المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صوم التطوع وما نهي عن صومه - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٥

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌باب صوم التطوع وما نهي عن صومه

‌باب صَوم التطوع وما نهي عن صومه

521 -

عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عَرَفَة، قال:"يُكَفِّرُ السنة الماضية والباقية، وسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ذاك يوم وُلِدْتُ فيه أو بُعِثْتُ فيه وأنزل عليّ فيه" رواه مسلم (1).

قوله: "وسئل عن صيام يوم عاشوراء": أي ما حكمه، وعاشوراء بالمد على المشهور، وحكى فيه القصر، وزعم ابن دُريد أنه اسم إسلامي، وأنه لا يُعرف في الجاهلية، ورَدَّ ذلك ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى صحته في كلام الجاهلية، وبما روي عن عائشة (2)"أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن يهاجر، وأمر بصومه في أولِ السنة الثانية من مقْدمه"(2) لأن قدومه كان في شهر ربيع الأول وكان فَرْض رمضان بعده في أثناء السنة الثانية فلهذا لم يقع الأمر بصومه واجبًا إلا في سنة واحدة، وصيام قريش لعاشوراء لعلهم تلقوه من الشرايع، كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة وغير ذلك.

وذكر الباغندي الكبير (3) في المجلس الثالث عن عكرمة أنه سُئل عن ذلك، فقال: أذنبت قريش ذنبًا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك، أو لأنه وُلد فيه إبراهيم كما في حديث أبي سعيد بن أبي راشد فتناقل تعظيمه في ولد إبراهيم.

ولكنه لا دلالة في هذا لأن الكلام في تسميته لا في صومه، كذا قيل،

(1) مسلم الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر

2: 918 ح 197 - 1162.

(2)

البخاري الصوم، باب صيام يوم عاشوراء 4: 244 ح 2002 (بنحوه).

(3)

الفتح 246:4.

ص: 99

ويجاب عنه بأنه قد سمي في قولهم: صوموا عاشوراء.

واختلف أهلُ الشرع في تعيينه فقال الأكثر: هو اليوم العاشر، قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العَشر الذي هو اسم للعقد، واليوم مضاف إليها، فإذا (أ) قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبَتْ عليه الاسمية فامتنعوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة العاشرة، وصار هذا اللفظ عَلَمًا على اليوم العاشر.

وذكر الجواليقي أنه لم يُسمع فاعولاء إلا أربعة ألفاظ: عاشوراء وصاروراء وساروراء ودالولاء من الصار والسار والدال.

وقال الزَّيْن بن المُنَيِّر: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.

وقيل: هو اليوم التاسع، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلة الآتية.

وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذًا من أوراد (ب) الإبل، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا: ورودنا عشْرًا بكسر العين، ويدل عليه ما أخرجه مسلم في حديث الحكم بن الأعرج: انتهيت إلى ابنِ عباس وهو متوسد، فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم (1).

(أ) هـ، ي: وإذا.

(ب) هـ، ي: وارد.

_________

(1)

مسلم الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء 2 - : 797 ح 132 - 1133، وأبو داود الصوم، باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع 2: 819: 820 ح 2446.

ص: 100

وظاهره أن يوم عاشوراء هو التاسع، وقد تأوله الزين بن المُنَيِّر بأن المعنى أنه ينوي الصائم في الليلة المتعقبة للتاسع وصبحها العاشر.

ويقوي هذا الاحتمال مع بعْده ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بقيتَ إلى قابل لأصومن التاسع" فمات قبل ذلك (1)، فدل على أنه لم يصم التاسع، ثم ما هَمَّ به النبي صلى الله عليه وسلم من صوم التاسع يحتمل معناه أنه يضيفه إلى العاشر مخالفة اليهود والنصارى، ويدل عليه حديث أحمد عن ابن عباس:"صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده"(2).

فوافق صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في أول الأمر بصومه وحده وأمر بالمخالفة من بعد بصومٍ قبله أو بعده في آخر الأمر كما اشتهر عنه من مخالفتهم في آخر أمره.

وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها: أن يُصَامَ وحده، وفوقه: أن يصام معه الحادي عشر أو التاسع، ويحتمل أنه أراد أن ينقل صوم العاشر إلى التاسع فيصام وحده وهو أوسطها.

واعلم أنه قد قِيلَ: إن اليوم الذي كانت اليهود تصومه هو (أ) يوم عاشوراء بحساب السنة الشمسية فصادف صومهم (ب) اليوم الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، ويؤيده ما في الطبراني (3) وهو ما أخرجه في ترجمة زيد بن ثابت من طريق ابن أبي زياد عن أبيه عن خارجة

(أ) سقط من هـ: (هو).

(ب) هـ: صيامهم.

_________

(1)

مسلم الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء 2: 798 ح 134 - 1134.

(2)

أحمد 1: 241.

(3)

معجم الطبراني 5: 152 ح 4876.

ص: 101

ابن زيد بن ثابت عن أبيه قال: "ليس يوم عاشوراء باليوم الذي تقوله الناس، وإنما كان يومًا تُستر فيه الكعبة، وكان يدور في السنة، وكانوا يأتون فلانًا (أ) اليهودي فيحسب لهم".

وهذه عادة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم، فالسنة عندهم شمسية لا هلالية، فمن ثَمَّ احتاجوا إلى منْ يعرف الحساب ليعتمدوا عليه في ذلك، وهذا من ضلال أهل الكتاب وهداية المسلمين إلى غير اليوم الذي استحق التعظيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"(1).

وقد استشكل تعظيم النصارى له، فإن الوارد في الرواية تعليله بنجاة موسى وإغراق فِرْعوْن، وهذا يختص باليهود، وهو مندفع بأنَّ النصارى غير جاحدين لفضيلة موسى عليه السلام، وقد ورد من حديث أبي موسى في البخاري كانت تعده اليهود عيدًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فصوموه أنتم"(2)، وفي رواية مسلم:"كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيدًا"(3)، وفي رواية له:"كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه (ب) عيدًا ويلبسون نساءهم فيه حليتهم (4) وشارتهم" بالشين المعجمة أي هيئتهم الحَسَنَة، ولا منافاة بين اتخاذه عيدًا وصيامه.

واعلم أنه قد ورد ما دل على أنه كان واجبًا في صَدْر الإسلام ثم نسخ

(أ) هـ: فلان.

(ب) هـ: (ويتخذونه).

_________

(1)

البخاري الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكتب ولا نحسب 4: 126 ح 1913.

(2)

البخاري الصوم، باب صيام يوم عاشوراء 4: 244 ح 2005.

(3)

مسلم الصيام، باب صوم يوم عاشوراء 2: 796 ح 129 - 1131.

(4)

مسلم الصيام، باب صوم يوم عاشوراء 2: 796 ح 130 - 1131.

ص: 102

وجوبه برمضان، وفي البخاري وغيره أحاديث صحيحة بإرجاع صومه إلى المشيئة (1).

ونقل عياض أن بعض السلف كان يرى بقاء فرض عاشوراء، لكن انقرض القائلون بذلك، ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه ليس الآن بفرْضٍ (2)، وعلى أنه مستحب، وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بذلك.

وفي قوله: "يكفر السنة الماضية": دلالة على أن صومه دون صوم يوم عرفة في الفضيلة، وقد قيل في الحكمة في ذلك أن صوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام وصوم عرفة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فكان أفضل.

وقوله: "يكفّر": المراد بالتكفير تكفير الذنوب الصغائر، كذا قيده جماعة من المعتزلة وغيرهم، قال النووي (3): فإنْ لم تكن صغائر كفّر من الكبائر، وإن لم يكن كبائر كان زيادة في رفع الدرجات.

522 -

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر" رواه مسلم (4).

(1) من حديث ابن عمر، وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم البخاري 4: 244 ح 2000: 2003.

(2)

التمهيد ولفظه: (لا يختلف العلماء أن يوم عاشوراء ليس بفرض صيامه ولا فرض إلا صوم رمضان) 203:7.

(3)

شرح مسلم 8: 51.

(4)

مسلم الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان 2: 822 ح 204 - 1164 أبو داود: الصوم، باب في صوم ستة أيام من شوال 2: 812: 813 ح 2433، الترمذي الصوم، باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال 3: 132 ح 759، ابن ماجه، باب صيام ستة أيام من شوال 1: 547 ح 1716.

ص: 103

الحديث فيه دلالة على استحباب صيام الستة الأيام المذكورة، وهو مذهب جماعة منهم الشافعي وأحمد وأبو داود (أ)، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك، قال مالك في "الموطأ"(1) ما رأيت أحدًا يصومها من أهل العلم فنكره صومها لذلك، ولئلا يظن وجوبه. ويجاب عنه بأنه قد ثبت الدليل في ذلك، والأفضل أن تكون السِّتّ متوالية، فإن فرقها الفضيلة لكونه قد أتبع ستًّا من شوال، وإنما كان كصيام الدهر لأن الحسنة بعشرة أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين، وقد صرح بهذا في رواية النسائي (2).

وفي قوله: "ستًّا من شوال": ورد بصيغة المؤنث مع أن مميزه مذكر، وهو الأيام لأن اسم العدد إذا لم يصرح بمميزه من الأيام يجوز فيه الوجهان، منه قوله تعالى:{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) وإن صرح بالمميز فالتذكير لا غير.

523 -

وعن أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إِلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا" متفق عليه واللفظ لمسلم (4).

الحديث فيه دلالة على فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول

(أ) ى: (وأبو داود).

_________

(1)

الموطأ 1/ 311 ك الصيام باب جامع الصيام.

(2)

النسائي.

(3)

البقرة الآية 234.

(4)

مسلم بدون لفظة "من"، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه .... 2: 808 ح 167 - 1153 (واللفظ له). البخاري الجهاد، باب فضل الصوم في سبيل الله 6: 47 ح 2840 (بنحوه).

ص: 104

على ما لا يتضرر به، ولا يفوت به حق، ولا يختل بسببه القيام بواجبٍ كالجهاد والكسب على نفسه ومن يمونه (أ).

ومعنى المباعدة: السلامة من النار، إلا أنه كنَّى بذلك عنه، فإنه إذا كان بين المذكور وبين النار المسافة (ب) المذكورة كان من لازمه السلامة منها، وهو من باب تقريب ذلك إلى الأفهام بضرب المثل فيما يستعمل في المبالغة في البعد، والمراد مسافة سبعين، والخريف مراد به العام (جـ).

524 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل (د) صيام شهر قط إِلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان" متفق عليه واللفظ لمسلم (1).

الحديث فيه دلالة على أنَّ صومَ النبي صلى الله عليه وسلم لم (هـ) يكن مختصًا بشهر دون شهر.

وفي قولها: "حتى نقول لا يفطر": دلالة على مبالغة الصوم، وفي قولها "حتى نقول لا يصوم": دلالة على مبالغة الإفطار، ولعل ذلك لما يعرض له صلى الله عليه وسلم من الاشتغال بالأمور التي فضلها أعظم من الصوم.

(أ) المثبت من هـ، وأوله غير منقوط في الأصل، جـ، ى.

(ب) ي: السلامة.

(جـ) زادت هـ: (والله أعلم).

(د) ي: يستكمل، والمثبت في الأصل، هـ، جـ.

(هـ) هـ: (ولم).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب صيام النبي في غير رمضان 2: 810 ح 175 - 1156، البخاري الصوم، باب صوم شعبان 4: 213 ح 1969.

ص: 105

وفيه أيضًا تيسير على أمته في التأسي به، وإن كان في ذاته صلى الله عليه وسلم قد أُعِينَ على العبادة التي لا يقدر أن يقوم بها غيره، ولذلك أنه واصل وقال أَنه يطعم ويسقى.

وقولها: "وما رأيته في شهر .... " إلخ: دلالة على تخصيص شعبان بإيثاره بزيادة الصوم فيه، ولفظ "أكثر" منصوب مفعول ثان لرأيته وصيامًا على التمييز، وإنما كان يخص شعبان بكثرَة الصوم لأنه كان يشتغل عن صوم الثلاثة الأيام من كل شهر لسفرٍ أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان، أشار إلى هذا ابن بطال.

وأخرج هذا الطبراني عن عائشة رضي الله عنها: "كان صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان"(1).

وفيه ابن أبي ليلى، وهو ضعيف.

وقيل: كان يصنع لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أنس، قال:"سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان"(2).

أخرجه الترمذي وقال: غريب، وفيه صدقة بن موسى (3)، وهو عندهم ليس بالقوي.

ومُعَارَض بما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "أفضل الصوم بعد

(1) مجمع الزوائد 3: 192 وقال رواه في الأوسط وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام.

(2)

الترمذي الزكاة باب ما جاء في فضل الصدقة 3: 51 ح 663.

(3)

صدقه بن موسى أبو المغيرة السلمي البصري. قال أبو حاتم يكتب حديثه وليس بالقوي وقال في التقريب (صدوق له أوهام) الميزان 2: 312 ت 3879 التقريب 152.

ص: 106

رمضان صوم المحرم" (1).

وقيل إنه كان يصومه لأن نساءه كن يؤخِّرْنَ القضاء إلى شعبان فيصوم معهن لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من المحافظة على مكارم الأخلاق من حسْن العشرة ومحبة الموافقة لمن صحبه وتيسير الكلفة عليه.

وقيل: كان يفعل فيه تطوع شهرين؛ لأنه لما كان صوم رمضان فرضًا مانعًا من التطوع فيتطوع في شعبان.

وقيل: لأن الناس يغفلون في شعبان عن الصوم.

وقد أخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة (2) عن أسامة بن زيد قال: "قلتُ! يا رسول الله لم أرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".

ويحمل الحديث على أنه لم يَصم اليومَيْن المتقدمَيْن لرمضان، وأنه لم يصم مِن منتصف شعبان، كما ورد النهي عن ذلك إلا أن يُحْمَلَ النهي على منْ لم يكن قد صام من أول الشهر، وأورد النووي (3)، لم (أ) إنه لم يكثر صوم المحرم مع كونه أفضل، وأجاب بأن ما علم ذلك إلا في آخر عمره فلم يتمكن من كثرة الصوم فيه، أو أنه كان يتفق له من الأعذار ما لم يتفق في شعبان.

فائدة: يسمى شعبان بهذا الاسم لتشعبهم في طلب المياه، أو في

(أ) ي: (ثم).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب فضل صوم المحرم 2: 821 ح 202 - 1163.

(2)

النسائي الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم وذكر اختلاف الناقلين

4: 201، أحمد 5:201. ولم يخرجه النسائي تحفة الأشراف 1: 60.

(3)

شرح مسلم 55:7.

ص: 107

المغارات بعد أن يخرج رحب المحرم.

525 -

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه النسائي والترمذي وصححه ابن حبان (1).

وللحديث شواهد (أ) من حديث أبي هريرة، وفيه قصة قال:"إن كنتَ صائمًا فصم الغر -أي البيض" أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان (2)، وفي بعض طرقه عند النسائي:"إن كنت صائمًا فَصُم البِيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة"(3).

في حديث (ب) قتادة بن ملحان عند أصحاب السنن بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقال (جـ): هي كهيئة الدهر"(4).

وأخرج النسائي من حديث جرير مرفوعًا: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام (د) البيض صبيحة ثلاث عشرة" الحديث وإسناده

(أ) هـ (وللحديث فيه شواهد).

(ب) ي: (وفي حديث).

(جـ) هـ: (قال) - بغير واو.

(د) سقط من هـ (أيام).

_________

(1)

النسائي الصيام، باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيام من الشهر 4: 222، الترمذي (نحوه) الصوم، باب ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر 3: 133 ح 761، ابن حبان باب ذكر الأمر بصيام أيام البيض 5: 264 ح 3647.

(2)

النسائي الصيام، باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيام من الشهر 4: 222، أحمد 2: 336، ابن حبان 5: 263 ح 3642.

(3)

النسائي (المتقدم) 4: 222، 223.

(4)

أبو داود الصوم، باب في صوم الثلاث من كل شهر 2: 821 ح 2449، النسائي (المتقدم)، 4: 222، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر 1: 544 ح 1707.

ص: 108

صحيح (1). والحديث فيه دلالة على ندبية صوم الثلاثة الأيام المعينة، وقد وردت أحاديث في صوم ثلاثة أيام من كل شهر مطلقة ومعينة فمنها ما رواه ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر" أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة (2).

وأخرج مسلم من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أيِّ الشهر صام"(3).

وأخرج أبو داود والنسائي من حديث حفصة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى"(4).

وهذه الأحاديث لا معارضة بينها، فإن وقوعَ ذلك جميعه ممكن مندوب إليه، وكلٌّ حكى ما اطلع عليه، ولكن ما أمر به وحث عليه ووصى به أولى، وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجَوَاز، وكل ذلك في حَقِّه أفضل، ويترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشيء أعدله، ولأَن الكسوفَ غالبًا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة في الكسوف فإذا اتفق الكسوف

(1) النسائي الصوم، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك 4: 221، وأخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" 2:52. وقد تكلم ابن أبي حاتم على الخلاف في رفعه ووقفه في علل الحديث ح 785.

(2)

أبو داود الصوم، باب في صوم الثلاث من كل شهر 2: 822 ح 2450، الترمذي الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الجمعة 3: 118 ح 742، النسائي الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الاختلاف ..... 4:204.

(3)

مسلم الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر

2: 818 ح 194 - 1160.

(4)

أبو داود الصوم، باب مَنْ قال الاثنين والخميس 2: 822 ح 2451، والنسائي الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم .... 4:203.

ص: 109

صادف الذي يعتاد صيام البيض صائمًا فيتهيأ له أن يجمع بين العبادات من الصلاة والصيام والصدقة بخلاف من لم يصمها.

واعلم أن للعلماء في تعيين الثلاثة الأيام التي ندب صومها في كل شهر عشرة أقوال:

أحدها: لا يتعين ويكره تعيينها، وهذا عن مالك، وهو مثل حديث عائشة "ما يبالي مِن أي الشهر صام"(1).

الثاني: ثلاثة أيام من أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الاشتغال، وهو للحسن (أ) البصري.

الثالث: أولها الثاني عشر.

الرابع: أولها الثالث عشر.

الخامس: أولها السبت من أول شهر صام فيه ثم في الشهر الذي يليه يصوم من أول ثلوث (ب)، وعلى هذا في سائر الشهور، وهو مروي عن عائشة مرفوعًا.

السادس: أول خميس ثم اثنين ثم خميس.

السابع: أول اثنين ثم خميس ثم اثنين.

الثامن: أول يوم والعاشر والعشرون، وهو مرويّ عن أبي الدَّرْدَاء.

التاسع: أول كل عشر، وهو مروي عن ابن شعبان من المالكية.

العاشر: آخر ثلاثة أيام من الشهر، وهو قول النَّخَعِي ليكون كفارة لما مضى.

(أ) هـ، ي: الحسن.

(ب) كذا في الأصل، وهـ، جـ، ي.

_________

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 110

وفي كلام كثير من العلماء أن استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر غير استحباب صيام البيض، وقال (أ) الروياني: صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البِيض كان أحب.

526 -

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إِلا بإِذنه" متفق عليه واللفظ للبخاري (1) زاد أبو داود: "غير رمضان"(2).

الحديث فيه دلالة على أن حق الزوج مقدم على صَوْم التطوع كما في زيادة أبي داود: "غير رمضان" يعني: وأما رمضان فإنه يجب عليها الصوم وإن كره الزوج، ويقاس عليه قضاء الصيام، ولا يتعين عليها تأخيره إلى شعبان؛ لأن ذلك واجب مطلق، وحق الزوج وإن كان واجبًا في جميع الأوقات، ولكنه يخصص بغير تضايق أوقات العبادات لعموم التكليف للمرأة والرجل، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

قالوا: ولا يمنع الزوجة والعبد من واجب، وإن رخص فيه كالصوم في السفر والصلاة أول الوقت فيخص النهي الوارد بصوم التطوع، فإن للزوج المنع، وظاهر الحديث أنها لا يجوز (ب) لها الصوم، إلا بإذنه، فإذا صامت من غير إذن وإن لم ينهها حرم عليها، وله المنع بعد الإذن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة في الاعتكاف ثم منعهن (3)، وقد ذهب إلى هذا

(أ) هـ: (فقال)، جـ:(قال).

(ب) في هـ، جـ، ي:(يجوز)، وفي الأصل:(يصح) أثبت فوقها: (يجوز).

_________

(1)

البخاري النكاح، باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه 9: 295 ح 5195، مسلم الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه 2: 711 ح 84 - 1026.

(2)

أبو داود الصوم، باب المرأة تصوم بغير أذن زوجها 2: 826: 827 ح 2458.

(3)

البخاري الاعتكاف، باب اعتكاف النساء 4: 275 ح 2933.

ص: 111

الشافعي والإمام يحيى.

ولا يُقَال هو إسقاط حق لا يصح الرجوع فيه لأن الحق متجدد هنا، وذاك فيما لم يتجدد.

وذهبت الهادوية وأبو حنيفة ومالك (أ) إلى أنه ليس له الرجوع لأنه قد أسقط حقه فإن أوجبت المرأة على نفسها صومًا بإذن الزوج فكذا فيه الخلاف.

وقوله (ب): "وزوجها شاهد" أي حاضر.

527 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهي عن صيام يومَيْن: يوم الفطر ويوم النحر" متفق عليه (1).

الحديث فيه دلالة على أن صوم يوم الفطر ويوم النحر منهيٌّ عنه، والنهي أصله التحريم إلا أن تقوم قرينة على خلافه، وقد أشار في رواية عمر إلى علة التحريم وهو قوله "يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم"(2)، فقوله "يوم فطركم" إشارة إلى أن العلة في إفطاره هو الدلالة على تمام فريضة الصيام فهو بمثابة التسليم في الصلاة، وكذلك قوله:"تأكلون فيه من نسككم" إذ ذلك للتقرب بعبادة مشروعة في ذلك اليوم والصيام ينافيها فكان غير محل للصوم، ومقتضى هذا أنه لا

(أ) لفظ (ومالك) مثبت في هـ، ي، غير مثبت في جـ. أما نسخة الأصل فمثبت فيها مضروب عليه مثبت قوله علامة (صـ) صغيرة.

(ب) ي: (وقولها).

_________

(1)

البخاري الصوم، باب صوم يوم الفطر 4: 239 ح 1991 (بنحوه)، مسلم الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى 2: 800 ح 141 - 827 - (واللفظ).

(2)

البخاري الصوم، باب صوم يوم الفطر 4: 238: 239 ح 1990، مسلم الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى 2: 799 ح 138 - 1137.

ص: 112

يصام فيهما تطوع ولا قضاء ولا نذر، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وذهب المؤيد والإمام يحيى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن النهي للتنزيه، قالوا: فلو نذر بصيامهما صامهما، ولا يصح القضاء فيهما لأن القضاء فيهما يكون ناقصًا، والفائت كامل ولا يجبر الكامل بالناقص بخلاف النذر، فإنه أوجبه، ناقصًا فصح أداؤه ناقصًا على (أ) القول الأول إذا نذر بصيامهما فعند زيد بن علي والهادوية يصوم غيرهما قدرهما أو عند الناصر والشافعي ومالك والصادق والإمامية لا ينعقد النذر فلا يصومهما ولا غيرهما، قالوا: لأنه نَذْر بمعصية، وأجيب بأن ذلك حيث لا يمكن الوفاء إلا بالمعصية وهنا قد أمكن بغيرها، وظاهر الكلام أن المتمتع أيضًا لا يصح منه الصوم، وفي ظاهر عبارات بعض (ب) كتب الهادوية ما يقضي بصحة صومهما في حق المتمتع، والله أعلم.

528 -

وعن نُبيْشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذِكْر الله عز وجل" رواه مسلم (1).

هو نُبَيْشة -بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان، وبالشين المعجمة- يقال له نُبيْشة الخير بن عمرو؛ لأنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أسارى فقال: يا رسول الله: إما أن تفاديهم وإما أن تَمُنَّ عليهم، فقال له: أمرت بخير فأنت نبيشة الخير، وقيل هو: ابن عبد الله الهذلي، روى عنه أبو المُلَيح الهذلي وأبو قِلابة الجَرْميّ، يعد في البصريين

(أ) زادت ي: (عند فرضه علي

)، وهي مضروب عليها في الأصل.

(ب) سقط (بعض) من هـ.

_________

(1)

مسلم الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق 2: 800 ح 144 - 1141 (بغير قوله: وذكر الله عز وجل.

ص: 113

وحديثه فيهم (1).

الحديث أخرجه أيضًا مسلم من حديث كعب بن مالك (2)، وابن حبان من حديث أبي هريرة (3)، والنسائي من حديث بشر بن سحيم (4)، ورواه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث عقبة بن عامر في حديث (5)، ورواه البزار (6) من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد".

وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه دخل على أبيه فَقَرَّبَ إليه طعامًا، فقال: كلْ، قال: إني صائم، قال عمرو: كلْ، هذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها". قال مالِك: وهي أيام التشريق (7).

وأخرج الدارقطني من حديث عبد الله بن حُذَافَة السهمي: "أيام أكلْ وشراب وبعال"(8) وفيه الواقدي (9)، ولكنه متأيد بشواهد كثيرة بهذا اللفظ،

(1) انظر سير أعلام النبلاء 12: 578، المشتبه للذهبيّ ص 353، 641، مجمع الزوائد 9: 391، طبقات خليفة بن خياط ص 36، 176، المستدرك للحاكم 3: 463، تاريخ واسط ص 52، العقد الثمين للمتقي 7: 328، مسند أحمد 5: 75: 76.

(2)

مسلم الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق 2: 800 ح 145 - 1142.

(3)

ابن حبان 5: 245 ح 3592.

(4)

النسائي في الكبرى (كما في تحفة الأشراف 9: 201)، وقد أخرج نحوه في الصغرى الإيمان باب تأويل قوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} ، 8:104.

(5)

أبو داود الصوم، باب صيام أيام التشريق 2: 804 ح 2419، الترمذي الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق 3: 143 ح 773، ابن حبان 5: 245 ح 3594، الحاكم 1/ 434.

(6)

لم يورده صاحب كشف الأستار فلعله عده ليس من زوائد البزار وانظر التلخيص 2: 197.

(7)

أبو داود الصوم، باب صيام أيام التشريق 2: 803: 804 ح 2418.

(8)

الدارقطني 2: 212 (32).

(9)

تقدم في ح 2.

ص: 114

وفي لفط زيادة: "نساء وبعال" والبعال يراد به مواقعة النساء.

الحديث فيه دلالة على كون أيام التشريق مقصورة على ما ذكر لا تتجاوزه إلى غيره، والغَيْر هنا إنما هو الصيام لكون القصر إضافيا فالنفي إنما هو المغاير المخصوص فيدل على تحريم صومها، وهو مصرح بالنهي عن صيامها كما عرفت في الروايات الأُخَر.

وقد اختلف العلماء في النهي هل هو للتنزيه أو للتحريم، فذهب إلى التحريم علي وعبد الله بن عمر (أ)، وهو المشهور عن الشافعي مطلقًا، وذهب ابن عمر وعائشة وعُبَيْد بن عُمَيْر في آخرين إلى التحريم إلا للمتمتع الذي لا يجد الهَدْيَ، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وهو مذهب الهادوية، وذهب الأوزاعي وغيره إلى أنه يصومها أيضًا المحصر والقارن، فالأولون احتجوا بحديث نُبَيْشة وغيره وجعلوه مخصصًا لعموم قوله تعالى:{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (1) فإنَّ الآية تشمل ما قبل يوم النحر وما بعده، وهذه الأحاديث خصوص في أيام التشريق، وفيها عموم منْ حيثُ شُمُولها الحاج وغيره فيرجح خصوصها لكونه مقصود بالدلالة على أنها ليست محلًا للصوم وأن ذاتها باعتبار ما هي مؤهلة له كأنها منافية للصوم.

وحجة القول الثاني عموم الآية الكريمة وما أخرجه البخاري عن عُرْوَة عن عائشة، وعن سالم عن ابن عمر قالا (ب):"لم يرخص في أيام التشريق أنْ يُصمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي"(2) ويُرَخَّص بصيغة المجهول، وهذه

(أ) هـ (عمرو).

(ب) هـ، ى:(قال).

_________

(1)

سورة البقرة الآية 196.

(2)

البخاري الصوم، باب صيام أيام التشريق 4: 242 ح 1997.

ص: 115

العبارة اختلف علماءُ الحديثِ والأصول في أن لها حُكم الرفع أو لا؟ على ثلاثة أقوال ثالثها: إن أضاف ذلك إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حُكْم الرفع، وإن لم فلا، وقد وقع عند الدارقطني والطحاوي (1) بإسنادٍ ضعيف التصريح بالرفع لفظ: رَخَّص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ أن يصوم أيام التشريق".

وحجة القول الثالث كالثاني، فإن المُحْصَرَ حُكمه حكم المتمتع.

وأخرج البخاري عن غيره "أن عائشة كانت تصوم أيام منى وكان أبوها يصومها"(2).

والظاهر أن ذلك في غير الحج، وذهب المؤيد بالله وأبو العباس والمرتضى إلى أن النهيَ للتنزيه فيها لا للتحريم، قالوا: لأن النهي ليس لذات الصوم، وإنما هو لأمرٍ آخر وهو أنه متضمن رد كرامة الله تعالى بالأكل وغيره، وهو احتجاج في غاية الضعف، فإن هذا التعليل هو مناسب للتحريم، وأيضًا فإن النهي ظاهر في التحريم لا يُصرف عنه إلا لقرينة، ولو احتجوا بما روي مِنْ فعْل عائشة وأبيها، وأن فعلهما مع معرفتهما قرينة بأن النهي مقترن بما يدَلُّ على أنه ليس للتحريم وإنْ لم يُنْقَلْ ذلك حملًا لهما على أنهما لعلمهما وأخصيتهما (1) بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفعلان ذلك إلا لقرينة قوية تصرف النهي عن ظاهره لكان سديدًا، والله أعلم.

وأيام التشريق هي الثلاثة الأيام بعد النحر، قال المصنف -رحمه الله تعالى:"لأن يوم النحر لا يُصَامُ بالاتفاق، وصيام التشريق مختلف فيه"

(أ) جـ: (اختصاصهما).

_________

(1)

سر.

(2)

البخاري الصوم، باب صيام أيام التشريق 4: 242 ح 1996.

ص: 116

كذا قال، وهو احتجاج ركيك، وأظهر منه ما روي عن علي رضي الله عنه في صيامها للمتمتع قال:"يتسحر ليلة الحصبة ويصوم الثلاثة أيام" وليلة الحصبة هي ليلة ثاني النحر، وسميت بذلك لأنها ترمى في يومها الجمار الثلاث.

وفي "شمس الأخبار" أيضًا: "نهي عن صيام ستة أيام" يعني يومًا قبل شهر رمضان، ويوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق، فعطف أيام التشريق على يوم النحر، والعطف يقتضي المغايرة.

أخرجه .... (أ).

وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تُشْرق فيها أي تنشر في الشمس (ب وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس ب)، وقيل: التشريق: التكبير دُبُر كل صلاة.

واختلف فيها هل هي يومان بعد النحر أو ثلاث (1)؟ والخلاف في صِحَّة القضاء فيها، وحُكْم النذر بصيامها ما تقدم في يوم العيدين.

529 -

وعن عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنه قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إِلا لمن لم يجد الهدي" رواه البخاري (2) تقدم الكلام على هذا.

(أ) بياض بالأصل، وهـ، جـ، ى. كتب فوق البياض بالأصل وجـ، ى: بياض. وفي حاشية هـ: (بياض في الأم).

(ب- ب) ساقط في ى.

_________

(1)

الفتح 243:4: 244.

(2)

البخاري الصوم، باب صيام أيام التشريق 4: 242 ح 1997.

ص: 117

530 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تَخُصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إِلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" رواه مسلم (1).

الحديث فيه دلالة على كراهة اختصاص ليلة الجمعة بصلاة زائدة على ليالى الأسبوع، وهذا متفق على كراهته، واحتج به العلماء على كراهة الصلاة المبتدعة في أول ليلة جمعة (أ) من شهر رجب المسماة بصلاة الرغائب (2)، وقد صنف جماعة من العلماء مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلائل قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها أكثر من أن يحصى، كذا ذكره النووي (3).

وفيه دلالة على منع الصوم في يوم الجمعة مفردًا عن غيره، وقد اختلف العلماء في ذلك فنقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسَلْمَان وأبي ذَرّ، قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفًا (ب) من الصحابة (4).

وقال ابن المنذر: ثبت النَّهْيُ عن منع الصوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد.

وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد

(أ) هـ، ى:(الجمعة).

(ب) هـ: (مخالفة).

_________

(1)

مسلم الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا 2: 801 ح 148 - 1144.

(2)

انظر رسالة ابن دحية الكلبي الموسومة "أداء ما وَجَب في بيان وضْع الوضاعين في رجب"، ورسالة ابن حجر العسقلاني:"تبيين العجب في بيان فضل رجب".

(3)

شرح مسلم 20:8.

(4)

المحلى 20:7.

ص: 118

على تحريم صوم العيد، ولو صام قبله أو بعده.

وذهب الجمهور إلى أن النهيَ فيه لتنزيه، وعن مالك وأبي حنيفة أنه لا يكره، قال مالك: لم أسمع أحدًا ممن يقتدى به ينهى عنه.

قال الداودي: لعل النهيَ لم يبلغ مالكًا، وفي كلام عياض (1) أنه قد يفهم من كلام مالك كراهة صومه؛ لأنه قال: يكره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة، فيكون له في المسألة روايتان.

واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقل ما كان يفطر يوم الجمعة"(2) حَسَّنه الترمذي، وهو يحتمل أنه كان يصومه مع ما قبله أو بعده، وبعضهم عده من الخصائص، وهو بعيد.

واختلف النقل عن الشافعي، فنقل عنه المزني أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر، والرواية الأخرى كقول الجمهور، وهو الذي صححه المتأخرون.

واختلف في علة النهي عن إفراده بالصومِ على أقوال:

أحدها: لكونه يوم عيد، والعيد لا يُصَام، وقد دل على هذا ما رواه أبو هريرة مرفوعًا:"يوم الجمعة يوم عيدكم"(3) وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: "منْ كان منكم متطوعًا من الشهر فليصُم يوم الخميس ولا يصم (أ) يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذِكْر"(4).

(أ) هـ: (يصوم).

_________

(1)

شرح مسلم 19:7.

(2)

الترمذي الصوم، باب ما جاء في صومه يوم الجمعة 118:3 ح 742 (بلفظ: "

يوم من غرة كل شهر

").

(3)

أحمد 2: 532، الحاكم، 1: 437 (وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

(4)

ابن أبي شيبة 3: 44.

ص: 119

ولا يلزم منه مساواته للعيد في التحريم إذ هو مشبه، ويحتمل المبالغة في التشبيه بأن كراهته قريب من التحريم في الاجتناب.

ثانيها: لئلا يضعف عن سائر أنواع العبادة، واختاره النووي (1)، وتعقب بأن ذلك حاصل، ولو صام قبله أو بعده، وأجيب بأنه قد حصل الجبر لما فات من الفضائل بصوم ما قبله أو بعده وقد يورد عليه بأن الخبر لا ينحصر في الصوم بل يمكن تغيره من سائر أنواع الخير فيلزم أن من فَعَلَ في يوم الجمعة عملًا صالحًا وصام أنه ينجبر به الصوم، ولا قائل بذلك.

ثالثها: خوف المبالغة في تعظيمه فيحصل بذلك الابتداع، وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام.

رابعها: خوف اعتقاد وجوبه، وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس.

خامسها: خشية أن يفرض عليهم كما خشى صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل، ذلك قاله المهلب، وهو منتقض مع صوم قبله أو بعده.

سادسها: مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم، نقله القمولي وهو ضعيف.

531 -

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَصُومن أحدكم يوم الجمعة إِلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده" متفق عليه (2).

تقدم الكلام عليه، وفي الباب من حديث جويرية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها: أصمْت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا، قال: فَأفطِري"

(1) شرح مسلم 19:7.

(2)

البخاري الصوم، باب صوم يوم الجمعة .... 4: 232 ح 1985، مسلم الصيام، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا 2: 801 ح 147 - 1144.

ص: 120

رواه البخاري وأحمد وأبو داود (1).

532 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإِذا انتصف شعبان فلا تصوموا" رواه الخمسة واستنكره أحمد (2).

الحديث هو من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال، قال أبو داود:"رواه الثوري وشبل بن العلاء وأبو عميس وزهير بن محمد عن العلاء"(3)، قال أبو داود:"وكان عبد الرحمن لا يحدث به، قلت لأحمد: لم؟ قال: لأنه كان عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان، وقال عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه".

قال أبو داود: ليس هذا عندي خلافه (3).

لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم الشهر من أوله كاملًا كما في رواية أبي سلمة "أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًّا إلا شعبان يصله برمضان" أخرجه أبو داود (4).

والمنهيّ عنه أنما هو ابتداء الصوم من النصف فما بعده فلم يكن بين

(1) البخاري (السابق) 4: 232 ح 1986. أبو داود الصوم، باب الرخصة في ذلك 2: 806 ح 2422، أحمد 6: 430.

(2)

أبو داود الصوم، باب في كراهية ذلك 2: 751 ح 2337، الترمذي الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان 3: 115 ح 738 (بنحوه) النسائي الكبرى، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم إلا من صام صومًا فوافقه 1: 528 ح 1651 (بنحوه)، أحمد 2: 442 (بنحوه).

(3)

سنن أبي داود 2: 752.

(4)

أبو داود الصوم، باب فيمن يصل شعبان برمضان 2: 750: 751 ح 2336، الترمذي الصوم، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان 2: 113 ح 737، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان 1: 528 ح 1648، من طريق أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنهما مرفوعًا.

ص: 121

الحديثَيْن مخالفة، ولذلك قال أبو داود: و (أ) ليس هذا عندنا خلافه ولم يَجِيء به غير العلاء عن أبيه، وصح الحديث ابن حبان وخيره (1)، وقال ابن معِين: هو منكر.

والحديث فيه دلالة على أنَّ الصومَ بعد انتصاف شعبان منهيّ عنه، وقد اختلف العلماءُ في ذلك، فقطع كثير من الشافعية بتحريمه لهذا الحديث، وحديث:"لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين"(2) إنما هو لأن ذلك الغالب فيمن يقصد استقبال الشهر بالصيام.

وقال الروياني: يحرم التقدم بيوم أو يومين، ويكره من نصف شعبان، وذهب منْ عَدَاهمُ إلى عدم الكراهة، وصرح الإمام المهدي في "البَحْر"(3) لمذهب الهادوية إلى أنه مندوب، وتأول حديث النهي عمن أضعفه الصوم، وقد سبقه إلى ذلك الطحاوي، وقال: وحديث التقدم بيوم أو يومين لمن يحتاط بزعمه لرمضان لا مطلق التطوع، والله أعلم.

533 -

وعن الصماء بنت بُشر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إِلا فيما افترض عليكم، فإِن لم يجد أحدكم إِلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغها" رواه الخمسة (4)، ورجاله ثقات، إلا

(أ) سقطت الواو من: ى.

_________

(1)

ابن حبان 5: 241 ح 3583.

(2)

البخاري الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين 4: 127: 128 ح 1914، ومسلم الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين 2: 762 ح 21 - 1082.

(3)

البحر 248:2.

(4)

أبو داود الصوم، باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم 2: 805 ح 2421 الترمذي الصوم، باب ما جاء في صوم يوم السبت 3: 120 ح 744، ابن ماجه الصيام، باب ما جاء في صيام يوم السبت 1: 550 ح 1726، أحمد 6:368. النسائي الكبرى 2: 143 ح 2759.

ص: 122

أنه مضطرب، وقد أنكره مالك، وقال أبو داود: هو منسوخ (1).

هي الصماء بنت بُشر -بالصاد المهملة، وبشر بضم الباء المازنية، يقال إن الصماء لقب، واسمها بُهية -بضم الباء الموحدة وفتح الهاء وتشديد الياء الثناة من تحت-، ويقال اسمها بهيمة بزيادة الميم، وهي أخت عبد الله بن بُشر (2).

الحديث أعل بالمعارضة للحديث الآتي عن أم سلمة، وبالاضطراب أيضًا؛ لأنه قيل فيه إنه رواه عبد الله بن بشر عن أخته الصماء، وقيل عن عبد الله بن بُشر وليس فيه أخته الصماء، وهذه (أ) رواية بن حبان (3)، وهذه العلة ليست بقادحة فإنه صحابي، وقيل عنه عن أبيه بُشر، وقيل عنه عن الصماء عن عائشة.

قال النسائي: هذا حديث مضطرب.

قال المصنف (4) -رحمه الله تعالى-: ويحتمل أن يكون عبد الله عن أبيه وعن أخته (ب وعند أخته ب) بواسطة، وهذه طريق مَنْ صححه، ورجع عبد الحق الطريق الأُولَى، وتبع في ذلك الدارقطني، لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المَخْرَج يوهِن الرواية وينبئ بقلة ضبطه، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجَمْع طرق الحديث، فلا يكون ذلك دالا على قلة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا بل اختلف فيه

(أ) هـ: (فهذه) - بالفاء.

(ب، ب) ساقط من جـ.

_________

(1)

سنن أبي داود 2: 806.

(2)

الاستيعاب 4: 245 الإصابة 4: 341.

(3)

ابن حبان 5/ 250، ح 3606.

(4)

التلخيص 216:2.

ص: 123

أيضًا على الراوي عبد الله بن بُشر.

وقوله: "وقد أنكره مالك" صرح أبو داود عن مالك بأنه قال: هذا كذاب.

وقولة: "وقال أبو داود (1): هو منسوخ"، لعله أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر الأمر قال "خالفوهم".

والنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى لأنه كان يوم عيد عندهم، وصيامه إياه موافق الحالة الثانية، وهي مخالفتهم، وهذا صورة النسخ، والله أعلم، كذا قال المصنف رحمه الله تعالى (2).

وقال الحاكم: بل الجمع ممكن بين صيامه والنهي عنه، وهو أن النهي عن إفراده، والصوم له مع ما قبله أو بعده، والأولى أن يقال أن المعارضة حاصلة بسرده صلى الله عليه وسلم للصوم في شعبان وأنه كان يصوم حتى نقول لا يفطر كما في حديث عائشة وابن عباس، والنهي عن صوم السبت مطلق غير مشروط بالإفراد كما في الجمعة، وهذا معارض، ولعل الحُكْم بأن هذا ناسخ أولى، وقد أشار إلى هذا في السنن أيضًا، فإنه قال نسخه حديث جويرية، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال "صُمْتِ أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غدًا" الحديث وقد تقدم فإنه يدل على عدم النهي عن صومه مع غيره (3).

وأقول: أصرح في دعوى النسخ من هذا جميعه حديث أم سلمة الآتي.

(1) سنن أبو داود 2: 806.

(2)

التلخيص 216:2.

(3)

انظر ص 220.

ص: 124

435 -

وعن أم سلمة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام السبت ويوم الأحد، وكان يقول: إِنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم" أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة، وهذا لفظه، وأخرجه البيهقي، وأخرجه الحاكم (1) بإسناد صحيح عن كُرَيْب أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها (أ) عن الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها صيامًا، فقالت: يوم السبت والأحد فرجعت إليهم فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها فقالت: صدقَ، وكان يقول:"إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أريد أن أخالفهم".

وأخرج الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس"(2).

والحديث فيه دلالة على عدم كراهة صوم السبت لا سيما مع كثرة صيامه له، بل يدل على الاستحباب، ولا سيما مع تعليله بمخالفة أهل الكتاب، وظاهره مفردًا أو مضمومًا إليه غيره، والله أعلم.

535 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن صَوْم يوم عَرَفَة (ب) بعرفة" رواه الخمسة غير الترمذي، وصححه

(أ) هـ: (فسألها).

(ب) سقط لفظ: (عرفة) من جـ.

_________

(1)

ابن خزيمة 3: 318 ح 2167، الحاكم 1: 436، البيهقي 4: 303، النسائي الكبرى، الصيام باب صيام يوم الأحد 2: 146 ح 2776.

(2)

الترمذي الصوم، باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس 3: 122 ح 746.

ص: 125

ابنُ خزيمة والحاكم، واستنكره العقيلي، وأخرجه البيهقي أيضًا (1).

وفي إسناد الحديث مهدي الهجري ضعفه العقيلي وقال: لا يتابع عليه، والراوي عنه أيضًا حوشب بن عقيل مختلف فيه (2).

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: قد صححه ابن خزيمة ووثق مهديًا المذكور ابن حبان. انتهى.

قال العقيلي: وقد روى (أعن النبي صلى الله عليه وسلم أ) بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم عرفة بها، ولا يصح النهي عنه عن صيامه (ب)، انتهى (3).

أما إنه لم يصم صلى الله عليه وسلم بعرفة فقد أخرج البخاري من طريقين (4)، ولكن تركه صلى الله عليه وسلم لصومه لا يدل على النهي عن الصوم ولا على استحبابه، إذ قد يترك الشيء المستحب لبَيَان الجوَاز، ويكون في حقه أفضل لبيان الشرعية ولكن هذا حديث أبي هريرة يدل على أنه منهي عنه، وظاهر النهي التحريم، وقد ذهب إلى ظاهره يحيى بن سعيد الأنصاري وقال: يجب إفطاره للحاج، وعن جماعة من الصحابة منهم الزبير وأسامة بن زيد وعائشة أنهم كانوا يصومونه وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن

(أ - أ) سقط في جـ.

(ب) هـ: (صيام).

_________

(1)

أبو داود الصوم، باب في صوم عرفة بعرفة 2: 816 ح 2440 النسائي الحج الكبرى (كما في تحفة الأشراف 14253). ابن ماجه الصوم باب صيام يوم عرفة 1: 551 ح 1732 أحمد 2: 304، الحاكم الصوم 1: 434 البيهقي الصيام، باب الاختيار للحاج في ترك صوم يوم عرفة 284:4.

(2)

الميزان 1: 622.

(3)

الضعفاء 1: 298.

(4)

البخاري الصوم باب صوم يوم عرفة 4: 236، 237 ح 1988، 1989.

ص: 126

عثمان.

وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يَضْعُفْ عن الدعاء. ونقله البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية، وقال الجمهور: يستحب فطره حتى قال عطاء: من أفطره ليتقوى به [على](أ) الذِّكر كان له مثل أجر الصائم.

وقال الطبري: إنما أفطر النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ليدل على الاختيار للحاج لئلا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة، وقيام إنما أفطر لموافقته يوم الجمعة، وقد نهى عن إفراده بالصوم، وهو بعيد، وقيل: إنما كره صوم يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، ويؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة بن عامر مرفوعًا:"يوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنى عيدنا أهل الإسلام"(1)، وهذا يؤيد القول بوجوب إفطاره لذكره مع ما يجب إفطاره، والله أعلم.

536 -

وعن عبد الله بن عَمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صام مَنْ صام الأبد" متفق عليه (2)، ولمسلم عن أبي قتادة بلفظ:"لا صام ولا أفطر"(3).

قوله: "لا صام منْ صام الأبد" أي: الدهر مستمرًا "لا"(ب) ظاهرها

(أ) سقط من: ى.

(ب) كذا في الأصل، جـ، ى. وفي هـ:(لأن).

_________

(1)

أبو داود الصوم، باب صيام أيام التشريق 2: 804 ح 2419، والترمذي الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق 3: 143 ح 773.

(2)

البخاري الصوم، باب حق الأهل في الصوم 4: 221 ح 1977، مسلم الصيام باب النهي عن صوم الدهر 2/ 815 ح 1159 - 186.

(3)

مسلم الصيام باب النهي عن صوم الدهر 2/ 918 ح 1162 - 197.

ص: 127

الدعاء عليه بعدم القدرة على الصوم، ويحتمل أنَّ معناها (أالنفي الذي هو أصلها كقوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (1) أي: ما صام، والمعنى أنه لم يحصل له فضيلة الصوم، ويدل عليه رواية أبي (ب) قتادة فإن المعنى فيها أنه لم يحصل له فضيلة الصوم ولا راحة الإفطار، وفي رواية:"ما صام ولا أفطر"(2)، وفي رواية الترمذي:"لم يصم ولم يفطر"(3)، وهي تفسر معنى النفي.

وقد اختلف العلماء في صوم الدهر، فذهب إسحاق وأهل الظاهر، ورواية عن أحمد إلى كراهته، قال ابنُ العربي (4): قوله "لا صام من صام الأبد" إنْ كان معناه الدعاء فيا ويح من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخبر فيا ويح مَنْ أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يَصُم، وإذا لم يصم شرعًا فكيف يُكْتَبُ له الثواب، وظاهر هذا أنه ذهب إلى الكراهة مطلقًا.

وقال ابن حزم (5) أنه يحرم بهذا وبما أخرج ابن أبي شيبة (6) بإسناد صحيح قال: "بلغ عُمَر أنَّ رجلًا يصوم الدهر فأتاه فعلاه بالدرة، وجعل يقول: "كُلْ يا دهر"، وأن عبد الرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر، فقال عمرو (جـ) بن ميمون: لو رأى هذا أصحاب محمد لرجموه (7).

(أ) هـ: (معناه).

(ب) سقط (أبي) من جـ، هـ.

(جـ) هـ: (عمر).

_________

(1)

الآية 31 من سورة القيامة.

(2)

مسلم - تقدم.

(3)

الترمذي الصوم، باب ما جاء في صوم الدهر 3: 138 ح 767.

(4)

العارضة 3: 299.

(5)

المحلى 6: 430.

(6)

ابن أبي شيبة 3: 79.

(7)

الفتح 4: 222.

ص: 128

وبحديث أبي موسى رفعه: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد بيده" أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان (1)، ومعناه أنها تضيق عليه حصرًا له فيها لتشديده (أ) على نفسه وحمله عليها ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حرامًا.

وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أحاديث النهي على من صام ذلك مع العيدين والتشريق وهو اختيار ابن المُنْذِر وروي عن عائشة نحوه، وفيه نظر فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لابن عمرو على ما تدل عليه القصة ليس لأجل ما ذكر، وإنما هو لتفويت الحقوق التي ينبغي من الإنسان القيام بها المشروعة المتعلقة بالبَدَن، وبرعاية حقوق الغَيْر من الزوجة والزائر والصِّديق، والزَّجر (ب) عن التعمق في العبادة التي يخشى منها الحال المنافِي للشريعة السهلة السمحة التي تفضل الله على الأمة في شرعها برفع الحَرَج والإصْر.

وذهب الجمهور إلى استحباب صيام الدهر لمن قَويَ عليه، ولم يفوت حقًّا.

قال السبكي (2): ويتجه التفصيل في الحق الذي قالوا وهو أنه إذا كان واجبًا حرم الصوم، وإن كان مندوبًا كره الصيام وأشار إلى هذا ابن خزيمة،

(أ) هـ: (لشدته).

(ب) هـ: (الراحة)!

_________

(1)

أحمد 4: 414، ابن حبان 5: 238 ح 3576، ابن خزيمة 3: 313 ح 3154، ابن أبي شيبة 3: 78، البيهقي 4:300.

(2)

الفتح 4: 222 (بنحوه).

ص: 129

وأجابوا عن حديث أبي موسى بأن معنى "ضيقت عليه": ضيقت عنه، حكاه الأثرم عن مسدد، وحكى رده عن أحمد، وقال ابن خزيمة (1): سألتُ المزني عنه فقال: يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره؛ لأن مَن ازداد (أ) لله عملًا صالحًا ازداد رفقة وكرامة، ورجح هذا التأويل الغزالي (2)، ويجاب عنه بأنه مع النهي عنه ليس من العمل الصالح، فإن العمل الصالح ما وافق شرع، وما عداه غلو مردود {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} (3).

واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه صوم أيام البيض وست من شوال مع رمضان بصوم الدهر (4)، فلولا أن صائمه يستحق الثواب لما شبه به.

وأجيب بأن ذلك على تقدير مشروعيته فقد أغنى عنه كما أغْنَت الخمس الصلوات عن الخمسين الصلاة التي قد كانت فُرِضَتْ مع أن مصليها لوجوبها لا يستحق ثوابًا بل عِقَابًا.

وقد ورد في صوم الدهر من حديث أبي هريرة: "مَنْ صام الدهر فقد وهب نفسه لله عز وجل" أخرجه أبو الشيخ (5)، والله أعلم.

فائدة: لم يذكر المصنف رحمه الله في فضل صوم رجب شيئًا ولعله لضعف الأحاديث الواردة في ذلك، كما حكى السبكي في

(أ) هـ، ي:(أراد).

_________

(1)

صحيح بن خزيمة 313:3.

(2)

إحياء علوم الدين 1: 213.

(3)

المائدة الآية 77.

(4)

صوم ست من شوال مع رمضان في مسلم وتقدم.

(5)

الكنز 24161.

ص: 130

"الطبقات"(1) في ترجمة محمد بن منصور السمعاني أنه قال: "لم يَرِدْ فِي استحباب صوم رجب على التخصيص سُنَّة ثابتة، والأحاديث التي تُروى فيه واهية لا يفْرحُ بها عالم، وهذا كلام صحيح، ولكن لا يوجب التزهيد في صومه ففضل الصوم من حيث الإطلاق ثابت، وفي سنن أبي داود (2) وغيرها في صوم الأشهر الحرم ما يكفي في قيام السُّنَّة على الترغيب في صومه"، انتهى.

وقد أخرج الطبراني (3) عن سعيد بن أبي سعيد بن أبي راشد قال صلى الله عليه وسلم: "رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، فمن صام يومًا من رجب فكأنما صام سنة، ومَنْ صام منه سبعة أيام غلقت سبعة أبواب جهنم، ومنْ صام منه ثمانية أيام فُتِّحَتْ له ثمانية أبواب الجنة، ومَن صام عشرة لم يَسأل الله شيئًا إلا أعطاه، ومن صام منه خمسة عشر يومًا نادى منادٍ من السماء قد غُفِرَ لك ما مضى فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله، وفي رجب حمل الله نوحًا في السفينة فصام رجب، وأمر مَنْ معه أن يصوموا فجرت بهم السفينة ستة أشهر آخر ذلك يوم عاشوراء أهبط على الجُودِيِّ فصام نوح ومن معه والوحش شكرًا لله عز وجل، وفي يوم عاشوراء فلق الله البحر لبني إسرائيل، وفي يوم عاشوراء تاب الله على آدم وعلى مدينة يونس، وفيه ولد إبراهيم".

وأخرج أبو محمد الحسن بن محمد الخلال في "فضائل رجب" عن أبي سعيد أنه قال صلى الله عليه وسلم: "رجب من شهور الحُرُم، وأيامه مكتوبة على

(1) وهو في الطبقات الوسطى، نقله محقق الطبقات الكبرى 7/ 11.

(2)

أبو داود الصوم، باب في صوم أشهر الحُرُم 2: 809: 810 ح 2428.

(3)

المعجم الكبير 6/ 69 ح 5538. وقال ابن حجر العسقلاني في تبين العجب ص 16: "هو حديث موضوع". لأن فيه عثمان بن مطر كذبه ابن حبان وضعفه غيره من الأئمة.

ص: 131

أبواب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يومًا وجد صومه بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم وقالا: يا رب اغفر له، وإذا لم يتم صمومه بتقوى الله لم يستغفرا وقيل: خَدَعَتْك نفسك".

وأخرج أبو الفتح ابن أبي الفوارس في "أماليه" عن الحسن مرسلًا أنه قال صلى الله عليه وسلم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي"(1).

وأخرج الخطيب عن أبي ذر: "مَنْ صام يومًا من (أ) رجا عدلِ صيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غُلِّقَتْ عنه أبواب جهنم السبعة (ب ومنْ صام منه ثمانية أيام (جـ) فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بَدَّل الله سيئاته حسنات ب)، ومنْ صام منه عشرة أيام نادى منادٍ إن الله قد غفر لك ما مضى فاستأنِفْ العمل"(2).

وأخرج أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عمر (د أنه قال صلى الله عليه وسلم د)"ومَنْ (هـ) صام أول يوم من رجب عدل ذلك بصيام سنة، ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب النيران، ومن صام من رجب عشرة أيام نادى منادٍ من السماء أنْ سلْ تُعْطَه".

وأخرج البيهقي عن أنس أنه قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صام يومًا من رجب

(أ) زادت هـ: (شهر).

(ب- ب) سقط في ي.

(جـ) سقط من هـ.

(د- د) سقط من ي.

(هـ) كذا في الأصل، وفي جـ:(مَنْ، ومن)، وفي هـ:(من) - بغير واو.

_________

(1)

موضوع انظر: تذكرة الموضوعات 1165، كشف الخفا 1: 580، الفوائد المجموعة 47، 100، 439، الأسرار المرفوعة 460، إتحاف السادة المتقين للزبيدي 3:422.

(2)

قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح. الموضوعات 2: 207.

ص: 132

كان كصيام سنة، ومَنْ صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، ومن صام خمسة عشر يومًا ناد منادٍ من السماء قد غفرت لك ما سلف، فاستأنف العمل، قد بدلت سيئاتك حسنات، ومن زاد زاده الله، وفي رجب حمل نوح في السفينة فصام نوح، وأمر من معه أن يصوموا، وجَرَت بهم السفينة ستة أشهر إلى آخر ذلك لعشر خلون من المحرم".

فهذه الأحاديث بعضها يقوي بعضًا، والله أعلم.

اشتمل هذا الباب على ستة عشر حديثًا.

ص: 133