الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة الحج ودخول مكة
أراد بصفة الحج بيان المناسك والإتيان بها مرتبة وكيفية وقوعها وذكر حديث جابر، وهو وافٍ بجميع ذلك يشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من الفرائد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، لرواه أبو داود.
قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا، ولو تقصي لزاد على هذا العدد (1).
577 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس فقال: "اغتسلي واستذفري (أ)(2) بثوب وأحرمي، وصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إِذا استوت به على البيداء أَهَلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إِن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك حتى إِذا أتينا البيت استلم الركن فَرَمَلَ ثلاثًا ومشى أربعًا ثم أتى مقام (3) إِبراهيم فصلى ثم رجع إِلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إِلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ {إِن الصفا والمروة من شعائر اللَّه} (4) أبدأ بما بدأ اللَّه به، فرقي
(أ) هـ: (استثفري).
_________
(1)
شرح مسلم 3: 333.
(2)
هامش الأصل وهـ، جـ، ى: عند مسلم واستثفري.
(3)
هامش الأصل: (لفظ مسلم "إلى مقام").
(4)
البقرة الآية 158.
الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد اللَّه وكبره وقال: لا إِله إِلا اللَّه وحده لا شريك له، له اللك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إِله إِلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك ثلات مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إِذ انصبت (أ) قدماه في بطن الوادي رمل حتى إِذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا
…
"، فذكر الحديث وفيه: فلما كان يوم التروية توجهوا إِلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم وصلى بها الظهر والعصر والغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس فأجاز حتى أتى عرفة فوجد القُبَّة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إِذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت وأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا ثم ركب حتى أتى الوقف فجعل بطن ناقته القصواء إِلى الصخرات وجعل جبل الشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص ودفع، وقد شنق للقصواء الزمام حتى إِن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: يا أيها الناس السكينة فلما أتى جبلًا أرخى لها قليلًا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإِقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإِقامة، ثم ركب حتى أتى الشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا وكبر وهلل، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلًا ثم سَلَكَ الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة
(أ) كذا في الأصل. وفي جـ وصحيح مسلم: (إذا انصبت). وفي هـ: (حتى أتى انصبت).
فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إِلى المنحر فنحر ثم ركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأفاض إِلى البيت فصلى بمكة الظهر". رواه مسلم مطولًا (1).
قوله: "إِن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حج" وقع هذا المعنى ما في صحيح مسلم، ولفظه أنه (أ) لما سأله علي بن الحسين فقال: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم -بكسر الحاء وفتحها، والمراد حجة الوداع فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، يعني مكث بالمدينة بعد الهجرة- ثم أذن الناس في العاشرة، معناه أعلمهم بذلك وأشاعه ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أفعاله وأقواله، ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام، ويبلغ الرسالة القريب والبعيد كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله "اغتسلي" فيه دلالة على شرعية الغسل للنفساء وكذلك الحائض وفي حق غيرهما بالأولى.
وقوله "واستذفري بثوب" الاستذفار هو: أن تشد المرأة في وسطها شيئًا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم أتشد طرفيها من قدَّامها ومن ورائها إلى ذلك المشدود، وهو تشبيه بثفر الدابة بفتح الفاء والمثلثة وهو: ما يكون تحت ذنبها يغطي حياها ويشتمل أن يكون من الثفر بسكون الفاء وهو الفرج واستعير لغيره لملازمته له، والأول أظهر لقوله في بعض الروايات "تلجمي بثوب".
(أ) سقط من هـ: (أنه).
_________
(1)
مسلم الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2: 886 ح 147 - 1218، أبو داود المناسك باب صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم 2: 455 ح 1905.
وقوله: "وأحرمي" فيه دلالة على صحة إحرام النفساء وكذلك الحائض وهو مجمع عليه.
وقوله "وصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد" في رواية مسلم "أنه صلى ركعتين" والظاهر أنهما نافلة، وعن الحسن البصري أن الأفضل أن تكون بعد صلاة فرض قال: لأنه قد روي أن الركعتين كانتا صلاة الصبح.
وقوله: "ثم ركب القصواء" بفتح القاف والمد، قال القاضي عياض: وقد وقع القصوى بضم القاف والقصر، قال: وهو خطأ ثم قال ابن قتيبة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نوق: القصواء والجدعاء والعضباء.
قال أبو عبيد: العضباء اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تسم بذلك لشيء أصابها.
قال القاضي: وقد ذكر في غير مسلم، أنه خطب على ناقته الجدعاء، وفي حديث آخر "على ناقة خرماء" وفي آخر "على ناقة مخضرمة" وفي حديث آخر:"كانت له ناقة لا تسبق"(1) وفي آخر تسمى العضباء (2)، وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة لأنها في قصة واحدة إلا أن في مسلم في باب النذر، أن القصواء غير العضباء.
قال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصوى والخضرمة في الأذن.
قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه.
وقال الأصمعي في القصواء مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع وإن جاوز الربع فهي عضباء، والخضرم مقطوع الأذنين فإن اصطلمتا فهي صلماء.
(1) و (2) البخاري الجهاد، باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم 6: 37 ح 2872.
وقال أبو عبيد: القصواء المقطوعة الأذن عرضًا، والخضرمة المستأصلة والعضباء المقطوعة النصف فما فوقها.
وقال الخليل: المخضرمة مقطوعة الواحدة، والعضباء مشقوقة الأذن.
قال الحربي: فالحديث (أ) يدل على (ب) أن العضباء اسم لها وإن كانت عضباء الأذن فقد حصل اسمها، هذا آخر كلام القاضي (1)، وقد قال محمد بن إبراهيم التيمي الشافعي وغيره أن العضباء والقصوى والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله:"أهَلَّ بالتوحيد" يعني أنه أفرد التلبية لله وحده بقوله: لا شريك له يقول لبيك إلى آخره تفسير لقوله بالتوحيد، وفيه إشارة إلى أن الجاهلية كانت تشرك في تلبيتها غير الله -تعالى- كانت تقول: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك.
ولبيك، مصدر مثنى مضاف إلى المفعول لبيان الملبي حذف فعله وجوبًا والمراد من التلبية التكثير، والمراد منها تلبية كثيرة متتالية مرة بعد أخرى، وفيه دلالة على شرعية التلبية، وهو مجمع عليه ثم اختلفوا في حكمها، فأكثر أهل البيت وأبو حنيفة أن الإحرام لا ينعقد إلا بالنية مقارنة للتلبية، أو تقليد الهدي، وقال المؤيد بالله والشافعي وآخرون: هي سنة ينعقد الحج بالنية من دون ما ذكر، وقال بعض أصحاب الشافعي: هي واجبة لا يصح الحج إلا بها، وقال مالك: ليست بواجبة لكن لو تركها لزم دم، قال أبو حنيفة: ويقوم غيرها من ألفاظ الذكر مقامها كما قال في تكبيرة الإحرام،
(أ) جـ، ي:(والحديث).
(ب) هـ: (قال الحرثي: فدل على
…
).
_________
(1)
شرح مسلم للنووي 336:3.
ويستحب رفع الصوت بها في حق الرجل وتكرارها لا سيما عند تغاير الأحوال كإقبال الليل والنهار والصعود والهبوط ونحو ذلك، ولا يلبى في الطواف والسعي لأن لهما أذكارًا مخصوصة، ويكررها في كل كرة ثلاث مرات ويواليها ولا يقطعها بكلام، ويكره رد السلام عليه، فإن سلم عليه رد باللفظ، ويندب بعد التلبية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله -تعالى- لنفسه ولمن أحبه ولسائر المسلمين الرضوان والجنة، والاستعاذة من النار، وإذا رأى شيئًا يعجبه قال: لبيك إنَّ العيش عيش الآخرة ولا يقطعها إلا عند رمي الجمرة، أو عند طواف الزيارة إذا قدمه على الرمي، والمعتمر عند الطواف.
وقوله: "إِن الحمد والنعمة" يجوز في إنَّ فتح الهمزة وكسرها، والمعنى واحد وهو التعليل، قال أكثر العلماء يستحب الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال مالك والشافعي، وقد روي عن عمر أنه كان يزيد:"لبيك ذا النعماء والفضل الحَسَن، لبيك مرهونًا منك مرغوبًا إليك".
وعن ابن عمر: "لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل"(1).
وعن أنس: "لبيك حقًّا حقًّا تعبدًا ورقًا"(2).
وقوله: "حتى أتينا البيت" (فيه دلالة على أن السنة للحجاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات ليطوفوا للقدوم وغير ذلك.
وقوله: "حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا" فيه دلالة على أن الحاج إذا دخل مكة فالمشروع له أن يطوف
(1) مسلم الحج، باب التلببة وصفتها ووقتها 2: 842: 843. 21 - 1184، (عن عمر- بنحوه).
(2)
رواه البزار مرفوعًا وموقوفًا (كما في مجمع الزوائد 3: 223).
طواف القدوم قبل صعود الجبل، وهو مجمع عليه، وأن يرمل في الثلاثة الأشواط الأُوَل، ويمشي على عادته في الأربعة الأخيرة، والرَّمَل هو إسراع المشي مع تقارب الخطى وهو الخبب، ولا يشرع الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا يشرع.
وقوله "استلم الركن فيه" دلالة على أنه يشرع استلام الركن قبل الطواف.
وقوله "ثم أتى مقام إِبراهيم فصلى" في مسلم زيادة: "فقرأ {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلى} (1) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى" فيه دلالة على شرعية الصلاة خلف مقام إبراهيم، وقد أجمع العلماء على أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان؟ فمذهب الهادوية أنهما واجبتان، وكونهما خلف مقام إبراهيم نَدْبًا، وإذا تركهما حتى مات لزم دم، ووافق مالك على الوجوب، وقال: يجب أن يكون خلف مقام إبراهيم، وعند الشافعية ثلاثة أقوال أصحها أنهما سنة، الثاني أنهما واجبتان، والثالث إن كان طوافًا واجبًا فواجبتان وإلا فسنتان، قال النووي (2): والسنة أن يصليهما خلف المقام فإن لم يفعل ففي الحجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي مكة، وسائر الحرم ولو صلاهما في وطنه أو غيره من أقاصي الأرض جاز وفاته الفضيلة، ولو أراد أن يطوف طوافات استحب أن يصلي عقيب كل طواف ركعتَيْن، ولو أراد أن يؤخر الصلاة عن الطوافات جاز ذلك، وهو خلاف الأولى.
وقد قال بهذا المسور بن مخرمة وعائشة وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير
(1) البقرة الآية 125.
(2)
شرح مسلم 3: 338.
وأحمد وإسحاق وأبو يوسف، وكره ذلك ابن عمر والحسن البصري والزهري ومالك والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر، ونقله القاضي عن جمهور الفقهاء (1)، وورد في القراءة في الركعتين في الأولى:{قل يا أيها الكافرون} (2)، وفي الثانية:{قل هو اللَّه أحد} (3)، وقد أخرجه مسلم (4) عن محمد بن علي عن أبيه عن رواية جابر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أيضًا البيهقي بإسناد صحيح كذلك (5).
وقعوله: "ثم رجع إِلى الركن فاستلمْه" فيه دلالة على استحباب العود لاستلام الركن في طواف القدوم، وقد قال بهذا الشافعي وغيره واتفقوا على أن استلام الركن ليس بواجب ولو تركه لم يلزم دم.
وقوله "ثم خرج من الباب إِلى الصفا
…
" إلى آخره فيه دلالة على أنه يشترط في السعي أن يبدأ من الصفا، وبه قال الهادي والشافعي ومالك والجمهور، وذلك لأنه لما فعل ذلك ثم قرأ الآية الكريمة، وبين صلى الله عليه وسلم أن فعله ذلك امتثال لما في الآية الكريمة، وقد قدم سبحانه وتعالى الصفا على المروة، ففعل موافقة لما في القرآن فدل على أن ذلك هو المشروع، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" (6).
والأصل إنما فعله مبين لما شرع الله -سبحانه- فلا يعدل عنه إلا لدليل، ولم يوجد خلاف ذلك، وهذا على رواية مسلم "أبدًا" حكاية
(1) شرح مسلم 3: 394.
(2)
الكافرون الآية 1.
(3)
الإخلاص الآية 1.
(4)
حديث الباب.
(5)
سنن البيهقي 5: 91.
(6)
مسلم الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا 2: 943 ح، 1297 - 310 (بنحوه).
عن المتكلم، وأما على رواية النسائي بإسناد صحيح لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ابدءوا بما بدأ الله به"(1) بصيغة خطاب الجماعة، فهو فعل أمر، والأصل فيه الوجوب فالأمر واضح.
وقوله "فرقي الصفا" لم فيه دلالة على شرعية ذلك، وقد قالت الهادوية إن ذلك منْدوب في حق الرجل دون المرأة.
وقال النووي (2): قال جمهور أصحابنا هو سنة ليس بشرط ولا واجب، فلو ترك صح سعيه لكن فاتته الفضيلة، وقال أبو جعفر بن الوكيل من أصحابنا لا يصح سعيه حتى يصعد على شيء من الصفا والصواب الأول. قال أصحابنا: لكن يشترط أن لا يترك شيئًا من المسافة التي بين الصفا والمروة فيلصق عقبه بدرجات الصفا، وإذا وصل المروة ألصق أصابع رجليه بدرجها (3)، انتهى كلامه.
ومثل هذا عند الهادوية ويرقى على الصفا حتى يرى البيت إن أمكنه ثم يقف على الصفا مستقبل (أ) الكعبة ويذكر الله -تعالى- بهذا الذكر المذكور، ويفعل الذكر والدعاء ثلاث مرات كما في الحديث، وهذا هو المشهور عند العلماء، وقال جماعة يكرر الذكر ثلاثًا والدعاء مرتين فقط، والصواب الأول، وفي قوله "بين ذلك، دلالة على أنه لا يكرر الذكر والدعاء في كل شوط لأنه لم يقل بعد كل شوط، وإنما وقع منه في الجملة، وقد صرح بهذا الإمام المهدي في الغيث.
(أ) سقط من هـ: (مستقبل)، وفي الحاشية:(حتى يرى الكعبة).
_________
(1)
انظر ح، ص.
(2)
شرح مسلم 3: 339.
(3)
المرجع السابق.
وقوله: "وهزم الأحزاب وحده" معناه وهزمهم من غير قتال من الآدميين ولا سبب من جهتهم، والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وكان الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة، وقيل سنة خمس، ولم يرد في الرواية بيان ما دعا به صلى الله عليه وسلم وفيه دلالة على التوسعة في ذلك وأنه يدعو بما شاء.
قال الهادي: إنه يقرأ الحمد والمعوذتين و {قل هو اللَّه أحد} (1) وآية الكرسي وآخر الحشر من قوله {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} (2) إلى آخر السورة ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له نصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لي ذنوبي وتجاوز عن سيئاتي ولا تردني خائبًا يا أكرم الأكرمين واجعلني في الآخرة من الفائزين. ويقول على المروة مثل ذلك.
وقوله "حتى انصبت قدماه في بطن الوادي" قال القاضي عياض (3): هكذا في جميع النسخ وفيه إسقاط لفظة لا بد منها وهو حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي فسقط (أ) لفظة رمل، وقد ثبتت هذه اللفظة في رواية مسلم، وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين، وفي الموطأ (4)، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى انتهى. وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم مثل لفظ الموطأ (5)، وفيه دلالة على استحباب
(أ) هـ: (فيسقط).
_________
(1)
الإخلاص الآية 1.
(2)
الحشر الآية 21.
(3)
شرح مسلم 3: 340.
(4)
الموطأ الحج، باب جامع السعي 1: 374: 375 ح 131.
(5)
مسلم الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2: 886: 892: 892 ح 147 - 1218.
الرمل في بطن الوادي، وهو الذي عبر عنه بعض الأئمة بما بين الميلين، وهو مستحب في كل مرة من السبعة، وعن مالك روايتان إحداهما كما ذكر، والثانية يجب عليه الإعادة.
وقوله "فعل على المروة مثل ما فعل على الصفا" فيه دلالة على استحباب الرقي والذكر والدعاء، وهو متفق عليه، وفي هذا دلالة على قول الجمهور من العلماء أنَّ من الصفا إلى المروة شوط ثم منها إليه شوط آخر، والخلاف لابن بنت الشافعي وأبي بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي فجعلا مجموع ذلك شوطًا واحدًا.
وقوله "فلما كان يوم التروية" وهو اليوم الثامن من شهر (أ) الحجة، سمي بذلك لأنه لم يكن ماء بعرفة فكانوا يتروون فيه، وقيل إن إبراهيم عليه السلام كان مترويًا في روياه في ذلك اليوم، وفيه دلالة على أنه ينبغي التقدم إلى منى قبل ذلك اليوم، وفي مسلم "فأهلوا بالحج يوم التروية" يدل أيضًا على ما ذهب إليه الشافعي أنه إن كان الحاج بمكة وأراد الإحرام أحرم يوم التروية، وقد ذكر هذا مالك أيضًا، وقال بعض السلف: لا بأس بالتقدم وهو خلاف السنة.
وقوله "وركب النبي صلى الله عليه وسلم" إلى قوله "الفجر" فيه دلالة على سنن منها أنه يركب في حال عزمه إلى منى ولا يمشي، واختلف أيهما أفضل فالأظهر من مذهب الشافعي أن الركوب أفضل، وللشافعي قول آخر ضعيف إن المشي أفضل، وقال بعض أصحاب الشافعي الأفضل في جملة الحج الركوب إلا في مواطن المناسك وهي بمكة ومنى ومزدلفة وعرفات والتردد بينهما، وقد ورد تفضيل المشي على الركوب في جملة
(أ) زادت هـ: (ذي).
السفر إلى الحج.
ومنها أن يصلي بمنى هذه الصلوات الخمس.
ومنها أن يبيت بمنى هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا دم عليه.
وتوله: "حتى طلعت الشمس" فيه دلالة على أن السنة أن لا يخرجوا من منى إلا وقد طلعت الشمس، وهذا متفق عليه.
وقوله: "فأجاز" أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها، وقوله:"حتى أتى عرفة" أي قرب من عرفة لأنه فسره بقوله "فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها" مع أن نمرة ليست من عرفات ودخول عرفات قبل صلاة الظهر والعصر خلاف السنة، وفي الحديث هنا حذف، ولفظ مسلم "وأمر بقبة من شعر نصبت له بنمرة" ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية وبعده فإذا جاز كما في هذا المختصر، وفي هذا دلالة على ما (أ) هو السنة من النزول بنمرة وأن لا يدخلوا عرفات إلا بعد صلاة الظهر والعصر ويغتسلون قبل الزوال فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم صلى الله عليه وسلم (ب) - وخطب (جـ) بهم خطبتين خفيفتين ويخفف الثانية جدًّا، فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعًا بينهما ندبًا فإذا فرغوا من الصلاة ساروا إلى الموقف وكانت قريش في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو الجبل بالمزدلفة يقال له قزح وقيل المشعر كالمزدلفة -وهو بفتح الميم كما جاء في القرآن وقد جاء بكسرها- كراهة من قريش أن يخرجوا من الحرم لأن المزدلفة من الحرم
(أ) سقط من هـ: (ما).
(ب) هـ، جـ:(عليه السلام).
(جـ) سقط من هـ الواو.
المحرم توقعًا منهم أن يشاركوا غيرهم في الموقف لكونهم أهل الحرم، ولذلك قال الله سبحانه:{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (1) فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بنمرة أن يقف كما يقفون، ونمرة -بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكان الميم- موضع بجنب عرفات وليس من عرفات، وفي ضرب القبة دلالة على جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها، ولا خلاف في جوازه للنازل وكذا للراكب عند الأكثر، وكرهه مالك وأحمد.
وقوله: "فرحلت": بتخفيف الحاء المهملة أي جعل عليها الرحل.
وقوله "حتى أتى بطن الوادي": هو وادي عرَنَة بضم العين المهملة وفتح الراء وبعدها نون وليست عرنة من عرفات عند كافة العلماء إلا مالكًا فقال هي من عرفات.
قوله: "فخطب الناس" فيه دلالة على استحباب الخطبة للإمام بالحج يوم عرفة في هذا الموضع وهي سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة أحدها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية ببطن عرفة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول، الثاني من التشويق، قال أصحاب الشافعي وكل هذه الخطب أفراد بعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفات فإنها خطبتان، وقبل الصلاة وبعد الزوال ويعلمهم في كل خطبة ما يحتاجون إليه في المناسك إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم.
وقوله: "ثم أذن ثم أقام
…
" إلخ فيه دلالة على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل سبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب
(1) سورة البقرة الآية 199.
قوله: "فخطب الناس" فيه دلالة على استحباب الخطبة للإمام بالحج يوم عرفة في هذا الموضع وهي سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة أحدها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية ببطن عرفة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول، الثاني من التشريق، قال أصحاب الشافعي وكل هذه الخطب أفراد بعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفات فإنها خطبتان، وقبل الصلاة وبعد الزوال ويعلمهم في كل خطبة ما يحتاجون إليه في المناسك إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم.
وقوله: "ثم أذن ثم أقام
…
" إلخ فيه دلالة على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل سبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي سبب السفر فمن كان حاضرًا أو مسافرًا دون مرحلتين كأهل مكة لا يجوز له الجمع كما لا يجوز له القصر، وأنَّ الجامع بين الصلاتين يصلي الأولي أولًا وأنه يؤذن للأولى، ويقيم لكل واحدة منهما ولا يفرق بينهما بنافلة.
وقوله: "ثم ركب" إلى قوله: "حتى غاب القرص" في هذه مسائل وآداب للوقوف منها: أنه إذا فرغ من الصلاتين عجل الذهاب إلى الوقف.
ومنها: أن الوقوف راكبًا أفضل (أوفيه خلاف للعلماء وللشافعية ثلاثة أقوال أصحها أ) أن الركوب واقفا أفضل، والثاني غير الراكب أفضل (ب)، والثالث هما سواء.
ومنها: أنه يستحب أن يقف عند الصخرات المذكورات، وهي صخرات
(أ-أ) سقط من هـ، جـ، ي.
(ب) سقط من: جـ.
مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي توسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب، فأما ما اشتهر من العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان، ومنها: استحباب استقبال الكعبة في الموقف.
ومنها: أنه ينبغي أن يقف في المواقف حتى تغيب الشمس، ويتحقق كمال غروبها ثم يفيض إلى مزدلفة، فلو أفاض قبل غروب الشمس صح وقوفه، ولزمه دم عند الهادوية، وللشافعي قولان أحدهما أنه سنة، والثاني واجب وهو مبني على أنه يجب الجمع بين الليل والنهار، وأما الوقت الذي يصح الوقوف في أي جزء منه فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع فجر النحر، وهذا مذهب جماهير العلماء، وقال مالك: لا يصح الوقوف إلا بدخول جزء من الليل، فإن اقتصر على الليل وحده كفاه، وإن اقتصر على النهار لم يكفه، وقال أحمد: إن وقت الوقوف من وقت طلوع فجر يوم عرفة، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج إلا به.
وقوله: "حبل المشاة" روي بالحاء المهملة وإسكان الباء، وروي بالجيم وفتح الباء، والأول أشبه بالحديث، والمراد به على الأول مجتمع المشاة وحبل الرمال ما طال منه وضخم، وعلى الثاني طريقهم وحيث يسلك الرجالة.
وقوله: "حتى غاب القرص" أتى به بيانًا لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة لئلا يتوهم أن الغروب مراد به مجازًا مغيب معظم القرص فأزال (أ)
(أ) هـ: (فزال).
ذلك الاحتمال بقوله "حتى غاب القرص" فلا حاجة إلى تصويب بعضهم حتى بحين فتأمل.
وقوله "شنق" أي ضمر وضيق وهو بتخفيف النون.
وقوله: "مورك رحله" المَورِك بفتح الميم وكسر الراء وكذا الموركة هو الموضع الذي يبني الراكب رحله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب كذا قال الجوهري عن أبي عبيدة (1)، وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب يجعل في مقدم الرجل شبه الخدة الصغيرة والغرض من هذا تهوين السير.
وفيه دلالة على أنه يستحب للراكب تهوين السير إذا كان يقتدى به المشاة، وكذا إذا كانت الراحلة فيها ضعف.
وقوله "السكينة" السكينة بالنصب أي الزموا السكينة وهي الرفق (أ) والطمأنينة، وفيه دلالة على أنه السكينة في الدفع من عرفات سنة فإذا وجد فُرجة أسرع كما ثبت في الحديث.
وقوله "كلما أتى حبلًا" الحبل هنا بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل وهو التل اللطيف من الرمل الضخم.
وقوله: "حتى تصعد" هو بفتح التاء المثناة من فوق وضمها يقال صعد في الحبل وأُصْعِدَ ومنه قوله تعالى: {إِذ تصعدون} (2)، وقوله:"حتى أتى المزدلفة" هي معروفة مأخوذة من التزلف والازدلاف وهو التقرب لأن الحُجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليها وتفرقوا
(أ) هـ: (التوقف).
_________
(1)
لسان العرب (و. ر. ك) 6: 4819 (ط. العارف، مصر).
(2)
آل عمران الآية 153.
منها، وقيل سميت بذلك لمجيء الناس إليها، والازدلاف الاجتماع، وقيل سميت بذلك للنزول فيها ليلًا والزلف الساعات من الليل، وتسمى المزدلفة جمعًا بفتح الجيم وإسكان اليم سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، والمزدلفة كلها من الحرم، قال الأزرقي في "تاريخ مكة" وغيره: حد المزدلفة ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر وليس الحدان منها ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور. وقوله "فصلى بها
…
" إلخ فيه دلالة على أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب والعشاء ويجمع بينهما في المزدلفة مقدمًا للمغرب، وهذا مجمع عليه، وعند الهادوية وأبي حنيفة وبعض الشافعية وأهل الكوفة أن هذا الجمع نسك فيجمعه من كان مسافرًا وغيره ولا يجوز أن يصلي قبل الوصول إلى مزدلفة فإن فعل أعاد، وبه قال مالك إلا أنه قال: إذا كان به رمد (أ) أو بدابته عذر فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط أن يصلي الأولى في وقت الثانية، فإن فرّق بين الصلاتين فدم، وقال المنصور بالله: إنه إذا كان لعذر فلا دم عليه، وعند الشافعي أن الجمع إنما هو لأجل السفر فلا يجوز لمن لم يكن مسافرًا مرحلتين قاصدتين، وللشافعي قول ضعيف إنه يجوز الجمع في كل سفر، وإن كان قصيرًا قال أصحاب الشافعي ولو جمع بينهما في عرفات وقت المغرب أو في الطريق أو في موضع آخر أو صلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل، وقال بهذا جماعات من الصحابة والتابعين وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أصحاب الحديث (1).
وقوله "بأذان الأولى وإِقامتين" يعني يقيم لكل صلاة وبه قالت
(أ) جـ: (رمدًا).
_________
(1)
شرح مسلم 3: 348.
الهادوية والشافعية وأحمد بن حنبل وأبو ثور وعبد الملك الماجشون المالكي (أ) والطحاوي الحنفي، وقال مالك: يؤذن ويقيم للأولى ويؤذن ويقيم للثانية، وهو محكي عن عمر، وابن مسعود، وقال أبو حنيفة: بأذان واحد وإقامة واحدة وللشافعي وأحمد.
قوله "أن يصلي كل واحدة بإِقامة من دون أذان" وهو محكي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وقال الثوري: يصليهما بإقامة واحدة، وهو محكي أيضًا عن ابن عمر.
وقوله "ولم يسبح بينهما" معناه لم يفصل بينهما بنافلة، والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح، ويؤخذ منه أن الأفضل الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، واختلفوا هل الموالاة شرط للجمع أم لا؟ فقالت الهادوية إنه يصح التنفل بين الصلاتين المجموعتين، وهو الصحيح عند الشافعية إلا أن الأفضل أن لا يفصل بينهما بالنافلة، وقال المؤيد بالله: إنه إذا فصل بالنافلة وجب إعادة الأذان للثانية وبه قال بعض الشافعية، قال النووي (1): أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف.
وقوله "ثم اضطجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
…
" إلخ فيه دلالة على شرعية المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات وأن ذلك نسك، وهو مجمع عليه، واختلف العلماء هل واجب أو ركن أو سنة، وذهب الهادوية إلى أنه واجب لكن يلزم لتركه دم، ومثله عن أحمد والشافعي على الصحيح من أقواله، والثاني أنه سنة لا إثم في تركه ولا يجب فيه دم بل يستحب، ومثله عن مالك، وقال جماعة من أصحاب الشافعي إنه
(أ) سقط من هـ: (المالكي).
_________
(1)
شرح مسلم 348:3.
ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات، ومن القائلين بذلك ابن بنت الشافعي وأبو بكر بن محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقال به من التابعين علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري، ولا بد، يبيت أكثر الليل عند الهادوية، وعند الشافعية في أقل المجزئ من المبيت ثلاثة أقوال الصحيح منها ساعة في النصف الثاني من الليل، والثاني ساعة في النصف الثاني أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس، والثالث معظم الليل.
وقوله "وصلى الفجر حين تبين له الصبح" فيه دلالة على أنه يشرع المبالغة في تقديم صلاة الصبح في هذا الموضع على غيره من سائر الأيام تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن وظائف هذا اليوم كثيرة فسنَّ المبالغة بالتبكير بالصبح ليتسع الوقت للوظائف الثانية في هذا اليوم.
وقوله "بأذان وإقامة" فيه دلالة على شرط الأذان والإقامة في صلاة المسافر.
وقوله "حتى أتى المشعر الحرام" بفتح اليم وحكى الجوهري (1) الكسر وبها قرأ أبو السماك.
والحرام: قال النووي في الدقائق: الحرام معناه المحرم لأنه من الحرم لا من الحل ويسمى مشعر لما فيه من الشعائر يعني من معالم الدِّين، وكل علامات الحج مشاعر، والمراد به هنا جبل معروف في مزدلفة يقال له قُزَح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة، وهو غير منصرف لأنه معدول به عن قازح وهو الجبل المعروف بمزدلفة يقف الحجيج (أ) عليه لدعاء بعد
(أ) هـ: (الحج).
_________
(1)
القاموس المحيط (ش. ع. ر) 3: 304 (مع تاج العروس).
الصبح يوم النحر، قال الأزرقي: وعلى (أ) قزح أسطوانة مدورة تدويرها أربعة وعشرون ذراعًا، وطولها في السماء اثنا عشر ذراعًا وفيها خمس وعشرون درجة، وهي على خشبة مرتفعة كان يوقد عليها في خلافة هارون الرشيد بالشمع ليلة المزدلفة ويجتمعون عليها، وقال بهذا جماهير الفقهاء، وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة. ولكن الحديث هنا صريح في الأول (1).
وقوله "فاستقبل القبلة" يعني الكعبة فيه دليل على استحباب استقبال القبلة في الوقوف كما ذهب إليه الشافعية وجماعة من الحنفية وابن الحاج المالكي.
وقوله "فدفع قبل أن تطلع الشمس" فيه دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام بعد الفجر مشروع.
واختلف العلماء في وقت الدفع منه، فقالت الهادوية: يمر به قبل الشروق، وقال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: لا يزال واقفًا فيه يدعو ويذكر حتى يُسْفِرَ الصبح جدًّا كما في الحديث، وقال مالك: يدفع قبل الإسفار.
وقوله "أسفر جدًّا": الضمير في أسفر يعود إلى الفجر، وجدًّا بكسر الجيم صفة لمصدر محذوف أي إسفارًا جدًا أي بليغًا.
وقوله "بطن مُحَسِّر" بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المهملة المشددة سمي بذلك لأن أصحاب الفيل لما أتوا بالفيل حسر فيه أي أعيي، ومنه قوله تعالى:{خاسئا وهو حسير} (2).
(أ) هـ: (وقال).
_________
(1)
شرح مسلم 3: 349.
(2)
الملك الآية 4.
وقوله "فحرك قليلًا": فيه دلالة على أن التحريك في ذلك سنة، والمشروع في ذلك قدر رمية حجر ذكره الإمام المهدي في الغيث، وذكره النووي عن الشافعية في شرح مسلم (1).
وقوله "ثم سلك الطريق الوسطى" فيه دلالة على أن سلوك هذه الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات، وهذا معنى قولهم: يذهب إلى عرفات في طريق طب ويرجع في طريق المأزمين ليخالف الطريقين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى، وكذا في العيد، وحول الرداء في الاستسقاء.
وقوله "يخرج على الجمرة الكبرى": هي جمرة العقبة، وهي الجمرة التي عند الشجرة، وفيه دلالة على أن الحاج إذا دفع من مزدلفة ووصل منى فأول ما يبدأ به هو رمي جمرة العقبة ولا يفعل شيئًا قبل رميها ويكون ذلك قبل نزوله.
وقوله "سبع حصيات": فيه دلالة على شرعية الرمي بهذا القدر وأنه لا بد أن يكون ذلك بالحصى فلا يجزئ إلقاء الحَجَر الكبير الذي لا يسمى إلقاؤه رميًا، ويندب أن يكون كحصى الخذف وهو قدر حبة الباقلاء، ولا يجزئ بما ليس بحجر كالزرنيخ والكحل والذهب والفضة وغير ذلك خلافًا لأبي حنيفة فجوزه بما كان من أجزاء الأرض والمرجع في جميع ذلك إلى قوله "خذوا عني مناسككم" فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أعمال الحج فالظاهر وجوبه ما لم تقم فيه قرينة على خلاف ذلك، وفيه دلالة على تفريق الحصى وترتيبها، فإن رمى بهن دفعة واحدة أجزأه عن واحدة فقط.
(1) شرح مسلم 350:3.
وقوله "يكبر مع كل حصاة" فيه دلالة على شرعية التكبير، ويدل على أن الرمي بالحصى مرتب.
وقوله "من بطن الوادي" يدل على أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث تكون منى وعرفة والمزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره، وهذا هو الصحيح، وقبل يقف مستقبل القبلة وكيفما رماها أجزأه حيث يسمى رميًا بما يسمى حجرًا، والرمي مشروع إجماعًا في يوم النحر لجمرة العقبة فقط، وهو نُسُكٌ بالإجماع، ولا يفوت الحج بفواته ويلزم دم، وقال مالك: يفسد حجه ويلزم لنقص أربع أحجار فما دون ذلك صَدقَة عن كل حجر ويلزم دم لتفريقها.
وقوله "ثم انصرف إِلى المنحر" يدل على أن المنحر موضع مخصوص من منى وجميع منى موضع للنحر كما قال صلى الله عليه وسلم وفي مسلم (1)"أنه نحر ثلاثًا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر أي ما بقي- وأشركه في هديه، وكان جميع هديه مائة بدنة، فالذي أتى به من المدينة معه ثلاثًا وستين بدنة، وأتى عليّ بباقي (أ) المائة من اليمن" كما جاء في رواية الترمذي، وفيه دلالة على أنه يشرع تكثير الهدي وأنه (ب) ينحر جميعه في يوم النحر ولا يؤخر إلى سائر أيام النحر منه شيء، وظاهر قوله "وأشركه في هديه" أنه قد كان الهدي معينًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أشرك عليًّا بعد ذلك، قال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن شريكًا حقيقة بل أعطاه قدرًا يذبحه، انتهى (2).
(أ) هـ: (بتوفية).
(ب) هـ: (فإنه).
_________
(1)
حديث الباب.
(2)
شرح مسلم للنووي 352:3.
وأقول إنه لا مانع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نوى التقرب بذلك جميعه ثم خص عليًّا بالمشاركة في ثواب ذلك، ويكون ذلك خاصًّا به صلى الله عليه وسلم تكرمة لعلي رضي الله عنه، وفي تمام الرواية في مسلم "ثم أمر من كل بدنة ببَضْعَة" بفتح الباء لا غير وهي قطعة من اللحم فجعلت في قدر وطبخت وأكل من لحمها وشرب من مرقها، وهذه سنة أجمع العلماء على أن المهدي والمضحي لهما الأكل من الأضحية والهدي وأن الأكل ليس بواجب.
وقوله "فأفاض إِلى البيت وصلى بمكة الظهر" في الكلام تقدير، وتقديره فأفاض إلى البيت وطاف بالبيت فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام، والطواف هذا هو طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة، وهو ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين ووقت أدائه من فجر النحر إلى آخر أيام التشريق، وعند الشافعية من نصف ليلة النحر وأفضله بعد رمي الجمرة وذبح الهدي والحلق، ويندب في ضحوة يوم النحر ويكره تأخيره إلا لعذر ولا يحرم تأخيره عن أيام التشريق ولو تطاولت المدة ولكن النساء لا تحل إلا بعده، واتفق العلماء على أنه لا يشرع فيه الرمل، إلا إذا ترك الرَّمَلَ في طواف القدوم، فأحد قولي الشافعي أنه يشرع له الرمل، ويقع عنه طواف القدوم إذا أخر إلى يوم النحر، وكذا طواف الوداع عند الهادوية والحنفية ونص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابه، وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء: لا يجزئ عنه طواف بنية غيره، وفي ركوب النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع إلى مزدلفة ومنها إلى منى ومنها إلى مكة دلالة على استحبابه في هذه المواطن، وبعض أصحاب الشافعي قال المشي أفضل فيها.
وقوله "فصلى الظهر بمكة" فيه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بمكة، وفي رواية ابن عمر عند مسلم أيضًا "إنه أفاض يوم النحر فصلى الظهر
بمنى" (1) ووجه الجمع أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلًا بالظهر الثانية التي بمنى، وقد ثبت مثل هذا في صلاة أخرى في الصحيحَيْن فكانت له صلاتان ولهم صلاة واحدة، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها أنه أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل، وهو محمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لأجل الإفاضة، والله أعلم.
578 -
وعن خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إِذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة، سأل اللَّه رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار" رواه الشافعي بإسنادٍ ضعيف (2).
الحديث أخرجه الشافعي، وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة، أبو واقد الليثي، وهو مدني ضعيف (3)، وروى عنه إبراهيم بن أبي يحيى (4)، وفيه مقال، ولكنه لم ينفرد به بل تابعه عليه عبد الله بن عبد الله الأموي أخرجه البيهقي والدارقطني.
(1) مسلم الحج، باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر 2: 950 ح 335 - 1308.
(2)
الشافعي 938 (بدائع المنن) البيهقي الحج باب ما يستحب من القول في أثر التلبية 5: 46، الدارقطني نحره الحج 2: 238 (11). الطبراني 4: 85 (3721).
(3)
هو صالح بن محمد بن زائدة، أبو واقد الليثي المدني قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال أحمد: ما أرى به بأسًا. (ميزان الاعتدال 2: 299: 300).
(4)
هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى (سمعان)، الأسلمي مولاهم، المدني، أبو إسحاق. قال فيه ابن حجر: متروك (انظر: تهذيب التهذيب 1: 158 - 161، تقريب التهذيب 1: 42 (269)، الضعفاء الصغير للبخاري 7 - 8، الضعفاء والمتروكين للنسائي 5، موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي 1: 365،
…
في الحديث دلالة على استحباب الدعاء، وأفضل الدعاء ما دل عليه الحديث، والله أعلم.
579 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "نحرتُ ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف" رواه مسلم (1).
قوله "نحرت
…
" إلى آخره في هذه الألفاظ بيان رفقه صلى الله عليه وآله وسلم وشفقته بأمته في توسعة الأمر عليهم وعدم التضييق والتحرج عليهم فبين لهم المحل الأفضل وهو الموضع الذي نسك فيه، وأنه غير متضيق عليهم الاقتفاء به في ذلك، بل يجزئهم أن ينسكوا فيه وفي غيره مما شمله الاسم، ومنى حدها من وادي محسر إلى العقبة، فأي جزء منها وقع فيه النحر أجزأ، ومنى هي محل لجميع النسك المشروع في الحج وهو دم القران والتمتع والإحصار والإفساد والتطوع بالهدي، وهو مكان اختياري لهذه الدماء، وأما ما لزم المعتمر فمحله مكة، وأما سائر الدماء من الجزاءات ونحوها فمكانها الحرم المحرم ولكنه لا يختصُّ بمنى إلا إذا كان النحر في أيام التشريق، وأما إذا أخر عن أيام التشريق فالحرم جميعه صالح لذلك، وإذا نحر في غير منى أجزأ ولزمه دم، وقال الشافعي وأصحابه: يجوز نحر الهدي ودماء الجنايات في جميع الحرم لكن الأفضل في حق الحاج النحر بمنى، وأفضل موضع النحر بمنى موضع نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاربه.
قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد منى، والمنحر فيه فضيلة عن غيره، ولذلك كان ابن عمر يسابق إليه، وأخذ ابن التين تعيين هذا المكان من أثرٍ ذكره الفاكهي من طريق ابن
(1) مسلم الحج باب ما جاء أن عرفة كلها موقف 893:2 ح 149 - 1218 م.
جرير عن طاوس: "كان منحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى
…
" إلخ.
والأفضل في حق المعتمر أن ينحر في المروة لأنها موضع تحلل الحاج، والرحال جمع رحل والمراد به المنزل، قال أهل اللغة: رحل الرجل: منزله سواء كان من حجرٍ أو مدر أو شعر أو وبر.
وقوله "وعرفة كلها موقف" وحدها مما خرج عن وادي عرفة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين بني عامر، هكذا نص عليه الشافعي وجميع أصحابه، ونقل الأزرقي عن ابن عباس أنه قال:"حد عرفات من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبال عرفات إلى وَصِيق" بفتح الواو وكسر الصاد المهملة وآخره قاف إلى منتهى وَصِيق. وقال الزمخشري: الوصيق جبل لكنانة وهذيل ووادي عرفة. وقيل غير هذا مما هو مقارب وقد تقدم حد جمع.
580 -
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "لما جاء إِلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها" متفق عليه (1).
كان هذا منه صلى الله عليه وسلم في عام الفتح، وأعلاها موضع يقال له كَدَاء بفتح الكاف والمد لا يصرف، وهذه الثنية هي التي نزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحَجُون بفتح الحاء المهملة وضم الجيم. وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأذرعي ثم سهل منها موضع في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر اللك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة، وكل عقبة في جبل أو طريق عال يسمى ثنية، وأسفلها هي
(1) البخاري الحج باب من أين يخرج من مكة 3: 437 ح 1577، مسلم الحج، باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى
…
2: 918 ح 224 - 1258 (واللفظ له).
الثنية السفلى تسمى كدى بضم الكاف والقصر وهي عند باب الشبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قيقعان، واختص بدخوله في ذلك الوقت لما روي أنه قال أبو سفيان:"لا أسلم حتى أرى الخيل من كداء، فقال له العباس: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا، قال العباس فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل"(1). والبيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قال حسان؟ فأنشده:
عدمت بنيتي إن لم تروها (أ)
…
تنثر القنع مطلعها كداء
فتبسم وقال: ادخلوها من حيث قال حسان (2).
قال النووي: واختلف في المعنى الذي لأجله خالف صلى الله عليه وسلم بين طريقيه، فذكر الأقوال التي مرت في المخالفة في يوم العيد عند خروجه وعوده من الصلاة، والأولى أنه لما دخل عليه السلام في يوم الفتح استمر الحكم فيه، واستحب ذلك لمن كان على طريقه كالمدني والشامي، ومن لم يكن كذلك كاليمني فيتسحب له أن يستدير ويفعل ذلك.
وقال بعض الشافعية: إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان على طريقه فلا يستحب لمن لا يكون كذلك (3)، والله أعلم.
581 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه "أنه كان لا يقدم مكة إِلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم"
(أ) ي: (عدمنا خيلنا إن لم يرها).
_________
(1)
الفتح 3: 438.
(2)
البيهقي: دلائل النبوة 5: 48.
(3)
شرح مسلم 3: 394.
متفق عليه (1).
ذو طوى: بفتح الطاء المهملة وضمها وكسرها، والفتح اشتهر وأفصح ويصرف ولا يصرف موضع معروف بقرب مكة وهو بين الثنية العليا التي يصعد إليها من الوادي المعروف بالزاهر، وبين الثنية السفلى التي ينحدر منها إلى المقابر، وهو المحصب.
وقال المحب الطبري: هو موضع عند باب مكة يعرفه أهل مكة، وقد ترك الناس هذه السنة وأماتوها والخير في اتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله.
والمبيت به حتى يصبح فيه دلالة على استحباب ذلك لمن كان على طريقه وأنه يستحب دخول مكة نهارًا، وهو قول الأكثر، وقال جماعة من السلف وبعض الشافعية الليل والنهار سواء، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ليلًا في عمرة الجعرانة.
وقوله "ويغتسل" فيه دلالة على استحباب الغسل لدخول مكة، وقوله "ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم" مشعر برفعه فله حكم المرفوع.
582 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه "أنه كان يُقبِّل الحجر الأسود ويسجد عليه" رواه الحاكم مرفوعًا والبيهقي موقوفًا، ورواه الشافعي أيضًا موقوفًا (2)، ورواه البيهقي أيضًا والحاكم مرفوعًا قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث (3).
ورواه أبو داود والطيالسي والدارمي وابن خزيمة وأبو بكر البزار وأبو علي
(1) البخاري الحج، باب الاغتسال عند دخول مكة 3: 435 ح 1573 (بنحوه) ومسلم الحج، باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة 2: 919 ح 227 - 1259.
(واللفظ له).
(2)
الشافعي 1035 (بدائع المنن).
(3)
المستدرك 1: 455، البيهقي 5: 74 - 75.
ابن السكن والبيهقي من حديث جعفر بن عبد الله، واختلف فيه، فقال ابن السكن رجل من بني حميد من قريش، وقال البزار: مخزومي، وقال الحاكم: هو ابن الحكم، ثم قال الحاكم:"ثم قال رأيت خالك ابن عباس يقبله ويسجد عليه، وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب يقبله ويسجد عليه ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا" هذا لفظ الحاكم.
قال المصنف رحمه الله: وَهِمَ في قوله: إن جعفر بن عبد الله هو ابن الحكم فقد نص العقيليّ على أنه غيره، وقال في هذا: في حديثه وهم واضطراب. والحديث فيه دلالة على شرعية تقبيل الحجر الأسود والسجود عليه، وسيأتي الكلام على حديث عمر قريبًا.
583 -
وعنه قال: "أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين" متفق عليه (1).
الرمل بفتح الراء والميم والخبب بمعنى واحد وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى، وهو يستحب في الطواف الثلاثة من السبع ولا يسن إلا في طواف بعده سعي، وهو طواف العمرة وطواف القدوم وإذا لم يُرِد السعي بعد طواف القدوم ففيه قولان عند الشافعية أحدهما يشرع الرمل وهو الأصح والثاني لا يشرع.
وقوله "ثلاثة أشواط" بفتح الهمزة والشين المعجمة جمع شوط بفتح المعجمة، والمراد به الطوفة الواحدة، وفي هذا الإطلاق دلالة على أنه لا يكره إطلاق الشوط عليه، وقد كره (أ) الشافعي ومجاهد إطلاق الشوط
(أ) جـ، ي:(ذكره).
_________
(1)
البخاري الحج باب كيف كان بدء الرمل 3: 469 ح 1602، مسلم الحج باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة
…
، 2: 923 ح 240 - 1266.
والدورة عليه، وقالا: يقال له: طَوْفَة، وفي هذا دلالة على أن المشروع إنما هو في الثلاثة الأول فلو ترك فيها لم يفعل ذلك في الأخيرة ولا دم (أ) عليه عند الهادوية والشافعية، وقال بعض المالكية: عليه دم.
وقوله "وأن يمشوا ما بين الركنين، فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، وأمر به أصحابه لما كان في المسلمين من الضعف" كما قال ابن عباس إنه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنَيْن اليمانيين ويرملوا ما بين الركنين الشاميين لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية فإذا مروا بالركنين اليمانيين مشوا على هيئتهم ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وقد ذهب إلى العمل بهذا ابن الصباغ فقال: إن الرمل لا يكون إلا فيما بين الركنين، وأجاب الجمهور القائلون بأن الرمل من الحَجَر إلى الحَجَرِ بأن ذلك إنما كان في عمرة القضاء، وقد ذكر بسببه وهو الإبقاء عليهم، وأما في حجه صلى الله عليه وسلم فإنه رمل من الحَجَر إلى الحَجَر (1)، وكان متأخرًا فيكون ناسخًا ووجب الأخذ به.
584 -
وعنه قال: "لم أر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين" رواه مسلم.
قوله "يستلم": أي يمسح عليهما من السلام بمعنى التحية، شبه المسح عليهما بالمسح لليد عند الملاقاة لأجل التحية لكون الماسح عليهما
(أ) سقط من هـ: (دم).
_________
(1)
وقد نص ابن عمر على ذلك كما في صحيح مسلم أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله 2: 921 ح 233 - 1262 وجابر رضي الله عنه، مسلم 2: 921 ح 235 - 1263.
كالقادم المسَلِّم على البيت.
وقوله "الركنين اليمانيين" المراد بهما الحجر الأسود والرُّكْن اليماني أطلق عليهما ذلك تغليبًا، ويقال للركنين الآخرين الشاميين، وقد يقال لركن الحجر الأسود، والركن الذي يليه من ناحية الباب العراقيان، ويقال للركن اليماني والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة الغربيان واليمانيان بتخفيف الياء، وهي اللغة الفصيحة المشهورة.
تنبيه: يمان مخفف يمني بتعويض الألف من إحدى ياءي النسب فبقيت الياء الأخرى مخففة، وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما التشديد أيضًا بياء على زيادة الألف وبياء النسب بحالها، وفي هذا دلالة على استحباب استلام الركنين المذكورين واختصا بذلك لكونهما على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وزاد الحجر الأسود بالتقبيل لفضيلة الحجر دون الركنين الشاميين، وقد أجمعت الأمة على استحباب استلامهما، واتفق الجمهور على أنه لا يمسح الركنان الشاميان، وقد ذهب إلى استحباب استلامهما الحسنان ابنا علي رضي الله عنهما وابن الزبير وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد.
وأخرج أحمد وابن مهدي والحاكم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لم يمر بركن إلا استلمه فقال ابن عباس:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحَجَر واليماني" فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا.
وأخرج مسلم المرفوع من وجه آخر عن ابن عباس (1)، وروى أحمد أيضًا من طريق شعبة عن قتادة عن أبي الطفيل قال: "حج معاوية وابن
(1) مسلم الحج باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف دون الركنين الآخرين 2: 925 ح 247 - 1269.
عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور" قال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فقال: قبله شعبة، وقد كان شعبة يقول: الناس يخالفونني في هذا ولكني سمعته من قتادة هكذا انتهى.
وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة على الصواب أخرجه أحمد أيضًا، وكذا أخرجه من طريق مجاهد عن ابن عباس نحوه، وروى الشافعي من طريق محمد بن كعب القرظي أن ابن عباس (أ) قال:" {لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة} (1) ولفظ رواية مجاهد المذكورة عن ابن عباس "أنه طاف مع معاوية فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس:{لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة} ، فقال معاوية: صدقت".
وأخرج الأزرقي في تاريخ مكة أن ابن الزبير لما فرغ من بناء البيت استلم الأركان الأربعة فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف الطائف استلم الأركان كلها، وإن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعًا يستلمان الأركان كلها، وقد أخرج البخاري في كتاب الطهارة من حديث ابن عمر أنه قال له عُبَيد بن جريج: "رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها فذكر منها: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين
…
" الحديث (2)، ففيه دلالة على أن غيره من الصحابة والتابعين
(أ) هـ: (معاوية بن عباس)!
_________
(1)
الأحزاب الآية 39.
(2)
البخاري الوضوء، باب غَسل الرجلين في النعلين
…
1: 267 ح 166.
لا يقتصرون عليهما، وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبين بالسنة، ويقاس عليهما الركنان الآخران، وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجورًا بأنا لم ندعهما هجرًا لهما ولكن نتبع السنة فعلًا وتركًا.
وقال القاضي أبو الطيب: أجمعت أئمة الأمصار والفقهاء على أنهما لا يستلمان قال: وإنما كان فيهما خلاف لبعض الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف، انتهى.
وكلام الهادوية (1) ظاهره استلام الأركان الأربعة، والله أعلم.
585 -
وعن عمر رضي الله عنه "أنه قبل الحَجَر وقال: إِني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" متفق عليه (2).
قوله "قبَّل الحجر" التقبيل هو بالفم، فيه دلالة على شرعية التقبيل للحجر، وقد تقدم، والتقبيل هو بعد استلام الحجر، وبعد التقبيل السجود عليه بالجبهة، وهذا هو مذهب الجمهور من العلماء، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد، وذكره الإمام المهدي في البحر ولم ينسبه إلى أحد، وانفرد مالك من العلماء فقال: السجود عليه بدعة، واعترف القاضي عياض بشذوذ مالك في ذلك، وهذا القول من عمر رضي الله عنه إرشاد للناس وزجر عن الاعتقاد في الأحجار ونسبة النفع والضر إليها كما كانت الجاهلية في عبادة الأصنام وتعظيمها ورجاء منفعتها وخوف الضر بالتقصير في تعظيمها، فبين أن
(1) لها هامش غير واضح.
(2)
البخاري باب تقبيل الحجر 3: 475 ح 1610، مسلم الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف 2: 925 ح 248 - 1270.
الحجر الأسود باعتباره في ذاته لا قدرة له على نفع ولا ضر وأنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع وأنه لو لم يرد تعظيمها في الشرع لما عظمت بالنظر إليها في ذاتها، وأشاع عمر هذا في الموسم ليشتهر ذلك في البلدان ويحفظه عنه أهل الموسم المختلفو الأوطان، والله أعلم.
فائدة: استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي أو غيره، وقد نقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيل قبره فلم ير به بأسًا، واستبعد بعض أتباعه صحة ذلك، ونقل عن ابن أبي الضيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين، والله أعلم (1).
586 -
وعن أبي الطُّفَيْلِ قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحْجن معه، ويُقَبِّل المحجن" رواه مسلم (2).
هو عامر بن واثلة الليثي (3)، واثِلَة بالثاء المثلثة المكسورة ويقال الكناني ويقال اسمه عمرو، وغلبت عليه كنيته، أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، ومات سنة مائة واثنتين بمكة، وقيل: سنة مائة وقيل عشر ومائة، وقال العامري: وهو الصحيح، وقال الذهبي: سنة مائة وواحدة، وهو آخر من مات من الصحابة في جميع الأرض، روى عنه الزهري وأبو الزبير وجابر بن زيد (4).
(1) الفتح 3: 475.
(2)
مسلم الحج باب جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب 2: 927 ح 257 - 1275.
(3)
بالهامش: فائدة في آخر من مات من الصحابة.
(4)
الإصابة 4: 113 (طبعة مطبعة السعادة، مصر).
قوله "يطوف بالبيت" في مسلم زيادة "راكبًا على بعير"(1). وقوله "ويستلم الركن" الاستلام هنا إما من السلام بفتح السين بمعنى التحية، قاله الأزهري، أو من السِّلام بكسر السين أي الحجارة، والمعنى أنه يرمي بعصاه إلى الركن حتى يصيبه، كذا قيل وهو بعبيد، والمحجن بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم بعدها نون هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج وبذلك سمي الحجون.
وقوله "ويقبل المحجن" وهذا مثل ما ورد في تقبيل اليد إذا استلم بها الركن كما في حديث ابن عمر، أخرجه البخاري.
وأخرج سعيد بن منصور من طريق عطاء قال: "رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابر إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم، قيل: وابن عباس؟ قال: وابن عباس أحسبه".
وبهذا قال الجمهور إن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه تناوله بشيء في يده وقبل ذلك الشيء فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك، وعن مالك في رواية لا يقبل يده، وكذا قال القاسم، وفي رواية عند المالكية يضع يده على فيه من غير تقبيل.
فائدة: ورد في الذكر عند الطواف حديث عبد الله بن السائب مرفوعًا أنه كان يقول في ابتداء الطواف "بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمد" رواه الرافعي، وذكره صاحب المهذب من حديث جابر وبيض له المنذري والنووي وخرجه ابن عساكر من طريق ابن ناجية بسند له ضعيف، ورواه الشافعي عن ابن أبي نجيح قال: أُخبرت أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) من حديث جابر في مسلم كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره 2: 926 ح 254 - 1273.
يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا؟ قال: "قولوا بسم الله والله أكبر إيمانًا بالله وتصديقًا لما جاء به محمد" وهو في الأم عن سعيد بن سالم عن ابن جريج.
وروى الطبراني والبيهقي في الأوسط والدعاء (أ)، عن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا مر بالحجر الأسود فرأى (ب) عليه زحامًا استقبله وكبر ثم قال: اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك، واتباعا لسنة نبيك، وبين الركن اليماني والحجر الأسود.
أخرج أبو داود وأحمد من حديث عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) وصححه ابن حبان والحاكم (2)، وقال الرافعي: إنه إذا انتهى إلى العوالي يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق" ولم يذكر له مستندًا.
وأخرجه البزار من حديث أبي هريرة مرفوعًا لكن لم يقيده بما عند الركن ولا عند الطواف.
وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء بين الركنين: اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير"(3).
(أ) كذا في الأصل، وفي هـ، جـ:(وروى الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدعاء).
(ب) هـ: (يرى).
_________
(1)
البقرة الآية 201.
(2)
أبو داود المناسك، باب الدعاء في الطواف 2: 448 - 449 ح 1892، أحمد 3: 411، الحاكم 1: 455، ابن حبان 6: 51 ح 3815.
(3)
كذا هنا وكذا عزاه ابن حجر في "التلخيص"(2: 248 - ط. هاشم يماني) لابن ماجه ولم أجده فيه، وإنما أخرجه الحاكم 1:455.
ولابن ماجه عن أبي هريرة: "من طاف بالبيت سبعًا فلم يتكلم إلا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، محت عنه عشر سيئات وكتب له عشر حسنات، ورفعت له عشر درجات"(1) وإسناده ضعيف.
وله عن أبي هريرة "إن الله وكّل بالحجر سبعين ملكًا، فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار قالوا آمين".
قال الرافعي: ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف بل هي أفضل من الدعاء الذي لم يؤثر، ومثله ذكر الإمام المهدي في البحر والدعاء المسنون أفضل منها تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
587 -
وعن يعلى بن أمية قال: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعًا ببرد أخضر" رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي (2).
هو أبو صفوان، ويقال أبو خلف، ويقال أبو خالد وهو الأكثر يعلى بن أمية بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد الياء تحتها نقطتان، اسم أمه، ابن أبي عبيدة التميمي الحنظلي حليف قريش، وهو يعلى بن منية أيضًا بضم الميم وسكون النون وفتح الياء، وأمية هي أمه وقيل أم أبيه، وبها يعرف، وهي جدة الزبير بن العوام لأمه، وهي أخت عتبة بن غزوان، وقيل عمته، وفي الاستيعاب (3) أن أمية اسم أبيه، ومنية اسم أبيه، فينسب تارة إلى أبيه وتارة
(1) ابن ماجه المناسك، باب فضل الطواف 2: 986 ح 2957.
(2)
أبو داود المناسك، باب الاضطباع في الطواف 2: 443 ح 1883، الترمذي الحج باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعًا 3: 214 ح 859، ابن ماجه المناسك باب الاضطباع 2: 984 ح 2954، أحمد 4:222.
(3)
الاستيعاب 3: 661 (مع الإصابة ط. مطبعة السعادة. مصر).
إلى أمه، أسلم يعلى يوم الفتح وشهد حُنَينًا والطائف وتبوك، وكان عاملًا لعمر على نجران، وهو معدود في أهل الحجاز، قتل بصفين مع علي بن أبي طالب، كذا قال ابن الأثير (1)، وقال الذهبي: كان واليًا لعثمان على اليمن، فلما قتل (أ) أقبل من اليمن، وخرج مع أهل الجمل وأعانهم بأموال جليلة فلما هزموا (ب) هرب ثم أقبل على شأنه إلى قريب الستين فما أدري توفي قبل معاوية أو بعده (2) انتهى.
روى عنه ابنه صفوان وعبد الله بن الديلمي وعطاء ومجاهد (3) وعكرمة. قوله "مضطبعًا" الاضطباع هو أن يجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم يقدمونها على عواتقهم اليسرى، وقد ورد أيضًا من حديث ابن عباس في عمرة الجعرانة، أخرجه أبو داود (4).
588 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه" متفق عليه (5).
ورد هذا في صفة غدوهم من منى إلى عرفات، وفي رواية لمسلم بلفظ:"منا الملبي ومنا المكبر"(6)، وفيه دلالة على استحبابها في الذهاب
(أ) زادت هـ: (عثمان).
(ب) هـ: (هربوا).
_________
(1)
أسد الغابة 5: 523.
(2)
سير أعلام النبلاء 3: 101.
(3)
للترجمة تعليق غير واضح.
(4)
أبو داود المناسك، باب الاضطباع في الطواف 2: 444 ح 1884.
(5)
البخاري الحج باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة 3: 510 ح 1659 مسلم الحج باب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات في يوم عرفة 2: 339 ح 274 - 1285.
(6)
مسلم 2: 933 ح 272 - 1284.
من منى إلى عرفة يوم عرفة، والتلبية أفضل، وفيه رد على مَنْ قال بقطع التلبية بعد صبح يوم عرفة، والله أعلم.
589 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الثَّقَل أو قال في الضَّعَفة من جمع بليل" الحديث متفق عليه (1).
ورواه الشافعي واللفظ له، ومن طريقه البيهقي، ورواه النسائي بلفظ:"أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ضعفة أهله، فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة"(2).
وقوله "في الثقل" هو بفتح الثاء المثلثة والقاف وهو المتاع ونحوه، والضعفة المراد بهم النساء ومن يتصل بهن من الصبيان.
والحديث فيه دلالة على أنه يجوز الدفع من مزدلفة قبل طلوع الفجر للنساء ومن أشبههن في الضعف، والله أعلم.
590 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذنت سودة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله، وكانت ثبطة -يعني ثقيلة- فأذن لها" متفق عليه (3).
قوله "أن تدفع قبله" فيه دلالة على جواز الدفع من مزدلفة قبل الفجر ولكن ذلك للعذر كما قال "وكانت ثبطة" والثبطة بفتح الثاء المثلثة
(1) البخاري الحج باب حج الصبيان 4: 71 ح 1856، مسلم الحج باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلخ 2: 941 ح 300 - 1293، سنن البيهقي 5:123.
(2)
النسائي باب الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى 5: 215.
(3)
البخاري كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل 3: 526 ح 1680، مسلم الحج باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء. . . .، 2: 939 ح 293 - 1290.
وكسر الباء الموحدة أي ثقيلة الحركة بطيئة من التثبط وهو التعوق.
وقد اختلف العلماء في قدر المبيت بمزدلفة وفي حكمه، أما حكمه فذهب الأكثر وهو الصحيح من مذهب الشافعي قال به فقهاء الكوفة وأصحاب الحديث إنه واجب من تركه لزمه دم، وذهب جماعة وهو قول للشافعي إنه سنة إن تركه فاتته الفضيلة ولا إثم عليه ولا دم ولا غيره، وذهب الحسن البصري والنخعي إلى أنه لا يصح الحج إلا به، وقال به أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي وأبو بكر ابن خزيمة، وحكي عن عطاء والأوزاعي أن المبيت بمزدلفة لا واجب ولا سنة ولا فضيلة بل هو منزل كسائر المنازل إن شاء نزله وإن شاء تركه ولا فضيلة فيه، وهو قول باطل، وأما قدره فذهب الهادوية إلى أنه أكثر الليل وهو أحد أقوال مالك والشافعي، والثاني جميع الليل، والثالث أقل زمانه، والصحيح من مذهب الشافعي أنه ساعة في النصف الثاني من الليل وفي قول له ساعة من النصف الثاني أو بعده إلى طلوع الشمس.
591 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" رواه الخمسة إلا النسائي (1)، وفيه انقطاع.
الحديث رواه أيضًا أحمد وصححه الترمذي، وفيه دلالة على أن رمي الجمرة لا يكون إلا بعد طلوع الشمس، ولو أبيح لهم التقدم في الدفع من مزدلفة ووصلوا إلى منى قبل الفجر، وسيأتي الكلام على المسألة في الحديث الآتي قريبًا.
(1) أبو داود المناسك، باب التعجيل من جَمْع 2: 480 ح 1940، الترمذي الحج باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل 3: 240 ح 893، ابن ماجه المناسك باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمر 2: 1007 ح 3025، أحمد 1:234.
592 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت" رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم (1) الحديث أنكره أحمد وغيره وقد ورد في معناه ما أخرجه الخلال قال: أنبا علي بن حرب ثنا هارون بن عمران عن سليمان بن أبي داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال أخبرتني أم سلمة قالت: "قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة قالت: فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى" وفيه سليمان بن أبي داود الدمشقي الخولاني، ويقال ابن داود، قال أبو زرعة عن أحمد رجل من الجزيرة ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف (2).
وقد أخرج الدارقطني وغيره عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يخرجن من جمع ليلة جمع ويرمين الجمرة ثم تصبح في منازلنا، فكانت تصنع ذلك حتى ماتت" وفي إسناده محمد بن حميد أحد رواته كذبه غير واحد، ويرده أيضًا حديثهما في الصحيحين:"وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة"(3).
وقد ورد في حق حبيبة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع
(1) أبو داود المناسك باب التعجيل من جمع 2: 480 ح 1942، النسائي الحج باب الرخصة في ذلك 5: 221 (ولم يسم أم سلمة).
(2)
هو سليمان بن داود -أو أبي داود- الخولاني الدمشقي، قال فيه ابن معين: لا يُعرف، وقال مرة: ليس بشيء. (ميزان الاعتدال 2: 200: 202).
(3)
البخاري الحج، باب مَنْ قدم ضعفة أهله بليل 3: 527 ح 1681، مسلم الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة 2: 939 ح 293.
بليل" أخرجه مسلم (1)، ولعلها كانت من الضعفة كما في حديث ابن عباس، يتقرر من مجموع هذه الروايات أن أم سلمة وسودة وأم حبيبة وعائشة -كما (أ) في الرواية المذكورة- رمين قبل الفجر، وفي هذا دلالة على جواز الدفع والرمي قبل الفجر وهو معارض لحديث ابن عباس وقد يجاب عنه بأن جواز الرمي قبل الفجر، إنما كان للعذر، وهو جائز، وفي حديث ابن عباس لما لم يكن له عذر في ذلك أمرنا بالانتظار إلى بعد طلوع الشمس أو أن ذلك مندوب، فأمره بالندب، وحينئذ فلا تعارض بين الأحاديث، وفي المسألة أربعة مذاهب، ذهب الشافعي وأحمد إلى جواز الرمي من بعد نصف الليل للقادر والعاجز، والثاني لا يجوز إلا بعد الفجر مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة، والثالث قول الهادوية إنه لا يجوز للقادر إلا بعد طلوع الفجر وللمرأة والعاجز والخائف، ومن له عذر من بعد نصف الليل، والقول الرابع للنخعي والثوري إنه من بعد طلوع الشمس للقادر، وكأن الأرجح هذا القول إذ هو المنصوص في حديث ابن عباس، ولا حجة لمن حَدَّ أوله بنصف الليل، فإن الحجة حديث أسماء بنت أبي بكر كما في البخاري (2)، وهي أن يغيب مغيب القمر، وهو يكون عند أول الثلث الأخير، ويستدل بهذا على سقوط الوقوف بالمشعر الحرام على من أجيز له الدفع من نصف الليل ولا دم عليهم.
593 -
وعن عروة بن مضرس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه -يعني بالمزدلفة- فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الخمسة
(أ) هـ: (كذا).
_________
(1)
مسلم (السابق) 2: 940 ح 298 - 1292.
(2)
البخاري السابق 3: 526 ح 1679.
وصححه الترمذي وابن خزيمة (1). هو عروة بن مضرس بضم الميم وتشديد الراء وكسرها، وبالصاد المعجمة والسين المهملة الطائي، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، عداده في الكوفيين.
روى عنه ابنه أبو بكر والشعبي.
والحديث صححه أيضًا الحاكم والدارقطني وابن حبان، وهو مروي بألفاظ مختلفة.
وقوله "من شهد صلاتنا": المراد بها هنا صلاة الفجر في المزدلفة.
وقوله "ووقف معنا حتى يدفع": يعني وقف في مزدلفة، وقوله "ووقف بعرفة ليلًا أو نهارًا": فيه دلالة على أنه يجزئ الوقوف بعرفة في أي وقت كان إذا كان في يوم عرفة من بعد الزوال أو في ليلة عيد الأضحى.
وقوله: "فقد تم حجه" هذا جزاء الشرط "وقضى تفثه" والتفث هو إذهاب الشَّعَث، قاله النضر بن شميل (2)، وقيل هو المناسك، ومفهوم الجملة الشرطية، ومن لم يقع منه ما ذكر فلم يتم حجه، فأما الوقوف بعرفة فمجمع عليه، وأما الوقوف بالمزدلفة فذهب الجمهور إلى أن الحج يتم (أ) بدونه، وأنه يجب في فواته دم، وذهب ابن عباس وابن الزبير إلى أن
(أ) هـ: (تم).
_________
(1)
أبو داود نحوه المناسك، باب من لم يدرك عرفة 2: 486 ح 1950، الترمذي (واللفظ له) الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 3: 238 ح 891، النسائي نحوه الحج، باب ممن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة 5: 213، ابن ماجه نحوه المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع 2: 1004 ح 3016، أحمد 4: 261 - 262، الحاكم 1: 463، الدارقطني 2: 239 - 420، ابن حبان ذكر الأخبار عن تمام حج الواقف بعرفة من حين يصلي الأولى، 5: 61 ح 3839.
(2)
لسان العرب (ت. ف. ث) 1: 435 (ط. المعارف، مصر).
الوقوف بمزدلفة ركن كعرفة، وإليه ذهب إبراهيم النخعي والشعبي وعلقمة والحسن البصري والأوزاعي وحماد بن سليمان وداود الظاهري وأبو عبيد القاسم بن سلام ومحمد بن جرير وابن خزيمة وهو أحد الوجوه للشافعية، ويؤيد هذا المفهوم الزيادة في النسائي:"مَنْ أدرك جمعًا مع الإمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك"(1).
ولأبي يعلى: "ومن لم يدرك جمعًا فلا حج له".
وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (2) وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج مخرج البيان، وأجيب عن ذلك أن حديث عروة أريد به أن من فعل جميع ذلك فقد أتى بالحج التام الكامل الفضيلة، ويدل عليه حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال:"شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال الحج عرفة، من جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه" أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي (3).
وفي رواية لأبي داود: "من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك
(1) تقدم في تخريج حديث الباب.
(2)
البقرة الآية 198.
(3)
أبو داود المناسك، باب من لم يدرك عرفة 2: 485 ح 1949، الترمذي الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع. . . .، 3: 237 ح 889، النسائي المناسك، باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 5: 214، ابن ماجه المناسك، باب مَنْ أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع 2: 1003 ح 3015، أحمد 4: 335، الحاكم 1: 464، الدارقطني 2: 240، البيهقي 5:173.
الحج".
وفي رواية للدارقطني والبيهقي: "الحج عرفة الحج عرفة" فهذا صريح في المراد، وأما زيادة النسائي وأبي يعلى فهي أولًا لا تعارض لاحتمالها التأويل بأن يراد لا حج له أي كامل الفضيلة، وثانيًا أنها من رواية مطرف عن الشعبي، وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءًا في إنكارها، وذكر أن مطرفًا كان يهم في المتون (1)، وعن الآية الكريمة بأنها تدل على الأمر بالذكر عند المشعر على الركنية، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بيان للواجب المستكمل الفضيلة، وبين بقوله ما لا يفوت الحج بفواته (وما يفوت بفواته وأما صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة فذهب ابن حزم إلى أنه يفوت الحج بفواته) التزامًا لما (أ) ألزمه به الطحاوي، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحكى الإجماع على الإجزاء بدونها (2)، والله أعلم.
594 -
وعن عمر رضي الله عنه قال: "إِن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس" رواه البخاري (3).
قوله "لا يفيضون" أي من جمع، وقد صرح بذلك في روايته يحيى القطان عن شعبة (4)، وقوله "أَشْرِق": بفتح الهمزة فعل أمر من الإشراق أي ادخل في الشروق، وقد ضبطه بعضهم بكسر الهمزة على أنه ثلاثي
(أ) سقطت (لما) من: جـ، وفي هـ:(بما).
_________
(1)
الفتح 3: 529.
(2)
الفتح 3: 529، وانظر المغني 3:421.
(3)
البخاري الحج، باب متى يدفع مِنْ جمع 3: 531 ح 1684.
(4)
الفتح 3: 531 وقد عزاه إلى الإسماعيلي.
من شرق، والمعنى على الأول ليطلع عليك (أ) الشمس.
وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة جبل معروف هناك على يسار الذاهب إلى منى وهو أعظم جبال مكة عرف برجل من هذيل اسمه ثبير دفن فيه، وزاد أبو الوليد عن شعبة "كيما تغير" أخرجه الإسماعيلي (1) ومثله لابن ماجه (ب) من طريق حجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق (2).
"وتغير" من الإغارة: أي الإسراع في عدو الفرس، والمراد منه الدفع للنحر.
وقوله "ثم أفاض" الإفاضة الدفعة قاله الأصمعي، ومنه أفاض القوم في الحديث إذا دفعوا فيه، وفاعل أفاض هو النبي صلى الله عليه وسلم أتى به بيانًا لقوله "خالفهم".
(جـ وفي رواية الثوري: "فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض" جـ) وفي رواية الطبري (3) بسنده "كان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس" وقد تقدم في حديث مسلم بيان الوقت الذي دفع فيه صلى الله عليه وسلم وهو قوله "حتى أسفر جدًّا"، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وفي حديث ابن عباس عند ابن خزيمة "حين أسفر كل شيء قبل أن تطلع الشمس" ويحتمل أن يكون فاعل أفاض هو عمر، وهو بعيد.
(أ) هـ: (عليه).
(ب) هـ: (ولابن ماجه مثله).
(جـ، جـ) سقط في ي.
_________
(1)
الفتح 3: 531.
(2)
ابن ماجه المناسك، باب الوقوف بجمع 2: 1006 ح 3022.
(3)
الفتح 3: 531.
595 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه وأسامة بن زيد قالا: "لم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة" رواه البخاري (1).
الحديث لفظ البخاري عن ابن عباس "أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى" قال فكلاهما قال: "لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة"(1).
وقد استشكل رواية أسامة فإنه سار من مزدلفة على رجليه في سُبَّاق قريش (2)، وظاهر السياق أنه لم يحضر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند رمي الجمرة، ويجاب عنه بأنه يجوز أن يكون أرسل الرواية، وأنه بواسطة، ويجوز أن يكون حضر عند الرمي، ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم من حديث أم الحصين قالت "فرأيت أسامة بن زيد وبلالا في حجة الوداع أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى الجمرة"(3) والحديث فيه دلالة على أن الحاج يستمر في التلبية حتى يرمي الجمرة، واللفظ يحتمل أنه قطع التلبية في أول حصاة، أو بعد تمام الرمي، وذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويؤيد الأول ما في حديث ابن عباس "ويكبر مع كل حصاة"(4) أنه قطع التلبية كما قال البيهقي، وحجة الثاني بأن رواية
(1) البخاري الحج، باب التلبية والتكبير غداة النحر حين رمى الجمرة والارتداف في السير 3: 532 ح 1686، 1687.
(2)
مسلم الحج، باب الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة. . . .، 2: 935 ح 279 - 280 م.
(3)
مسلم الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا. . . .، 2: 944 ح 312 - 1298 م.
(4)
من حديث ابن مسعود أخرجه البخاري كتاب الحج، باب يكبر مع كل حصاة. . . .، 3: 581 ح 1750، ومسلم الحج، باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي. . . .، 2: 942 ح 305 - 1296.
النسائي "فلم يزل يلبي حتى رمى، فلما رجع قطع التلبية" وما روى ابن خزيمة (1) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال "أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر كل حصاة" وقال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح فإنه مفسر لما أبهم في الروايات الأُخر فإن المراد بقوله: "حتى رمى جمرة العقبة" أي أتم رميها، وقد ذهب الجمهور إلى استمرار التلبية إلى أن يرمي، ومنهم الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم والهادوية وغيرهم، وذهب طائفة إلى أنه يقطع التلبية إذا دخل الحَرَم لكن يعاودها إذا خرج من مكة إلى عرفة، وهو مذهب ابن عمر، وذهب طائفة إلى أنه يقطعها إذا راح إلى الموقف، ورواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي، وبه قال مالك ورواية عن الصادق والناصر، وقيده مالك بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي والليث وعن الحسن البصري مثله لكن قال إذا صلى الغداة يوم عرفة.
وقد روى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "حججت مع عبد الله فلما أفاض أتى جمعًا جعل (أ) يلبي فقال رجل أعرابي: هذا. فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا؟ ".
وأشار الطحاوي إلى أن كل من روي عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لم تشرع، وجمع بذلك بين ما يختلف من الآثار، والله أعلم.
(أ) هـ، ي:(فجعل).
_________
(1)
انظر الفتح 3: 533.
596 -
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أنه جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى الجمرة بسبع حصيات، وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة" متفق عليه (1).
في الحديث دلالة على أن هذه الكيفية مشروعة في رمي العقبة كما وقع في الرواية، وأن ابن مسعود استبطن الوادي، وأجاب على من قال إن أناسًا يرمونها من فوقها بقوله "هذا مقام الذي. . . ." إلخ، وقام الإجماع على أن هذه الكيفية غير واجبة، وأن مخالفتها جائزة، وإنما هذا يستحب أن يقف تحت الجمرة في بطن الوادي (أ) ويجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ويستقبل العقبة ويرميها (ب) بالحصى السبع، وهذا قول جمهور العلماء، وقال بعض أصحاب الشافعي إنه يستحب أن يقف مستقبل الكعبة، وتكون الجمرة عن يمينه، وأما سائر الجِمَار فمن فوقها اتفاقا وخص عبد الله سورة البقرة بالذكر لكون أكثر أعمال الحج مذكورة فيها ولأنها اشتملت على أكثر أحكام (جـ) الديانات والمعاملات، ولذلك كان مَنْ حفظ الزهراوين (2) في السلف عظم قدره وارتفعت مرتبته، وفي إضافة السورة إلى البقرة دلالة على أنه لا كراهة في ذلك، وقد رد إبراهيم النخعي بذلك على الحَجَّاج لما ذكر له أن الحجاج قال على المنبر السورة التي تذكر
(أ) هـ: (تحت الجمرة تحت الوادي).
(ب) هـ: (فيرميها).
(جـ) هـ، ي:(الأحكام).
_________
(1)
البخاري الحج، باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره 3: 581 ح 1749، مسلم الحج باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي 2: 942 ح 305 - 1296.
(2)
البقرة وآل عمران كما ورد عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو كأنهما غيايتان. . . . ." أخرجه أحمد في المسند 5/ 249.
فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها آل عمران، والسورة التي يذكر فيها النساء فسب الحجاج (1) وذكر قول ابن مسعود (2).
فائدة: جمرة العقبة هي الجمرة الكبرى وهي حد لمنى وليست منها بل هي من مكة وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة.
والجمرة اسم لمجتمع (أ) الحصى سميت بذلك لاجتماع الناس بها، يقال: اجتمر بنو فلان إذا اجتمعوا، وقيل إن العرب تسمى الحصباء الصفا وجمارًا فسميت بذلك تسمية للشيء باسم حاله وقيل لأن آدم أو إبراهيم عليهما السلام لما عرض إبليس له فحصبه جمرتين يديه أي أسرع فسميت بذلك.
597 -
وعن جابر رضي الله عنه قال: "رَمَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإِذا زالت الشمس" رواه مسلم (3).
الحديث وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان، وذكره البخاري تعليقًا بلفظ وقال جابر:"رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال"(4).
(أ) هـ، ي (لجميع).
_________
(1)
المراد الحجاج بن يوسف الثقفي الأمير المشهور. الفتح 3: 581.
(2)
البخاري كتاب الحج، باب يكبر مع كل حصاة 3: 581 ح 1750.
(3)
مسلم الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي 2: 945 ح 214 - 1299 م، ابن حبان الحج، باب رمي الجمار أيام التشريق 6: 74 ح 3875، ابن خزيمة الحج، باب رمى رسول الله الجمرة. . . .، 4: 227 ح 2876.
(4)
البخاري الحج باب، رمي الجمار 3: 579 (تعليقا).
وروى الدارمي موصولًا بلفظ التعليق لكن قال: "وبعد ذلك عند زوال الشمس"(1). ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده موصولا أيضًا.
والحديث فيه دلالة على وقت الرمي، وقد تقدم الكلام في جمرة العقبة. وقوله:"فإِذا زالت الشمس" فيه دلالة على أن وقت الرمي في الأيام الثلاثة بعد الزوال، وهو مذهب الهادوية ومالك والشافعية وأحمد وجماهير العلماء، وذهب الناصر إلى أنه يجوز الرمي من بعد الفجر، وذهب الهادوية وأبو حنيفة وإسحاق إلى أنه يجوز في اليوم الثالث الرمي بعد الفجر وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم لأغيلمة بني عبد المطلب "لا ترموا حتى تصبحوا" فدل بعموم على أنه يصح الرمي من الإصباح، ويجاب عن ذلك بأنه ورد في رمي جمرة العقبة في يوم النحر (2)، وأما سائر الأيام ففعله صلى الله عليه وسلم مبين أن وقته من بعد الزوال وقد قال "خذوا عني مناسككم".
598 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه "أنه كان يرمي الجمرة الدنيا مع حَصَيَات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يسهل فيقوم فيستقبل القبلة فيقوم طويلًا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيُسْهِل ويقوم مستقبل القبلة ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلًا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي فلا يقف عندها ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله" رواه البخاري (3).
(1) مسند الدارمي 2: 61 (طبعة: دهمان).
(2)
بلفظ (حتى تطلع الشمس): أخرجه ابن ماجه المناسك، باب مَنْ تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار 2: 1007 ح 3025، أحمد 1: 234، الطبراني 11: 385 ح 12073، الدارقطني 2: 273 ح 174. ورد مطلقًا وورد مقيدًا بجمرة العقبة في أبي حنيفة 91، شرح معاني الآثار 2: 217، المعجم الكبير للطبراني 11: 387 ح 12078.
(3)
البخاري الحج، باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويسهل 3: 582 ح 1751.
قوله "الدنيا" بضم الدال وبكسرها أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف وهي أول الجمرات التي يرمي من يأتي النحر.
وقوله "ثم يسهل" بضم الياء وسكون المهملة أي يقصد السهل من الأرض، وهو المكان الذي لا ارتفاع فيه.
وقوله "ثم يأخذ ذات الشمال" أي يمشي إلى جهة شماله أي ليقف داعيًا في مكان لا يصيبه الرمي.
وقوله "جمرة ذات العقبة" أي الجمرة ذات العقبة، والحديث فيه ذِكْر رمي الجمرات الثلاث بسبع حصيات، وأنه يشرع التكبير عند كل حصاة، ولا يلزم في تركه شيء إلا ما روي عن الثوري فقال يطعم وإن جبره بدم فأحب إلي. وعلى أنه يستقبل القبلة بعد الرمي ويقوم طويلًا، وقد وقع تفسيره في حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة (1) بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة وأنه يرفع يديه عند الدعاء.
قال ابن قدامة (2): ولا نعلم في ذلك خلافًا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار، وحكى ذلك ابن القاسم عن مالك كذا قاله ابن المنذر.
وقال ابن المنير: لو كان الرفع هنا سنة ثابتة ما خفي عن أهل المدينة.
وأجيب عنه بأن ذلك ما خفي عليهم وأن الزهري عالم المدينة والشام روى ذلك عن سالم أحد الفقهاء في المدينة، ورواه سالم عن عالم أهل المدينة من الصحابة في زمانه، وهو ابن عمر، وأنه لا يقف ولا يدعو بعد
(1) مصنف ابن أبي شيبة القسم الأول من الجزء الرابع (المنشور باسم الجزء المفقود) ص 183 ح 129 م.
(2)
المغني 3: 451.
رمي الجمرة الثالثة.
فائدة: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح "أن ابن عمر رضي الله عنه كان يمشي إلى الجمار مقبلًا ومدبرا".
وعن جابر أنه كان لا يركب إلا من ضرورة، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة في يوم النحر راكبًا (1) وسائر الجمرات في الأيام الأُخر رماها راجلًا، ولعله فعل ذلك اليوم لما كان في أثناء إفاضته من مزدلفة وقصد انتهائه إلى محل النحر، والله أعلم.
599 -
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال في الثالثة: والمقصرين" متفق عليه (2) الحديث.
واختلفت الروايات في وروده هل في حجة الوداع أو في عمرة الحديبية.
قال ابن عبد البر (3): وقع ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، وهذا محفوظ مشهور.
وأخرج من حديث أبي سعيد بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة (4).
ومن حديث ابن عباس بلفظ: "حلق رجالٌ يوم الحديبية، وقصر
(1) مسلم الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا 2: 942 ح 310 - 1297.
(2)
البخاري الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال 3: 561 ح 1727، مسلم الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير 2: 945 ح 317 - 1301 م.
(3)
التمهيد 7: 266.
(4)
أحمد 3: 20، مشكل الآثار 2:146.
آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين. . . ." الحديث (1) انتهى.
وحديث أبي سعيد أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي وأحمد وابن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي وزاد فيه أبو داود (أ): "أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة".
وورد أيضًا في أن ذلك كان في حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة (2)، ومن حديث أم الحصين عند مسلم (3) ومن حديث ابن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث، والأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع هي أكثر عددًا وأصح إسنادًا (4).
قال النووي (5): وهو الصحيح المشهور، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في "النهاية".
وقال عياض: كان في الموضعَيْن. قال النووي: ولا يبعد أن يكون في الموضعين، وكذا قال ابن دقيق العيد (6).
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وهذا هو المتعين لفظًا في الروايات بذلك إلا أن السبب فيهما مختلف فالذي في الحديبية بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحُزْن لكونهم منعوا
(أ) هـ: (ابن داود).
_________
(1)
أحمد 1: 353.
(2)
أحمد 4: 177، ابن أبي شيبة 4/ 1 / 217 ح 166.
(3)
مسلم الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير 2: 946 ح 321 - 1303.
(4)
الفتح 3: 563.
(5)
شرح مسلم 3: 436.
(6)
شرح مسلم 3: 436.
من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشًا على أن يرجع من العام القابل، والقصة مشهورة فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقفوا، وأشارَتْ أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل فتابعوه فحلق بعضهم، وقصر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى الامتثال ممن اقتصر على التقصير، وقد بُيِّن هذا السبب في آخر حديث ابن عباس عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا:"يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم، قال: لأنهم لم يشكوا"(1)، وأما في حجة الوداع فلأنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يسق الهدي بالإحلال، وقد كان شق على جماعة من الصحابة ففعل بعضٌ التقصير لأنه أخف، فهو كذلك لم يخلص الامتثال، بل بقي معه شك، وفعل بعض الحلق لمبادرته إلى إخلاص الامتثال، واستحق تأكيد الدعاء له لأنه أبين في الامتثال، كذا قاله ابن الأثير في "النهاية" وغيره (2).
وقال الخطابي وغيره: إن عادة العرب أن توفر الشعر لكونه من الزينة عندهم، وكان الحلق قليلًا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير.
والحديث فيه دلالة على شرعية الحلق والتقصير، وأن الحلق أرجح وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن في الذي لم يحج قط إن شاء حلق وإن شاء قصر.
وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي، قال: "إذا حج الرجل أول
(1) ابن ماجه المناسك، باب الحلق 2: 1012 ح 3045.
(2)
الفتح 3: 564.
حجة حلق، وإن حج أخرى فإن شاء حَلَقَ وإن شاء قصر" ثم روي عنه أنه قال "كانوا يحبون، يحلقوا في أول حجة وأول عمرة" انتهى. وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا للزوم، وهما جائزان، ولو في حق من لبد شعره، وإن كان للشافعي قول موافق للحنفية أنه يتعين الحلق على مَنْ لبد شعره أو كان شعره خفيفًا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر المواسي على رأسه والواجب في حلق رأسه هو أن يعمه جميعه عند الهادي وغيره، وهو مذهب مالك وأحمد وهو الذي تقتضيه الصنعة، واستحبه الكوفيون والشافعي، ويجزئ البعض عندهم واختلفوا فيه، فعند الحنفية الربع إلا أبا يوسف فقال النصف، وقال الشافعي: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، والتقصير كالحلق في هذا التفصيل، ويكون التقصير قدر أنملة كذا في كتب الهادوية وفي شرح النووي لمسلم، ويستحب أن لا ينقص عن (أ) قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ، وهذا في حق الرجال، وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير إجماعًا، وفي حديث لابن عباس عند أبي داود بلفظ: "ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير" (1) وسيأتي مرتبًا، وللترمذي من حديث علي "نهى أن تحلق المرأة رأسها" (2).
وقال جمهور الشافعية: لو حلقت أجزأها ويكره.
وقال القاضيان أبو الطيب وحسين: لا يجوز، وهذا في حق الحاج أو المعتمر غير متمتع، وأما المتمتع فالنبي صلى الله عليه وسلم خيرهم بين الحلق والتقصير، وظاهره أنهما سواء في حقهم، وعند الهادوية أن الأفضل
(أ) هـ: (علي).
_________
(1)
أبو داود المناسك، باب الحلق والتقصير 2/ 502 ح 1984.
(2)
الترمذي الحج، باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء 3: 257 ح 914.
التقصير في حقه ليمكنه الحلق للحج.
وقوله "قال في الثالثة: والمقصرين": في معظم الروايات عن مالك ذكر إعادة المحلقين مرتَين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير من رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات، نبه عليه ابن عبد البر في التقصي وأغفله في التمهيد (1)، بل قال إنهم لم يختلفوا على مالك، ورواه الليث "رحم الله المحلقين" مرة أو مرتين عن نافع، ورواه عن عبيد الله العمري مصغرًا، قال في الرابعة:"والمقصرين".
وأخرج أحمد عن نافع بلفظ "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا وللمقصرين حتى قالها ثلاثًا أو أربعًا ثم قال (أ): والمقصرين"(2).
والجمع بين الروايات أن من قال في الثالثة أراد بها بالنظر إلى ما وقع من السائلين، ومن قال في الرابعة فبالنظر إلى أن قوله:"وللمقصرين" معطوف على مقدر، والمعنى: اغفر للمحلقين والمقصرين، فهو مذكور تقدير أربعًا، وإن لم يذكر فيه اللفظ إلا ثلاث مرات، ورواية الجزم مقدمة على رواية الشك، وإعادة الذكر ثلاث مرات معمول بها ولا يعارضها رواية الذكر مرتين لأن في تلك زيادة، وهي معمول بها، والله أعلم.
تنبيه: يفهم من دعائه صلى الله عليه وسلم للمحلقين أنه فعل في نفسه ذلك إذ لا يبالغ في الحث على ذلك ويتركه.
وقد أخرج ابن عباس عن معاوية قال: "قَصرتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص" زاد في رواية مسلم: "وهو على المروة"(3) وزاد في رواية
(أ) سقط من هـ: (قال).
_________
(1)
التمهيد 7: 266.
(2)
أحمد 2: 34.
(3)
البخاري الحج باب الحلق والتقصير عند الإحلال 3: 561 ح 1730، مسلم الحج، باب التقصير في العمرة 2: 913 ح 209 - 1246.
النسائي أن ابن عباس احتج بذلك عن معاوية لما نهى عن متعة الحج، ثم ذكر ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هذا على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة، وقد تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، وفي معناه لأحمد من وجه آخر (2)، وهذا يدل أنه وقع منه في حجة الوداع، ووقع عند أحمد من طريق أخرى عن عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص وهو محرم (3). وقد أنكر النووي (4) على من يقول إن ذلك في حجة الوداع قال لأنه قد ثبت أنه كان قارنا، وثبت أنه حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس فلا يصح أن يكون ذلك في حجة الوداع، وفي عمرة القضاء لم يكن معاوية مسلما لأنه أسلم عام الفتح إلا أن ابن عساكر أخرج في تاريخ دمشق في ترجمة معاوية أنه أسلم زمن الحديبية والقضية وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية بمكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، وقول سعد: فعلنا العمرة وهذا -يعني معاوية- كافر بالعرش بضم العين والراء المهملتين يعني بيوت مكة (5) باعتبار ظاهر حال معاوية (*)، وجوز بعضهم أن يكون ذلك في عمرة الجعرانة، ولكنه يرد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة، ولم يستصحب
(1) النسائي المناسك باب التمتع 5: 351: 154 (ط. دار الفكر، بيروت).
(2)
أحمد 4: 96، 98.
(3)
أحمد 4: 92.
(4)
شرح مسلم 2: 387.
(5)
مسلم الحج، باب جواز التمتع 2: 898 ح 164 - 1225.
(*) هامش: يقال كيف مكن النبي صلى الله عليه وسلم. . . . كافر وفي الظاهر وهو. . . . يعمل بالظاهر. . . . لمعاوية من شيعته. . . . على الشريعة تمت.
أحدًا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين فقدم مكة وطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كما ثبت فخفيت على كثير من الناس، كذا أخرجه الترمذي (1)، وغيره، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذٍ، ولا كان معاوية ممن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى أباه من الغنيمة من جملة المؤلفة.
وأخرج الحاكم في "الإكليل" في آخر قصة غزوة حنين "أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمر من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة".
ولكنه يمكن الجمع بأن معاوية لحق وحضر بالمروة وقصر للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحضر الحلاق ثم حضر الحلاق فحلق، وبهذا يتقرب الجمع بين الروايات إلا أنه يبعد عنه رواية "أنه كان في العشر" إلا أنها شاذة، وقد قال قيس بن سعد (2) عقيبها: والناس ينكرونها، وبعضهم تأول أصل الرواية، وقال: معنى "قصرت عن رسول الله" أي قصرت شعري عن أمر رسول الله، وبعضهم قال: إنه قصر بقية شعر لم يكن الحلاق أزاله، وهو أيضًا بعيد.
والمشقص بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف وآخره صاد وهو نصل عريض يزجى به الوحش، وقال صاحب المحكم: هو الطويل من النصال، وليس بعريض، وكذا قال أبو عبيد، والله أعلم.
600 -
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: "اذبح ولا حرج"، وجاء آخر
(1) الترمذي الحج، باب ما جاء في العمرة من الجعرانة 3: 273 - 274 ح 935.
(2)
تقدمت عن حسن الإمام أحمد.
فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال:"ارم ولا حرج"، فما سُئِلَ يومئذٍ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إِلا قال:"افعل ولا حرج" متفق عليه (1).
قوله "وقف" كان ذلك يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، والخطبة هذه هي الخطبة الثالثة التي شرعت لتعليم بقية المناسك، ولم يكن ذلك عند رميه صلى الله عليه وسلم لأنه رمى في أول اليوم، ولعل بعد أن رجع من مكة إلى منى.
وقوله "فقال رجل" قال المصنف (2) رحمه الله: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وقد وقع حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره "كان الأعراب يسألونه" فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم.
وقوله "لم أشعر" أي لم أفطن، يقال شعرت بالشيء شعورًا إذا فطنت له، وقيل الشعور بمعنى العلم، ولم يذكر في هذه الرواية متعلق الشعور، وفي لفظ مسلم "لم أشعر أن الرمي قبل النحر"(3)، وفي هذه الرواية السؤال عن شيئين معينين، وقد ورد في مجموع الروايات في ذلك السؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإفاضة قبل الرمي، يعني النزول إلى مكة لطواف الإفاضة،
(1) البخاري الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة 3: 569 ح 1736، مسلم الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي 2: 948 ح 327 - 1306.
(2)
الفتح 3: 570.
(3)
مسلم السابق 2: 948 ح 328 - 1306.
ففي حديث ابن عباس عند البخاري ذكر الثلاثة المغايرة للحلق قبل الرمي، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس السؤال عن الحلق قبل الرمي أيضًا (1)، وكذا في حديث جابر، وكذا في حديث أبي سعيد عند الطحاوي (2)، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق (3)، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معًا قبل الحلق، وفي حديث جابر عند البخاري معلقًا -ووصله ابن حبان وغيره- السؤال عن الإفاضة قبل الذبح (4)، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السؤال عن السعي قبل الطواف (5).
وقوله "اذبح ولا حرج": أي لا ضيق عليك في ذلك، وذلك أنه لما تقرر عندهم أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، فمن فعل هذه المرتبة فقد أتى بالمشروع على صفته، وهذا مجمع عليه إلا أن بعض المالكية استثنى القارن، فقال: لا يحلق حتى يطوف لأن عليه إحرام عمرة، والمعتمر يتأخر الحلق معه عن الطواف، وهو مردود عليه بالإجماع (6).
والحديث يدل على أنه تسوغ المخالفة بالتقديم والتأخير، وأن الحج لا ينقص ولا يختل بذلك، واختلفوا في لزوم الدم عند المخالفة، فقال
(1) الدارقطني 2: 254 ح 78.
(2)
الطحاوي 2: 235.
(3)
أحمد 1: 76.
(4)
ابن حبان 6: 71 ح 3867.
(5)
أبو داود المناسك، باب فيمن قدم شيئًا قبل شيء في حجه 2: 517 ح 2015.
(6)
انظر الفتح 3: 571.
القرطبي: روي عن ابن عباس -ولم يثبت- أن من قدم شيئًا على شيء فعليه دم، وبلزوم الدم قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي. انتهى (1).
وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر فإنهم يقولون بذلك على الإطلاق، وإنما ذلك من تقديم الحلق على الرمي، وهو قول أيضًا للشافعي وللهادي والقاسم بناء منهم على أن الحلق تحليل محظور غير نسك، قالوا: لأنه يحرم بالإحرام فلا يجعل ما يحرم به نسكًا كالطيب، وعلى أصلهم هذا لا يجوز فعله قبل الرمي.
والحديث يدل على خلاف ذلك؛ ولعلهم يتأولون الحديث في حق الناسي والجاهل، وفي اللفظ ما يدل على ذلك بقوله: لم أشعر. ويلزم دم في تقديم الحلق على الذبح عند أبي حنيفة في حق المتمتع والقارن، وعند أحمد في حق العامد لا الناسي والجاهل، وذهب جمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل:"لا حرج"، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا، وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل (أ) على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، قال: إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: "لا حرج" أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيًا أو جاهلًا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية.
وأجيب بأن وجوب الفدية تحتاج إلى دليل، ولبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذلك وقت الحاجة؛ ولأنه لو كان الترتيب معتبرًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، لا سيما والوقت باقٍ كما أن من تركه في أول وقته عامدًا أو
(أ) سقط من هـ: (يدل).
_________
(1)
الفتح 3: 571.
ناسيًا وجب عليه الفعل، وتأويلهم لقوله "لا حرج" أي لا إثم دون الفدية فيلزم لو كان صحيحًا للزم الفدية في الجميع ولا يقولون به.
قوله "فما سئل عن شيء. . . ." إلخ: رواية عند (أ) مسلم وأحمد "فما سمعته سئل يومئذٍ عن أمر مما ينسى (1) المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها إلا قال: "افعلوا ذلك ولا حرج"، احتج بهذا وبقوله "لم أَشْعُر" من قال: إن الرخصة تختص بمن نسي أو جهل لا بمن تعمد.
قال الأثرم عن أحمد: إن كان جاهلًا أو ناسيًا فلا شيء عليه، وإن كان عالمًا فلا لقوله في الحديث:"لم أشعر". وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبًا لما سقط بالسهو كالترتيب بين السعي والطواف بأنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي، وحديث أسامة الذي مر متأول بأنه السعي بعد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة مع أنه لم يقل بظاهره إلا عطاء فقال: لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه. أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، واستقوى ابن دقيق العيد قول أحمد، وقال: تختص الرخصة بما ذكر في السؤال، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الإتباع في الحج، وأيضًا فالحكم إذا رتب على وصفٍ يمكن أن يكون معتبرًا لم يجز اطراحه، وعدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة، وقد علق به الحُكْم فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمدية إذ لا تساويه، وما وقع في كلام الراوي من قوله:"فما سئل عن شيء. . . ." إلخ لا عموم فيه إذ الظاهر أن الشيء مقيد بالقرينة،
(أ) سقط من جـ: (عند).
_________
(1)
مسلم 2: 948 ح 328 - 1306 م، أحمد 2:192.
وهي الأمور التي لم يشعر بها.
واعلم أنه اختلف في الحلق هل هو نسك أو تحليل محظور، فذهب إلى الأول الناصر والمؤيد وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، والحجة على ذلك قوله تعالى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} (1) قالوا: لأن الآية واردة مورد الثناء على الفاعلين لذلك فاستحقوا على ذلك الثواب فدل على أنه نسك فلو كان استباحة محظور لكان مباحًا لا يستحقون عليه الثواب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة. تقدم.
وحجة الثاني هو أن الحلق إنما حُرِّم بالإحرام فلا يكون نسكًا كالطيب، وفرعوا الخلاف في لزوم الدم على هذا، فعلى الأول إذا فعل قبل الرمي لا دم عليه، وعلى الثاني يلزم الدم، وقد يقال عليه هذا غير لازم إذ يجوز أن يكون نسكا مترتبًا فعله على فعل الرمي كالسعي المترتب على طواف (أ) القدوم مع أن مالكًا مصرح بأنه نسك ويوجب الدم على من قدمه على الرمي، والله أعلم.
601 -
وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك". رواه البخاري (2).
هو أبو عبد الرحمن المسور بن مخرمة الزهري القرشي، وهو ابن أخت عبد الرحمن بن عوف، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في ذي الحجة سنة ثمان، وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وقُبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني سنين، وسمع منه وحفظ عنه، وحدث عن
(أ) هـ: (طريق).
_________
(1)
سورة الفتح الآية 27.
(2)
البخاري، كتاب المحصر، باب النحر قبل الحلق في الحصر 4: 10 ح 1811.
عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وكان فقيهًا من أهل الفضل والدِّين، ولم يزل بالمدينة إلى أن قتل عثمان، وانتقل إلى مكة فلم يزل بها حتى مات معاوية، وكره بيعة يزيد فلم يزل مقيمًا بها إلى أن نفذ يزيد عسكره وحاصر مكة وبها ابن الزبير فأصاب المِسْوَر حجر من حجار المنجنيق وهو يصلي في الحجر فقتله، وذلك في (أ) مستهل ربيع الأول سنة أربع وستين (1).
روى عنه عروة بن الزبير وعلي بن الحسين زين العابدين وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو أمامة سهل بن حنيف وابن أبي مليكة، والمسور بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو، ومخرمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء.
والحديث فيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق، وهذا الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر في عمرة الحديبية فتحلل صلى الله عليه وسلم بالذبح، وبَوَّب البخاري على هذا باب النحر قبل الحلق في الحصر، وقد أشار البخاري إلى أن هذا الترتيب مختص بالحصر على جهة الوجوب ولم يتعرض لما يلزم من قدم الحلق على النحر.
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن علقمة أنه يلزم الدم في ذلك ومثله عن ابن عباس، وأما غير المحصر فقد تقدم الكلام عليه، وظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك وجوب الهدي على المحصر وهو المطابق لقوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2).
602 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله
(أ) سقط من هـ: (في).
_________
(1)
أسد الغابة 5: 175 - 176، الإصابة 3:419. (ط السعادة، مصر).
(2)
سورة البقرة الآية 196.
- صلى الله عليه وسلم: "إِذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكلُّ شيء إِلا النساء"
رواه أحمد وأبو داود (1) بإسنادٍ ضعيف.
لفظ أحمد وأبي داود: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء". وفي رواية لأحمد "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء".
وفي رواية للدارقطني: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء"(2) ومداره على الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف ومدلس، وقال أحمد: كان من الحفاظ، وقال أبو حاتم: صدوق مدلس (3)، وقال البيهقي (4): إنه من تخليطاته، قال البيهقي (5): وقد روى هذا في حديث لأم سلمة مع زيادة لم يقل بها أحد من الفقهاء وهو "إذا رميتم الجمرة ونحرتم الهدي إن كان لكم فقد حللتم من كل شيء حرمتم منه إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت، فإذا أمسيتم ولم تفيضوا صرتم حرمًا كما كنتم أول مرة حتى تفيضوا البيت".
وذكر ابن حزم أن هذا مذهب عروة بن الزبير.
والحديث فيه دلالة على حصول التحلل بالرمي والحلق، وأنه لا بد من مجموع الأمرين، والظاهر أنه مجمع على الرمي وحده وعلى الخلاف في الحلق وحده، وأنه لا قائل بمجموع الأمرين فتحمل الرواية بالجمع مع
(1) أبو داود المناسك، باب في رمي الجمار 2: 499 ح 1978 قال أبو داود: "هذا حديث ضعيف، الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه"، أحمد 6:143.
(2)
الدارقطني 2: 276 ح 187.
(3)
راجع: تقريب التهذيب 1: 152.
(4)
البيهقي 5: 136.
(5)
البيهقي 5: 136 - 137.
ضعفها أن هذا هو الأحسن أن يفعل الحلق بعد الرمي وإن لم يكن لازمًا.
وقوله "فقد حل لكم الطيب": هذا هو قول الأكثر، والخلاف في ذلك لمالك فقال لا يحل الطيب. وهو مردود عليه بهذا وغيره كما ثبت في حديث عائشة من (أ) أنها طيبت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرمي قبل الطواف (1)، وذهب الليث إلى أنه لا يحل الصيد إلا بعد طواف الإفاضة، وهو كذلك مردود عليه بالحديث، ولا خلاف أن الوطء لا يحل ما لم يوجد التحلل الثاني، لكن المستحب ألا يطأ حتى يرمي أيام التشريق.
قال الرافعي: وفي عقد النكاح والمباشرة فيما دون الفرج كالقبلة والملامسة وقتل الصيد قولان أحدهما أنها تحل، أما في غير الصيد فلأنهما محظوران للإحرام لا تفسدانه فأشبها الحلق والقلم، وأما في الصيد فلأنه لم يستثن في الحديث إلا النساء، والثاني: لا يحل أما في غير الصيد فلتعلقهما بالنساء، وأما في الصيد فلقوله تعالى:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) والإحرام باقٍ.
603 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على النساء حلق وإِنما يُقَصّرنَ"(3) رواه أبو داود بإسناد حسن، وقوى الإسناد أبو حاتم في "العلل"(4) والبخاري في "التاريخ"(5)،
(أ) سقط من هـ، ي:(مِن).
_________
(1)
البخاري الحج، باب الطيب بعد رمي الجمار. . . .، 3: 584 - 585 ح 1754.
(2)
المائدة الآية 95.
(3)
أبو داود المناسك، باب الحلق والتقصير 2: 502 ح 1985، الدارمي 2: 64، البيهقي 5:104.
(4)
العلل ص 281 ح 834.
(5)
التاريخ الكبير 6: 46.
وأَعله ابن القطان ورد عليه ابن المراق فأصاب.
والمراد أنه لا يستحب في حقهن ذلك، وأن الأفضل هو التقصير فإن فعلت الحلق أجزأ.
604 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه "أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له" متفق عليه (1).
الحديث فيه دلالة على أن المبيت بمنى من واجبات الحج، وأن الترخيص إنما وقع للعباس لأجل العذر المذكور، فإذا لم يوجد العذر فلا رخصة في ذلك، وهذا مذهب الجمهور، وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية، أنه سنة فلا يجب دم بتركه، وعلى الأول يجب الدم، وهذا الإذن للعباس رضي الله عنه قال بعضهم: يختص به ولا يتعدى الحكم إلى غيره، وقيل يدخل معه آله، وقيل فريقه وهم بنو هاشم، وقيل كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو علمت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم من عمه وهو (أ) الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين، وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره؟ جزم الشافعي وغيره بإلحاق مَنْ له مال يخاف (ب) ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مرض يحتاج إلى من يقوم به ومثله
(أ) هـ: (وهذا هو).
(ب) هـ: (فخاف).
_________
(1)
البخاري الحج، باب سقاية الحاج 3: 490 ح 1634، مسلم الحج، باب وجوب المبيت
بمنى ليالي أيام التشريق، والترخيص في تركه لأهل السقاية 2: 953 ح 346 - 1315.
ذكر الإمام يحيى والأمير الحسين في "الشفا": أن ذلك يدخل فيه من اشتغل بمصلحة عامة للمسلمين أو أمر يختص به، والجمهور قالوا يلحق بأهل السقاية رعاة الإبل خاصة، وسيأتي الكلام عليه، وظاهر الحديث أنه لا يجب الدم مع هذا العذر إذ لو وجب لبين، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة.
وفي الحديث دلالة على شرعية استئذان الكبراء والأمراء فيما يطرأ من الأحكام والمصالح، والمراد بأيام منى ليلة الحادي عشر والليلتين بعده، والله أعلم.
فائدة: كانت السقاية من ماء زمزم يغترفونه (أ) بالليل ويجعلونه في الحياض مسبلًا للشاربين وغيرهم يجعلون بينه الزبيب ليتطيب به الماء، وكانت السقاية للعباس في الجاهلية، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم له، وأخرج مسلم "أنه قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة، فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: أحسنتم وأجملتم (1)، هكذا فاصنعوا فهي حق لآل العباس رضي الله عنه".
605 -
وعن عاصم بن عدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون ليومين ثم يرمون يوم النفر" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان (2).
(أ) هـ: (يعني تورد).
_________
(1)
مسلم الحج، باب وجوب المبيت بمنى ليالى أيام التشريق. . . .، 2: 953 ح 347 - 1316.
(2)
أبو داود المناسك، باب في رمي الجمار 2: 497، 498 ح 1975، الترمذي الحج، باب ما جاء في الرخصة للرعاء أن يرموا يومًا، ويدعوا يومًا 3: 289 - 290 ح 955، النسائي الحج، باب رمي الرعاة 5: 221، ابن ماجه المناسك، باب تأخير رمي الجمار من عذر =
الحديث رواه أيضًا مالك والشافعي عنه وأحمد والحاكم كلهم من حديث أبي البداح عن عاصم ابنه، أو عن عدي أبيه على اختلاف في ذلك، وأبو البداح ذكره ابن حبان في التابعين قال: وقد يقال إن له صحبة، وفي القلب منه شيء لكثرة الاختلاف في إسناده، وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأية ساعة شاءوا من النهار" رواه الدارقطني (1) وإسناده ضعيف.
وعن ابن عمر رواه البزار بإسناد حسن والحاكم والبيهقي (2).
وفيه دلالة على الترخيص لرعاة الإبل في البيتوتة، وفي تقديم الرمي عن وقته للعذر.
606 -
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم النحر" الحديث متفق عليه (3).
في الحديث دلالة على شرعية الخطبة يوم النحر -وقد تقدم ذلك ولفظه صلى الله عليه وسلم: "أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه
= 2: 1010 ح 3037، أحمد 5: 450 مالك الحج، باب الرخصة في رمي الجمار 1: 408 ح 218، الحاكم المناسك 1: 478، ابن حبان، باب رمي الجمار أيام التشريق ذكر الإباحة للراعي بمكة أن يجمعوا رمي الجمار فيرمونه اليومين في يوم 6: 74، 75 ح 3877.
(1)
الدارقطني 2: 276 ح 184.
(2)
كشف الآثار 2: 32 ح 1139، البيهقي 5:151.
(3)
البخاري الحج، الخطبة أيام منى 3: 573 ح 1741 ومسلم كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال 3: 1307 ح 31 - 1679.
بغير اسمه، قال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، قال: أليست بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كُفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" أخرجه البخاري.
وأخرج نحوه من حديث ابن عباس (1)، ومن حديث ابن عمر مصرح (2) بذكر يوم النحر إلا في لفظ لابن عمر فقال:"أيام منى".
وأخرج أحمد (3) من طريق أبي حمزة الرقاشي عن عمه قال "كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق إذ ورد عنه الناس. . . ." فذكر نحو حديث أبي بكرة.
وقوله "أوسط أيام التشريق" تدل على وقوع ذلك في اليوم الثاني أو الثالث، والجمع بين الروايتين بأنه تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم في اليومين.
وفي قوله "خطبنا": دلالة على أنها خطبة مشروعة، وفي ذلك الرد على من قال ليست بخطبة مشروعة، وإنما هي من الوصايا العامة لا على (أ) أنها مشروعة في الحج كما قالت (ب) المالكية والحنفية إن خطب الحج ثلاث سابع ذي الحجة، ويوم عرفة بها، وثاني يوم النحر بمنى،
(أ) سقط من هـ: (على).
(ب) هـ: (قال).
_________
(1)
البخاري كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى 3: 573 ح 1739.
(2)
البخاري (السابق) 3: 574 ح 1742.
(3)
أحمد 5: 72.
وخالفهم الشافعي فزاد الرابعة يوم النحر، وقال: الخطبة ليست في ثاني وإنما هي في ثالثه لأنه أول النفر.
وقال الطحاوي: إنه لم يبين صلى الله عليه وسلم في يوم (أ) النحر شيئًا مما يتعلق بالحج، وإنما ذكر فيها وصية عامة فعرفنا أنها لم يقصد لأجل الحج، وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم شهر ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة بتسميتها خطبة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الوصية العامة في خطبة يوم عرفة، وفي خطبة ثاني النحر كما في رواية ابن ماجه في خطبة عرفة من حديث ابن مسعود (1)، وعند أحمد من حديث نبيط بن شريط مع أنه قال في خطبة يوم النحر:"خذوا عني مناسككم"(2) والله أعلم.
607 -
وعن سراء بنت نبهان قالت: "خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الرُّؤوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق" الحديث رواه أبو داود (3) بإسناد حسن.
سراء بفتح السين وتشديد الراء والمد، ونبهان بفتح النون وسكون الباء الموحدة، روى عنها ربيعة بن عبد الرحمن الغنوي.
الحديث فيه دلالة على شرعية الخطبة في اليوم الثاني من أيام النحر، وهي الخطبة الرابعة كما تقدم، وقوله "يوم الرؤوس" المراد به ثاني النحر بالاتفاق.
(أ) هـ: (في أيام).
_________
(1)
ابن ماجه كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر 2: 1016 ح 3057.
(2)
أحمد 4: 305، 306.
(3)
أبو داود والمناسك، باب أي يوم يخطب بمنى 2: 488 - 489 ح 1953.
وقوله " أوسط أيام التشريق" أي أفضل أيام التشريق، ويحتمل أن يكون المراد أنه متوسط فيها، فيدل ذلك على أن يوم النحر منها، ولفظ حديثها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتدرون أي يوم هذا؟ -قالت وهو اليوم الذي تدعون يوم الرُّؤوس- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أوسط (أ) أيام التشريق (1) أتدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا المشعر الحرام، ثم قال: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد هذا، ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا حتى تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلغت" فلما قدمنا المدينة لم يلبث إلا قليلًا حتى مات صلى الله عليه وسلم.
608 -
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك" رواه مسلم (2).
الحديث فيه دلالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة، وهذا ذهب إليه الشافعي وأصحابه ومالك وأحمد وإسحاق وداود، وهو محكي عن ابن عمر وجابر وعائشة، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وزيد بن علي والهادي والناصر، وهو محكي عن علي رضي الله عنه ورواه عن فعل (ب) النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود والشعبي
(أ) هـ، حـ:(وسط).
(ب) سقط من جـ: (فعل).
_________
(1)
إلى هنا عند أبي داود في المطبوع فلعله في سنن أبي داود بالروايات الأخرى.
(2)
مسلم الحج، باب بيان وجوه الإحرام إلخ 2: 880 ح 133 - 1211 م (بنحوه).
والنخعي إلى أنه لا بد من طوافين وسعيين قالوا لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في الآية على ذلك إذ التمام حاصل، وإن كفى لهما طواف واحد، والأحاديث متضافرة على نحو حديث عائشة من رواية ابن عمر وجابر وغيرهما.
واعلم أنه يرد على هذا الحديث المعارضة بما روي من حديثها أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمرها من التنعيم، وأمر أخاها عبد الرحمن أن يردفها وانتظرها بالمحصب، قالت (أ): ينصرف الناس بحجة وعمرة وأنا أنصرف بحجة (2).
والجواب عن ذلك بما ثبت من مجموع روايات في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها كانت من جملة من أحرم بالحج أولًا ثم أُمِرَتْ بنسخ الحج إلى العمرة ثم تعذر عليها التحلل بأعمال العمرة لما نفست فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترفض العمرة وتغسل رأسها وتحرم بالحج، ثم لما طهرت بعرفات أتمت الحج وطافت وسعت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأنه يكفيها الطواف والسعي للحج والعمرة، وذلك لأن العمرة لما أحرمت بالحج قبل التحلل من العمرة فصدق عليها أنها أولًا متمتعة عند أن (ب) فسخت الحج وأحرمت بالعمرة كما فعل غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه، فلما تعذر التحلل منها وأحرمت بالحج صارت قارنة فكفاها الطواف والسعي.
(أ) في جـ: (لما قالت).
(ب) هـ: (قبل).
_________
(1)
البقرة الآية 196.
(2)
البخاري الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت بمعناه 3: 586 ح 1762، مسلم الحج، باب بيان وجوه الإحرام. . . .، 2: 880 ح 134 - 1211.
وقولها "أينصرف الناس بحج وعمرة" أرادت بذلك أينصرفون بحج مفرد وعمرة منفردة، وهي لم تفردهما فأمرها بإفراد العمرة من التنعيم ليكون لها ما لغيرها.
وقولها "أينصرف الناس" ولم تقل أتنصرف أنت دليل على أنها قد وافقته في القرآن بينهما، وفاتها ما فعل الناس، وقد تبين لها أن ما فعله الناس أفضل في حقهم لموافقتهم لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من التحلل بالعمرة مفردة، فحصل بما قلناه الجمع بين الروايات التي ظاهرها الاختلاف (1)، وكان حيضها يوم السبت عاشر ذي الحجة، وهو يوم النحر، وهذا قول محمد بن حزم، وأخرج مسلم عنها (2) أن حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكة، وبين سرف ومكة قيل ستة أميال، وقيل سبعة، وقيل تسعة، وقيل عشرة، وقيل اثنا عشر ميلًا، وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها وشكواها ذلك له كان يوم التروية (3)، ووقع عند مسلم من طريق مجاهد عن عائشة أن طهرها كان بعرفة (4)، وفي رواية القاسم عنها طهرت صبيحة ليلة عرفة، وأنها تطهرت بمنى (5) واتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر ويرد على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بأن يرفضوا الحج إلى العمرة بمكة، وقد روى عنها القاسم وعمرة والأسود (6) أنهم لم يكونوا يعرفون غير الحج عند من أهلوا من الميقات حتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل، وهذا
(1) هامش طويل: لا يخفى على منصف ما في هذا من التكلف والجمع.
(2)
مسلم 2: 874 ح 121 - 1211 م.
(3)
مسلم 2: 881 ح 136 - 1211 م.
(4)
مسلم 2: 880 ح 133 - 1211 م.
(5)
الحديث في مسلم 2: 875 ح 123 - 1211.
(6)
مسلم ح 123 - 1211 م ح 125 - 1211 م ح 128 - 1211 م 2: 874.
حيضها كان بسرف (1)، وأجيب عن ذلك بأنه روى عروة وجابر وطاوس ومجاهد عنها (2) أنها كانت محرمة بعمرة عند إن حاضت، ورواته هو الأرجح من حيث إن فيهم جابرًا، وهو حاضر وقت ذلك، والجواب أنه لا مخالفة حينئذ بين الروايات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان خيرهم وهم بسرف بين البقاء على الحج وفسخه إلى العمرة، ثم أمرهم أمرًا جازمًا بعد دخوله إلى مكة بعائشة لشدة فهمها لما قصده النبي صلى الله عليه وسلم وإدراكها لجودة فطنتها ونور بصيرتها ما ينتهى إليه الأمر من العزيمة بذلك سارعت برفض الحج والإحرام بالعمرة وهي بسرف ظاهرًا وعزمت على الطواف والسعي ثم حصل معها المانع من التحلل وخشيت فوات الحج فأمرها برفض العمرة أي تأخير أعمالها عن أعمال الحج، والإحرام بالحج، وبهذا التأويل يندفع الإشكال وتلتئم الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف، وفي هذه القصة دلالة على أن المتمتعة والقارنة إذا رفضتا العمرة التي بعد الحج فهما باقيتان على حكمهما، وأن ذلك تأخير لا رفض في الحقيقة، وظاهر قصة عائشة أنه لا يجب الدم إذ لم يذكر في شيء من الروايات أنه أمرها بالدم، والله أعلم.
609 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع التي أفاض فيه" رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم (3).
(1) مسلم 123 - 1211 م.
(2)
مسلم 2: 872 ح 115 - 1211 م جابر عند مسلم 2: 881 ح 136 - 1213 طاوس ح 132 - 1211 م 133 - 1211 م.
(3)
أبو داود الحج، باب الإفاضة في الحج 2: 509 ح 2001، النسائي المناسك (كما في تحفة الأشراف 5917)، ابن ماجه المناسك، باب زيارة البيت 2: 1017 ح 3060، الحاكم المناسك 1:475.
وفي معناه حديث ابن عمر في الصحيحين "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج والعمرة أول ما قدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط بالبيت ويمشي أربعًا"(1).
والحديث فيه دلالة على أنه لا يشرع الرمل في طواف الزيارة، وهو مذهب الجمهور، وفي أحد قولي الشافعي أنه إذا لم يرمل في طواف القدوم أو لم يضطبع فيه فعل ذلك في طواف الإفاضة، والجواب أنه لا دليل على ذلك فيقتصر على الدليل، والسُّبُع بضمتين والإسكان تخفيف جزء من سبعة أجزاء والجمع أَسْبَاع، وفيه لغة ثالثة سَبِيع مثل كريم كذا في المصباح.
610 -
وعن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إِلى البيت فطاف به" رواه البخاري (2).
الحديث فيه دلالة على أنه يشرع فعل الصلوات المذكورة والنزول بالمحصب والمحصب بحاء وصاد مهملتين ثم باء موحدة هو: الأبطح، وهو ما انبطح من الوادي واتسع، وهو خيف بني كنانة، وأصل الخيف ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل، وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار في يوم النفر بعد الزوال، وأخر صلاة الظهر حتى وصل المحل المذكور فصلى فيه، واختلف في التحصيب هل هو مستحب فعله النبي صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك، أو هو غير مستحب وفعله النبي
(1) البخاري الحج، باب مَنْ طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته. . . .، 3: 477 ح 1616، مسلم الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة. . . .، 2: 920 ح 231 - 1261 م.
(2)
البخاري الحج، باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح 3: 590 ح 1764.
- صلى الله عليه وسلم اتفاقًا أو لغرض آخر غير الاستحباب فذهب إلى أنه سنة ابن عمر قال نافع: "وقد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وأراد (أ) ابن عمر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله، وهذا من جملتها، وذهب ابن عباس وعائشة إلى أنه ليس من المناسك المستحبة، ولعلهما أرادا أنه ليس من المناسك التي تلزم في تركها لازم لا أنه لا يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإن كان ظاهر كلام ابن عباس في قوله "ليس التحصيب بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1)، وقول عائشة "والله ما نزلها إلا من أجلي" (2) إن ذلك ليس بمستحب، وإنما هو من ضروريات الجبلة التي لا يتأسى فيها، ولكنه يرد عليهما اعتياد الخلفاء لذلك (3)، فإنه لولا فهم الشرعية لما واظبوا على ذلك، ولأبانوا للناس أنه ليس بمشروع، وذهب مالك والشافعي والجمهور إلى استحبابه، وأنه لا شيء على تركه إجماعًا، والله أعلم.
611 -
وعن عائشة رضي الله عنها "أنها لم تكن تفعل ذلك -أي النزول بالأبطح- وتقول: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان منزلًا أسمح لخروجه" رواه مسلم (4).
قولها "أسمح" أي أسهل لخروجه من مكة راجعًا إلى المدينة وقيل إن الحكمة في نزوله صلى الله عليه وسلم إظهار لشكر نعمة الله -تعالى- عليه، وعلى
(أ) هـ: (وزاد).
_________
(1)
البخاري الحج، باب المحصب 3: 591 ح 1766، مسلم الحج، باب استحباب النزول بالمحصب 2: 952 ح 341 - 1312.
(2)
انظر: الفتح 3: 591.
(3)
انظر مسلم الحج، باب استحباب النزول بالمحصب .... ، 2: 951 ح 337 - 1310.
(4)
مسلم الحج، باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة به 2: 951 ح 340 - 1311 م.
المؤمنين حيث أظهره على عدوه وأتم له نوره ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فإن خيف بني كنانة هو المحل الذي تقاسم قريش وتعاهدوا على إخراج بني هاشم وبني المطلب من مكة إليه وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة وكتبوا أنواعًا من الباطل وقطيعة الرحم فأرسل الله -تعالى- الأرضة فأكلت كل ما فيها من كفر وقطيعة رحم وباطل وتركت ما فيه من ذكر الله -تعالى- فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبر به عمه أبا طالب فجاء إليهم أبو طالب فأخبرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوه كما أخبر، والقصة مشهورة، ومن هذا يؤخذ الاستحباب لنزوله إذ النعمة عامة للأمة إلى يوم القيامة.
612 -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إِلا أنه خفف على الحائض" متفق عليه (1).
قوله "أمر" بتغيير الصيغة كذا في رواية عبد الله بن طاوس والمراد بالفاعل المحذوف هو النبي، صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله "خفف على الحائض".
وقد رواه سفيان أيضًا عن سليمان الأحول عن طاوس وصرح فيه بالرفع ولفظه عن ابن عباس كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم وأحمد (2) وهذا يدل على وجوب طواف الوداع، وقد قال به الجمهور من السلف والخلف، وذهب إليه الهادي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد، والخلاف في ذلك للناصر ومالك وابن المنذر، وقول للشافعي قالوا: لأنه
(1) البخاري الحج، باب طواف الوداع 3: 585 ح 1755، مسلم الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 2: 963 ح 380 - 1328 م.
(2)
مسلم الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض 2: 963 ح 379 - 1327، أحمد 1:222.
لو كان واجبًا لما خفف عن الحائض كغيره من سائر المناسك، والجواب أن التخفيف دليل الوجوب إذ لو كان غير واجب لما أطلق عليه لفظ التخفيف، ومن ودع ثالث النحر أجزأه إجماعًا إن نفر، ومذهب الهادوية والشافعي لا يجزئ التوديع يوم النحر لقوله صلى الله عليه وسلم "فإنه آخر نسك في الحج" ولم يكن حينئذٍ آخر نسك ويلزم على هذا أن لا يصح في ثاني النحر.
وقال العثماني من أصحاب الشافعي: إنه يجزئ يوم النحر إذ هو مشروع للمفارقة وهذا قد فارق، والجواب أنه مشروع بعد استيفاء المناسك ولو بقي بعد أن طاف، واشتغل بشراء زاد أو صلاة جماعة لم يعده، وذهب عطاء إلى أنه يعيده، وقال الشافعي وأحمد إذا أقام بعده لتمريض أو نحوه أعاده، قلنا إن أقام أيامًا.
وقال أبو حنيفة: لا يعيد ولو أقام شهرين ولا يلزم المعتمر لفعل علي وابن عمر وعائشة. ولأن الدليل لم يرد إلا في الحاج، وقال الثوري يجب على المعتمر وإلا لزمه دم، وكذا لا يلزم من فسد حجه إذ شرع للمفارقة وهو يجب عليه العَوْد، وكذا المكي ومن ميقاته داره إذ هو للتوديع وهما مقيمان، وكذا من أراد الإقامة بمكة.
وقوله "إِلا أنه خفف على الحائض" فيه دلالة على عدم وجوبه عليها وأنه لا يجب الانتظار حتى تطهر ولا دمَ عليها إذ الظاهر أنه ساقط من أصله، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من السلف والخلف، والخلاف مروي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت.
قال ابن المنذر: قال عامة فقهاء الأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع روينا عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضًا لطواف الوداع فكأنهم أوجبوه
عليها بعد طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة قالت:"حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت قالت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحابستنا هي؟ قلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: فلتنفر إذًا"(1) انتهى.
وقد أخرج أبو داود أن الحارث بن عبد الله بن أوس (أ) الثقفي سأل عمر عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض قال: "ليكن آخر عهدها بالبيت" فقال الحارث: كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقد أخرجه أحمد والنسائي والطحاوي (3)، وقال الطحاوي: وحديث عائشة وحديث أم سليم، وكذا حديث ابن عباس ناسخ لهذا إن كان هذا في حجة الوداع، وقد احتج ابن عباس على زيد بن ثابت وقال: سل أم سليم وصواحبها هل أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فسألهن، فقلن: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك (4)، وللنسائي "فرجع وهو يضحك، فقال الحديث كما حدثتني".
613 -
وعن ابن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إِلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي
(أ) هـ: (أويس).
_________
(1)
البخاري الحج، باب الإدلاج من المحصب 3: 595 ح 1771.
(2)
أبو داود المناسك، باب الحائض تخرج بعد الإفاضة 2: 511 ح 2004.
(3)
النسائي الكبرى (كما في تحفة الأشراف 3278)، أحمد 3:416.
(4)
البخاري الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت، 3: 586 ح 1758 - 1759.
بمائة صلاة". رواه أحمد وصححه ابن حبان (1).
وأخرجه بهذا اللفظ أيضًا الطيالسي وعَبْد بن حميد وابن زنجويه وابن خزيمة والطحاوي والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان والضياء.
وقد اختلف عن ابن الزبير في رفعه ووقفه، قال ابن عبد البر (2): ومن رفعه أحفظ. ومثله لا يقال من قبل الرأي. قال ابن حزم (3): ورواه ابن الزبير عن عمر بن الخطاب بسند كالشمس من الصحة، ولا مخالف لهما من الصحابة فصار كالإجماع، وقد روي بألفاظ كثيرة عن جماعة من الصحابة وعددهم فيما اطلعت خمسة عشر صحابيًا وهم: أنس، وجابر، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأم الدرداء، وعائشة، وابن الزبير، وجبير بن مطعم، وميمونة أم المؤمنين، وسعد بن أبي وقاص، والأرقم، وأبو سعيد، وأبو ذر، وعمر بن الخطاب، والألفاظ فيها اختلاف ولنذكر الألفاظ الواردة وهي:
"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" أخرجه الطيالسي وأحمد وابن أبي شيبة وابن منيع والروياني وابن خزيمة والطبراني في الكبير وأبو نعيم والضياء عن جبير بن مطعم (4).
وابن أبي شيبة والطيالسي وأحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي عن
(1) أحمد 4: 5، معاني الآثار 3: 127، الطبراني في الكبير 2: 137، 138، سنن البيهقي الحج، باب فضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم 5:246.
(2)
التمهيد 6: 28، 29.
(3)
المحلى 7: 451.
(4)
الطيالسي ص 128 ح 950، أحمد 4:80.
ابن عمر (1).
وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة (2).
وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن ابن عباس عن ميمونة أم المؤمنين (3).
وأحمد وأبو يعلى والضياء عن سعد بن أبي وقاص (4).
والشيرازي في "الألقاب" عن عبد الرحمن بن عوف.
وابن أبي شيبة عن عائشة (5).
وأحمد وأبو عوانة والطبراني في الكبير والحاكم والبارودي وابن قانع والضياء عن يحيى بن عيزار عن عثمان بن الأرقم الأرقمي عن عمه عبد الله بن عثمان، وعن أهل بيته عن جده عثمان بن الأرقم عن الأرقم
(1) مسلم الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة 2: 1013 ح 509 - 1395، ابن ماجه إقامة الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام. . . .، 1: 451 ح 1405، النسائي المناسك، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 5: 213، أحمد 2: 53، ابن أبي شيبة 2:371.
(2)
البخاري فضل الصلاة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 3: 63 ح 1190، ومسلم الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة، 2: 1013 ح 508 - 1394، الترمذي المناقب، باب في فضل المدينة ح 3916، النسائي المناسك، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 5: 214 (ط دار الفكر)، ابن ماجه إقامة الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم 1: 450 ح 1404، أحمد 2:256.
(3)
مسلم الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة 2: 1014 ح 510 - 1396، النسائي المناسك، باب فضل الصلاة في المسجد الحرام 5: 213 (ط الفكر)، ابن أبي شيبة 2: 371، أحمد 6/ 334.
(4)
أحمد 1: 184.
(5)
ابن أبي شيبة 2: 371.
"صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فهو أفضل"(1).
أخرجه البيهقي وابن زنجويه عن ابن عمر: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه".
أخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي والشاشي وابن زنجويه والضياء عن جابر: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإني آخر الأنبياء، إن (أ) مسجدي آخر المساجد"(2).
أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة "صلاة في هذا المسجد أفضل من مائة صلاة في غيره إلا المسجد الحرام"(3).
أخرجه أبو يعلى والطحاوي وابن حبان والضياء عن أبي سعيد: "صلاة في مسجدي تزيد على سواه من المساجد ألف صلاة غير المسجد الحرام".
أخرجه الطبراني في الكبير عن جبير بن مطعم "صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس ولنعم المصلى، وليوشكن أن يكون للرجل (ب) مثل بسط فرشه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس
(أ) سقط من هـ: (إن).
(ب) هـ: (الرجل).
_________
(1)
الحاكم 3: 504، الطبراني في المعجم الكبير 1: 306: 307 ح 907 (الطبعة الثانية) مشكل الآثار 1: 247.
(2)
ابن ماجه إقامة الصلاة، باب ما جاء في فضل المسجد الحرام .... ، 1: 451 ح 1406 (مختصرًا)، أحمد 3: 343، 397 (مختصرًا).
(3)
رواه مسلم والنسائي.
خير له من الدنيا جميعًا" (1).
أخرجه الحاكم عن أبي ذر: "صلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه"(2).
الطحاوي عن عمر.
"صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس، ولنعم المصلى في أرض المحشر والمنشر، وليأتين على الناس زمان ولقيد سوط الرجل حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعًا" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر (3).
"صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، وصلاة في مسجدي ألف صلاة وصلاة في بيت المقدس خمسمائة صلاة" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر (4)، وفيه إبراهيم بن أبي حية واهٍ.
وأخرج حديث أبي الدرداء أحمد والطبراني في الكبير بسند حسن.
وحديث أم الدرداء أخرجه ابن عساكر في الإيجاز.
ولفظ حديث أبي الدرداء "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة"(5).
وحديث أنس لفظه: "صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في
(1) المجمع 7:4.
(2)
الحاكم 4: 509.
(3)
شعب الإيمان للبيهقي 3: 486 ح 4145.
(4)
الخطيب 4: 162، 14 - 145، البيهقي في الشعب 3: 486 ح 4144.
(5)
مجمع الزوائد 4: 7، مشكل الآثار 1:248.
مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاة في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى خمسة آلاف صلاة، وصلاته في مسجدي هذا بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة" أخرجه ابن ماجه وابن زنجويه وابن عدي وابن عساكر، وإسناده ضعيف (1).
وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها ضعف، ولكنها يقوي بعضها بعضًا، دالة بمجموعها على قدر مشترك، وهي أفضلية المساجد الثلاثة على غيرها من مساجد الأرض وتفاضلها فيما بينها، وأكثر هذه الألفاظ المتقدمة تدل على أفضلية مكة، فإن الظاهر أن أفضلية المسجد لأفضلية المحل (2).
قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى (3) -: إن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع أرض.
واختلفوا في أفضلهما ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم فقال أهل مكة والكوفة والشافعي وابن وهب وابن حبيب المالكيان إن مكة أفضل، ويحتج على ذلك بحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بمكة يقول:"والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله (أ)، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الترمذي
(أ) هـ: (والله إنك لخير الأرض، والله إنك أحب الأرض إلى الله).
_________
(1)
ابن ماجه إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة بالمسجد الجامع 1: 453 ح 1413.
(2)
ابن ماجه إقامة الصلاة، باب ما جاء في الصلاة بالمسجد الجامع 1: 453 ح 1413.
(3)
في شرح النووي ساق الإجماع على ذلك نقلًا عن القاضي عياض وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية .. وهو قول لم يسبق إليه أحد ممن علمنا، ولا صحة عليه.
والنسائي (1).
قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح.
وذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى أن المدينة أفضل، وقد تقدم في هذا بحث في آخر الاعتكاف.
واعلم أنه قد قيل في قوله في تفضيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على غيره من المساجد إن المساجد المراد بها المعهودة، وهي مساجد الأنبياء كما نقله الطبري عن أبي حاتم، فالألف واللام لمعهود، ويدل على قصد العهد ما وقع في حديث الأرقم لما ودع النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنه يريد بيت المقدس، فأجاب عليه بأن (أ) الصلاة في مسجده تزيد على غيره بألف (2) فدل على أنه صلى الله عليه وسلم قصد بالغير بيت القدس، فعلى هذا فالعدد المذكور في زيادة الصلاة في مسجده إنما هو بالنظر إلى القدر الذي فضل به صلاة بيت المقدس مثلًا، وقد ذكر في ذلك ألفاظ مختلفة إن الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة، وإن الصلاة فيه بألف، وإن الصلاة فيه بخمسة آلاف ولا منافاة في العدد القليل والكثير إذ الواجب اطراح مفهوم العدد والعمل بالمصرح به (ب)، فيتعين الأكثر، فحيئنذٍ الصلاة في مسجد المدينة تزيد على الصلاة في بيت المقدس بألف صلاة وهي في بيت المقدس بخمسة آلاف فتكون الصلاة في مسجد المدينة بخمسين ألفًا يعني
(أ) سقط من هـ: (بأن).
(ب) سقط من هـ: (بها).
_________
(1)
الترمذي المناقب، باب فضل مكة ح 3925، النسائي الكبرى المناسك (كما في تحفة الأشراف ح 6641)، ابن ماجه المناسك، باب فضل مكة 2: 1037 ح 3108.
(2)
تقدم.
إذا كانت في بيت المقدس بخمسمائة لا (أ) إذا كانت في بيت المقدس بخمسة آلاف، والصلاة في المسجد الحرام تزيد عليه بمائة صلاة فتكون بخمسمائة ألف ألف صلاة، والفضيلة متناولة للمسجد الكائن في زمنه صلى الله عليه وسلم بلا شك.
قال النووي (1): ويقتصر عليه دون ما زيد فيه فلا يكون له ذلك الحكم قال لقوله "في مسجدي" بالإضافة وهي للعهد إلا أنه قد يقال فائدة الإضافة الدلالة على اختصاصه دون غيره من سائر المساجد التي في المدينة لا للاحتراز عما زيد فيه، وقد سئل مالك عن ذلك فيما قاله ابن نافع صاحبه فقال: بل هو يعني المسجد الذي جاء فيه الخبر على ما هو عليه الآن لأن (ب) النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها، وتحدّث بما يكون بعده، ولولا هذا لما استخار الخلفاء الراشدون أن يزيدوا فيه بحضرة الصحابة، ولم ينكر عليهم منكر، انتهى (2).
ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة ويحيى والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة مرفوعًا "لو مد هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي" زاد ابن أبي شيبة ويحيى، وكان أبو هريرة يقول "لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عَدوت أن أصلى فيه"، وفي سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو واهٍ (3).
وليحيى: حدثنا هارون بن موسى الفروي عن عمر بن أبي بكر
(أ) هـ: (كما).
(ب) هـ: (إلا أن).
_________
(1)
شرح مسلم 3: 539.
(2)
يراجع التمهيد 6: 16، 1728، 29.
(3)
هو عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري أبو عباد قال فيه الذهبي: واهٍ بمرة، وقال ابن حجر: متروك، (ميزان الاعتدال 2: 429، تقريب التهذيب 1: 419).
الموصلي عن ثقات من علمائه مرفوعًا: "هذا مسجدي، وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ مسجدي صنعاء كان مسجدي" وهو معضل.
وله ولابن أبي شيبة عن ابن أبي عمرة قال "زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وزاد يحيى: "وخبأه الله بعامر" وفيه عبد العزيز بن عمران المدني متروك (1).
ولهما عن ابن أبي ذئب -وهو محمد بن عبد الرحمن الفقيه المشهور- قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو مُدَّ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان هو منه" وهو معضل أيضًا، لكن ينجبر ذلك بما أشار إليه مالك، وقد سلم النووي عموم المضاعفة لما زيد في المسجد الحرام.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: وهو الذي يدل عليه كلام المتقدمين وعملهم وكان الأمر عليه في زمن عمر وعثمان فزادا في قبلة المسجد وكان مقامهما في الصلوات والصف الأول الذي هو أفضل ما يقام به في الزيادة قال: وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، وما علمت سلفًا (أ) لمن خالف من المتأخرين، ونقل البرهان ابن فرحون أنه لم يخالف في ذلك إلا النووي وأن المحب الطبري (ب في الأحكام ب) نقل رجوعه عن
(أ) هـ: (سالفًا).
(ب - ب) سقط من جـ، هـ.
_________
(1)
هو عبد العزيز بن عمران الزهري المدني قال فيه البخاري: لا يكتب حديثه، وقال النسائي وغيره: متروك (ميزان الاعتدال 2: 632).
ذلك. وفيه نظر فقد نقل ابن الجوزي الخلاف في ذلك عن ابن عقيل الحنبلي، والذي في الأحكام للطبري في بيان أن المضاعفة تعم ما زيد في المسجد النبوي بعد ذكر بعض الأخبار والآثار السابقة، وقد يتوهم بعض من لم يبلغه ذلك قصر الفضيلة على الموجود في زمنه رضي الله عنه، وقد وقع ذلك لبعض أئمة العصر فلما رويت له ما سبق جنح إليه وتلقاه بالقبول. انتهى. قال (أ) النووي (1): والمضاعفة المذكورة تعم الفرض والنفل خلافًا للطحاوي وغيره من المالكية، ولا ينافي ذلك تفضيل للنفل بالبيت لحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" إذ غايته أن للمفضول مزية هي المضاعفة ليست للفاضل، ومزية الفاضل أرجح منها كما قاله الزركشي وغيره، وقال المصنف -رحمه الله تعالى (2): يمكن إبقاء حديث "أفضل صلاة المرء" على عمومه فتكون النافلة في بيته بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين وإن كانت في البيوت أفضل مطلقًا والتضعيف المذكور يرجع إلى الثواب لا إلى (ب) الإجزاء عما في الذمة من المقضيات إجماعًا خلاف ما يوهمه قول النقاش:"حسبت الصلاة بالمسجد الحرام فبلغت صلاة واحد به عُمِّر (جـ) خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة" انتهى (د).
(أ) الفقرة المشار إليها من هنا تأخرت في جـ إلى ما بعد قوله: (كما تقدم في حديث لا تشد الرحال
…
الحديث).
(ب) سقط من هـ: (إلى).
(جـ) آخر الفقرة المتأخرة في جـ.
(د) هـ: (عن).
_________
(1)
شرح مسلم 2: 537.
(2)
الفتح 3: 68.
والمراد بالمسجد الحرام الكعبة فقط عند العمراني وجماعة إلا أن المرجح خلافه، ويدل للأول ما تقدم أن الألف واللام للمساجد المعهودة وهي مساجد الأنبياء وقرن الكعبة بالمسجد النبوي في الحديث، ورواية النسائي وغيره للحديث:"إلا مسجد الكعبة" بدل المسجد الحرام، ورواية يحيى إلا الكعبة.
وقال الإمام الهدي في "البحر": ولو قيل إنه المسجد لصح إن لم (أ) يمنع منه إجماع مع أنه لا إجماع إذ قد ذكره في الكشاف والحاكم صاحب التفسير المسمى بالتهذيب، وفي الصحيحين أيضًا أنه قال صلى الله عليه وسلم "بينا أنا في المسجد الحرام في الحِجْر بين النائم واليقظان أتاني جبريل بالبراق"(1) ففيه دلالة على أن المسجد الحرام هو محل الصلاة حول الكعبة، أو (ب) المراد به الحَرَم المحرم كما تقدم في حديث: "لا تشد الرحال
…
" الحديث، ثم إن هذا التضعيف لا يختص بالصلاة كما صرح بمثله في مكة قال في "الإحياء" (2): "والأعمال في المدينة تتضاعف" وذكر حديث "صلاة في مسجدي بألف صلاة فيما سواه" ثم قال: "فكذلك كل عمل بالمدينة بألف".
وصرح به أيضًا أبو سليمان داود الشاذلي من المالكية، ويشهد له ما
(أ) سقط من جـ: (لم).
(ب) هـ، جـ:(و).
_________
(1)
الحديث في الصحيحين بلفظ: "عند البيت": البخاري بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 6: 302 ح 3207، ومسلم الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات .... ، 1: 150 ح 264 - 164.
(2)
إحياء علوم الدين 1: 250 (بنحوه).
روى البيهقي (أ) عن جابر مرفوعًا: "الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل مِنْ ألف شهر رمضان فيما سواه إلا السجد الحرام"(ب)، وعن ابن عمر نحوه.
وللطبراني في الكبير عن بلال بن الحارث (1) مرفوعًا: "رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان" وهو في (جـ) شرف المصطفى عليه السلام، ولابن الجوزي عن ابن عمر إلا أنه قال:"كصيام ألف شهر" وقال "كألف صلاة فيما سواها" وضعف هذه الأحاديث ينجبر بالقياس على الصلاة.
وذكر المصنف -رحمه الله تعالى- هذا الحديث في هذا الباب لدلالته على فضيلة مكة المشرفة التي هي محل (د) لمناسك الج، وإن كان الأنسب ذكر مثل هذا في كتاب الصلاة.
واشتمل هذا الباب (هـ) على سبعة وثلاثين حديثًا.
(أ) سقط من جـ: (البيهقي).
(ب) سقط من هـ: (الحرام).
(جـ) جـ: (في كتاب).
(د) سقط من جـ: (محل).
(هـ) سقط من جـ: (الباب).
_________
(1)
الطبراني 1: 359 ح 1144.