المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الإحرام وما يتعلق به - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٥

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌باب الإحرام وما يتعلق به

‌باب الإحرام وما يتعلق به

الإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما بالنية.

563 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا من عند المسجد" متفق عليه (1).

قال ابن عمر: هذا رد على من قال إنه صلى الله عليه وسلم أهل (أ) من البيداء، فقال ابن عمر بيداؤكم هذه الذي يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث (2). والمراد بالمسجد مسجد ذي الحليفة، وفي رواية أخرى "إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره"(3)، والبيداء التي أنكر ابن عمر هي الشرف التي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة، وهي تقرب من ذي الحليفة، سميت بيداء لأنه ليس فيها بناء ولا أثر، وكل مفازة تسمى بيداء، والشجرة المذكورة كانت عند المسجد، والتكذيب المذكور هنا مراد به الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع، وإن لم يتعمد، وفي الرواية الأخرى عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم "ركع بذي الحليفة ركعتين ثم حين (ب) استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل".

(أ) جـ: (أحرم).

(ب) جـ: (إذا).

_________

(1)

البخاري الحج، باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة 3: 400 ح 1541، مسلم الحج، باب أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة 2: 843 ح 23 - 1186 (مطولًا).

(2)

مسلم السابق.

(3)

مسلم 843:2 ح 24 - 1186 م.

ص: 233

والحديث فيه دلالة على أن ميقات أهل المدينة من عند مسجد ذي الحليفة، ولا يجوز لهم تأخير الميقات إلى البيداء، ولهذا قال جميع العلماء، ويدل على أن الإحرام من الميقات أفضل من أن يحرم من دويرة أهله. لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الإحرام من مسجده مع كمال شرفه، والظاهر أن اختياره لذلك لكونه أفضل لا لبيان الجواز، لأنه قد كان بين المياقيت، وقد روى ابن عباس أنه أهل صلى الله عليه وسلم بعد أن ركب راحلته واستوت به على البيداء، وأنكر هذا ابن عمر على ابن عباس (1). ولكنه يزول الإشكال ويجمع بين الروايات المختلفة بما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق سعيد ابن جبير (2) "قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله" فذكر الحديث وفيه "فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أوجب من مجلسه فأهل بالحج حين فرغ منهما فسمع قوم فحفظوه ثم ركب فلما استقلت (أ) به راحلته أهل وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا: إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم مضى، فلما علا شرف البيداء أهل وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنقل كل ما سمع، وإنما كان إهلاله في مصلاه وايم الله، ثم أهل ثانيًا وثالثًا". وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن عطاء عن ابن عباس نحوه، فعلى هذا إن إنكار ابن عمر على من خص الإهلال بالقيام على شرف البيداء، والله أعلم.

564 -

وعن خلاد بن السائب عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(أ) هـ: (استهلت).

_________

(1)

الحديث تقدم وحديث ابن عباس عند البخاري الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأرز 3: 405 ح 1545.

(2)

أبو داود المناسك، باب في وقت الإحرام 2: 372 ح 1770، والحاكم 1:451.

ص: 234

قال: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال" رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان (1).

هو خلاد (2) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام، روى عن أبيه السائب. قال ابن عبد البر:"مختلف في صحبته، وفي حديثه في رفع الصوت بالتلبية اختلافا كثيرًا، وروى عنه عطاء بن يسار: "من أخاف المدينة أخافه الله" (3) مختلف فيه، فمنهم من يقول فيه السائب بن خلاد"(4).

وأخرج الحديث أحمد ومالك في "الموطأ"، والشافعي عن مالك والحاكم والبيهقي، وقد رواه بعضهم عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد ولا يصح، وقال البيهقي أيضًا:"الأول هو الصحيح"(5)، وأما ابن حبان فصححهما وتبعه الحاكم وزاد رواية ثالثة من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أبي هريرة.

وروى أحمد من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن جبريل أتاني فأمرني أن أعلن التلبية"(6).

وترجم البخاري رفع الصوت بالإهلال وأورد فيه حديث أنس (7):

(1) أبو داود الحج، باب كيف التلبية 2: 404 ح 1814.

الترمذي الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية 3: 191 ح 829، النسائي المناسك، باب رفع الصوت بالإهلال 5: 162 (بلفظ جاءني)، ابن ماجه المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية 2: 975 ح 2922، أحمد 4: 55، مالك 1: 334 ح 34، الحاكم 1: 450، البيهقي الحج، باب رفع الصوت بالتلبية 5: 42، ابن حبان 1039، الدارقطني 2:238.

(2)

الإصاية 1: 454 (2277)(ط. مط. السعادة، مصر).

(3)

أحمد 56:4.

(4)

الاستيعاب 1: 417 (على هامش الإصابة).

(5)

البيهقي 5: 42.

(6)

أحمد 1: 321.

(7)

البخاري 3: 408 ح 1548.

ص: 235

"صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالدينة والعصر بذي الحليفة وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا".

وروى ابن أبي شيبة من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم".

الحديث فيه دلالة على استحباب رفع الصوت بالتلبية، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، واختلفت الرواة عن مالك فقال ابن القاسم عنه: لا يرفع صوته بالتلبية إلا عند المسجد الحرام ومسجد منى، وقال في الموطأ:"لا يرفع صوته بالتلبية في مسجد الجماعات"(1).

ولم يستثن شيئًا، ووجه الاستثناء أن المسجد الحرام جعل للحاج والمعتمر وغيرهما، وكان الملبي إنما يقصد إليه فكان ذلك وجه الخصوصية وكذلك مسجد منى.

565 -

وعن زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل" رواه الترمذي وحسنه (2).

الحديث ضعفه العقيلي وأخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني.

وروى الحاكم والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: "اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى به على البيداء أحرم

(1) الموطأ 1: 334 رقم 35.

(2)

الترمذي الحج، باب ما جاء في الاغتسال عند الإحرام 3: 192 ح 830، الدارقطني الحج 2: 220 - 221 (بنحوه)، البيهقي الحج، جماع أبواب الإحرام والتلبية، باب الغسل للإهلال 5: 32 - 33، العقيلي 4:138.

ص: 236

بالحج" (1) ويعقوب ضعيف (2).

والحديث فيه دلالة على شرعية الغسل قبل الإحرام، وذهب الأكثر إلى أنه مندوب وليس بواجب، وذهب الناصر إلى وجوبه، وتردد كلام مالك والنصري في وجوبه أريد به، وهو مشروع للتنظيف لا للتطهير، ولذلك شرع في حق الحائض والنفساء كما سيأتي في حق أسماء بنت عميس.

566 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إِلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئًا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس" متفق عليه (3) واللفظ لمسلم. الحديث ذكر في الجواب ما يترك المحرم والسؤال عن ملبوس المحرم، وهذا من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يترقب للتنبيه على أنه الأولى من أن يسأل عنه، وذلك لأن ملبوس المحرم تقرر جوازه بالإباحة الأصلية، وإنما الكلام فيما حصره الشرع، وأخرجه عن الإباحة، ولأنه أيضًا غير منحصر، فإنه يجوز له أن يلبس أي شيء كان على أي هيئة ما عدا ما ذكر، فذكر في الجواب الممنوع منه لانحصاره، وأطلق ما عداه لبقائه على حكم الإباحة، والرواية المذكورة هي المشهورة، وقد رواه أبو عوانة من

(1) البيهقي 5: 33، الحاكم 1:447.

(2)

هو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح المكي ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن معين: ضعيف.

ميزان الاعتدال 4: 453 (9821)، تقريب التهذيب 2: 376 (386).

(3)

البخاري الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب 3: 401 ح 1542، مسلم الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه 2: 834 ح 1: 1177 (واللفظ له).

ص: 237

طريق ابن جريج عن نافع بلفظ: "ما يترك المحرم" وهي شاذة والاختلاف فيها على ابن جريج لا على نافع ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ: "أن رجلًا قال يا رسول الله ما يجتنب المحرم من الثياب" أخرجه أحمد (1)، وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه.

وأخرج أحمد عن ابن عيينة عن الزهري فقال مرة: "ما يترك"، وقال مرة:"ما يلبس"(2).

قوله "المحرم" أجمعوا على أن المراد هنا الرجل ولا تلحق به المرأة في ذلك، والمراد بالقميص هو ما أحاط بالبدن، والقميص ما كان عن تفصيل وتقطيع، ويلحق به ما أحاط بالبدن وإن لم يكن كذلك، وذلك مثل الجراب (أ) وما ألصق بالنسج أو بالتلبيد، وكذا العمامة ما كان على الرأس فيلحق بالعمامة غيرها مما يغطي الرأس.

قال الخطابي: ذكر العمامة والبرانس معًا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر كالبرنس، وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو غيره كذا في النهاية.

وقال الجوهري: هي قلنسوة طويلة كان الناس يلبسونها في صدر الإِسلام، وهو من البِرْنس (3) بكسر الباء وهو القطن، والنون زائدة وقيل إنه غير عربي، والمراد باللبس ها هنا المعتاد في كل شيء مما ذكر، فلو ارتدي

(أ) جـ: (الحزام).

_________

(1)

أحمد 8:2.

(2)

أحمد 4:2.

(3)

الصحاح 3: 908.

ص: 238

بالقميص لم يمنع منه لأن اللبس المعتاد في القميص غير الارتداء.

واختلف الفقهاء في القباء إذا لبس من غير إدخال اليدين في الكمين، ومن أوجب الفدية جعل ذلك من المعتاد أحيانًا، واكتفى في التحريم فيه بذلك ولا يضر الانغماس في الماء وكذا مباشرة المحمل بالرأس (أ) وكذا ستر الرأس باليد، وكذا وضع الرأس عند النوم لأنه لا يسمى لابسًا، وفي كتب المفرعين على أصل الهادي تفصيل في ذلك، وفي قوله "وكذا السراويلات"(ب) المراد به ما يغطي بعض البدن، وقوله "ولا الخفاف" وكذا يلحق به الجورب، والخف ما كان إلى نصف الساق، والجورب ما كان إلى فوق الركبة.

وقوله "إِلا أحد" قد استعمل أحد هنا في الإثبات وحقه أن يستعمل في النفي إلا أنه قد جاء ذلك ولكنه بشرط أن يكون بعده نفي، وقوله "لا يجد نعلين". والمراد بها النعل العربية، "وليقطعهما أسفل من الكعبين" المراد من هذا كشف الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال:"إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما تستمسك رجلاه".

فهذا القدر يدل على أن القطع من تحت الكعب الأعلى، إذ لو كان من تحت كعب (جـ) الشراك لم يبق ما تستمسك معه الرِّجْل. وقد ذهب إلى هذا محمَّد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية وهو كذلك في كتب

(أ) هامش ي: قالوا في أنه لا يضر مباشرة المحمل فالزاهر.

(ب) جـ: (السراويل).

(جـ) سقط من جـ (كعب).

ص: 239

الهادوية مصرح به على أصل الهادي، وأن الكتب المراد هنا العظم الذي في وسط القدم تحت معقد الشراك، وقيل إن ذلك لا يعرف عند أهل اللغة، وقد ضعفت الرواية عن محمَّد بن الحسن، ونسب الراوي إلى الوهم، مع أن ابن بطال نقل عن أبي حنيفة أن الكتب هو الشاخص في ظهر القدم، ونقل عن الأصمعي أن الكتب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم، وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين مع أنه قد روي ابن المنذر في الأوسط وأبو عوانة في صحيحه بسند على شرط الصحيح عن ابن عمر:"أن رجلًا نادى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يجتنب المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس السراويل" إلى أن قال: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين (أ) وليقطعهما حتى يكونا إلى الكعبين". فإذا حمل الكعبان في هذا الحديث على كعب الشراك، (وفي الحديث الأول على الكعب الناشز أمكن الجمع بينهما بأن القطع يكون تحت الكعب الناشز إلى كعب الشراك).

والحديث فيه دلالة على وجوب القطع، وهو قول الجمهور خلافًا لأحمد وعطاء فقالوا: يلبسه من دون قطع. واحتجا بحديث ابن عباس: "ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين"(1) ويجاب عنه بأن هذا مطلق، وهو مقيد بحديث ابن عمر (2)، وأجاب الحنابلة بأن حديث ابن عباس ناسخ، وقد روى الدارقطني عن عمرو بن دينار (3)، وقد روى الحديثين وقال:

(أ) هـ: (خف) بالإفراد.

_________

(1)

البخاري جزاء الصيد، باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد نعلين 4: 57 ح 1841.

(2)

الدارقطني 2: 230 (62).

(3)

الدارقطني 2: 230 (61).

ص: 240

انظروا أي الحديثين قبل، ثم حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: حديث ابن عمر قبل؛ لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات. وأجاب الشافعي عن هذا في الأم فقال: كلاهما صادق حافظ وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون غربت عنه أوشك أو قالها ولم ينقلها عنه بعض رواته (1)، انتهى وقال ابن الجوزي (2) بالترجيح بين الحديثين فقال حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه، انتهى. ورد عليه بأن حديث ابن عمر لم يختلف عليه فيه في الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة وحديث ابن عباس اختلف في رفعه ووقفه فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا، ولا يرتاب أحد من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد (أ) واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الأصيلي (3): إنه شيخٌ بصريّ لا يُعرف، كذا قال، وهو معروف موصوف عند الأئمة بالفقه، واحتج عطاء بأن القطع فساد، والله لا يحب الفساد، ويجاب عنه بأن ذلك لتحصيل عبادة فلا فساد فيه.

وأقول إنه يتنزل الخلاف في ذلك على الخلاف في بناء العام على الخاص، فعلى أصل الشافعي ومن تبعه في بناء العام على الخاص مطلقًا، وكذا المطلق والقيد، العمل ها هنا على القيد، وهو الأمر بالقطع، وعلى

(أ) زاد جـ هنا: (والله أعلم).

_________

(1 - 2) الفتح 403:3.

(3)

الفتح 403:3.

ص: 241

قول غيره من أن العام المتأخر ناسخ، وكذا المطلق يحتاج إلى النظر في أيهما المتقدم، ومع جهل التاريخ يحتاج إلى الترجيح وقد عرفت أن خبر ابن عباس متأخر فيلزم العمل به وأنه يجوز اللبس من دون قطع، وكذا في حديث ابن عباس:"من لم يجد إزارًا ووجد سراويل فليلبسها"(1).

ومذهب أحمد في الخفين والسراويل جميعًا، وهذا في حق الرجل لا المرأة، ثم اختلف العلماء في لابس الخفين لعدم النعلين هل عليه فدية أم لا؟ فقال مالك والشافعي ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنه لو وجب فدية لبينها صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الفدية كما إذا احتاج إلى حلق الرأس فحلقه، وكذا عند الهادوية إلا أن ظاهر عباراتهم أنه يجب عليه القطع حتى لا يكون محيطًا بالرجل ويصير مثل النعل، وإذا بلغ إلى هذا القدر فلا دم عندهم، وإلا وجب الدم، ويكرر بتكرر النزع له من القدم.

وقوله "ولا تلبسوا شيئًا من الثياب مسه الزعفران والورس" قيل عدل عن طريقة ما تقدم ليشير إلى اشتراك الرجال والنساء في ذلك وهو بعيد، بل الظاهر إنما هو الإشارة إلى أن ما مسه الورس والزعفران لا يجوز لبسه سواء كان مما يعتاد لبسه أو لا، والورس (2) بفتح الواو وسكون الراء بعدها مهملة نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به، وقال ابن العربي: ليس هو بطيب ولكن شبه الطيب إلا أنه نبه به على أنه يجب اجتناب الطيب وما أشبهه مما هو طيب الرائحة ويدل ذلك على تحريم لبس ما صبغ به سواء كان الصبغ في جميع الملبوس أو بعضه، وسواء بقي له أثر الرائحة أو لا، وقال مالك في الموطأ: يكره لبس المصبوغات لأنها تنقض، وظاهر هذا

(1) الطبراني بلفظه 12: 179، وهو عند البخاري بنحوه 4: 58 ح 1843.

(2)

لسان العرب (و. ر. س) 6: 4812 (ط. المعارف، مصر).

ص: 242

إنما هو لأجل الزينة وإن لم يكن ثم رائحة.

وقال الشافعي: إذا أصاب الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة جالسة لبسه. فجعل العلة في ذلك الرائحة، ويحتج بحديث ابن عباس أخرجه البخاري قال:"انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي (أ) تردع على الجلد"(1) والردع بالراء المهملة والعين المهملة أيضًا هو أثر (ب) الطيب الذي يلزق. يظهر أن العلة هو الطيب كالزينة، وبقول الشافعي قال الجمهور مع أنه قد روي في حديث ابن عمر ما يدل على ذلك وهو في رواية أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث زيادة:"إلا أن يكون غسيلا" أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في "مسنده"(2) عنه، وقد روى الطحاوي أن يحيى بن معين أنكره على الحماني فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزدي قد كتبته عن أبي معاوية وقام في الحال، فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيى بن معين، انتهى (3). وهي رواية شاذة لأن أبا معاوية وإن كان متقنًا لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال، قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله، ولم يجيء بهذه الرواية غيره، انتهى.

والحماني ضعيف، وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال، واستنبطت الشافعية من ذلك منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران، وعن المالكية

(أ) جـ: (الذي).

(ب) جـ: (هو من الطيب).

_________

(1)

البخاري الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب

3: 405 ح 1545.

(2)

الفتح 404:3.

(3)

الفتح 404:3.

ص: 243

خلاف في ذلك، وقالت الحنفية: لا يحرم لأن المراد من اللبس إنما هو التطيب، والآكل لا يعد متطيبًا، وفي البحر ما لفظه: ومن المحظورات التطيب إجماعًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما مسه ورس

" الخبر. ولبس المبخر والمطيب والجلوس عليه لا بحائل مانع عن وصول الطيب جسمه إذ هو كالتطيب، فإن انقطع ريح الطيب فالمكث حتى لا (أ) يظهر بحال لي يضر التماسه إذ المحرم الريح، ولا يجوز الاحتقان بالطيب ولا جعله في مأكول أو مشروب ما لم يستحل.

أبو حنيفة: لا فدية إذ استحال بالطبخ، قلنا العبرة بالريح أحد أقوال الشافعي، وبالجرم، ولا وجه له. مسألة: وما يتخذ منه الذرور كالصندل والمسك يحرم التماسه إجماعًا. إذ نص على الورس والزعفران، وهذه أبلغ، وما لا يتخذ منه ولا ينبت الطيب كالخزامي والمرزنجوش والنرجس لم يحرم الهادي وأبو حنيفة والشافعي، وكذا الفواكه كالتفاح، ابن عمر والهادوية والشافعي وما ينبت ولا ذرور منه كالريحان والمنثور حرم شمه إذ هو طيب، عثمان والناصر وأبو حنيفة يجوز إذ لا ذرور منه كالعرار، قلنا اتخذ للطيب فهو كالورد، ومذهب الهادوية والإمام يحيى: لكن لا فدية لشبهه بالفاكهة، أحد قولي الشافعي تجب، وفي البنفسج قولان: يحرم، إذ هو طيب أحد قولي الشافعي لا إذ يجفف للدواء، قلنا: اتخذ منه الذرور فأشبه الورد، الإِمام يحيى ومذهب الهادوية وأبو حنيفة، وأما الحناء فطيب فلا يشم ولا يختضب به لقوله صلى الله عليه وسلم: ("الحناء طيب

" الخبر، فمن فعل فذا. الشافعي: ليس بطيب إذ اختضبت به (ب) أزواجه صلى الله عليه وسلم محرمات (1)،

(أ) جـ: (لم).

(ب) هـ: (اخبضبت به).

_________

(1)

نصب 3: 124، 261.

ص: 244

قلنا بعد التحلل بالرمي، سلمنا فلم يؤثر تقريره إياهن فلا حجة فيه.

مسألة: ولا فدية ولا إثم على مَنْ اتجر في الطيب أو حمل مسكًا في قارورة مختومة أو نافحة لا مكشوفة أو في طرف ثوبه أو عمامته فيلزم وله التماس الركن مطيبًا والدنو من الكعبة حال تجميرها إذ لم يلتمس الطيب بل غيره، والنهي متعلق بالالتماس.

مسألة: وله لبس المصبوغ إلا بالعصفر والفوه ونحوهما إذ هو طيب. هذه عبارته، وقد صوب عليه، وله لبس المصبوغ إلا ما هو طيب كالمورس والمزعفر. ثم قال أبو طالب: ولا فدية في المعصفر إذ ليس بطيب، أبو حنيفة: إن نقض لزمت إذ يشبه المورس (أ).

الشافعي: يجوز لبسه إذ ليس بطيب، الإِمام يحيى: يكره فقط إذ رخص للمحرمات في لبسه.

مسألة: أبو العباس والمرتضى والحسن بن صالح وله الادهان بما لا طيب فيه إذا ادهن صلى الله عليه وسلم بغير معْتٍ. أبو حنيفة: فيه ترطيب للجسم وجمال فيفدي، أبو يوسف ومحمد: أو صدقة إن لم يطيب، الشافعي: إن دهن الوجه والرأس فدى إذ هو كالغطاء وفي غيرهما لا شيء، الثوري: إن كان مطبوخًا فدى أو بالطبخ يزول الريح (ب) الكريهة. لنا ما مر، وله الاكتحال بما لا زينة فيه كالصبر لرواية عثمان عنه صلى الله عليه وسلم، وفعل ابن عمر، لا ما فيه زينة كالأسود إلا لعذر، الإِمام يحيى فيفدي وفيه نظر، انتهى.

وجه النظر أن الكحل الذي لا طيب فيه لا يوجب الفدية. قال العلماء:

(أ) بحاشية الأصل، وجـ هنا:(وفي شرح مسلم: وحرمه الثوري وأبو حنيفة وجعلاه طيبا فأوجبا فيه الفدية).

(ب) جـ: (الرائحة).

ص: 245

والحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته واقتناعه عن ارتكاب المحظورات، وليتذكر به الموت ولباس الأكفان وليتذكر البعث يوم القيامة حفاة عراة مهطعين إلى الداعي، والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا والتلذذ، ويتجمع همه لمقاصد الآخرة، والله سبحانه أعلم.

567 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإِحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت" متفق عليه (1).

قولها "كنت أطيب" وقع في رواية عروة عنها التصريح بأن ذلك في حجة الوداع. أخرجه البخاري في باب اللباس، وهذا يقتضي أنه وقع مرة واحدة فكان في مثل هذا الموقع لا يدل على التكرار، وتعقب بأن المدعى تكراره هو الطيب لا الإحرام، ولا مانع من تكرر (أ) الطيب وهو بعيد.

وقال النووي: المختار أنها لا تقتضي تكرارًا ولا استمرارًا، وكذا قال الفخر الرازي، وقال ابن الحاجب: إنها تقتضي التكرار، وقال جماعة من المحققين إنها تقتضي التكرار ظاهرًا وقد تدل قرينة على عدمه فاستعمل هنا مجازًا في عدم التكرار دلالة على كثرة ما فعلت من الطيب حتى صار كأنه أشبه من طيب مرة بعد أخرى لما رأت من استحبابه لذلك، مع أنها

(أ) هـ، جـ:(تكرار).

_________

(1)

البخاري الحج، باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب 3: 396، ح 1539، ومسلم الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام 2: 846 ح 33 - 1189 م.

ص: 246

قد سقطت في طريق سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك ووقعت بلفظ: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم"(1).

وقولها "لإِحرامه قبل أن يحرم" هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم "لحُرْمِه"(2) بضم الحاء وكسرها بمعنى إحرامه، فيه دلالة على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وجواز استدامته بعد الإحرام وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام، وقد ذهب إلى هذا خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين، فمن الصحابة: سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير وعائشة وأم حبيبة، والحنفية والشافعية إلا محمَّد بن الحسن والثوري وأحمد وداود وغيرهم، وذهب جماعة إلى منع ذلك منهم: الزهري وابن عمر ومالك ومحمد بن الحسن والهادي والقاسم والناصر والمؤيد وبعض أصحاب الشافعي، وتأولوا حديث عائشة بأنه اغتسل قبل إحرامه فأحرم ولم يبق فيه أثر الطيب، واحتجوا على ذلك بأنه قد وقع في رواية أخرجها البخاري في الغسل:"ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا"(3)، فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، ومن ضرورة ذلك أن (أ) لا يبقي للطيب أثر، وهو مردود فإنه قد وقع في لفظ النسائي:"حين أراد أن يحرم"(4) ولمسلم نحوه (5)، وفي رواية للبخاري في تمام الرواية: "ثم أصبح محرمًا ينضح

(أ) جـ: (أنه).

_________

(1)

البخاري الحج، باب الطيب بعد رمي الجمار

3: 584 - 585 ح 1754.

(2)

مسلم الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام 2: 846 ح 31 - 1189.

(3)

البخاري الغسل، باب مَنْ تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب 1: 381 ح 270.

(4)

النسائي المناسك، باب إباحة الطيب عند الإحرام 5:136.

(5)

مسلم الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام 2: 874 ح 37 - 1189 م ولفظه: "كنت أطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم".

ص: 247

طيبًا" (1) روي بالحاء المهملة والخاء المعجمة، والمعنى متقارب، وبالحاء المهملة أبلغ، وفي رواية عند مسلم: "إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك" (2)، وللنسائي وابن حبان: "رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم" (3) وقول بعضهم إنه بقي الأثر من غير رائحة مردود بقوله: "ينضح طيبًا" مع أنه في حديث عائشة: "كنا ننضح وجوهنا بالطيب المسك قبل أن نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا" ولا يُقَالُ هذا خاص بالنساء، لأن الرجال والنساء في الطيب سواء بالإجماع، ورواية (أ) الأوزاعي عن عائشة: "بطيب لا يشبه طيبكم" يراد به المبالغة في قوة رائحته لا (ب) أنه لا رائحة له، تدل عليه سائر الروايات عنها، والتصريح بأنه مسك، وقد وقع في لفظ متفق عليه: "بأطيب ما أجد" وللطحاوي من حديثها "بالغالية".

ويجمع بين الروايات بأن الغالية للدهن والطيب. ولعلها كررت ذلك ففعلت بالغالية للادهان ثم بعد ذلك بالمسك ونحوه، أو أنها جمعت ذلك وكان طيبًا ودهنًا.

وقال المهلب: إن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأن الطيب من

(أ) هـ: (وفي رواية).

(ب) جـ: (إلا).

_________

(1)

البخاري الغسل، باب إذا جامع ثم عاد. . . 1: 376 ح 267 بلفظ: "

ثم يصبح محرمًا ينضخ طيبًا".

(2)

مسلم الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام 2: 848 ح 44 - 1190 م.

(3)

النسائي المناسك، باب موضع الطيب 5: 140، 141 بدون لفظ:"وهو محرم"، ابن حبان 5: 32 ح 3670.

ص: 248

دواعي النكاح فنهى الناس عنه فكان هو أملك الناس لإربه ففعله، ورجحه ابن العربي لكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقال المهلب: وجه الخصوصية لمباشرته الملائكة لأجل الوحي. ويرد عليه بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، وقد عرفت حديث عائشة، فهو أيضًا نافٍ للخصوصية.

وأخرج سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنها أيضًا (أ) قالت: "طيبت أبي لإحرامه بالمسك حين أحرم"(1).

وبعض المالكية اعتذر بأن عمل أهل المدينة على منع المحرم الطيب ولو ببقاء الأثر من قبل الإحرام، ورد عليه بما رواه النسائي من طريق أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث وسالم وعبد الله ابنا عبد الله وأبي بكر بن هشام أَنَّ سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسًا من أهل العلم منهم القاسم بن محمَّد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين فقد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعى مع ذلك العمل على خلافه؟ وقولها:"ولحله قبل أن يطوف بالبيت" المراد لحله الإحلال الكامل الذي يحل به كل محظور وهو طواف الزيارة، وقد كان حل بعض الإحلال وهو بالرمي الذي يحل به الطيب وغيره، ولا يمنع بعده إلا من النساء وظاهر هذه العبارة أنه قد كان فعل الرمي والحلق وبقي الطواف وهذا متفق عليه سواء كان الحلق نسكًا أو تحليل محظور، وإنما الخلاف لو قدم الحلق قبل

(أ) سقط من: جـ.

_________

(1)

الفتح 3: 399.

ص: 249

أن يرمي، فظاهر قول المؤيد بالله أنه قد حل به ويحل بعده الطيب (أ) وإن لم يرم، وهو يقول: إن الحلق نسك ويحل عنده بأنهما فعل. وذكر المصنف (1) -رحمه الله تعالى- في فتح الباري عن الجمهور وهو الصحيح عن مذهب الشافعية أنه لا يحل الطيب إلا بعد مجموع الرمي والحلق بناء على أنهما نسك.

وقال النووي في شرح المهذب: المذهب أن الشافعي يقول إن الحلق ليس بنسك، وقال عن ابن المنذر: إنه لم يقل به إلا الشافعي، وهو مروي عن الهادي والقاسم، ورواية عن أحمد أيضًا.

568 -

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب" رواه مسلم (2).

قوله "لا ينكح" يعني هو في نفسه، "ولا ينكح" أي ينكح. غيره بأن يعقد له.

الحديث فيه دلالة على تحريم ذلك على المحرم، والمراد به العقد، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من العلماء ومنهم مالك والشافعي وأحمد وقالوا إنه لا يصح من المحرم أن يعقد لنفسه وأن يعقد لغيره، وقال أبو حنيفة والكوفيون إنه يصح من المحرم أن يعقد، قالوا: لقصة نكاحه صلى الله عليه وسلم

(أ) جـ: (ويحل بعد له الطيب).

_________

(1)

فتح الباري 3: 399.

(2)

مسلم النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته 2: 1030 ح 41 - 1409، أبو داود المناسك، باب المحرم يتزوج 2: 422 ح 1842، الترمذي (بدون لفظ ولا يخطب) النكاح، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم 3: 199 - ح 840، النسائي كتاب مناسك الحج، باب النهي عن ذلك- الرخصة في النكاح للمحرم 5: 192، ابن ماجه النكاح، باب المحرم يتزوج 1: 632 ح 1966، أحمد 64:1.

ص: 250

لميمونة بنت الحارث كما في رواية ابن عباس (1) أنه نكحها وهو محرم في عام القضية فإنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في شهر القعدة سنة سبع، وبعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث ليخطبها له فجعلت أمرها إلى العباس وكانت أختها أم الفضل تحته، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني بها بمكة بعد عام أعمال العمرة بعد أن مضت الثلاثة الأيام التي وقع الصلح على إقامته فيها، فمنعه المشركون من ذلك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى نزل بطن سَرِف -بفتح السين المهملة وكسر الراء المهملة- فأقام بها، وخلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي، وأقام حتى قدمت ميمونة ومن معها وقد لقوا أذى وعناء من سفهاء مكة وصبيانها فبنى بها ثم أدلج وسار حتى قدم المدينة.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأجوبة أصحها: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تزوجها حلالًا، هكذا رواه الصحابة.

قال القاضي عياض (2) وغيره: لم يرو أنه تزوجها محرمًا إلا ابن عباس وحده، حتى قال سعيد بن المسيب ذهل ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل. ذكره البخاري (3)، وكذا روى يزيد بن الأصم عن ميمونة نفسها، وكذا أبو رافع مع أنه السفير بينهما، أو أنه تزوجها في الحرم وهو حلال، أو أنه تزوجها في شهر الحرام وهي لغة شائعة معروفة، كما قال الشاعر:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا

ورعًا فلم أر مثله مقتولًا

(1) البخاري النكاح، باب نكاح المحرم، 9: 165 ح 5114، ومسلم النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته 2: 1031 ح 46 - 1410.

(2)

شرح مسلم 2: 566.

(3)

الفتح 9: 167.

ص: 251

أي في حرم المدينة، أو في الشهر الحرام، أو أنه كان خاصًّا في حقه أن يتزوج وهو محرم، وهو جواب جماعة من الصحابة، وأصح الوجهَيْن عند أصحاب الشافعي. وإن فرض وقوع ذلك وهو محرم، فقد تعارض القول والفعل، والقول أرجح عند التعارض، ولا يصح أن يحمل على الوطء إذ عطف قوله "ولا ينكح" يبعده عن ذلك، وقوله "ولا ينكح" يعني لا يزوج غيره بولاية ولا وكالة.

قال العلماء: سببه أنه لما منع من مدة الإحرام من العقد لنفسه صار كالمرأة فلا يعقد لنفسه ولا لغيره، وظاهر هذا العموم أنه لا فرق بين أن يزوج بولاية خاصة كالأب وغيره أو بولاية عامة كالسلطان والقاضي ونائبه، وهذا هو الصحيح عند الهادوية والشافعية، وقال بعض أصحاب الشافعي والإمام يحيى: يجوز أن يزوج المحرم بالولاية العامة لأنها يستفاد بها ما لا يستفاد بالخاصة، قالوا كما يجوز للمسلم بالولاية العامة أن يزوج الذمية دون الخاصة، وقد وافقهم في المقيس عليه أبو العباس على أصل الهادي، فلو زوج المحرم أو تزوج كان العقد باطلًا، إن كان على خلاف مذهبه، وكان عالمًا بالتحريم، وإن كان جاهلًا كان فاسدًا (1)، ولذلك أحكام مفصلة في فروع الفقه، وقوله "ولا يخطب" النهي للتنزيه لا للتحريم، والظاهر أنه إجماع وكذا تكره الشهادة على عقد النكاح.

وقال بعض أصحاب الشافعي: لا ينعقد النكاح بشهادة المحرم لأن الشاهد ركن في عقد النكاح كالولي، والصحيح الذي عليه الجمهور انعقاده إذ لا دليل على ذلك (2)، والله أعلم.

569 -

وعن أبي قتادة الأنصاري في قصة صيد الحمار الوحشي وهو

(1) بناء على التفريق بين الفاسد والباطل.

(2)

شرح مسلم 2: 567.

ص: 252

غير مُحْرم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمِين: "هل منكم (أ) أحدٌ أمره أو أشار إِليه بشيء؟ قالوا: لا، قال فكلوا ما بقى من لحمه" متفق عليه (1).

قوله "وهو غير محرم" يقال كيف جاز له عدم الإحرام، وقد جاوز الميقات؟ وأجيب عنه بأن المواقيت لم تكن وقتت، وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل، وقيل: إنه خرج (ب) معهم ولكنه لم ينو حجًّا ولا عمرة، وهو بعيد، وقيل: لأنه لم يكن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بل بعثه أهل الدينة بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة على المدينة (2)، وقوله "هل منكم أحد

" إلخ. فيه دلالة على أنه يجوز للمحرم أن يأكل من لحم الصيد إذا لم يكن من المحرم إعانة على قتله، وهذا مذهب الشافعي وأحمد ومالك وداود، والحديث صريح في ذلك، وذهب الهادوية وغيرهم إلى أنه يحرم على المحرم أكل لحم (جـ) الصيد، وإن لم يكن منه إعانة، وقد حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم قالوا لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (3) والمراد بالصيد المصيد.

وأجاب الأولون عن ذلك بأن (د) المراد بالصيد الاصطياد، والحديث

(أ) جـ: (منكم من).

(ب) هـ: (يخرج).

(جـ) سقط (لحم) من جـ.

(د) جـ: (أن).

_________

(1)

البخاري كتاب جزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد كي يصطاده الحلال 4: 28 ح 1824، مسلم الحج، باب تحريم الصيد للمحرم 853:2 - 854 ح 60 - 1196 م.

(2)

الفتح 4: 23.

(3)

الآية 96 من سورة المائدة.

ص: 253

مبين لهذا المراد، وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم"(1) وهذا يدل دلالة صريحة على صحة التأويل، ونص في المذهب واستقوى الإِمام المهدي في البحر ما ذهب إليه الشافعي وشرطه بصحة الحديث، وألحق الشافعي بذلك (أ) في التحريم ما صيد لأجله ويحتج له بحديث جابر المذكور، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقول عمر ابن الخطاب والزبير بن العوام أنه يجوز أكله للمحرم على الإطلاق إذا كان الصائد حلالًا، ولم يذكر المصنف (2) -رحمه الله تعالى- هنا الرواية التي فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"هل معكم من لحمه شيء" وفي رواية أخرى: "هل معكم منه شيء؟ قالوا معنا رجله، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلها"، لأنه لم يتفق عليها الشيخان، واقتصر على القدر الذي وقع عليه الاتفاق، والله أعلم.

570 -

وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: "أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا وهو بالأبواء أو بوَدّان فرده عليه، وقال: إِنا لم نرده عليك إِلا أنا حرم" متفق عليه (3).

الصعب بالصاد والعين المهملتين ابن جثامة بفتح الجيم والثاء المثلثة،

(أ) زاد في جـ: (

بذلك أي باصطياد المحرم في التحريم

).

_________

(1)

أبو داود كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم 2: 427: 428 ح 1851، والترمذي كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم 3: 194 - 195 ح 846، والنسائي كتاب المناسك، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال 5:187.

(2)

الفتح 30:3.

(3)

البخاري كتاب جزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيا لم يقبل 4: 31 ح 1825، مسلم الحج، باب تحريم الصيد للمحرم 2: 850 ح 50 - 1193.

ص: 254

كان ينزل ودان والأبواء من أرض الحجاز، حديثه في الحجازيين (1).

روى عنه عبد الله بن عباس وشريح بن عبيد الله الحضرمي، مات في خلافة أبي بكر الصديق.

قوله "أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًّا"(2)، وفي رواية:"حمار وحشٍ يقطر دمًا"(3)، وفي رواية:"من لحم حمار وحشٍ"(4)، وفي رواية "عجز حمار وحش"(5) وفي رواية "عضوًا من لحم صيد"(6) هذه روايات مسلم، وترجم له البخاري باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا لم يقبل (7)، وروايات مسلم صريحة في أنه مذبوح، وأنه أهدي بعض لحم صيد لأكله.

وقوله "فرده عليه وقال: إِنا لم نرده" قال القاضي عياض (8): رواه المحدثون بفتح الدال، وأنكره محققو شيوخنا أهل العربية، وقالوا هذا غلط وصوابه بضم الدال، ووجدته بخط بعض الأشياخ بضم الدال، وهو الصواب في تحريك الساكنين عند سيبويه فيما كان بعده ضمير الغائب الموصول بالواو على الأفصح، وتحريك الساكن بالكسر في مثله لغة ضعيفة، حكاها الأخفش عن بني عقيل، وغلط ثعلب في جواب الفتح، وأما إذا اتصل به ضمير المؤنث في نحو ردها فالفتح لازم بالاتفاق.

(1) أسد الغابة 3: 20، الإصابة 2: 184 - 185.

(2)

مسلم الحج، باب تحريم الصيد للمحرم 2: 850 ح 50 - 1193.

(3)

مسلم (السابق) 2: 851 ح 54 - 1994.

(4)

مسلم (السابق) 2: 851 ح 52 - 1994.

(5)

مسلم (السابق) 2: 851 ح 54 - 1994.

(6)

مسلم (السابق) 2: 851 ح 55 - 1994.

(7)

حديث الباب.

(8)

شرح مسلم 2: 274.

ص: 255

وقوله "إِلا أنا حُرُم" هو بفتح الهمزة في "أنا حرم" وحرم بضم الحاء والراء أي: محرمون.

والحديث فيه دلاله على أن المحرم لا يحل له أكل الصيد، وظاهره مطلقًا لأنه علله بكونه محرمًا، وأجاب عنه من جوز ذلك -كما تقدم- بأنه صاده لأجل النبي صلى الله عليه وسلم لحديث جابر، وفي ذلك جمع بين الأحاديث، وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي قبول الهدية وإبانة المانع من قبولها إذا كان تطيبًا لقلب المهدي.

واعلم أنه وقع الخلاف في الروايات كما عرفت في كون المُهْدَي لحمًا أو حمارًا حيًّا، وفي تعيين ذلك اللحم حتى قال البيهقي (1) في رواية:"عجز حمار، وهو بالجحفة فأكل منه": "هذا إسناد صحيح فإن كان محفوظًا فكأنه رد الحي وقبل اللحم"، وقال الشافعي (2): فإن كان الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم الحمار حيًّا فليس للمحرم ذبح حمار وحشي، وإن كان أهدى لحم الحمار فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه وإيضاحه في حديث جابر وحديث مالك:"أنه أهدى له حمارًا" أثبت من حديث: "أنه أهدى له من لحم حمار" وقد اعترض ابن القيم على رواية: "فأكل منه" وهي شاذة منكرة، واستقوى رواية من روى:"لحما" لأن راويها حقق بقوله: "يقطر دمًا" ولأنها لا تنافي رواية من روى: "حمارًا" لأنه قد سمى الجُزء باسم الكل وهو شائع في اللغة، ولأن الروايات اتفقت على أنه بعض من أبعاض الحمار، وإنما وقع الاختلاف في ذلك البعض ولا تناقض بينهما، فإنه يمكن أن يكون المهدي الشق الذي فيه العجز الذي فيه رجل مع أنه قد رجع ابن عُيينة عن

(1) سنن البيهقي 5: 193.

(2)

سنن البيهقي 5: 193.

ص: 256

قوله: "حمار" إلى قوله: "لحم حمار" وثبت عليه إلى أن مات ثم اعلم أن قصة أبي قتادة كانت في عام الحديبية سنة ست، وقصة الصعب قد ذكر غير واحد أنها كانت في حجة الوداع منهم المحب الطبري في كتاب "حجة الوداع" له وغيره، وهذا محل نظر، والله أعلم.

وكذا في قصة الظبي الحاقف وحمار الفهري هل كان في حجة الوداع؟ (أ) أو في بعض عمره، وقد وهم الطبري فجعل قصة أبي قتادة في حجة الوداع (أ). وقد وقع التصريح في الصحيحَيْن من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال:"انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية (1) فأحرم أصحابه ولم أحرم" فذكر قصة الحمار الوحشي، والله أعلم.

571 -

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب كلهن فواسق يُقْتَلْنَ في الحرم: الغراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" متفق عليه (2).

قوله "خمس" وقع في هذه الرواية ذكر الخمس، وفي رواية للبخاري عن ابن عمر قال حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه كان يأمر بقتل الكلب" فذكر الخمس هذه وزاد: "الحية"، وزاد:"في الصلاة (3) أيضًا"، ذكر ذلك في كتاب الصلاة، وفي بعض طرق حديث

(أ-أ) سقط في هـ، ي.

_________

(1)

هامش يقول: قلت فدل هذا على أن .... والباقي غير واضح.

(2)

البخاري كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب 4: 34 ح 1829، مسلم الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم 2: 857 ح 71 - 1198 م (بتقديم وتأخير).

(3)

مسلم الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله

858:2 ح 75 - 1198 م.

ص: 257

عائشة بلفظ: "أربع" أخرجها مسلم (1)، وأسقط العقرب، وفي بعضه الطرق بلفظ:"ست" أخرجها أبو عوانة في المستخرج فزاد: "الحية"(2) ووقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود بزيادة "السبع العادي"(3) فصارت سبعًا، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خُزَيمة وابن المنذر بزيادة ذكر الذئب والنمر (4) على الخمس الشهورة فيكون تسعًا إلَّا أنّ ابن خزيمة أفاد عن الذهلي أن ذكر الذئب والنمر من تفسير الكلب العقور، ووقع ذكر الذئب أيضًا في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود (5) من طريق سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقتل المحرم الحية والذئب"(6) ورجاله ثقات.

وأخرج أحمد عن ابن عمر: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب للمحرم"(7) وفيه حجاج بن أرطأة (8)، وهو ضعيف وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفًا أخرجه ابن أبي شيبة (9)، فهذا ما ورد في الأحاديث المرفوعة

(1) مسلم السابق 2: 856 ح 66 - 1198.

(2)

الفتح 4: 36.

(3)

أبو داود المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب 2: 425 - 426 ح 1848.

(4)

الفتح 4: 36.

(5)

ابن أبي شيبة 4: 55.

(6)

المراسيل لأبي داود ص 146 ح 137، المصنف لابن أبي شيبة 4: 55، السنن الكبرى للبيهقي 5: 210، مصنف عبد الرزاق ح 8384.

(7)

أحمد 30:2.

(8)

حجاج بن أرطأة تقدم في ح.

(9)

رواه ابن أبي شيبة موقوفًا على عمر 4: 55.

ص: 258

زيادة على الخمس المشهورة (أ)[فذكْر الخمس يدل بمفهوم العدد أن غيرهن لا يقتل في الحرم، ولكنه إذا وجد ما هو أقوي منه عمل به، وترك العمل بالمفهوم، والأقوى هو ما زيد على ذلك في رواية "ست" ونحوها](أ).

والدوابّ بتشديد الباء الموحدة جمع دابة وهو ما دبَّ من الحيوان (1)، وظاهر هذا أن الطائر يطلق عليه اسم الدابة لذكره الغراب والحدأة، وهو مطابق لعموم قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2)، وقوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية (3)، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم في صفة بدء الخلق:"وخلق الدواب يوم الخميس"(4) ولم يفرد الطير بذكر، وبعضهم أخرج من لفظ الدابة الطير لقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية (5)، وقد اختص في العرف العام، فأطلق الدابة على ذات القوائم الأربع، وقد يخصها بعض أهل العرف (ب) بالحمار، ومنهم من يخصها بالفرس. وفائدة ذلك تظهر في الحلف.

وقوله: "كلهن فواسق"، وفي رواية:"كلهن فاسق" فالإفراد باعتبار لفظ كل والجمع باعتبار المعنى. والفسق في اللغة بمعنى الخروج،

(أ، أ) ما بين المعكوفين كذا في هـ، جـ، ي، أما في الأصل فتأخرت هذه العبارة قبل قوله (وقوله كلهن فواسق

) الآتي.

(ب) هـ: العراق.

_________

(1)

لسان العرب (د. ب. ب) 2: 1314 (ط. المعارف، مصر).

(2)

سورة هود الآية 6.

(3)

سورة العنكبوت الآية 60.

(4)

مسلم صفات المنافقين، باب ابتداء الخلق

4: 2149 - 2150 ح 27 - 2789 بلفظ: "وبث فيها الدواب يوم الخميس".

(5)

سورة الأنعام الآية 38.

ص: 259

ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه} (1) أي خرج، وسمي العاصي فاسقًا لخروجه عن طاعة ربه فهو خروج مخصوص، وزعم ابن الأعرابي أنه لا يعرف في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق بالمعنى الشرعي، ووصفت الدواب المذكورة بالفسق، قيل لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم القتل، وقيل في حكم أكله لقوله تعالى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (2) وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (3) وقيل لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع، ومن ثم اختلف العلماء، فمن قال بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال وفي الحل، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلا ما نهي عن قتله، ومن قال بالثالث خص الإلحاق بما حصل منه الإفساد والإيذاء، وهذا أرجح، يؤيده ما وقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه:"قيل له لم قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ بها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت"(4) ففيه إشارة إلى أن وجه التسمية هو إيذاؤها وفعلها شبه فعل الفساق. وقوله: "يقتلن في الحرم" ويعلم من ذلك جواز القتل في الحل بالطريق الأولي، وقد وقع ذلك مصرحًا به عند مسلم بلفظ:"يقتلن في الحل والحرام (أ) "(5) ويعرف حكم الحلال بكونه

(أ) هـ: (الحرم).

_________

(1)

سورة الكهف الآية 50.

(2)

سورة الأنعام الآية 145.

(3)

سورة الأنعام الآية 121.

(4)

سنن ابن ماجه المناسك، باب ما يقتل المحرم 2: 1032 ح 3089، قال في الزوائد: وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.

(5)

مسلم الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم 2: 856 ح 66 - 1198.

ص: 260

لم يقم به مانع وهو الإحرام، فهو بالجواز أولى، وظاهر قوله:"يقتلن" أن ذلك مستمر فيترجح الفعل فيه على الترك، وقد وقع في رواية بلفظ:"ليس على المحرم في قتلهن جناح"(1) وفي لفظ "لا حرج على من قتلهن"(2) كذا في البخاري، وفي لفظ عند (أ) مسلم "أمر"(3) كذا في حديث أبي رافع عند البزار "وأمر بقتل العقرب والحية والفأرة والحدأة للمحرم" وفي لفظ عند مسلم "أذن" وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره "خمس قتلهن حلال للمحرم"(4) فلفظ نفي الجناح والحرج والإذن والحلال ولفظ يقتلن تدل كلها على الإباحة واستواء الفعل والترك، ولفظ "أمر" ظاهر في الوجوب، ولكنه قد يحمل على الإباحة لقرينة، والقرينة ورود الألفاظ الدالة على عدم الوجوب، وأيضًا فإن سياق القصة يدل على إباحة القتل للمحرم لا وجوبه.

وقوله "في الحرم" بفتح الحاء والراء أرض حرم مكة -شرفها الله تعالى- وجوز بعضهم ضم الحاء والراء جمع حرام كما قال الله تعالى {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (5) والمراد بها المواضع، يدل على أنه يجوز قتل هذه المذكورات في الحرم للمحرم، وفي الحل بالطريق الأولى، وللمحرم أيضًا لرواية:"ليس على المحرم في قتلهن جناح" وغيره وهو من كان حلالًا بالطريق الأوْلَى.

(أ) سقط من جـ: (عند).

_________

(1)

البخاري جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم عن الدواب 4: 34 ح 1826.

(2)

البخاري السابق 4: 34 ح 1828.

(3)

مسلم (السابق) 2: 858 ح 74 - 1200 م.

(4)

أبو داود المناسك، باب ما يقتل المحرم الدواب 4: 424: 425 ح 1847 (بلفظ: "خمس قتلهن حلال في الحرم .. ").

(5)

سورة المائدة الآية 1.

ص: 261

وقوله "الغراب" وقع في هذه الطريق بذكر الغراب مطلقًا، وفي رواية ابن المسيب عن عائشة عند مسلم مقيدًا بالأبقع (1)، وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، وأخذ بهذا التقييد بعضُ أصحاب الحديث واختاره ابن خزيمة (2) وهو القاعدة في حمل المطلق على المقيد، وقد أعل ابن بطال هذه الزيادة بأنها من رواية قتادة عن سعيد وهو مدلس، وقد شذ بذلك، وأجيب عنه: بأن الراوي عن قتادة هو شعبة، وهو لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم، وقد صرح النسائي أيضًا عن شعبة بسماع قتادة (3)، وأما الشذوذ فهذه زيادة من الثقة الحافظ، وهي مقبولة، قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل (4).

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب، ويقال له غراب الزرع، ويقال له الزاغ، وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملتحقًا بالأبقع، انتهى (5).

وعموم كلام القاسم الرسي يقضي بمثل هذا وإن كان ظاهر كلام المُؤَيَّد وأبي طالب أن غراب الزرع لا يحل أكله ومثل (أ) الأبقع العداف، قال ابن قدامة وهو غراب البين، والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، وقيل إنه سمي غراب البين لأنه بان عن نوح عليه السلام لما أرسله من السفينة

(أ) هـ: (ومثله).

_________

(1)

مسلم الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم 2: 856 ح 67 - 1198 م.

(2)

صحيح ابن خزيمة 4: 191.

(3)

النسائي المناسك، باب قتل الحية 5:188.

(4)

المغني 3: 342.

(5)

الفتح 4: 38.

ص: 262

ليكشف خبر الأرض فلقي جيفة فوقع عليها ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به، وكانوا إذا نعب مرتين قالوا آذن بشر، وإذا نعب ثلاثًا قالوا أذِنَ بخير، فأبطل الإِسلام ذلك، وكان ابن عباس إذا سمع الغراب قال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك (1).

ومن أنواع الغراب الأعصم، وهو الذي في رجليه أو جناحه أو بطنه بياض أو حمرة، وحكمه حكم الأبقع، وكذا العقعق وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل يسمى بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم، والعرب تتشاءم به أيضًا، ووقع في فتاوى قاضي خان الحنفي: من خرج لسفرٍ فسمع صوت العقعق فرجع كَفَرَ.

وحكمه حكم الأبقع على الصحيح، وقيل حكم غراب الزرع. وقال أحمد: إن أكل الجيف وإلا فلا بأس به (2).

وقد روى أبو داود خلافًا عن عطاء أنه لا يحل للمحرم قتل الغراب (3) وقال إن أذاه المحرم فعليه الجزاء.

قال الخطابي (4): لم يتابع أحد عطاء (أ) على هذا ويحتمل أن يكون مراده غراب الزرع، وظاهر إباحة القتل له وللحداء أنهما يقتلان، وإن لم يبتدئا بالأذى، ولا فرق بين كبارهما وصغارهما. وعند المالكية اختلاف

(أ) جـ: (عطاء أحد) بالتقديم والتأخير.

_________

(1)

طبقات ابن سعد 4: 2: 13 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

(2)

الفتح 4: 38.

(3)

في ابن أبي شيبة عن عطاء أنه يقتل الغراب 4: 95.

(4)

معالم السنن 2: 426.

ص: 263

في ذلك، والمشهور عندهم لا فرق وفاقًا للجمهور.

وقوله "والحِدَأَة" بكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدهما همزة بعدها تاء التأنيث (أعلى وزن عنَبَة أ)، والحدا من دون تاء، وحكى صاحب المحكم المد فيه (1) من دون تأنيث، وحكى الأزهري فيها "حِدَوَة" بواو بدل الهمزة، وقد وقع في البخاري في باب بدء الخلق بلفظ "الحُدَيَّا"(2) بضم أوله وتشديد الياء التحتانية مقصورًا، وقيل إنه سُهِّل من الهمزة ثم أدغم، وقيل هي لغة حجازية، وغيرهم يقول حدية، وهي أخسّ الطير، وهي لا تضر لكن تخطف، ومن طبعها أنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه دون شماله حتى قيل إنها عسراء، وأما الحدا (3) بفتح الحاء فهي الفأس التي لها رأسان.

وقوله "والعقرب" هو يقال للذكر والأنثى، وقد يقال عقربة وعقرباء وهي أنواع منها الجرادة والطيارة وما له ذنب كالحربة ويعقد ومنها السود والخضر، وأكثر ما يكون ضررها إذا كانت حاملة، والعقارب القاتلة تكون بموضعين: شهر زور وعسكر مكرم، وَتَقْتل بلسعها مع صغرها، وناهيك بهذا فسقًا وليس منها العقربان بل هي دوبية طويلة كثيرة القوائم، قال صاحب المحكم: ويقال إن عين العقرب في ظهرها وأنها لا تضرب ميتًا ولا نائمًا حتى يتحرك، ويقال لدغته بالغين المعجمة ولسعته بالمهملتين، وقد تقدم اختلاف الرواة في ذكر الحية (4) بدلها ومن جمعهما، والذي يظهر

(أ-أ) سقط في هـ.

_________

(1)

الفتح 4: 38.

(2)

البخاري بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه

6: 355 ح 3314.

(3)

كذا رسمت بالنسخ وفي "المعجم الوسيط"(ح. د. أ): "الحَدأَة".

(4)

هكذا نقل من الفتح ولا داعي لإيراده 4: 39.

ص: 264

أنه صلى الله عليه وسلم نبه بإحداهما عن الأخرى عند الاقتصار، وبين حكمهما معًا حيث جمع كذا قال المصنف (1) -رحمه الله تعالى- وهذا مستقيم إذا صح تعدد القصة، وأما إذا كان ذلك في قصة واحدة فهو غير مستقيم، والذي يظهر لي أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما جميعًا فمن رواهما حكى القصة بعينها، ومن ذكر أحدهما فلعله اقتصر واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى للاتفاق في الحكم والأذى، أو لعل أحد الراويين نسى الجمع فاقتصر على ما ذكر.

قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب. وقال نافع لما قيل له: فالحية قال: أنختلف فيها (أ)(2)؟

وفي رواية من يشك فيها.

وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم وحمادًا فقالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب، قال: ومن حجتهما أنهما من هوام الأرض فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام، وعند المالكية اختلاف في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكن من الأذى.

وقوله "والفأرة" بهمزة ساكنة، ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم، أخرجه ابن المنذر (3)، وقال هذا خلاف السنة، وخلاف قول جميع العلماء، ونقل عن المالكية مثل ما تقدم، والفأر

(أ) هـ: (عنها).

_________

(1، 2) الفتح 4: 39.

(3)

الفتح 4: 39.

ص: 265

أنواع منه: الجُرَذ والخُلْد وفأرة الإبل وفأرة المسك والغيط، والحكم فيها واحد، وقيل في تسمية الفأر بالفويسقة لأنها قطعت حبال السفينة على نوح عليه السلام (1).

وقوله "والكلب العقور" المراد به كما هو الظاهر هو الكلب المعروف، والأنثى منه كلبة، وجمعه أكلب وكلاب، وقد تقدم فيه الكلام باعتبار نجاسته، وتقييده بالعقور يدل بمفهوم الصفة أنه لا يقتل غير العقور، وقد اختلف العلماء في غير العقور مما لم يبح (أ) اقتناؤه، فصرح بتحريم قتله القاضي حسين والماوردي وكذا الإِمام المهدي على ما يفهمه كلامه في البحر من اختياره للقول بأن الأمر بقتلها على الإطلاق منسوخ، ووقع في الأم للشافعي جواز قتلها واختلف كلام النووي في ذلك فقال في شرح المهذب في البيع لا خلاف بين أصحابنا في أنه محترم لا يجوز قتله، وقال في الغصب إنه غير محترم، وقال في الحج يكره قتله كراهة تنزيه.

وقال الرافعي بهذا الأخير، وقال جمع من العلماء: إن المراد بالكلب العقور هنا غير الكلب المعروف فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة أنه قال: الكلب العقور الأسد (2)، وعن سفيان عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأي كلب أعقر من الحية (3)، وقال سفيان: المراد بالكلب العقور هنا الذئب خاصة، وقال مالك في الوطأ (4): "كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فهو

(أ) زاد هـ: "نجاسته".

_________

(1)

تقدم حديث جابر عن أبي سعيد في سبب تسمية الفأرة فويسقة.

(2)

و (3) الفتح 4: 39.

(4)

الموطأ 1: 357 ح 91.

ص: 266

الكلب العقور".

وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور، واحتج أبو عبيد لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" فقتله الأسد، وهو حديث حسن أخرجه الحاكم من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه، وبقوله تعالى:{مُكَلِّبِينَ} (1) فاشتقها من اسم الكلب مع أنه شامل لجميع جوارح الصيد.

واعلم أنه قد استدل بهذا الحديث على أنه يقتل من لجأ إلى الحرم بعد قتله لغيره أو نحوه على ما هو مذهب الشافعي، وعلل ذلك بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم معلل بالعدوان فيعم الحكم لعموم العلة والقاتل عدوانًا فاسق بعدوانه فيقتل بل هو أولى لأنه مكلف وهذه الفواسق فسقها طبعي ولا تكليف عليها، والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه، فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه، وسَوَّى الشافعي في ذلك من ارتكب ما يوجب القتل أو نحوه في الحرم أو كان لاجئًا إليه بعد أن ارتكب في غيره، وذهب أبو حنيفة وغيره إلى التفصيل وهو أنه إن كان الذي يقام هو القتل أو غيره، فإن كان القتل فإنه لا يقام عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يطعم حتى يخرج ثم يقام عليه خارجه، وما كان دون النفس أقيم عليه في الحرم مطلقًا، وذهبت الهادوية بل حكاه علي بن العباس (أ) عن أهل البيت الجميع وهو أنه إن لجأ إلى الحرم بعد أن ارتكب في خارجه ما يوجب حدًّا أو نحوه ترك ولا يطعم حتى يخرج، وإن ارتكب في داخل الحرم ما يوجب ذلك أخرج من الحرم وأقيم عليه خارجه، ولا فرق بين

(أ) هـ، (حكاه عن ابن عباس).

_________

(1)

المائدة الآية 4.

ص: 267

النفس وغيرها، وهو مروي عن ابن عباس وعطاء والشعبي وحجتهم عموم قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (1) والقياس الذي عُلِّل به مذهب الشافعي غير صحيح فإن الكلب العقور ونحوه من الخمس طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله، وأما الأذى فالأصل فيه الحرمة، وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات، فإن الحرم يعصمها، وأيضًا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور ونحوه كحاجة أهل الحل سواء، فلو أعاذها المحرم لعظم الضرر عليهم بها وأيضًا فإن العائذ بالحرم الملتجئ إليه مُعَظّم لحرمته مستشعر بها النجاة، وهو بمنزلة التائب المتنصل المستجير برب البيت المتعلق بأستاره فلا يقاس عليه من ارتكب فيه المحظور فإنه منتهك لحرمته مُقْدِم على الجناية فيه يحتاج إلى إقامة الحدود عليه وإلا عم الفساد وعظم الشر في حرم الله سبحانه، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم فلو لم يشرع إقامة الحدود عليهم لتعطلت حدود الله، وعم الضرر للحرم وغيره.

572 -

وعن ابن عباس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم" متفق عليه (2).

الحديث فيه دلالة على جواز الحجامة للمحرم، وقد أجمع العلماء على جوازها في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك، وإن قطع الشعر حينئذ لكن عليه الفدية لقلع الشعر، فإن (أ) لم يقطع فلا فدية، وهذا

(أ) هـ: (وإنْ).

_________

(1)

سورة آل عمران الآية 97.

(2)

البخاري كتاب جزاء الصيد باب الحجامة للمحرم 4: 50 ح 1835، مسلم الحج، باب جواز الحجامة للمحرم 2: 862 ح 87 - 1202.

ص: 268

الحديث محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عذر في الحجامة، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإدن تضمنت قطع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك فإن كانت في موضع لا شعر فيه فهي جائزة عند الجمهور ولا فدية فيها، وعن ابن عمر ومالك كراهتها، وعن الحسن البصري فيها الفدية، وقال الداودي إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحَلْق، وكان احتجامه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما جزم به الحازمي وغيره بموضع يسمى "لَحْي جمل" بفتح اللام وحكي كسرها، وبفتح الجيم والميم، ويروى بلحيي بالتثنية بين المدينة ومكة، قال البكري في معجمه (1) هي بئر جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم في التيمم، وقال غيره: هي عَقَبة الجحفة على سبعة أميال من السقياء.

في وسط رأسه أي متوسطة وهي ما فوق اليَافوخ فيما بين أعلى القرنين. قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس.

573 -

وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: "حملت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الوجعَ بلغ بك ما أرى، تجد شاة؟ قال: لا. قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع" متفق عليه (2).

هو أبو محمَّد: كعب بن عُجرة بضم العين المهملة وسكون الجيم وبالراء ابن أمية البلوي بفتح الباء الموحدة والسلام حليف بني سالم بن عوف

(1) معجم ما استعجم 1153:4.

(2)

البخاري كتاب المحصر باب الإطعام في الفدية نصف صاع 4: 16 ح 1816، مسلم الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها 2: 862:861 ح 85 - 1201 م.

ص: 269

الأنصاري، وقيل حليف بني عمرو بن عوف، قال الواقدي: ليس حليفًا للأنصار، ولكنه من أنفسهم نزل الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدي وخمسين، وقيل سنة اثنتين، وقيل ثلاث، وهو ابن خمس وسبعين، وقيل ابن تسع وسبعين (1).

روى عنه ابن عباس وابن عمر وجابر وابن عمرو، وابن سلمة وسليمان بن يسار.

قوله "حملت" كذا وقع في رواية عبد الله بن معقل، وفي رواية للبخاري "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملًا، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قلتُ: نعم. قال: فاحلق رأسك

" الحديث، وفيه فقال: فيّ نَزَلَت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ

} الآية (2) زاد في رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني أنه لقيه وهو عند الشجرة وهو محرم، وفي رواية معمر عن مجاهد ذكرها البخاري في المغازي "أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت برمة والقمل يتناثر على رأسي" زاد في رواية ابن عون عن مجاهد أخرجه البخاري في الكفارات فقال:"ادن فدنوت، فقال: أتؤذيك؟ "(3) وفي رواية عن مجاهد فيه "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على رأسي، فقال: أتؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم. فأنزلت هذه الآية"(4)، وفي رواية أبي وائل عن كعب: "أحرمت فكثر قمل رأسي فبلغ ذلك للنبي -

(1) أسد الغابة 4: 481: 482، الإصابة 3: 297: 298.

(2)

البخاري المحصر، باب قول الله تعالى {أَوْ صَدَقَةٍ}

4: 16 ح 1815 (البقرة الآية 196).

(3)

البخاري الكفارات، باب قوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} 11: 593 ح 6708.

(4)

البخاري المغازي، باب غزوة الحديبية 7: 457 ح 4191.

ص: 270

صلى الله عليه وسلم - فأتاني أطبخ قدرًا لأصحابي" (1)، وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد أخرجها البخاري "رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: نعم. فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون وهو على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية" (2).

وأخرجه الطبراني عن مجاهد بهذه الزيادة (3)، ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة:"قملتُ حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها"(4) زاد سعيد: "وكنت حسن الشعر"، وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطبراني:"فحك رأسي بإصبعه فانتثر منه القمل"(5) وقد رويت القصة بألفاظ غير (أ) هذه المذكورات والمعنى متقارب إلا أنه يحتاج إلى الجمع بين قوله "مر به" و "حملت إليه" و "استدعاه إليه فخاطبه" وهو أنه مر به أولًا فرآه على تلك الصفة فاستدعاه بعد ذلك، وحمل إليه لمرضه، وقد كان به بعض جلد يمكنه أن يباشر الإيقاد على القدر وإن لم يقدر على المسير فوقع جميع ما ذكر، ولكن الرواة نقل كل واحد من القصة ما ضبط حفظه أي محل الفائدة من الحكم.

وقوله "ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أَرَى" الأول بضم الهمزة أي

(أ) هـ: (في غير).

_________

(1)

النسائي المناسك، باب في المحرم يؤذيه القمل في رأسه 5:195.

(2)

البخاري المغازي، باب غزوة الحديبية 7: 444 ح 4159.

(3)

الطبراني 19: 107 ح 215.

(4)

المسند 4: 241.

(5)

الطبراني 19: 106 ح 213 بلفظ: "فمسح رأسي فقال: "كفى به أذى فتناثر القمل .. "" 106:19 ح 213.

ص: 271

أظن، والثاني بفتح الهمزة بمعنى الرؤية التي هي بمعنى البصر، وقد وقع "الجهد" محل الوجع وهو شك من الراوي.

وقوله "تجد شاة" إلى آخره ظاهره أنه يجب أن يقدم أولًا النسيكة على النوعين الآخرين إذا وجدها، وظاهر الآية الكريمة وسائر روايات الحديث أنه مخير في الثلاث جميعًا، ولذلك قال البخاري في أول باب الكفارات:"خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا في الفدية، ويذكر أن ابن عباس وعطاء وعكرمة قالوا: ما كان في القرآن فيه أو فصاحبه بالخيار"(1).

وقد (أ) أخرج أبو داود ومن طريق الشعبي عن ابن (ب) أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم

" الحديث (2)، وفي رواية الموطأ "أي ذلك فعلت أجزأ" (3) والظاهر أنه مجمع على التخيير.

وقوله "نصف صاع" اتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث إلا ما يروى عن أبي حنيفة والثوري أنها نصف صاع من حنطة أو صاع من غيرها، وعن أحمد رواية أنه لكل مسكين مُدّ حنطة أو نصف صاع من غيره.

وعن الحسن البصري وبعض السلف أنه يجب إطعام عشرة مساكين أو صوم عشرة أيام، وهذا ضعيف متأيد للسنة النبوية.

(أ) سقط من جـ: (قد).

(ب) سقط من هـ: (ابن).

_________

(1)

البخاري الكفارات، باب قول الله تعالى {فكفارته إطعام عشرة مساكين} 11:593.

(2)

أبو داود المناسك، باب في الفدية 2: 431 ح 1857.

(3)

الموطأ الحج، باب فدية مَنْ حلق قبل أن ينحر 1: 417 ح 237.

ص: 272

واعلم أن الآية الكريمة وقصة كعب أصل قوي في أنَّ المحرم إذا اضطر إلى ارتكاب محظور كالحلق واللباس ونحوه جاز له ذلك مع الفدية، وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس، والله أعلم.

574 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال (أ): لما فتح الله -تعالى- على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:"إِن اللَّه حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإِنها لم تحل لأحد كان قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإِنها لا تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إِلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس: إِلا الإِذخر يا رسول اللَّه فإِنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال: إِلا الإِذخر" متفق عليه (1).

قوله "لما فتح اللَّه

" إلخ أراد به فتح مكة، فإن القيام المذكور كان بعد دخول مكة في اليوم الثاني.

وقوله: "فحمد اللَّه" فيه دلالة على أنه يشرع عند الابتداء في الكلام المهم الذي له خطر أنه يبتدئ بحمد الله والثناء عليه.

وحبس الفيل عن مكة إشارة إلى ما كان معلومًا عندهم من قصة الفيل وأصحابه الذين ذكرهم الله سبحانه في سورة الفيل.

وقوله "وسلط عليها رسوله والمؤمنين" فيه دلالة على ما ذهب إليه الجمهور من أن مكة فتحت عنوة وأن أهلها أُخذوا بالقهر والغلبة، وإنما

(أ) سقط من هـ: (قال).

_________

(1)

البخاري العلم، باب كتابة العلم 1: 205 ح 112، مسلم الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها 2: 988 ح 447 - 1355.

ص: 273

مَنَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن صانهم من القَتْل والسبي للذراري والنساء واغتنام الأموال، وكانوا طلقاء للنبي (أ) صلى الله عليه وسلم تكرمة له، وفضلًا له على قرابته وعشيرته، وهذه الألفاظ التي هي قوله "سلط" وقوله "أحلت لي ساعة من نهار" وقوله "لم تحل لأحد بعدي" يدل دلالة صريحة على ذلك، وأيضًا ما وقع في سياق قصة دخوله مكة في قوله "من دخل داره فهو آمن" وقَتْل خالد بن الوليد لجماعة ولم ينكر عليه، وأمره بقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما.

وقوله "فإِنْ أحد ترخص لقتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقولوا إن اللَّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم".

وقوله لأبي هريرة: "اهتف لي بالأنصار"(1) فهتف بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ترون (ب) إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال بيده أحدهما (جـ) على الأخرى: احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمِن" وهذا لا يكون مع الصلح، والخلاف في ذلك للشافعي فإنه قال: فُتحتْ صلحًا، واستضعف هذا الغزالي فقال: هذا مذهبه وحجته على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يقسمها على الغانمين كما قسم خبير وكما قسم سائر الغنائم، وأن أبا سفيان هو الذي صالح لأهل مكة، وذلك لأنه لما استأمن لهم أمنهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك عقد صلح، وأجيب عن ذلك بأنه لو كان ذلك عقد

(أ) هـ: (النبي).

(ب) هـ: (تروا).

(جـ): (إحداهما).

_________

(1)

مسلم الجهاد، باب فتح مكة 3: 1405 ح 84 - 1780، أحمد 2:538.

ص: 274

صلح لم يقيد التأمين بدخول دار أبي سفيان وإغلاق من أراد الكف عن المنابذة داره عليه، فلما قصد التأمين دل على أن ما عدا باقٍ على المنابذة والمحاربة، واحتج أيضًا بقوله تعالى:{ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} (1) وقوله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} (2)، وقوله تعالى:{وأخرى لم تقدروا عليها} (3) وهي غنائم مكة، والآيات غير ظاهرة فيما (أ) ادعاه، وقال الماوردي: أسفلها دخله خالد عنوة وأعلاها دخله الزبير صلحًا، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من جهينة فصار حكم جهينة المغلب، وقوله" وإنها لا تحل لأحد بعدي" فيه دلالة على أنه لا (ب) يجوز القتال في الحرم.

قال الإمام أبو الحسن الماوردي البصري صاحب الحاوي من أصحاب الشافعي في كتابه "الأحكام السلطانية": من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله، وإن بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء ما قال.

وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله -تعالى- التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها هذا كلامه، وما نقله عن جمهور الفقهاء هو ما نص عليه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" من كتب الأم، ونص عليه الشافعي أيضًا في آخر كتابه المسمى بسير

(أ) هـ: (بما).

(ب) سقط من هـ: (لا).

_________

(1)

سورة الفتح الآية 22.

(2)

سورة الفتح الآية 24.

(3)

سورة الفتح الآية 21 مسلم الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة

2: 991 ح 454 - 1360.

ص: 275

الواقدي من كتب الأم، وقال القفال المروزي من أصحاب الشافعي في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص: لا يجوز القتال بمكة حتى قال: لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها.

قال النووي: وهذا الذي قاله غلط نبهت عليه حتى لا يغتر به، انتهى (1).

وقد ذكر الإمام المهدي عن الهادوية مثل ما قاله الشافعي أنه يجوز للإمام أن يقاتل الكفار في الحرم ويدخل إليه بغير إحرام.

ولكن ظاهر الحديث مثل قول القفال أنه لا يجوز لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل الحرم للقتال.

وفي قوله "فإن ترخص أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك" ما يمنع أن يقاس عليه صلى الله عليه وسلم وتنبيه بأن ذلك من خصائصه مثل نكاح التسع وغيرها، وأما جواب عمرو بن سعيد على أبي شريح العدوي لما حدثه بهذا الحديث قصدًا منه أن يكف عن بَعْث البعوث إلى مكة لقتال ابن الزبير، فقال عمرو بن سعيد: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بخربة أي مأمنه فهذه منابذة منه للسنة النبوية غير راجع إلى ورع يذوده عن العصبية ولم يسند ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا مفهوم آية قرآنية.

وقوله "فلا ينفر صيدها" التنفير هو الإزعاج والتنحية من موضعه وإذا حرم التنفير فبالأولى الإتلاف، ويلزم في غيره فدية صدقة بمقدار التنفير أقلها كف من الطعام، وأكثرها نصف صاع، وعن الهادي إذا حمله إلى

(1) شرح مسلم 502:3.

ص: 276

بلده لزمه مدان من الطعام.

وقوله "ولا يختلى شوكها" أي لا يؤخذ ويقطع، وذكر الشوك دليل على أن غيره مما لا يؤْذي بالأولى، ولكنه يخصص بالمؤذي، فيجوز قطعه قياسًا على ما تقدم من حل قتل الخمس في الحرم بجامع الإيذاء، وفي رواية "لا يعضد شوكها" والعضد القطع، وفي رواية "لا يختلى خلاها" والخَلَى بفتح الخاء مقصور هو: الرطب من الكلأ والحشيش والحشيش اسم لليابس منه، والكلأ بالهمزة يقع على الرطب واليابس، وعد ابن مكي وغيره من لحن العوام إطلاقهم الحشيش على الرطب، بل هو مختص باليابس، واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لم ينبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها، واختلفوا فيما ينبته الآدميون، واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطع فذهب الهادي وغيره من أهل البيت وأبو حنيفة والشافعي إلى أنه يلزم فيه القيمة، وقدر الشافعي في الشجرة العظيمة بقرة وفيما دونها شاة، ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلأ الحرم، وذهب الهادوية وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ومحمد إلى أنه لا يجوز.

وقوله "ولا يحل ساقطها إِلا لمنشد" المراد بالساقط اللقطة وهو مصرح به في روايات، والمنشد هو المعرف بها، والإنشاد رفع الصوت، يقال للمعرف منشد ويقال لطالبها ناشد، والمعنى أنه لا يحل الالتقاط إلا لمن يعرف بها أبدًا ولا يتملكها، وبهذا قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي وأبو عبيد وغيرهم، وهذا خاص بلقطة مكة، وأما غيرها فيجوز أن يلتقطها بنية التملك بعد التعريف بها سنة عند الشافعي، ويجوزأن يحفظها لصاحبها، ولا يجب عنده التعريف إلا إذا قصد التملك، وذهب مالك إلى أنه يجوز أن يتملكها بعد التعريف بها سنة في مكة كغيرها في

ص: 277

أنه لا يجوز الالتقاط إلا لقصد التعريف بها، ويجب التعريف سَنة ثم يجوز صرفها إذا أيس من مالكها في فقير أو مصلحة، وتأولوا هذا الحديث بأنها لا تحل اللقطة قبل الإنشاد وخص الحرم بالذكر لكثرة الضوال فيه، كذا قال الإمام المهدي في البحر، والتأويل خلاف الظاهر.

وقوله "مَنْ قتل له قتيل فهو بخير النظرين" وهما إما أن يأخذ الدية أو يقتل القاتل، فالخيار لوليّ الدم حينئذ، وهذا مذهب الهادوية، وقول للمؤيد والشافعي، وبه قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال أبو حنيفة ومالك وأحد قولي المؤيد وقول للشافعي أنه ليس لولي الدم إلا الاقتصاص أو العفو، وأما الدية فلا تجب إلا برضى الجاني، وهو خلاف نص الحديث.

وفائدة الخلاف أنه إذا عفا ولي الدم عن القود فلا تسقط الدية على الأول وتسقط على الثاني، وهذا في القتل عمدًا.

وقوله "إِلا الإِذخر" يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى البدل مما قبله والنصب على الاستثناء، وقال ابن مالك: المختار فيه النصب لكون الاستثناء وقع متراخيًا عن المستثنى منه فبعدت المشاكلة بالبدلية، ولكون الاستثناء أيضًا عرض في آخر الكلام، ولم يكن مقصودًا.

والإِذخر (أ) نبت معروف عند أهل مكة طيب الرائحة وهو بكسر الهمزة والخاء المعجمة، ينبت في السهل والجبل، وفي المغرب صنف منه كذا (ب) قال ابن البيطار (1).

(أ) هـ: (إذ الإذخر).

(ب) هـ: (صنف مذكرا كذا).

_________

(1)

الفتح 49:4.

ص: 278

وقوله "نجعله في قبورنا" المراد أنه تسد به خلل الحجار التي تجعل على اللحد، وفي البيوت كذلك يجعل فيما بين الخشب على السقوف، وفي رواية "لقيننا" والقين هو الحداد و (أ) الصائغ، والمعنى أنهم يحتاجون إليه للإيقاد به، وفي رواية:"لصاغتنا وقبورنا"(1)، ووقع في مرسل مجاهد عند عمرو بن أبي شيبة (2) بالجمع بين الثلاثة (3)، ووقع عنده أيضًا، فقال العباس:"يا رسول الله إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم" ووقوع ذلك من العباس يحتمل أنه على جهة الشفاعة، ويحتمل أنه اجتهاد منه لما علم أن العموم غالبه التخصيص فكأنه قل هذا مما تدعو إليه الحاجة ولا يكاد يستغنى عنه، والشريعة عهد فيها التيسير وعدم الحرج (ب)، فإذا قيس على ما خصص من عموم للحاجة إليه فله مساغ شرعي، فقدر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم واستثناه (جـ) وقد يحتج بهذا على أن الاستثناء لا يشترط فيه اتصاله بالمستثنى منه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مفوض إليه في الأحكام.

ويجاب عن الأول بأنه متصل وأن كلام العباس وقع في أثناء كلامه صلى الله عليه وسلم بمقدار تنفس ويذكر لما يستثنى، وهو لا يعدُّ متراخيًا، وعن الثاني بأن ذلك عن وحي وليس من لازم الوحي أن يتراخي وقتا ممتدًا بل قد يكون ذلك بإلقائه في روعه صلى الله عليه وسلم -أو إلهام أو سماع من ملك أو

(أ) هـ بغير الواو.

(ب) هـ: (الحروج).

(جـ) هـ، ي:(واستثنى).

_________

(1)

البخاري جزاء الصيد، باب لا ينفر صيد الحرم 4: 46 ح 1833.

(2)

كذا في النسخ، وفي الفتح:"عمر بن شبة" -وهو الصواب.

(3)

الفتح 49:4.

ص: 279

نحو ذلك من مراتب الوحي أو اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وافق اجتهاد العباس، واجتهاده حق، وله الاجتهاد كما هو الصحيح ولا يقر على خطأ، والله أعلم.

575 -

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن إبراهيم حَرَّمَ مكة ودعا لأهلها، وإِني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم وإِني دعوت في صاعها ومدها مثل ما دعا إِبراهيم لأهل مكة" متفق عليه (1).

قوله "إِن إِبراهيم حرم مكة" هكذا في هذه الرواية، وفي رواية ابن عباس "إن الله حرم مكة" والجمع بين الروايتين أن التحريم من الله -تعالى- قضى به وأظهر حرمته على لسان إبراهيم عليه السلام أو أن إبراهيم حرمه بأمر الله -تعالى- فصح نسبة التحريم إلى الله وإلى إبراهيم جميعًا، ووقع في رواية ابن عباس:"لم يحرمها الناس"(2) والمعنى أن تحريمها شرع من الله -تعالى- لا لمجرد اختيار الناس وتعظيمهم لما لا يستحق التعظيم رجوعًا إلى الهوى كما فعلوا في كثير من الحجارة التي عبدوها من دون الله -سبحانه-، وقيل إن المعنى أن حرمتها مستمرة من أول الخلق ليست مما اختصت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل المعنى من تحريم إبراهيم أنه سأل الله -تعالى- تحريمها، فكان تحريمها بدعوته، ولذلك أضيف إليه، والمراد بالتحريم هو تأمين أهلها من أن يقاتلوا، وتأمين من استعاذ بها كما قال تعالى:{ومن دخله كان آمنًا} (3) وقوله تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} (4).

(1) البخاري البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده

4: 346 ح 2129.

(2)

البخاري العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب 1: 197 - 198 ح 104.

(3)

سورة آل عمران الآية 97.

(4)

سورة العنكبوت الآية 67.

ص: 280

وقوله "وإني حرمت المدينة" فيه التأويل كما تقدم، والأظهر هنا أن تحريمها كان سبب دعائه صلى الله عليه وسلم لها ولأهلها وكونه فيهم حيًّا وميتًا، وفيه دلالة على أن المدينة لها حرم كمكة في تحريم الاصطياد وقطع النبات الأخضر وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الهادي والشافعي وغيرهم إلى أن للمدينة حرمًا كحرم مكة في جميع ما ذكر، وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة مخالف حرم مكة في الأحكام، وتسميته حرمًا مجاز، ويرد عليهم بقوله في حديث أنس "لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث" وفي رواية عند مسلم "لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها" فإن هذا صريح في المذهب الأول، واختلفت الأحاديث في تحديده ففي حديث أنس عند البخاري "المدينة حرم من كذا إلى كذا"(1)، وفي حديث أبي هريرة عنده أيضًا قال:"حرم ما بين لابتي المدينة على لساني "قال: "وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة وقال: أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم ثم التفت فقال: بل أنتم فيه"(2)، وفي حديث علي رضي الله عنه عنده "حرم ما بين عائر إلى كذا"(3) وفي رواية عند مسلم " من عير إلى ثور"(4)، وفي رواية "ما بين مأزميها"(5) أي جبليها، وفي رواية:"ما بين حرتيها وحمامها" وحمام المدينة ثلاثة أجبل مما يلي حرتها الغربية والحرتين المراد بهما الغربية والشرقية والمدينة بينهما، وهو حد للحرم مِن المشرق والمغرب وما بين جبليها بيان لحده من الجنوب والشمال، وللمدينة أيضًا حرة من

(1) البخاري فضائل المدينة، باب حرم المدينة 4: 81 ح 1867.

(2)

البخاري فضائل المدينة، باب حرم المدينة 4: 81 ح 1869.

(3)

البخاري (السابق) 4: 81 ح 1870.

(4)

مسلم الحج، باب فضل المدينة

2: 994: 995 ح 467 - 1370.

(5)

مسلم الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة

2: 1001 ح 475 - 1374.

ص: 281

القبلة وحرة من الشام لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية ويتصلان بهما.

وفي رواية عند أبي داود "حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من

المدينة بريدًا بريدًا لا يخبط شجرة ولا يعضد إلا ما يساق بها لجمل" (1)،

وفي حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني: "ما بين عير إلى

أحد" (2) فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب، وأجيب عنه بأن

الجمع بين هذه الروايات ممكن فلا ترد الأحاديث الصحيحة مع أنه لو

تعذر الجمع أمكن الترجيح ولا شك أن ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة

عليها، ورواية "جبليها" لا تنافيها ويكون عند كل لابة جبل، أو (أ)

لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة المشرق والمغرب

وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا يضر، وأما رواية مأزميها فهي في بعض

طرق حديث أبي سعيد، والمأزم بالكسر للزاي المضيق (ب) بين الجبلين، وقد تطلق على الجبل نفسه، وأما حديث أبي داود فيحتمل أنه تحديد للحمى لا للحرم (جـ)، واحتج الطحاوي للحنفية بحديث أنس في قصة أبي عُمير (3) ما فعل النغير قال: لو كان صيدها حرامًا ما جاز حبس الطير، وأجاب الجمهور بأن ذلك يحتمل أن يكون من صيد الحل، فأدخل الحرم، ولكن الحنفي لا يوافقهم على ذلك فإن عنده إذا دخل الصيد من الحل

(أ) هـ: (إذ).

(ب) هـ: (والمضيق).

(جـ) سقط من هـ: (لا للحرم).

_________

(1)

أبو داود المناسك، باب في تحريم المدينة 2: 235 ح 2036.

(2)

المسند 5: 450 (بلفظ: "ما بين كداء وأُحُد حرام").

(3)

البخاري الأدب، باب الانبساط إلى الناس 10: 526 ح 6129، مسلم الأدب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته

3: 1692 ح 2150 - 30.

ص: 282

إلى الحرم كان له حكم الحرم، واحتج بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع النخل لبناء المسجد (1)، ولو كان قطع شجرها حرامًا ما فعله، وأجيب بأن ذلك كان في أول الهجرة وهو واضح، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر ذكره البخاري عن أنس في الجهاد، وأيضًا فإن أبا حنيفة يجيز قطع ما كان ينبته الناس في العادة وإنما يحرم عنده ما ينبت بطبعه، وقال الطحاوي: يحتمل أن تحريم شجر المدينة وصيدها كان لأجل أن الهجرة كانت، إليها وكان بقاء الشجر والصيد مما يزيد في زينتها ويدعو إلى الرغبة فيها فلما انقطعت الهجرة زال ذلك، وأجيب عنه بأن هذا مجرد احتمال لا يثبت به النسخ مع أنه ثبت على الإفتاء بتحريمها سعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم (2)، وعلى القول بثبوت حرمها فمن فعل شيئًا من قتل الصيدأو قطع الشجر أثم ولا جزاء عليه في روايه أحمد وهو المشهور من قول مالك والشافعي والجمهور، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى وهو قول للشافعي في القديم، ومذهب الهادوية واختاره ابن المنذر وابن نافع صاحب مالك، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس أن فيه الجزاء والفدية كما في حرم مكة، وهو قول قديم للشافعي أن الجزاء في ذلك سلب الفاعل لحديث سعد بن أبي وقاص في ذلك صححه مسلم (3) وأنه كسلب القاتل لا خمس فيه.

قال القاضي: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي، وادعى بعض

(1) البخاري فضائل المدينة، باب حرم المدينة 4: 81 ح 1868، مسلم المساجد، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم 1: 373 ح 9 - 524.

(2)

مسلم الحج، باب فضل المدينة

2: 992 ح 459 - 1363، 2: 993 ح 462 - 1365، 2: 1003 ح 478 - 1374.

(3)

مسلم (السابق) 2: 993 ح 461 - 1364.

ص: 283

الحنفية الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة، والسلب قيل هو كسلب القتيل من الكفار فيدخل فيه فرسه وسلاحه ونفقته، وقال بعضهم: المراد بالسلب الثياب فقط.

واعلم أنه قد استَشْكل رواية من عير إلى ثور جماعة حتى قال مصعب الزبيري: ليس بالمدينة عير ولا ثور، وأثبت غيره "عيرًا" ووافقه على إنكار ثور.

قال أبو عبيد: هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلًا عندهم يُقال له ثور، وإنما ثور بمكة (أ) ويرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحُد.

وقال القاضي عياض غير معروف.

وأنشد أبو عبيد البكري قول الأحوص اليمني:

فقلت لعمرٍو تلك يا عمرو ناره

تشب قفا عير فهل أنت ناظر

وقال ابن السيد (ب): الملقب بعير جبل بقرب المدينة معروف وقد تأول من أنكر عيرًا وثورًا بالمدينة بأن المراد في الحديث مقدار ما بين عير وثور من مكة أو يسمى الجبلين بالمدينة اللذين ما بينهما مثل ما بين عير وثور بمكة بالاسمين وكأنه قال: أحرم من المدينة مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف ووصف المصدر.

وقال النووي: يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أحد وإما

(أ) هـ: (مكة) - بغير باء.

(ب) هـ: (المسيب).

ص: 284

غيره (1).

وقال المحب الطبري في "الإحكام" بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه: قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحًا إلى ورائه جبلًا صغيرًا يقال له ثور وأخبر أنه تكرر سؤاله عند الطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال، كل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك فعلمنا أن ذلك في الحديث صحيح وإن عدم علم أكابر العلماء لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه، قال: وهذه فائدة جليلة انتهى (2).

قال المصنف (3) -رحمة الله عليه-: وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبي في شرحه: حكى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولًا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل فكان يذكر له الأماكن والجبال، قال فلما وصلنا إلى أحد إذ بقربه جبل صغير فسألته عنه فقال هذا يسمى ثورًا (أ)، قال: فعلمت صحة الرواية فكان هذا مبتدأ سؤاله، وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلًا صغيرًا مدورًا يسمى ثورًا قال: وقد تحققته بالمشاهدة، انتهى (4).

واعلم أنه قد قيل أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدًا لما وقع عنده أن

(أ) هـ: (ثور) - بغير تنوين.

_________

(1)

شرح مسلم 518:2.

(2)

و (3) الفتح 4: 82.

(4)

الفتح 4: 83.

ص: 285

التسمية وَهْم، قال صاحب المشارق والمطالع: أكثر رواة البخاري بتسمية "عير" وأما " ثور" فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم من ترك فكأنه بياضًا والأولى أن البخاري ما أبهم إلا حكاية لما وقع في الرواية وإلا فقد سماه في موضع.

وقوله "وإني دعوت

" إلى آخره في مسلم مصرح بالدعاء وهو "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم" (1). قال القاضي عياض (2): يحتمل الدعاء بالبركة هنا أن تكون دينية وهي ما تتعلق به المقادير من حقوق الله -تعالى- في الزكوات والكفارات فيكون بمعنى الثبات والبقاء لها كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها، ويحتمل أن يكون دنيوية بمعنى تكثير ما كيل بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها، أو تكون الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقهم لما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وملكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحَمْل إلى المدينة واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدُّهم، انتهى.

والظاهر هو الاحتمال الثاني، والظاهر منه هو الأول من الاحتمالات.

فائدة: المدينة عَلَمٌ بالغلبة للبلد التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بها فإذا أطلق تبادر إلى الفهم أنها المراد من غير قرينة بخلاف غيرها فلا بد من قرينة تعين المراد وكان اسمها قبل ذلك يثرب قال تعالى: {وإِذ قالت

(1) مسلم الحج، باب فضل المدينة

2: 994 ح 465 - 1368.

(2)

شرح مسلم للنووي 517:3.

ص: 286

طائفة منهم يا أهل يثرب} (1) ويثرب اسم لموضع منها سميت به كلها، قيل سميت بيثوب من ولد إرم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها، حكاه أبو عبيد البكري، وقيل غير ذلك، ثم سماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة (2) وطابة (3)، وكان سكانها العماليق، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل، قيل أرسلهم موسى عليه السلام كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف، ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، والله أعلم.

576 -

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام ما بين عير إِلى ثور" رواه مسلم (4).

تقدم الكلام على هذا، والله أعلم.

خاتمة: اشتمل هذا الباب على أربعة عشر حديثًا.

(1) سورة الأحزاب الآية 13.

(2)

مسلم الفتن، باب قصة الجساسة 4: 2264 ح 120 - 2942.

(3)

البخاري فضائل المدينة، باب المدينة طابة 4: 88 ح 1872.

(4)

مسلم الحج، باب فضل المدينة إلخ 2: 994، 995 ح 467 - 1370.

ص: 287