المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الاعتكاف وقيام رمضان - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٥

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌باب الاعتكاف وقيام رمضان

‌باب الاعتكاف وقيام رمضان

الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه (1). وشرعًا (2): القيام في المسجد مِنْ شَخْصٍ مخصوص على صِفَةٍ مخصوصة.

وليس بواجب إجماعًا إلا على منْ نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدًا عند قوم.

وقيام رمضان: المراد قيام لياليه مصليًا، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام، وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل، ولعل المراد أن يكون في أكثر الليل، وذكر النووي أن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن (أ) قيام رمضان لا يكون إلا بها.

وأغرب الكرماني فقال: اتفمْوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، واختلف في شرط الصوم له، وانفرد سُوَيْد بن غفلة باشتراط الطهارة له، ولا خلاف في شرعيته إلا ما روي عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة ألا يوفي شروطه.

537 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إِيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه (3).

(أ) هـ، جـ:(لأن).

_________

(1)

لسان العرب 4: 3058 (ط. د. المعارف)(عكف).

(2)

المصباح المنير للفيومي 2: 580 (عكف).

(3)

البخاري صلاة التراويح، باب فضل مَنْ قام رمضان 4: 250 ح 2009، مسلم صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح 1: 523 ح 173، 174 - 759.

ص: 135

قوله: "من قَامَ رمضان" قد عِرفتَ معنى القيام.

وقوله: "إِيمانًا" أي تصديقًا بوعْد اللهِ بالثواب.

"واحتسابًا": أي طلبًا للأجر، أَي لا لقصدٍ آخر مِنْ رياءٍ أو غيره.

وقوله: "غفر له" ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر، وقال النووي (1): المعروف أنه مختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة.

قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم تصادف صغيرة، وقد تقدم مثل هذا في صوم يوم عرفة مع زيادة.

وقوله: "ما تقدم من ذنبه" وعند النسائي بزيادة: "وما تأخر"، وقد أخرج هذه الزيادة جماعةٌ من حديث سفيان بن عيينة. وأخرجها أحمد من طريق أخرى، وأخرجت من طريق مالك تفرد بها بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ولم يتابعه عليها أحد من أصحاب ابن وهب ولا من أصحاب مالك.

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتابٍ مُفْرَد"(2).

وقد أُورد على هذا بأن غفران ما تقدم معقول، ولا يعقل غفران ما تأخر فإن المغفرة تستدعي سبق شيء.

ويُجاب عنه بأن ذلك كناية عن عدم وقوع الذنب منهم في المستقبل، وأجاب الماوردي بأنها تقع منهم الذنوب مغفورة، والله أعلم.

والحديث فيه دلالة على فضيلة قيام رمضان، وتأكد شرعيته، وهو

(1) شرح مسلم 5: 40.

(2)

الفتح 252:4.

ص: 136

يحصل بصلاة التراويح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بهم ثلاث ليالٍ وترك في الليلة الرابعة خشية أن يفرض، كما أخرجه البخاري (1)، واستمر الأمر على ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وصَدْرًا من خلافة عمر حتى خرج (أ) عمر إلى المسجد في ليلة فإذا الناس أوْزَاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرج ليلة والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله، أخرجه البخاري (2).

وقد أفهم البخاري أن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح، وقد اختلف العلماء في أن صلاتها أفضل في البيوت أو في المسجد فجنح الجمهور إلى أن صلاتها في المسجد أفضل كما اختاره عمر لزوال العلة التي اقتضت أن لا يصلى في المسجد في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهو خشية الفريضة.

وعن مالك في أحد الروايتين وأبي يوسف وبعض الشافعية الصلوات في البيوت أفضل عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (3).

وبالغ الطحاوي فقال: إنَّ صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية.

(أ) ي: (عمد).

_________

(1)

البخاري صلاة التراويح، باب فضل مَنْ قام رمضان 4: 250: 251 ح 2012.

(2)

البخاري صلاة التراويح، باب فضل مَن قام رمضان 4: 250 ح 2010.

(3)

مسلم صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته. 1: 539: 540 ح 213 - 781 (بنحوه).

ص: 137

وقال ابن بطال: قيام رمضان سنة لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض.

وعند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: مَنْ كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه وصلاته (أ) في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل.

وقد اختلفت الروايات في القدر الذي كان يصلي به أُبَيُّ بن كعب، ففي الموطأ (1) أنه إحدى عشرة، ورواه سعيد بن منصور من وجه آخر وزاد فيه "وكانوا يقرؤن بالمئين ويقومون على العصا من طول القيام".

وروى محمد بن نصر المروزي أنها إحدى وعشرون، وروى مالك من طريق أخرى أنها عشرون ركعة (2)، وهذا محمول على غير الوتر. وعن يزيد بن رُومان قال:"كان الناس يقومون في زمن عمر بثلاث وعشرين"(3).

روى محمد بن نصر من طريق عطاء قال: "أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر" والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث تطول القراءة تقل الركعات وبالعكس، وبذلك جزم الداودي وغيره، والاختلاف فيما زاد على العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر، فكان تارة يوتر بواحدة وتارة يوتر بثلاث.

(أ) جـ: (فصلاته).

_________

(1)

الموطأ الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان 91 ح 4.

(2)

لم أجدها في الموطأ.

(3)

الموطأ الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان 91 ح 5.

ص: 138

وروى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال: أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يعني بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث.

وقال مالك: الأمر عندنا بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين وليس في شيء من ذلك ضيق، وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن والأول أحب إليَّ:

وقال الترمذي: "أكثر ما قيل أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة بركعة الوتر"(1)، كذا قال.

وقد نقل ابن عبد البر عن الأسود بن يزيد أربعين، ويوتر بسبع، وقيل ثمان وثلاثين ذكره محمد بن نصر عن ابن يونس عن مالك، وهذا يمكن رده إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر، لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة فتكون أربعين إلا واحدة.

قال مالك: وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة، وعن مالك ستًّا وأربعين وثلاث الوتر، وهذا (أ) المشهور عنه، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعًا وثلاثين ويوترون منها بثلاث.

وعن زرارة بن أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعًا وثلاثين ويوتر.

وعن سعيد بن جُبَيْر أربعًا وعشرين، وقيل ست عشرة غير الوتر، روي عن أبي محمد عن محمد بن نصر.

(أ) زاد هـ: (هو).

_________

(1)

الترمذي 3: 170 عقب ح 806، ولفظ الترمذي:"واختلف أهل العلم في قيام رمضان. فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر. . .".

ص: 139

وأخرج من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلات عشرة.

قال ابن إسحاق: وهذا أثبت ما سمعتُ في ذلك، وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل والله أعلم.

وأما ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر"(1) وإسناده ضعيف، وقد عارضه حديث عائشة، وهي أعرف بحال النبي صلى الله عليه وسلم.

538 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا دخل العَشْر -أي العشر الأخير من رمضان- شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" متفق عليه (2).

قوله: "إِذا دخل العشر" أي العشر الليالي.

وقوله: "أي العشر الأخير" ليس هو من لفظ الحديث في رواية عائشة، ولكنه وقع في حديث على عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق عاصم بن ضمرة عنه (3).

وقوله: "شد مئزره" أي اعتزل النساء كناية عن ذلك، وبهذا جزم عبد الرزاق (4) عن الثوري، واستُشْهِدَ بقول الشاعر:

قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم

عن النساء ولو باتت بأطهار

(1) ابن أبي شيبة 2: 394.

(2)

البخاري كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان 4: 269 ح 2024 (واللفظ له)، مسلم وفيه زيادة -الاعتكاف باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان 2: 832 ح 7 - 1174.

(3)

سنن البيهقي 4: 314.

(4)

مصنف عبد الرزاق 4: 253 ح 7702.

ص: 140

وذكره ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه (1).

وقال الخطابي (2): يحتمل أنه أراد به الجدَّ في العبادة كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي: شمرت له، ويحتمل أنه يراد مجموع الأمرين فيكون المعنى أنه شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة.

قال المصنف رحمه الله (3): وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة في حديث علي شد مئزره واعتزل النساء فعطفه بالواو وأصله المغايرة.

وقوله: "وأحيا ليله" أوقع الإحياء على الليل مجازًا عقليًّا لكونه زمانًا لإحياء نفسه فيه؛ لأن اليقظة نقيض النوم، والنوم أخو الموت، أو الإحياء استعارة، وهو أنه شبه استيقاظه في أوقات الليل بالإحياء، والمراد مِنْ أحيا الليل الشهر، وهو محتمل هل يراد أحيا الليل كله، وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ:"وأحيا الليل كله".

وفي مسند أحمد من وجه آخر عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشرون شمر وشد المئزر"(4).

وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام فإذا أربعًا وعشرين لم يذق غمضًا"(5).

ويحتمل أن يراد بإحياء الليل إحياء غالبه. وقد روى بعض المتقدمين من بني هاشم ظنه الراوي أبا جعفر محمد بن علي أنه فسر ذلك بإحياء نصف الليل، ويؤيده رواية سلمة عن عائشة: "ما أعلمه صلى الله عليه وسلم قام ليلة

(1) مصنف ابن أبي شيبة 2: 513.

(2)

انظر: معالم السنن 2: 109.

(3)

الفتح 4: 269. (بنحوه).

(4)

أحمد 6: 146.

(5)

الحلية 306:6.

ص: 141

حتى الصباح".

وقوله: "أيقظ أهله" أي للصلاة، وفي حديث زينب بنت أم سلمة عند الترمذي:"لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدكم من أهله يطق القيام إلا أقامه".

قال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أنَّ اعتزاله النساء كان بالاعتكاف وفيه نظر، لقوله "وأيقظ أهله" فإنه يشعر بأنه كان معهن في البيت، فلو كان معتكفًا لكان في المسجد ولم يكن معه أحد، وفيه نظر، فإنه يحتمل أنه كان يوقظهم وهو في محله أو يوقظهم عند دخوله لحاجة أو يأمر من يوقظهم.

539 -

وعنها رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده" متفق عليه (1).

الحديث فيه دلالة على أن الاعتكاف سنة مؤكدة مواظب عليها، فإن كان مع الفعل المضارع يدل على الاستمرار.

قال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافًا أنه مسنون (2).

وأما قول ابن نافع عن مالك: فكرتُ في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للأمر فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن، انتهى.

(1) البخاري الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأواخر. . . 4: 271 ح 2026، مسلم الاعتكاف، باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان 2: 831 ح 5 - 1172.

(2)

الفتح 4: 272.

ص: 142

وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد روي عن جماعة من الصحابة.

قال ابن العربي: هو سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال. واعتكاف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده فيه دلالة على أنه لم ينسخ، وعلى أنه ليس من الخصائص، وفيه دلالة على أن اعتكاف المرأة في المسجد غير مكروه، وقد أطلق الشافعي القول بكراهته في المسجد الذي تصلي فيه الجماعة، وقال ابن عبد البر: لولا أن ابن عيينة زاد في روايته "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه في الاعتكاف" لقطعت بأن اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة غير جائز.

وفي رواية للحنفية أنها لا تعتكف إلا في مسجد دارها، وفي رواية أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها.

540 -

وعنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه" متفق عليه (1).

في الحديث دلالة على أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي والليث والثوري وقال غيرهم إنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر إذا كان معتكفًا النهار، فإذا كان معتكفًا من الليل فيدخل قبل غروب الشمس، وأولوا الحديث بأنه طلع الفجر وهو صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يضرب له خباء في المسجد ينفرد فيه بنفسه (2)، والله أعلم.

(1) البخاري الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال 4: 283 - 284 ح 2041، مسلم الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه 2: 831 ح 6 - 1173 (واللفظ له).

(2)

البخاري الاعتكاف، باب اعتكاف النساء 4: 275 ح 2023، مسلم الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه 2: 831 ح 6 - 1173.

ص: 143

541 -

وعنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه، وهو في المسجد فأُرَجِّلُه، وكان لا يدخل البيت إِلا لحاجة إِذا كان معتكفًا" متفق عليه، واللفظ للبخاري (1).

الحديث فيه دلالة على أن المعتكف لا يخرج من المسجد بجميع بدنه، وأن خروج بعض البدن لا يضر، وعلى أنه شرع للمعتكف النظافة ويلحق به التطيب والغسل والحلق والتزين، وعلى أن الفعل اليسير من الأفعال الخاصة بالإنسان يجوز فعلها وهو في المسجد، وعلى أنه يجوز للرجل استخدام امرأته برضاها، وقولها "إلا لحاجة" يدل على أنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا للأمر الضروري الذي لا يخلو الإنسان عنه، وفي رواية مسلم "إلا لحاجة الإنسان"(2) وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن (أ) احتاج إليه، والله أعلم.

542 -

وعنها قالت: "السنة على المعتكف ألا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إِلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إِلا بصوم، ولا اعتكاف إِلا في مسجد جامع" رواه أبو داود (3)، ولا بأس برجاله إلا أن الراجع وقف آخره.

الحديث أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري

(أ) هـ: (لما).

_________

(1)

البخاري الاعتكاف، لا يدخل البيت إلا لحاجة 4: 273 ح 2029 (واللفظ له)، مسلم الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله 1: 244 ح 7 - 217.

(2)

مسلم الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها. . . 1: 244 ح 6 - 297.

(3)

أبو داود الصوم، باب المعتكف يعود المريض 2: 836: 837 ح 2473.

ص: 144

عن عائشة، قال أبو داود:"غير عبد الرحمن لا يقول فيه السنة"(1).

وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها "لا يخرج" وما عداه ممن دونها (2).

الحديث فيه دلالة على أنه لا يجوز للمعتكف الخروج لشيء مما ذكر وهو متأيد بالحديث الأول المتفق عليه.

وروي عن علي رضي الله عنه والنخعي والحسن البصري: إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضًا أو خرج للجمعة بطل اعتكافه، وبه قال الكوفيون، وابن المنذر في الجمعة، وقال الشافعي وإسحاق: إن شرط شيئًا من ذلك في ابتداء الاعتكاف لم يبطل اعتكافه بفعله، وهو رواية عن أحمد، وذهبت الهادوية إلى أن له الخروج لقضاء حوائجه وعيادة الريض وحضور الجنازة وغير ذلك في الأقل من وسط النهار قياسًا على السوم فإنه إذا سام في أكثر الحول كان له حكم الكل، كذلك هنا، ولما روي عن على أنه قال:"من اعتكف فلا يرفث ولا يسامه (أ) وليشهد الجمعة والجنازة ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس" ذكره عبد الرزاق، قالوا: ولا يقعد إن كفي القيام، ويفعل المعتاد ويرجع من غير مسجد فورًا، وهو قياس منهم على الحاجة المذكورة في الحديث، والفارق موجود بالبقاء على ما روت عائشة أولى، وفي قولها "ولا اعتكاف إلا بصوم" فيه دلالة على أن الاعتكاف شرطه الصوم، وقد ذهب إليه العترة جميعًا وابن عباس وابن عمر ومالك والنخعي والثوري وأبو حنيفة محتجين

(أ) الأصل، هـ، جـ:(يساب).

_________

(1)

أبو داود 2: 837.

(2)

الدارقطني 2: 201 ولفظه يقال: إن السنة في المعتكف إلى آخره ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنه من كلام الزهري ومن أدرجه في الحديث فقد وهم.

ص: 145

بهذا، وبقياس العكس أيضًا كما حققه أبو الحسين، قالوا لأن الصوم يجب بالنذر به إذا نذر بالاعتكاف صائما وجب إجماعًا فيجب بغير نذر قياسًا على الصلاة فإنها تجب بالنذر إذا قال: لله علي أن أعتكف مصليًا فلا تجب بغير نذر (أ).

وذهب الشافعي وموافقوه من أصحابه وغيرهم إلى أن الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر، ويصح اعتكاف ساعة واحدة، ولحظة واحدة.

وضابطه مكث يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة، ووجه عند أصحاب الشافعي أنه يصح اعتكاف المار في المسجد من غير لبث، والمشهور الأول، فينبغي لكل جالس في المسجد لانتظار صلاة أو شغل آخر من آخرةٍ أو دنيا أن (ب) ينوي الاعتكاف فيحسب له ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد، فإذا خرج ثم دخل جدد نية أخرى، وليس للاعتكاف ذكر مخصوص ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف، ولو تكلم بكلام دنيا أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها لم يبطل اعتكافه عند الجمهور، وذهب ابن (جـ) القاسم أنه (د) يختص بالصلاة وذكر الله -تعالى- وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب.

وذهب ابن وهب إلى أنه يختص بجميع أعمال البر المختصة بالآخرة، واحتج الشافعي بالحديث الآتي وباعتكافه صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من

(أ) هـ: (عذر).

(ب) هـ: (أنه).

(جـ) ي: (أبو).

(د) هـ: (أن).

ص: 146

شوال (1) مع أن أولها يوم العيد يحرم صومه، وبحديث عمر قال:"يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال: أوف بنذرك" رواه البخاري ومسلم (2).

والليل ليس محلًا للصوم، وقد تأول ذلك الأولون بأن حديث ابن عباس ليس على المعتكف صوم بمعنى أنه لا يجب عليه لعدم وجوب الاعتكاف عليه بخلاف ما إذا وجب عليه الاعتكاف فيجب عليه الصوم جمعًا بين الأدلة كذا حرره الإمام المهدي في البحر، وهو ضعيف يرده تمام الحديث "إلا أن يفرضه على نفسه" فمفهومه أن المعتكف يتم اعتكافه من دون صوم إلا أن يفرض الصوم على نفسه فيجب عليه، وهو مجمع على ذلك، ومفهوم الاستثناء منزل منزلة المنطوق، أو منطوق على الخلاف في ذلك واعتكافه في العشر الأول يحتمل المجاز، باعتبار أنه صام الحادي عشر تمامها ولم يصم يوم العيد، ولم يعتكف فيه، وهو قريب إذ لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صام يوم العيد أو اعتكف فيه، وترك الخروج للعيد، وحديث عمر أنه نذر باعتكاف ليلة يحتمل أنه أراد اليوم مجازًا مع أنه قد ورد في رواية شعبة عند مسلم يومًا بدل ليلة.

وجمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها.

وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحًا لكن إسناده ضعيف، وقد زاد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اعتكف

(1) البخاري الاعتكاف، باب الاعتكاف في شوال 4: 283: 284 ح 2041، مسلم الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه 2: 831 ح 6 - 1173.

(2)

البخاري الاعتكاف، باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم 4: 284 ح 2043، مسلم الإيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم 3: 1277 ح 27 - 1656.

ص: 147

وصم" أخرجه أبو داود والنسائي (1) من طريق عبد الله بن بديل، وهو ضعيف (2). وذكر ابن عدي والدارقطني (3) أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار إلا أنه يرد هذا ما في البخاري من رواية سلمان (أ) بن بلال أن عمر اعتكف ليلة (4) فدل على أنه لم يزد على نذره شيئًا، وسيأتي حديث عمر في آخر باب النذر إن شاء الله تعالى.

وقوله: "ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع" فيه دلالة على اشتراط المسجد الجامع.

واعلم أن العلماء اتفقوا على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في غير مسجد، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصملاة، وفيه قول قديم للشافعي، وفي وجه لأصحابه (ب)، وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد.

وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي الجامع، وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة،

(أ) هـ، جـ:(سليمان).

(ب) هـ: (للصحابة).

_________

(1)

أبو داود الصوم، باب المعتكف يعود المريض 2: 837: 838 ح 2474.

(2)

انظر: التاريخ الصغير للبخاري 1: 85، 95، 111، المحبر ص 184، المستدرك 3: 395، شذرات الذهب 1: 46، العقد الثمين 5: 118 (1494).

(3)

الدارقطني 2: 200.

(4)

البخاري الاعتكاف، باب مَنْ لم ير عليه إذا اعتكف صومًا 4: 284 ح 2042.

ص: 148

ويجب بالشروع عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقًا (1)، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة (2).

وعن عطاء بمسجدي مكة والمدينة (3)، وابن المسيب بمسجد المدينة (4)، واتفقوا على أنه لا حَدَّ لأكثره، واختلفوا في أقله فمن شرط فيه الصيام قال أقله يوم ومنهم من قال يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة.

وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يومان أو يوم.

ومن لم يشرط الصوم قالوا: أقله ما ينطلق عليه اسم لبث (أ) ولا يشترط القعود، وقيل يكفي المرور مع النية كوقوف عرفة. وروى عبد الرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي:"إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا معتكفًا"(5).

واتفقوا على فساده بالجماع حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة (6)، وعن مجاهد يتصدق بدينارين، واختلفوا في غير الجماع ففي المباشرة أقوال، ثالثها إن أنزل بطل، وإلا فلا.

(أ) ي: (الليث).

_________

(1)

مصنف عبد الرزاق 4: 348 ح 8017.

(2)

عبد الرزاق 4: 347 ح 8014.

(3)

عبد الرزاق 4: 349 ح 8018.

(4)

عبد الرزاق 4: 346 ح 8008، وعند عبد الرزاق رواية عن سعيد أنه قال: من نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه. . . (4: 350 ح 8025).

(5)

المصنف 4: 346 ح 8006.

(6)

عبد الرزاق 4: 363 ح 8080، 8079.

ص: 149

543 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إِلا أن يجعله على نفسه" رواه الدارقطني والحاكم (1) والراجح وقفه أيضًا.

تقدم الكلام عليه في الحديث الأول.

544 -

وعن ابن عمر رضي الله عنه "أن رجالًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" متفق عليه (2).

قوله: "أن رجالًا" قال المصنف -رحمه الله تعالى (3) -: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء، وأُروا بضم أوله على البناء للمجهول أي قيل لهم في المنام، والسبع الأواخر المراد به أواخر الشهر كما هو الظاهر، وقيل المراد به السبع التي أولها الثاني والعشرون وآخرها ليلة الثامن والعشرون (أ)، فعلى الأول لا تدخل فيه ليلة إحدى وعشرين ولا ليلة ثلاث وعشرين، وعلى الثاني تدخل ليلة ثاني وعشرين ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين.

(أ) هـ، ي:(والعشرين) -وهو الصواب.

_________

(1)

الدارقطني الاعتكاف، 2: 199 (3)(وقال عقبه: رفعه هذا الشيخ وغيره لا يرفعه).

والشيخ هو عبد الله بن محمد الرملي، الحاكم 1: 439 (وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، البيهقي الصيام باب من رأى الاعتكاف بغير صوم 4: 318: 319 (وقال: تفرد به عبد الله محمد بن نصر الرملي).

(2)

البخاري كتاب، فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر 4: 256 ح 2015، مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها 822:2 ح 205 - 1165.

(3)

الفتح 256:4.

ص: 150

ويرجح الوجه الأول حديث ابن عمر: "التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن علي السبع البواقي" أخرجه مسلم (1)، وقد أخرجه البخاري في باب التعبير بلفظ "أن ناسًا (أأُروا ليلة القدر في التسع الأواخر، وأن ناسًا أ) أروا أنها في العشر الأواخر"(2)، وفي رواية أحمد بلفظ "رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها" (3)، ورواه أحمد من حديث علي مرفوعًا: "إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي" (4).

ويجمع بين الروايات بأن العشر للاحتياط فيها، والتسع (ب) كذلك والسبع لأن ذلك من المظنة، وهو أقصى ما يظن فيه الإدراك.

وقوله "أرى" بفتحتين أي أعلم، و "رؤياكم" جاء بإفرادها والمراد الجنس الصادق على ما فوق الواحد، وقوله:"تواطأت" أي توافقت وزنًا ومعنى، وقال ابن التين: روي بغير همز، والصواب الهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطء صاحبه.

والحديث فيه دلالة على الحث على قيام رمضان لا سيما ما ذكر من الأواخر، وفيه دلالة على عِظَم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية.

(أ - أ) سقط من ي.

(ب) سقط من ي.

_________

(1)

مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها. . . 2: 823 ح 209 - 1165.

(2)

البخاري التعبير، باب التواطئ على الرؤيا 12: 379 ح 6991.

(3)

أحمد 60:3.

(4)

أحمد 1: 133.

ص: 151

545 -

وعن معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: "ليلة سبع وعشرين" رواه أبو داود (1)، والراجح وقفه.

وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولًا أوردتها في "فتح الباري". الحديث فيه دلالة على تعين ليلة القدر، والأقوال التي أوردها المصنف -رحمة الله تعالى عليه- في فتح الباري (2) هي:

القول الأول: أنها رفعت أصلًا ورأسًا حكاه المتولى في التتمة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنه قول الشيعة، وقد روى عبد الرزاق عن الحجاج إنكارها.

الثاني: أنها خاصة بسنَةٍ واحدة وقعت في زمن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حكاه الفاكهاني أيضًا.

الثالث: أنها خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية، وعمدتهم قول مالك في الموطأ (3).

بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقال أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا محتمل للتأويل فلا يدفع ما ورد صريحًا في حديث أبي ذر عند النسائي (4) قال: قلت: "يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: بل هي باقية".

الرابع: أنها ممكنة في جميع السنة، وهو قول مشهور عن الحنفية

(1) أبو داود الصلاة، باب من قال سبع وعشرون 2: 111 ح 1386.

(2)

الفتح 4: 262: 266.

(3)

الموطأ الاعتكاف، باب ما جاء في ليلة القدر 212 ح 15.

(4)

النسائي الكبرى الاعتكاف (كما جاء في تحفة الأشراف 9: 183 ح 11977).

ص: 152

حكاه قاضي (أ) خان وأبو بكر الداري منهم، وروي مثله عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم، وزيف المهلب هذا القول، وقال: لعل صاحبه بناه على دوران الزمان لنقصان الأهلة، وهو فاسد لأن ذلك لم يعتبر في غيره حتى تنتقل ليلة القدر عن رمضان، انتهى.

ومأخذ ابن عباس كما ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي بن كعب أنه أراد أن لا يتكل الناس (1).

الخامس: أنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، وهو قول ابن عمر، رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عنه، وروي مرفوعًا عنه، أخرجه أبو داود (2)، وفي شرح الهداية الجزم به عن أبي حنيفة، وقال به ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية، ورجحه السبكي في شرح المنهاج، وحكاه ابن الحاجب رواية، وقال السروجي في شرح الهداية قول أبي حنيفة أنها تنتقل في جميع رمضان، وقول صاحبَيْه أنها في ليلة معينة مبهمة، وكذا قال النسفي في المنظومة:

وليلة القدر بكل الشهر

دائرة وعيناها فادرِ

انتهى.

وهذا القول حكاه ابن العربي عن قوم وهو السادس.

السابع: أنها أول ليلة من رمضان حكي عن أبي رزين (ب) الصحابي، وروى ابن أبي عاصم من حديث أنس قال: "ليلة القدر أول ليلة من

(أ) هـ: (القاضي)، وأثبت في حاشيتها:(القاضي).

(ب) ي: (ابن أبي رزين).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر 2: 828 ح 220 - 762.

(2)

أبو داود الصلاة، باب من قال هي في كل رمضان 2: 111: 112 ح 1387، وقال أبو داود عقبه:"رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق موقوفًا على ابن عمر لم يرفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم".

ص: 153

رمضان" وقال ابن أبي عاصم: "لا نعلم أحدًا قال ذلك غيره".

الثامن: أنها ليلة النصف من رمضان حكاه شيخنا سراج الدين بن الملقن في "شرح العمدة"، والذي رأيته في "المُفهِم" للقرطبي حكاية قول أنها (أ) ليلة النصف من شعبان، وكذا نقله السروجي عن صاحب "الطراز"، فإن كانا محفوظَيْن فهو القول التاسع، ثم رأيت في شرح السروجي من المحيط أنها في النصف الأخير.

العاشر: أنها ليلة سبع عشرة (ب) من رمضان، وروى ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم قال: بلا شك ولا امتراء أنها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن، وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود أيضًا (1).

الحادي عشر: أنها مبهمة في العشر الوسط حكاه النووي وعزاه الطبري لعثمان بن أبي العاص، والحسن البصري، وقال به بعض الشافعية.

الثاني عشر: أنها ليلة ثمان عشرة قرأته بخط القطب الحلبي في شرحه، وذكره ابن الجوزي في مشكِلِه.

الثالث عشر: أنها ليلة تسع عشرة، رواه عبد الرزاق عن علي (2) وعزاه الطبري لزيد بن ثابت، ووصله الطحاوي عن ابن مسعود.

الرابع عشر: أنها أول ليلة من العشر الأخير (جـ)، وإليه مال الشافعي،

(أ) هـ: (بأنها).

(ب) جـ: (سبع وعشرين).

(جـ) جـ: الأواخر.

_________

(1)

أبو داود الصلاة، باب من روى أنها ليلة سبع عشرة 2: 110: 111 ح 1384.

(2)

مصنف عبد الرزاق 4: 251 ح 7696.

ص: 154

وجزم به جماعة من الشافعية، ولكن قال السبكي ليس مجزومًا به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده في ليلة القَدْر أنه لا يعتق تلك الليلة بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير، وقيل بانقضاء السنة بناء على أنها لا تختص بالعشر الأخير بل هي في رمضان.

الخامس عشر: مثل الذي قبله إلا أنه إن كان الشهر تامًّا فهي ليلة العشرين وإن كان ناقصًا فهي ليلة أحد وعشرين، وهكذا في جميع العشرة وهو قول ابن حزم، وزعم أنه يجمع بين الأخبار بذلك ويدل له ما رواه أحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن أنيس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أ):"التمسوها الليلة". قال: وكانت تلك الليلة ثلاث وعشرين، فقال رجل: هذه أولى ثمان تبقين (ب)، فقال:"بل أولى سبع بقين، فإنَّ هذا الشهر لا يتم"(1).

السادس عشر: إنها ليلة اثنين وعشرين، وستأتي حكايته بعد، وروى أحمد من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وذلك صبيحة إحدى وعشرين، فقال: كم الليلة؟ قلت: ليلة اثنين؟ فقال (جـ): هي الليلة أو القابلة.

السابع عشر: أنها ليلة ثلاث وعشرين، رواه مسلم عن عبد الله بن أنيس مرفوعًا:"رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها"(2) فذلك مثل حديث أبي

(أ) سقط من هـ: (يقول).

(ب) هـ: (بقين) وكتب فوقها (كذا).

(جـ) هـ: (قال).

_________

(1)

أحمد 3: 495: 496. (بنحوه).

(2)

مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر. . . 2: 827 ح 218 - 1168.

ص: 155

سعيد، لكنه قال فيه "ثلاث وعشرين" بدل "إحدى وعشرين"، وعنه قال: قلث يا رسول الله إنَّ لي بادية أكون فيها فمرني بليلة. قال: "أنزل ليلة ثلاث وعشرين". ورواه ابن إسحاق في مسنده من طريق أبي حازم عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعًا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا:"من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعه"(1) قال فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس الطيب. وعن ابن جريج عن عبيد الله (أابن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين (2).

وروى عبد الرزاق من طريق يونس بن سيف سمع ابن المسيب يقول: "استقام قول القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين"(3) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ومن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين.

الثامن عشر: أنها ليلة أربع وعشرين كما تقدم من حديث ابن عباس في هذا الباب، وروى الطيالسي من طريق أبي نضرة عن ابن مسعود مرفوعًا "ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" وروي ذلك عن ابن مسعود والشَّعْبي والحسن وقتادة وحجتهم حديث واثلة "أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان" وروى أحمد من طريق ابن لَهيعَة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن الصنابحي عن بلال مرفوعًا:"التمسوها ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" وقد أخطأ ابن لهيعة في رفعه، فقد رواه عمرو (ب) بن الحارث

(أ) جـ: (عبد الله).

(ب) جـ: (عمر).

_________

(1)

مصنف عبد الرزاق 4: 249 - 250 ح 7688.

(2)

مصنف عبد الرزاق 4: 249 ح 7686.

(3)

المصنف 4: 249 ح 7687 بلفظ: "استقام ملأ القوم".

ص: 156

ابن يزيد بهذا الإسناد موقوفًا بغير لفظه كما سيأتي في أواخر المغازي بلفظ: "ليلة القدر أول السبع من العشر الأواخر".

التاسع عشر: أنها ليلة خمس وعشرين، حكاه ابن العربي في العارضة، وعزاه ابن الجوزي في "المشكِل" لأبي بكرة.

العشرون: أنها ليلة ست وعشرين، وهو قول لم أره صحيحًا إلا أنَّ عياضًا قال: ما من ليلة من ليالي العشر الأخير (أ) إلا وقد قيل أنها فيه.

الحادي والعشرون: أنها ليلة سبع وعشرين، وهو الجادة من مذهب أحمد، ورواية من الفتح عن أبي حنيفة، وبه جزم أبي بن كعب، وحلف عليه، كما أخرجه مسلم (1)، وروى مسلم أيضًا من طريق أبي حازم عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيكم يذكر حين طلع القمر كأنه شِقُّ جَفْنة"(2).

قال أبو الحسين الفارسي: أي ليلة سبع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة.

وروى الطبراني من حديث ابن مسعود سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال:"أيكم يذكر ليلة الصهباوات؟ " قلت: أنا، وذلك ليلة سبع وعشرين (3).

ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة (4).

(أ) كذا في هـ، جـ، وفي حاشية الأصل.

_________

(1)

مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر. . . 2: 828 ح 221 - 762.

(2)

مسلم الصيام باب فضل ليلة القدر. . . 2: 829 ح 222 - 1170.

(3)

الطبراني 10/ 188 (10289).

(4)

ابن أبي شيبة 2: 512.

ص: 157

وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم "رأى رجل ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"(1).

ولأحمد من حديثه كل مرفوعًا "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"(2).

ولابن المنذر"من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين". وعن جابر بن سمرة نحوه، أخرجه الطبراني في الأوسط، وعن معاوية نحوه (3)، أخرجه أبو داود، وحكاه صاحب الحلية من الشافعية عن أكثر العلماء، وقد تقدم استنباط ابن عباس عند عمر فيه وموافقته له، وزعم ابن قدامة أن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات السورة وقد وافق أن قوله {فِيهَا} (4) هي سابع كلمة بعد العشرين، وهذا نقله ابن حزم عن بعض المالكية وبالغ في إنكاره.

ونقله ابن عطية في تفسيره وقال: إنه من ملح التفاسير وليس من سنن العلم، واستنبط بعضهم ذلك من جهة أخرى فقال: ليلة القدر تسعة أحرف، وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات وذلك سبع وعشرون. وقال صاحب الكافي من الحنفية وكذا المحيط من قال لزوجته أنت طالق ليلة القدر طلقت ليلة سبع وعشرين لأن العامة تعتقد أنها ليلة القدر (5).

الثالث والعشرون: أنها ليلة تسع وعشرين حكاه ابن العربي.

(1) مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر. . . 2: 823 ح 207 - 1165.

(2)

أحمد من حديث أبي 5: 132.

(3)

تقدم من حديث المتن. وهو عند أبي داود الصلاة، باب مَنْ قال سبع وعشرين 2: 111 ح 1386.

(4)

سورة القدر الآية 4.

(5)

كذا في النسخ. وفي الفتح هنا زيادة: "القول الثاني والعشرون أنها ليلة ثمان وعشرين. وقد تقدم توجيهه قبل بقول".

ص: 158

الرابع والعشرون: أنها ليلة الثلاثين حكاه عياض والسروجي في شرح الهداية، ورواه محمد بن نصر والطبري عن معاوية وأحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة.

الخامس والعشرون: أنها في أوقات العَشْر الأخيرة، وعليه يدل حديث عائشة وغيرها في هذا الباب، وهو أرجح الأقوال وصار إليه أبو ثور والمُزَني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذهب.

السادس والعشرون: مثله بزيادة الليلة الأخيرة، رواه الترمذي من حديث أبي بكرة وأحمد من حديث عبادة بن الصامت.

السابع والعشرون: ينتقل في العشر الأخيرة كلها، قاله أبو قلابة، ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وزعم الماوردي أنه متفق عليه، وكأنه (أ) أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير وحديث أبي سعيد أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما اعتكف العشر الأوسط "إن الذي تطلب أمامك" وتقدم ذكر اعتكافه صلى الله عليه وسلم العشر الأخير في طلب ليلة القدر، واعتكاف أزواجه بعده، والاجتهاد فيه كما في الباب الذي بعده.

واختلف القائلون فمنهم من قال هي فيه محتملة على حد سواء، نقله الرافعيُّ عن مالك، وضعفه ابن الحاجب، ومنهم من قال بعض لياليه أرجى من بعض، فقال الشافعي أرجاه ليلة إحدى وعشرين وهو القول الثامن والعشرون، وقيل أرجاه ليلة ثلاث وعشرين وهو القول التاسع والعشرون، وقيل أرجاه ليلة سبع وعشرين، وهو القول الثلاثون.

الحادي والثلاثون: أنها تنتقل في جميع السبع، وقد تقدم المراد منه

(أ) هـ: (كأنه) - بغير الواو.

ص: 159

في حديث ابن عمر هل المراد الليالي السبع من آخر الشهر أواخر سبعة تعد من الشهر، ويخرج من ذلك [وهو](أ) القول الثاني والثلاثون.

الثالث والثلاثون: أنها تنتقل في النصف الأخير، ذكره صاحب المحيط عن أبي يوسف ومحمد، وحكاه إمام الحرمين عن صاحب التقريب.

الرابع والثلاثون: أنها ليلة ست عشرة أو سبع عشرة، رواه الحارث ابن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزبير.

الخامس والثلاثون: أنها ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسناد ضعيف (1).

السابع والثلاثون: أنها أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة [أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة. رواه ابن مردويه في تفسيره عن أنس بإسناد ضعيف.

القول الثامن والثلاثون: أنها ليلة تسع عشرة أو إحدى عشرة أو] (ب) ثلاث وعشرون، رواه أبو داود (2) من حديث ابن مسعود بإسناد فيه مقال، وعبد الرزاق من حديث علي (جـ) بسندٍ منقطع (3)، وسعيد بن

(أ) سقط من الأصل، وجـ، مثبت في هـ.

(ب) سقط من النسخ، مثبت من فتح الباري 4/ 562.

(جـ) جـ: (علقمة).

_________

(1)

كذا في النسخ، وفي الفتح (4/ 265):"القول السادس والثلاثون أنها في أول ليلة من رمضان أو آخر ليلة، رواه ابن أبي عاصم من حديث أنس بإسناد ضعيف".

(2)

أبو داود 2: 110: 111 ح 1384 وفي إسناده حكيم بن سيف الرقي فيه مقال. انظر: تقريب التهذيب 1: 194 (515).

(3)

مصنف عبد الرزاق 4: 251 ح 7696 وذكر الليالي ليلة تسع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين.

ص: 160

منصور من حديث عائشة بسندٍ منقطع أيضًا (أ).

التاسع والثلاثون: ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو مأخوذ من حديث ابن عباس في الباب حيث قال: سبع يبقين أو سبع (ب) يمضين، ولأحمد من حديث النعمان بن بشير سابعة تمضي أو سابعة تبقى، قال النعمان: فنحن نقول ليلة سبع وعشرين، وأنتم تقولون ليلة ثلاث وعشرين.

الأربعون: ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين كما سيأتي في الباب الذي بعده من حديث عبادة بن الصامت، ولأبي داود من حديث بلفظ "تاسعة تبقى سابعة تبقى خامسة تبقى"(1) قال مالك في المدونة في قوله "تاسعة تبقى" ليلة إحدى وعشرين إلى آخره.

الحادي والأربعون: أنها منحصرة في السبع الأواخر من رمضان لحديث ابن عمر في الباب الذي قبله.

الثاني والأربعون: أنها ليلة اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث عبد الله وابن أنيس عند أحمد (2).

الثالث والأربعون: أنها في أشفاع العشر الوسط والعشر الأخير، قرأته بخط مغلطاي.

الرابع والأربعون: أنها ليلة الثالثة من العشر الأخير، أو الخامسة منه، رواه أحمد من حديث معاذ بن جبل، والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة

(أ) في حاشية هـ، ي:(قال في المنقول عنه: لم يذكر في الأم الثامن والثلاثون).

أما هذا القول في الفتح (4/ 562) هنا نَصُّه: "القول الثامن والثلاثون أنها ليلة تسع عشرة أو إحدى عشرة أو ثلاث وعشرين". رواه أبو داود.

(ب) جـ: (تسع).

_________

(1)

من حديث ابن عباس سنن أبي داود 2: 108 ح 1381.

(2)

أحمد 3: 495 - 496.

ص: 161

تحتمل ثلاث وعشرين، وتحتمل ليلة سبعة وعشرين، وبهذا يتغاير هذا القول فيما مضى.

الخامس والأربعون: أنها في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني روى الطحاوي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال:"تحروها في النصف الأخير" ثم عاد فسأله فقال: "إلى ثلاث وعشرين" قال: فكان عبد الله يُحيي ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين ثم يقصر، وجميع هذه الأقوال التي حكيناها من الثالث متفقة على إمكان حصولها والحث على التماسها.

وقال ابن العربي: الصحيح أنها لا تعلم، وهذا يصلح أن يكون قولًا آخر وأنكر هذا النووي، وقال قد تضافرت الأحاديث بإمكان العلم بها، وأخبر به جماعة من الصالحين فلا معنى لإنكار ذلك، ونقل الطحاوي عن أبي يوسف قولًا جوز منه أنه يرى أنها ليلة أربع وعشرين أو سبع وعشرين، فإن ثبت ذلك فهو قول آخر، وهذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال، وبعضها يمكن رده إلى بعض، وإن كان ظاهرها التغاير، وأرجحها كلها أنها في وتر العشر الأخير، وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار، الوتر عند الشافعية إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديثي أبي سعيد وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين وقد تقدمت أدلة ذلك. انتهى ما ذكره المصنف رحمه الله بحروفه وقد استكملته لجمعه لهذه الفوائد التي تعسر الاطلاع عليها.

قال العلماء: والحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر عليها، وقد تقدم مثل ذلك في ساعة الجمعة، والله أعلم.

ص: 162

546 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إِن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي اللهم إِنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم (1).

الحديث فيه دلالة على أن ليلة القدر يمكن معرفتها في وقتها، وقد قيل إن المطلع عليها يرى كل شيء ساجد، أو قيل الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل يسمع كلامًا أو خطابًا من الملائكة، وقيل علامتها استجابة دعاء من وقعت له، وقال الطبري: ذلك غير لازم، وأنها قد تحصل ولا يرى شيء ولا يسمع، واختلفوا هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء أو توقف ذلك على كشفها؟ ذهب إلى الأول المهلب والطبري وابن العربي وجماعة، وإلى الثاني ذهب الأكثرون، ويدل له ما وقع عند مسلم (2) في حديث أبي هريرة بلفظ:"من يَقُم ليلة القدر فيوافقها. . . .".

وفي حديث عبادة: "من قامها إيمانًا واحتسابًا ثم وقعت له".

قال النووي: معنى يوافقها يعلم أنها ليلة القدر، ويحتمل أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم ذلك.

وفي حديث زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من يَقُم الحول يُصِب ليلة القدر"(3) وهو محتمل للقولين أيضًا، ورجح

(1) الترمذي الدعوات، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد 5: 534 ح 3513 (ط. عيسى الحلبي). النسائي الكبرى ح 709، 872، 873، 874، 875، 876. ابن ماجه الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية 2: 1265 ح 3850، أحمد 6: 171، المستدرك 1: 530، والترغيب والترهيب للأصبهاني ح 2170.

(2)

مسلم صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان 1: 524 ح 176 - 760.

(3)

مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر 2: 828 ح 220 - 762.

ص: 163

المصنف -رحمه الله تعالى- أن المعنى من الموافقة هو مصادفتها في نفس الأمر وإن لم يعلم بذلك. قال: ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لم يوفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وفرعوا على القول بأنها تعلم أنها تكشف لواحد ولا تكشف لآخر، ولو كانا معًا في بيت واحد، ويجوز أن يختص الله بالكرامة من يشاء من عباده، ولا يلزم أيضًا أن يكون من رأى الأمر الخارق أعظم كرامة ممن لم يره، فإن العبرة بالاستقامة، وصورة الكرامة قد تكون فتنة لمن لا يكون أهلًا للكرامة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة، وقد كانت العلامة في السنة التي حكاها أبو سعيد بنزول المطر (1)، ونحق نرى كثيرًا من السنين ينقضي رمضان من دون مطر.

وروي عن أبي الحسن الجزولي المغربي أنه اعتبر ليلة القدر فلم تفته في طول عمره، وأنها تكون دائمًا ليلة الأحد، فإن كان أول الشهر ليلة الأحد كانت ليلة تسع وعشرين.

وقال بعض من تأخر عنه أنها تكون دائمًا ليلة الجمعة، وذكر مثل قول أبي الحسن، وكلاهما لا أصل له، والله أعلم.

547 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشد الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" متفق عليه (2).

(1) البخاري فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر 4: 256 ح 2016، مسلم الصيام، باب فضل ليلة القدر. . .، 2: 824 ح 213 - 1167.

(2)

البخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 3: 63 ح 1189. ومسلم الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2: 1014 ح 511 - 1397 عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 164

قوله "لا تُشد" بضم أوله، ولا للنفي، والمراد به النهي مجازًا للمبالغة في النهي كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به، والرحال جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى به عن السفر لكونه لازمه في الأغلب، وفي بعض الألفاظ:"إنما يسافَر .... "(1) والاستثناء مفرغ بقدر عام مدلول عليه لخصوصه بقرينة الاستثناء، والمعنى لا تشد إلى مسجد إلا متقرب فيه للعبادة، والحرام يعني المحرم، كالكتاب بمعنى المكتوب، وهو صفة للمسجد وهو مجرور على البدلية، والمراد بالمسجد الحرام، ويؤيده قوله:"مسجدي هذا" حيث عينه وأراد به موضع الصلاة المعروف بنسبته إليه، وأطلق على الحرام اسم المسجد دلالة على أنه جميعه محل العبادة والتقرب، ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم لأنه كله مسجد، وسيأتي استيفاء الخلاف فيه في آخر الحج في حديث "صلاة في مسجدي والمسجد الأقصى" المراد بيت المقدس، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل في الزمان.

وقال الزمخشري: سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، وقيل لبعده عن الأقذار والخبث وقيل هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة لأنه بعيد من مكة، وبيت المقدس أبعد منه ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين منها: إيلياء بالمد والقصر، وبحذف الياء الأولى وعن ابن عباس إدخال الألف واللام على هذا الثالث، وبيت المقدس بسكون القاف وبفتحها مع التشديد، والقُدس بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال وبضمها، وشلم بالمعجمة وتشديد اللام، وبالمهملة، وشلام

(1) مسلم الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2: 1015 ح 513 - 1397.

ص: 165

بمعجمة، وسَلِم بفتح المهملة وكسر اللام الخفيفة، وأوْرِي سلم بسكون الواو وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة، وأوري سلم، وكورة وبيت أيل، وصهيون، ومصروث آخره مثلثة، وكورشيلا وبابوش بموحدتين ومعجمة (1).

والحديث فيه دلالة على فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء، ولأن (أ) الكعبة قبلة الناس وإليها الحاج، وبيت المقدس كان قبلة الأمم السالفة، ومسجد المدينة أسس على التقوى.

وظاهر الحديث أنه يحرم قصد ما عدا الثلاثة بالسفر لقصد التقرب كزيارة الصالحين أحياء وأمواتًا، والمواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو محمد الجويني، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي نضرة الغفاري على أبي هريرة من خروجه إلى الطور، وقال: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، واستدل بهذا الحديث، ووافقه أبو هريرة، وذهب الجمهور إلى أن ذلك مُحَرَّم، قالوا: والحديث مؤول بمعنى أنه لا ينبغي شد الرحال إلا إليها لكمال فضل ذلك بخلاف غيرها فإنه لا يساويها في الفضيلة، وحق العاقل أن يختار ما هو الأفضل، ويتأيد هذا التأويل بما رواه أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمطيِّ أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي"(2).

وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف، وقد تؤول بقصدها

(أ) جـ: (ولكون).

_________

(1)

الفتح 3: 64 - 65.

(2)

أحمد 3: 64.

ص: 166

للاعتكاف فيها حكاه الخطابي عن بعض السلف، وهو مروي عن حذيفة بن اليمان، أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة، وعطاء خص الاعتكاف بمسجدي مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة.

واختلف العلماء فيمن نذر بإتيان هذه المساجد، فذهب إلى لزوم النذر مالك وأحمد والشافعي في البويطي، واختاره أبو (أ) إسحاق المروزي، واختاره الإمام يحيى، وقال أبو حنيفة: لا يجب مطلقًا، وقال الشافعي في الأم: يجب في المسجد الحرام بخلاف المسجدين الآخرين لتعلق النسك به، فله أصله في الوجوب، وهو مذهب الهادوية، واستدل به على أنه لا يلزم بالنذر إلى غيرها من المساجد شيء وهو قول الأكثر، وروي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء بالنذر، وعن الحنابلة يلزم كفارة يمين، ولا ينعقد النذر، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم، وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت (1).

تتمة: الحديث فيه دلالة على تفاضل الثلاثة مساجد، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، وهذا يتأيد بحديث ابن الزبير، أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريق عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في هذا".

وفي رواية ابن حبان: "أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة".

(أ) هـ: (ابن).

_________

(1)

البخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مَنْ أتى مسجد قباء كل سبت 3: 69 ح 1193.

ص: 167

قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ورفعه أحفظ، وعند الطبراني والبزار من حديث أبي الدرداء وقفه:"الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار: وإسناده حسن، قال ابن عبد البر: وزعم بعض أصحابنا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة، واحتج برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر قال:"صلاة في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاة فيما سواه" وتعقب بأن المحفوظ بهذا الإسناد إنما هو بلفظ: "صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الرسول، فإنما فضله عليه بمائة صلاة".

ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: "صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه" ويشىير إلى مسجد المدينة. وللنسائي عن ابن عمر مثل هذا وفي آخره "إلا المسجد الحرام فالصلاة فيه أفضل منه بمائة صلاة".

وقد استدل بهذا على أن مكة أفضل من المدينة لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه على وجه، وهو قول الجمهور، وحكى عن مالك وبه قال ابن وهب ومطرف بن حبيب أصحابه، لكن المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"(1) مع

(1) متفق عليه بلفظ: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر 3: 70 ح 1195، ومسلم في صحيحه كتاب الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة 2: 1391 - 502. =

ص: 168

قوله: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"، ويرد هذا حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحزورة فقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك لما خرجت" وهو حديث حسن أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة (أ) وابن حبان وغيرهم.

قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف فلا ينبغي العدول عنه، واستثنى القاضي عياض البقعة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكمها الاتفاق على أنها أفضل البقاع، قال بعضهم بسبب فضل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق، رواه ابن عبد البر في أواخر تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفًا، وقد روى الزبير بن بكار "أن جبريل أخذ التراب الذي منه خلق النبي صلى الله عليه وسلم من تراب الكعبة".

(أ) هـ: (ابن خزيمة والترمذي).

_________

= قال ابن حجر في "الفتح": "ولم يقع قبري إلا عند ابن عساكر، وهو خطأ".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "القاعدة الجليلة"(ص 74): "هذا هو الثابت الصحيح، ولكن بعضهم، روى بالمعنى فقال قبري وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا لم يكن قد قبر صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة حينما تنازعوا في موضع دفنه ولو كان هذا عندهم لكان هذا نصًّا في محل النزاع".

ص: 169