هذا بأنه لم يكن فيه صريح دال على سقوطها عند الإيسار، فإنه يحتمل أنَّ المُرَادَ بالتكفير عنه بمعنى عدم المطالبة في الحال، ولا يلزم منه التكفير مطلقًا.

وقد ذهب إلى القول بوجوب الكفارة أبو طالب والإمام يحيى وأبو حنيفة والشافعي ومالك والإمامية ورواية عن القاسم وحجتهم ما عرفت من الأمر للأعرابي بإخراج أي الأنواع الثلاثة.

وذهب طاوس وابن المسيب والنخعي وابن عُليَّة وأحمد والهادي والمؤيد والناصر والمرتضى والنفس الزكية إلى القول بعدم الوجوب محتجين بحديث أتي هريرة الذي أخرجه أبو داود، وبأنه أباح له الأكل (أ) من التمر وعياله، وقد عرفت الجواب عن ذلك، وذكر في حديث أتي هريرة عند أبي داود والأمر بقضاء يوم مكان ما أفطر.

وقد ذهب إلى وجوب القضاء الهادوية والشافعي للحديث وعموم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3)، وفي قولٍ للشافعي يسقط إذ أمره بها

(أ) هـ: أكل.

_________

(1)

الدارقطني 2: 208 (21).

(2)

أبو داود الصوم، باب كفارة مَنْ أتى أهله في رمضان 2: 786 ح 2393.

(3)

البقرة الآية 184.

ص: 87

فقط، ويجاب بأنه اتكل في القضاء على الآية، وقد عرفتَ حديث أبي هريرة.

وعن الشافعي إنْ كَفَّرَ بالصوم فلا قضاء وإلا وجب، ومن أفطر بالجماع وهو مرخص له في الإفطار كأن يكون مسافرًا وجب القضاء ولا كفارة، وعند أحمد: بل يكَفر.

والجواب بأنه كالأكل حيث نوى به الإفطار للرخصة، فإن لم ينوِ به الترخيص فقال الإمام المهدي: فيه وجهان: يكفر كالمقيم لعدم النية، ولا إذ هو مسافر، ولا تكرر الكفارة بتكرر الأيام ما لم يتخلل التكفير.

وعن الشافعي: بل تعدد كيومين من شهرين، قال الإمام المهدي: وهو الأقرب، وأما في اليوم الواحد فلا تكرار، وقال أحمد: بل يلزم ويجاب بأن الوَطْءَ وقع في غير صَوْم، وكذا إذا وطئ بعد أن قد كان أفطر ناسيًا فلا كفارة.

وقال أبو الطيب الطبري: يلزم، وهِو صحيح على قول مَنْ يقول إن الأكل ناسيًا غير مفطر، وكذا من جَامع ثم سافر أو مرض في ذلك اليوم فلا كفارة عليه عملًا بالانتهاء، وهذا عند أبي حنيفة والإمام يحيى والهادوية والثوري، وقال مالك وأحمد وإسحاق وأحد قولي الشافعي: العبرة بالإقدام، وقد أقدم عاصيًا، ويجاب عنه بأن الصوم انكشف كونه غير مستحق وفيه نظر على اعتبار الابتداء.

والحديث ورد في حق المجامع، ويقاس عليه من أفطر بغير الجماع، وقد يُجَابُ بالفرق بين الجماع وغيره بأن المدة في حق المجامع أكمل من حق منْ تناول أدنى مفطر بغير الجماع، ولذلك منع منه المحرم، وقد ورد عن أبي هريرة "أن رجلًا أكل في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة" أخرجه الدارقطني، وفي إسناده أبو معشر، وهو ضعيف، وأما

ص: 88

حديث "أن رجلًا قال: قد أفطرت في رمضان" فهو يحتمل أنه أفطر بجماع لا حجة فيه.

وقد اختلف السلفُ في حَقِّ مَنْ أفطر بغير الجماع عمدًا، فعلق البخاري (1) عن أبي هريرة رفعه:"مَنْ أفطر يومًا من رمضان من غير عِلة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر، وإن صامه"(2)، وبه قال ابن مسعود.

وقال سعيد بن المسيب والشَّعْبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد: يقضي يومًا مكانه.

وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم السؤال عن حُكم ما يفعله المرء مخالفًا للشرع، والتحدث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يُسْتَقْبح ظهوره بصريح لفظه لقوله:"واقعتُ" و"أصبتُ"، على أنه قد ورد في بعض طرقه "وطأتُ"، والظاهر أنه مِن تصرف الرواة.

وفيه الرفق بالمتعلم، والتلطف في التعليم، والتآلف على الدين، والنَّدَم على المعصية، واستشعار الخَوْف.

وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنَشْر العلم.

وفيه جواز الضحك عند وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع

(1) البخاري الصوم، باب إذا جامع في رمضان 4: 160 (بنحوه، معلقًا). ووصله أبو داود كتاب الصوم، باب التغليظ فيمن أفطر عمدًا 2: 788: 789 ح 2396، والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في الإفطار متعمدًا 3: 101 ح 723، وابن ماجه كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان 1: 535 ح 1672.

(2)

البخاري الصوم، باب إذا جامع في رمضان 4: 160 (بنحوه، معلقًا). ووصله أبو داود كتاب الصوم، باب النغليظ فيمن أفطر عمدًا 2: 788: 789 ح 2396، والترمذي كتاب الصوم، باب ما جاء في الإفطار متعمدًا 3: 101 ح 723، وابن ماجه كتاب الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان 1: 535 ح 1672.

ص: 89

أهله للحاجة.

وفيه الحَلِف للتأكيد كما ورد في رواية: "والله ما بين لابتيها"، وقبول قوله في الفقر، ويحتمل أن القرينة ظاهرة في فقره.

وفيه التعاون في العبادة، والسعي في خلاص المسلم، وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفارة أهل بيتٍ واحد، وأن المضطر إلى ما في يده لا يجب عليه أن يعطيه، أو يعطيه لمضطر آخر.

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "قد اعتنى بعضُ المتأخرين ممن أدركه شيوخنا بهذا الحديث، فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة، ومحصلة (أ) إن شاء الله تعالى فيما لخصته مع زيادات كثيرة، فلله الحمد على ما أنعم. انتهى كلامه في "فتح الباري" (1)، وأقول: وقد أتيتُ بحمد الله في هذا المختصر على معظم تلك الفوائد جمع تلخيص وزيادات كثيرة، فلله الحمد على ما أنعم وأجزل.

519 -

وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جُنُبًا مِنْ جِمَاع ثم يغتسل ويصوم" متفق عليه (2)، وزاد مسلم في حديث أم سلمةَ:"ولا يقضي"(3).

الحديث فيه دلالة على أنَّ الصَّوْمَ يصح ولو أصبح جُنُبًا مِنْ جِمَاع،

(أ) هـ: وتلخيصه.

_________

(1)

الفتح 4: 173.

(2)

البخاري الصيام، باب الصائم يصبح جنبًا 4: 143 ح 1926، مسلم الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2: 780: 781 ح 78 - 1109.

(3)

مسلم الصيام باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2: 780 ح ح 77 - 1109.

ص: 90

وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وادعى النووي الإجماع على ذلك (1)، وقال ابن دقيق العيد (2): صار ذلك إجماعًا أو كالإجماع، وقد سبق الخلاف في ذلك لعُروة بن الزُّبَير فيمن تعمد الجنابة فقال: إنه يفطر، وكذا حكاه ابن المنذر عن طاوس، وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر أنه يتم صومه ويقضي.

وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ذلك فقال: اختلف أبو هريرة وعائشة، وأرى أن يتم صومه ويقضي (3) انتهى.

ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب القضاء، والذي نقل الطحاويُّ عنه استحبابه، ونقل ابن عبد البر عنه وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض والإجزاء في التطوع، ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حَقِّ المُجَامِع دون المحتلم، فأجمعوا على أنه يجزئه وهو معترض بما أخرجه النسائي (4) بإسناد صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر "أنه احتلم ليلًا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح، قال: فاستفتيت أبا هريرة فقال: أفطِرْ".

وحجة مَنْ قال ذلك حديث أبي هريرة، قال البخاري (5): وقال همام

(1) قال الإمام النووي بعد أن ساق خلاف بعض العلماء: ثم ارتفع هذا الخلاف وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته. وفي صحة الإجماع بعد الخلاف خلاف مشهور شرح مسلم 3: 166.

(2)

العمدة 3: 337.

(3)

مصنف عبد الرزاق 4: 181 ح 840 بلفظ: "يتم يومه ذلك ويبدل يومًا".

(4)

النسائي الكبرى الصوم (انظر تحفة الأشراف 10: 244 ح 14119).

(5)

البخاري مع الفتح 4: 143. قلتُ: لهمام رواية وصلها أحمد وابن حبان ولعبيد الله بن عمر رواية وصلها عبد الرزاق.

ص: 91

وابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالفطرْ" وقد وصل الرواية أحمد وابن حبان بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا نودي للصلاة (أصلاة الصبح أ) وأحدكم جُنُب فلا يصُم يومه"(1)، ورواية ابن عبد الله بن عمر وصلها عبد الرزاق، وقد اختلفَ على الزهري في اسم ابن عبد الله هل عبد الله مكبرًا أو مصغرًا، وأجابَ الجمهور بأن ذلك منسوخ، وأن أبا هريرة حدث به ولم يعلم النسخ، ثم لما روي له حديث عائشة وأم سلمة رجع عن ذلك وأفتى بقولهما.

وأخرج النسائي أنه قال: هي أمي عائشة (ب) أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا" (2)، وزاد ابن جريج في روايته: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك.

وروى ابن أبي شيبة (3) من طريق قتادة عن سعيد بن السيب أن أبا هريرة: رجع عن فُتْيَاه مَنْ (جـ) أصبح جنبًا فلا صوم له، وفي رواية للنسائي فقال أبو هريرة:"هكذا كنت أحسب"(4)، وفي رواية البخاري والنسائي (5) وغيرهم أن أبا هريرة روي ذلك بواسطة الفضل بن العباس،

(أ، أ) سقط من: هـ.

(ب) جـ، هـ:(هي أمي -أي- عائشة).

(جـ) هـ: لمن.

_________

(1)

أحمد 2: 314، ابن حبان 5: 201 ح 3476.

(2)

النسائي الكبرى الصيام (كما في تحفة الأشراف 11: 475 ح 16299).

(3)

مصنف ابن أبي شيبة 3: 81: 82.

(4)

النسائي الكبرى (انظر التحفة 11: 475).

(5)

البخاري الصيام، باب الصائم يصبح جنبًا 4: 143 ح 1926، النسائي الكبرى الصيام (التحفة 11: 475).

ص: 92

ويدل على النسخ ما أخرجه مسلم والنسائي وابن حبان وابن خزيمة عن عائشة أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع منْ وراء حجاب، فقال: يا رسول الله، تدركني الصلاة -أي صلاة الصبح- وأنا جنب أفأصوم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال: لستَ مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" (1).

ونزول سورة الفتح في عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وقد كان في صَدْرِ الإسلام المنع من الأكل والشرب والجِمَاع بعد النوم، ثم أباح الله تعالى ذلك ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة الناسخ، فاستمر أبو هريرة على الفُتْيَا به، ثم لما بلغه رجع، وقد ذهب إلى النسخ ابن المنذر والخطابي وغيرهم.

وهذا الحديث يدفع قولَ منْ قال بأن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وذهب البخاري (2) إلى الرد على حديث أبي هريرة بأن حديث عائشة أقوى سندًا حتى قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر (2)، وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتى به، ورواية الرفع أقل، ومع التعارض يرجح بقوة الطريق، ويرجحه أيضًا ما يفهم من قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} (3) الآية، فإنه إذا أحل الرفث في جميع أجزاء الليل فمن جملة

(1) مسلم الصيام، باب صحة صوم مَنْ طلع عليه الفجر وهو جنب 2: 781 ح 79 - 1110، النسائي في الكبرى الصيام (كما في تحفة الأشراف 12: 381 ح 17810)، ابن حبان في صحيحه 5: 203 ح 3483، ابن خزيمة في صحيحه 3: 252 ح 2014.

(2)

الفتح 146:4.

(3)

سورة البقرة، الآية 187.

ص: 93

الأجزاء آخرها، ومن ضرورته الإصباح جنبًا ويلزم من إباحته أن لا يمنع ذلك عن الصوم، إذ لو كان مانعًا لحرم إذ لا يتم الواجب إلا به.

وبعضهم حاول الجمع بين الحديثين بأن حديث أبي هريرة محمول على أن النهي للإرشاد، وحديث عائشة مبين للجواز، ونقله النووي عن أصحاب الشافعي إلا أن البيهقي نقل عن أصحاب الشافعي سلوك الترجيح، وبعضهم حمله على من أدرك الفجر مجامعًا فاستدام بعد طلوعه إلا أنه يدفعه ما أخرجه النسائي (1) عن أبي هريرة "أنه كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم" (1).

وقولها: "من جماع": قال القرطبي: فيه دلالة على أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يحتلم؛ لأنه من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال بعضهم: بل فيه دلالة على جواز الاحتلام عليه، وإلا لما احتاجت إلى الاحتراز عنه.

وقد يجاب عنه بأن الاحتلام قد يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بعد رؤية شيء في المنام، والله أعلم.

520 -

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وَليّه" متفق عليه (2).

الحديث فيه دلالة على أنه يجزئ عن الميت صيام غيره عنه، وأن ذلك هو الواجب، لأن "منْ" لفظ عام شامل للمكلَّفين.

وقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألةَ فأجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث، وعلق الشافعي في القديم (3) القول به على صحة

(1) النسائي في السنن الكبرى الصيام (-كما في تحفة الأشراف 10: 364 ح 14593).

(2)

البخاري الصوم، باب من مات وعليه صوم 4: 192 ح 1952، مسلم الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت 2: 803 ح 153 - 1147.

(3)

سنن البيهقي 4: 256.

ص: 94

الحديث، نقل ذلك عنه (أ) البيهقي في "المعرفة"، وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية (ب)، حتى قال البيهقي في "الخلافيات": هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها، فوجب العمل بها، ثم ساق سنده إلى الشافعي قال:"كل ما قلت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فخذوا بالحديث (جـ) ولا تقلدوني".

وذهب إلى هذا المؤيد بالله، وذهب الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة وزيد بن علي والهادي والقاسم إلى أنه لا يصام عن الميت، وإنما الواجب الكفارة لقوله صلى الله عليه وسلم:"منْ مات وعليه صيام فَليُطْعم عنه مكان كل يوم مسكين"، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر مرفوعًا (1)، وقال: غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، والصحيح أنه موقوف على ابن عمر.

وأخرجه ابن ماجه (2) مرفوعًا أيضًا وفي إسناده وهم (3)، وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر، وتابعه البيهقي على ذلك.

وأخرج البيهقي عن عائشة "أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، قالت: تطعم عنها"(4). وعنها أيضًا أنها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم،

(أ) هـ: عن.

(ب) هـ: الشافعي.

(جـ) هـ: الحديث.

_________

(1)

الترمذي الصوم، باب ما جاء من الكفارة 3: 96 ح 718.

(2)

ابن ماجه الصيام، باب مَنْ بات وعليه صيام رمضان قد فرط فيه 1: 558 ح 1757.

(3)

قال المزي في الأطراف: قوله عن محمد بن سيرين وهم، فإن الترمذي رواه ولم ينسبه. ثم قال الترمذي وهو عدي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. (تحفة الأشراف ح 8423).

(4)

سنن البيهقي 257:4.

ص: 95

وأطعموا عنهم" (1).

وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال في رجل مات وعليه رمضان قال: "يطعم عنه ثلاثون مسكينًا"(2).

وروي النسائي عن ابن عباس قال: "لا يصوم أحد عن أحد"(3).

قالوا: لقد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه من صيام الولي، قالوا: وهو أيضًا موافق لسائر العبادات التي لا يقوم بها مكلف عن مكلف، والحج مخصوص بدليله، والحديث الصحيح المروي عن عائشة وعن ابن عباس يقضي عنه بأن المراد من قوله "صام عنه وليه". أي: فعل عنه ما يقوم مقام الصوم، وهو الإطعام، وهو نظير قوله:"التراب وضوء المسلم إذا لم يجد الماء"(4) فسماه وضوءًا لما قام مقام الوضوء، كذا قال الماوردي.

ويُجَاب عنه بأن ذلك مَجَاز بغير دليل عليه، والحنفية يقضوا عنه بمخالفة الراوي لما رواه كما عرفت عن عائشة وابن عباس وهي قاعدة مقررة لهم في الأصول، والجواب عنهم بأن الصحيح العمل بما روي لا بما رأى؛ لأن ذلك يكون بالاجتهاد، فقد يظن غير الناسخ ناسخًا ونحو ذلك، ومبنى الرواية على العدالة والضبط فقط.

ويجاب عن ذلك بأن حديث عائشة متفق عليه مخرج في الصحيحين، وكذلك حديث ابن عباس بزيادة التعليل وهو:"فدين الله أحق أن يقضى"(5)، وحديث ابن عمر قد عرفتَ ما فيه، والآثار عن عائشة وابن

(1) المرجع السابق.

(2)

الذي في مصنف عبد الرزاق 4: 240 ح 7650 بلفظ: " .... يطعم عنه ستون مسكينًا".

(3)

النسائي الكبرى الصوم (كما في تحفة الأشراف 5: 80 ح 5886).

(4)

انظر: نصب الراية 1: 148.

(5)

البخاري الصوم، باب مَنْ مات وعليه صوم ..... 4: 192 ح 1953.

ص: 96

عباس لا تقاوم الحديث الصحيح.

وقولهم: إن العبادة لا يقوم فيها مكلف عن مكلف غير صحيح، فإنه قد روي في كثير من أنواع البر في الاعتكاف والصدقة بالمال والدعاء وتلاوة القرآن، وفي ذلك أحاديث كثيرة يؤيد بعضها بعضًا، ولا فرْق بين قرْبَةٍ وقُرْبَةٍ، وفضل الله أوسع من ذلك.

وتقضي المالكية عن العمل بحديث عائشة بأن أهل المدينة لم (أ) يعملوا به بناء على قاعدتهم في الاعتداد بإجماع أهل المدينة، والدليل قائم على خلافه، وادعى القرطبيُّ تبعًا لعياض أن حديث عائشة مضطرب، وليس كذلك.

وذهب الليث وأحمد وإِسحاق وأبو عبيد إلى التفصيل، وهو أنه يصام في النذر، قالوا: لأنه وردَ في حديث ابن عباس ذلك الحكم وهو في النذر فيحمل حديث عائشة أيضًا عليه.

ويجاب عنه بأن حديث ابن عباس ورد في صورةٍ معينة، وحديث عائشة في تقرير قاعدة كلية ولا تعارض بينهما، فلا حاجة إلى التقييد، وإنما يستقيم هذا على أصل أبي ثور أن الخاص الموافق للعام تخصيص للعام.

وقوله: "صام عنه وليه": خَبَرٌ في معنى الأمرِ بمعنى لِيَصُمْ عنه، والأمر ليس للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمامُ الحرميْن ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك، وقد أخرج البزار زيادة:"فَلْيَصُمْ عنه وَليُّه إنْ شاء" وهي من رواية ابن لهيعة.

وبعض أهل الظاهر أوجب ذلك على الولي، واختلفوا في الولي فقيل:

(أ) هـ: لا.

ص: 97

المراد به كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عَصَبَتهُ، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها، واختلفوا أيضًا هل يختص ذلك بالولي؛ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية فيقتصر على الدليل ويبقى الباقي على الأصل، وقيل: لا يختص بالولي، فلو أمر أجنبيًّا بأن (أ) يصوم عنه أجزأ كالحج، وقيل: يصح استقلال الأجنبي بذلك، وذكر الولي لكونه الغالب، وقد مال البخاري إلى هذا، وجزم به أبو الطيب الطبري (ب) قواه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم بالديْن، والدين لا يختص به القريب.

وأقول: هذا هو الراجح لأنه كسائر أحوال الميت فإنه ينوب عنه وَصيُّه في ذلك (جـ فإن لم يكن له وصي ولا وارث فالإمام والحاكم ثم منْ صَلح له من سائر المسلمين ولا يتعين على الوصي مباشرة العمل بعينه بل له الاستنابة، والله أعلم جـ).

وعلق البخاري (1) عن الحسن البصري قال: "إنْ صام عنه ثلاثون رجلًا يومًا واحدًا جاز"(1)، وذَكَرَ الفقيه يوسف تفريعًا على أصل مَن قال بذلك أنه لا بد من الترتيب بعدد الأيام. [أحاديث الباب أربعة وعشرون حديثًا].

(أ) سقط من هـ (بأن).

(ب) سقط من هـ، و، ى:(الطبري).

(جـ- جـ) ما بينهما مثبت في هذا الموضع في جـ، ومتأخر في هـ، ي بعد عبارة (.. لا بد من الترتيب بعدد الأيام). أما الأصل فعبارة (وعلق البخاري

) إلى قوله: (بعدد الأيام) لحق في الحاشية غير ظاهر موضع الإلحاق.

_________

(1)

البخاري الصوم، باب مَنْ مات وعليه صوم

4: 192 (تعليقًا). وقد وصله الدارقطني في كتاب الذبح.

ص: 98