المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع في آداب الزيارة وما ينبغي للزائر أن يعمله في طريقه - البدر التمام شرح بلوغ المرام ت الزبن - جـ ٥

[الحسين بن محمد المغربي]

الفصل: ‌الفصل الرابع في آداب الزيارة وما ينبغي للزائر أن يعمله في طريقه

‌الفصل الرابع في آداب الزيارة وما ينبغي للزائر أن يعمله في طريقه

الأول: أن ينوي بزيارته للنبي صلى الله عليه وسلم (1) - التقرب إلى الله بسيره للوصول إلى مسجده صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه والدعاء والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه (أوإذا قرب من المدينة ازداد من الصلاة والسلام عليه أ) صلى الله عليه وسلم ويسأل الله أن ينفعه بزيارته وأن يتقبلها منه، فإن بإكثار الصلاة عليه (ب) نيل السعادات الدينية والدنيوية وتمام ما قصده من الأعمال.

وقد أخرج الترمذي وصححه الحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يأيها الناس اذكروا الله جاء الموت بما فيه، قال فقلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: فالنصف؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذًا تكفى همك وغفر لك ذنبك"(2).

(أ، أ) سقط من ي.

(ب) سقط من هـ (عليه).

_________

(1)

الأولى أن ينوي بزيارته مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يحصل له الأجر والذي يقصد مجرد القبر ولا يقصد المسجد مخالف للحديث فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن السفر إلى مسجده مستحب الصارم 51.

(2)

الترمذي صفة القيامة 4: 636 ح 2457 المستدرك 2: 421.

ص: 425

وفي رواية عن أحمد وابن أبي عاصم وابن أبي شيبة قال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: "إذًا يكفيك الله تعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك"(1).

فالزائر له مهمات دينية ودنيوية، ومن المهمات وصوله إلى الحضرة الشريفة لأداء ما قصده، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سبب في تيسرها له، ولا بأس إذا وصل إلى الجبل الذي يسمى مفرجًا أن يصعده ليشاهد المدينة ولكن يجتنب ما يفعله كثير من العامة من التسابق المفرط الذي يؤدي إلى ضرب الدواب وإعيائها فيما لا تستطيعه من السير.

الثاني: أن يعرس بالبطحاء الذي بذي الحليفة ويصلي بها بإسنانه صلى الله عليه وسلم، قال السبكي وينبغي أن تكون سنة، وعن مالك ومن تبعه من أهل المدينة أن ذلك واجب، ويتأول ذلك بالاستحباب المؤكد، وقال ابن فرحون: إن كان الوقت مما يصلى فيه صلى ركعتين، وإن كان مما لا يصلى فيه أقام فيه حتى يصلي فيه، فإن ذلك من السنة، وذلك لأن ابن عمر قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صدر من الحج أو العمرة أناخ بالبطحاء الذي بذي الحليفة يصلي بها"(2) قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك.

الثالث: الاغتسال لدخول المدينة وقد ذكرته الهادوية والمالكية والحنابلة والحنفية، وإذا فات عليه احتمل أن له أن يفعله بعد الدخول ويحتمل عدمه، والأرجح الأول وقد صرحت به الحنفية.

الرابع: أن يلبس أنظف ثيابه ويحتمل أن تكون كالعيد فيلبس الأحسن، ويحتمل أن يلبس الأنظف منها الأبيض لأن التواضع عند دخولها هو

(1) أحمد 5: 136.

الطبراني 4: 35 - 36 ح 3574 (الطبعة الثانية).

(2)

البخاري 3: 592 ح 1767 مسلم 2: 981 ح 430 - 1257.

ص: 426

الأولى، وقد ذكر بعضهم أنه يلبس الأبيض لدخول كل مسجد، وقد جاء في حديث قيس بن عاصم أنه لما وفد مع قومه أسرعوا إلى الدخول، وثبت هو حتى أزال مهنته وأنار شعره ولبس ثيابه وجاءه على تؤدة ووقار فرضي له وأثنى عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن فيه لخصلتين يحبهما الله عز وجل الحلم والأناة"(1).

الخامس: التطيب بعد إزالة الروائح الكريهة وحلق الأبط والعانة وقص الأظفار وغير ذلك مما يحسن به حال الزائر ويكره أن يتشبه بالمحرم بل وإذا اعتقد شرعية ذلك عذر وزجر.

السادس: النزول عن راحلته عند مشاهدة المدينة أو حرمها، صرح به المالكية، والمستند ذلك ما روي أن عبد القيس لما زار النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا عن رواحلهم ولم ينكر عليهم وتعظيم حرمته وحرمة المقدس (أ) باق بعد وفاته كما في حال حياته، وإذا وصل حرم المدينة قال اللهم هذا حرم رسولك صلى الله عليه وسلم الذي حرمته على لسانه ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو (ب) في البيت الحرام فحرمني على النار وأمني من عذابك يوم تبعث عبادك وارزقني من بركاته ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك ووفقني لحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات.

وقد ذكر هذا جماعة من العلماء وإن لم يصح فيه شيء.

السابع: إذا دخل المدينة ينبغي له أن لا يركب من حسن دخوله المدينة إلى خروجه منها، وقد روي عن مالك رحمه الله أنه ما ركب بالمدينة دابة

(أ) هـ: (المقام المقدس).

(ب) سقط من ي: (هو).

_________

(1)

مسلم 1: 48 ح 25 - 17 م أحمد 23:3 الترمذي 4: 366 ح 2011.

ص: 427

وكان يقول: أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة، وروي أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائرًا وقرب من بيوتها ترجل ومشى تأكيدًا منشدًا:

ولما رأينا رسم مَنْ لم يدع لنا

فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لبا

نزلنا على الأكوار نمشي كرامة

لما بان عنه أن يلم به ركبا

وحكي عن بعض المريدين أنه لما أشرف على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أنشأ متمثلًا:

رفع الحجاب لنا فلاح لناظري

قمر تقطع دونه الأوهام

وإذا المطي بنا بلغن محمدًا

فظهورهن على الرحال حرام

قربننا من خير من وطئ الثرى

فلها علينا حرمة وذمام

وما أحسن ما قاله القاضي في الشفاء: "وجدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل وتردد بها جبرائيل وميكائيل وعرجت منها الملائكة والروح وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر مدارس آيات ومساجد وصلوات ومشاهد الفضل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات ومناسك الدين ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين ومتبوأ خاتم النبيين حيث انفجرت النبوة وأين فاض عبابها، وموطن مهبط الرسالة، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها أن تعظم عرصاتها وتتنسم نفحاتها وتقبل ربوعها وجدرانها":

يا دار خير المرسلين ومَنْ به

هدي الأنام وخص بالآيات

عندي لأجلك لوعة وصبابة

وتشوق متوقد الجمرات

وعلي عهد إنْ ملأت محاجري

من تلكم الجدران والعرصات

ص: 428

لأعفرن مصون شيبي بينها

من كثرة التقبيل والرشفات

لولا العوادي والأعادي زرتها

أبدًا ولو سحبًا على الوجنات

لكن سأهدي من حفيل تحيتي

لقطين تلك الدار والحجرات

أذكى من المسك المفتق نفحه

تغشاه بالآصال والبكرات

وتخصه بزواكي الصلوات

ونوامي التسليم والبركات (1)

الثامن: أن يقول عند دخوله المدينة: بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا، حسبي الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج بطرًا ولا أشرًا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

التاسع: ينبغي له أن يستحضر بقلبه شرف المدينة واختصاصها برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الذي أظهره كما أظهر إبراهيم حرمة مكة، وأنها أفضل الأرض مطلقًا عند مالك وجماعة من أهل العلم أو بعد مكة عند أكثر العلماء، وأن الذي شرفت به هو خير الخلائق أجمعين ويستشعر تعظيم المدينة من حين دخوله إلى أن يخرج كأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم.

العاشر: أن يتصدق بما أمكنه من الرزق الحلال عملًا بقوله تعالى {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} (2) الآية وهو صلى الله عليه وسلم حيّ، وينبغي أن يخص بالصدقة من كان مستوطنًا للمدينة لما لهم من شرف حق الجوار إذا لم يكن غيرهم

(1) الشفا للقاضي عياض 2: 58 - 59.

(2)

المجادلة الآية 12.

ص: 429

أحوج منهم.

الحادي عشر: أن لا يعرج على غير المسجد الشريف وأن يدخله مغتسلًا متطيبًا، والمرأة تؤخر زيارتها إلى الليل، ويستحضر عند رؤية المسجد جلالته لجلالة مشرفه بالعمارة والصلاة فيه وعبادته فيه ونزول الوحي عليه فيه وملازمته للجلوس فيه وتعليمه شرائع الإِسلام والاعتكاف فيه وتأديب أصحابه فيه وهدايتهم وتربيتهم بآداب السنة والكتاب الظاهرة والباطنة واستفادتهم للعلوم التي لا حد لها ولا غاية، ويجدد التوبة والاستغفار من الذنوب والتخلص مما عليه من المظالم والحقوق، ويفرغ قلبه من أمور الدنيا وما لا تعلق له بالزيارة حتى يصلح قلبه للاستمداد منه صلى الله عليه وسلم فيتفرغ من ذلك بقدر وسعه وإمكانه، ويستشفع ببركة زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمداد الله له وتوفيقه للاستقامة على التوبة ويستحضر في قلبه كونه صلى الله عليه وسلم حيًّا في قبره، وأن الوصول إليه كالوصول إليه في حياته، وأنه يسمع سلامه ويجيب عليه، ويعرفه بعينه وما هو عليه من الاستقامة والمخالفة (1)، وأنه الوسيلة وباب الله الذي لا يدخل إليه من غيره كما قال بعض العارفين:

وأنت باب الله أي امرئ

أتاه من غيرك لا يدخل

(1) ما ذكره الشارح هنا فيه نظر أولًا من حيث تسمية الزيارة للرسول صلى الله عليه وسلم وقد كرهها بعض السلف. ثانيًا من حيث جعل زيارة القبر كزيارته حيا. يقول شيخ الإِسلام: (وأما جعل زيارة القبر كزيارته حيًّا

فهذا قياس ما علمت أحدا من علماء المسلمين قاسه .... وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بنى على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه ولو كان مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل ....) الصارم 68 - والزيارة الشرعية لقبر الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار كالصلاة على جنازته والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا كالصلاة عليه والسلام عليه وطلب الوسيلة له مشروع في جميع الأمكنة لا يختص بقبره فليس عند قبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة، بل كل عمل صالح يمكن فعله في سائر البقاع ....) الصارم 70.

ص: 430

ويطهر نفسه من الحقد والكِبْر ويلزم التواضع والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال ومتى أراد المسجد قدم رجله اليمنى ويقول: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم صل على محمَّد وآل محمَّد وصحبه وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك رب وفقني وسددني وأصلحني وأعني على ما يرضيك عني ومنّ علي بحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا خرج قدم رجله اليسرى وقال هذا إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك.

وقد ورد في هذا الذكر أحاديث صحيحة، وذكر الرحمة في الدخول لأن المساجد محال رحمة الله تعالى لعباده رحمة مخصوصة (أ) تناسب قصدهم (ب) وعبادتهم فطلبت، وذكر في الخروج الفضل لأن الخروج إلى محل الاكتساب والأسباب التي تجلب بها الأرزاق والغنى عن الناس، وهذا مظهر من مظاهر الفضل التي تفضل الله بها على عباده كما قال الله تعالى:{فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (1) وقد جاء بسند حسن غير متصل "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد صلى على محمَّد وسلم ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا (جـ) خرج صلى على محمَّد وسلم ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي

(أ) هـ: (رحمة الله تعالى للعبادة مخصوصة

).

(ب) ي: (تعبدهم).

(جـ) هـ، ي:(فإذا).

_________

(1)

سورة الجمعة الآية 10.

ص: 431

أبواب فضلك" (1) وغير هذا، وقد تقدم في باب المساجد، وجاء في رواية: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم اعصمني من الشيطان" (2)، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ويرد عليه بأن فيه علة خفيت على الحاكم، لكنه حسن بشواهده.

وورد حديث أيضًا في أنه يقول: السلام عليك أيها النبي الكريم ورحمة الله وبركاته، وهذا يشرع لكل داخل إلى المسجد المعظم وإنْ كان من أهل المدينة.

قال الجمال الطبري: ينبغي للزائر أن يدخل من باب جبريل لأنه كان يدخل منه. وقد ورد في حديث نزوله بالخروج على بني قريظة وهو راكب على فرس أبلق وعلى رأسه اللامة حتى وقف بباب الجنائز وهو الباب المسمى بباب جبريل، وتسميته بباب جبريل متواتر عند أهل المدينة تناقله الخلف عن السلف (3).

وأن يقصد الروضة المقدسة، وإن دخل من باب جبريل قصدها من خلف الحجرة الشريفة مع ملازمته الهيبة والوقار وملابسة الخشية والانكسار والخضوع والافتقار ثم يبدأ بتحية المسجد ركعتين خفيفتين قيل: يقرأ في الأولى "الكافرون" وفي الأخرى "الإخلاص" ويصلي في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الآن محراب الشافعية (4) لكن فيه انحراف عنه فيتحرى الطرف

(1) الترمذي الصلاة، باب ما يقول عند دخول المسجد 2: 127 - 128 ح 314 (ط. بيروت)، ابن ماجه المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد 1: 253 - 254 ح 771.

(2)

أبو داود الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المجسد 1: 317 - 318 ح 465 (بلفظ: "اللهم افتح لي أبواب رحمتك"، ابن ماجه المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد 1: 254 ح 773 (واللفظ له)، والحاكم 1:207.

(3)

ولا يزال إلى الآن بهذا الاسم في عام 1416 هـ.

(4)

لما جاءت الحكومة السعودية أيدها الله -وحدت الناس على إمام واحد وهذا من محاسنها، ومحاسنها كثيرة على الحرمين زادهم الله ووصلهم.

ص: 432

الغربي من ذلك المحل بحيث يصير ذلك المحراب عن يمينه، فهذا هو محل موقفه الشريف، فإن لم يتيسر له مما قرب إليه مما يلي المنبر، وقد ورد في تقديم التحية على الزيارة ما رواه مالك عن جابر رضي الله عنه (أ) - قال: قدمت من سفرٍ فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بفناء المسجد فقال: "أدخلت المسجد فصليت فيه؟ فقلت: لا. فقال: فاذهب فادخل المسجد صل فيه ثم ائت فسلم علي"(1).

وإذا صلى المكتوبة قامت مقام التحية، ويسن له بعد الفراغ من التحية أن يشكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة ثم يسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته، وله أن يسجد سجدة الشكر على مقتضى مذهب الهادوية والحنفية، وذكره الجمال الطبري من الشافعية، ومقتضى مذهب الشافعية أن سجود الشكر إنما يكون عند مفاجأة نعمة لا تحتسب فلا يسجد بل صرح بعض الشافعية بأنها تحرم لأن التقرب إلى الله بالسجود بلا سبب محرم.

الثاني عشر: أن يقصد إلى القبر الشريف، قال بعضهم: والأولى أن يأتيه من جهة أرجل الصحابة رضي الله عنهم لأنه أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه المكرم. وقد تقدم عن زين العابدين أنه كان يأتي من قبل الرأس ويستدير القبلة ويستقبل الوجه الشريف، وهذا مذهب الجمهور، وقال بعض ونقل عن أبي حنيفة أن الأفضل استقبال الكعبة، وروي أيضًا عن أبي حنيفة مثل الجمهور.

وقد روى ابن الهُمَام في مسنده عن ابن عمر أنه قال: "من السنة استقبال القبر المكرم وجعل الظهر إلى القبلة".

(أ) هـ: (أيضًا).

_________

(1)

ابن خزيمة 163:3 ح 1828.

ص: 433

وقد نقل الطبري عن السلف أنهم كانوا قبل إدخال الحجر في المسجد يقفون في الروضة مستقبلين الرأس الشريف، وكانوا يقفون على باب البيت يسلمون، أي لتعذر استقبال الوجه الشريف، ثم لما أدخلت حُجَر أزواجه في المسجد اتسع أمام الوجه الكريم فوقفوا فيه مستقبلين له مستدبرين القبلة (1)، وكما في حق الخطيب، ثم يقف وهو مستشعر للهيبة والإجلال فارغ القلب من علائق الدنيا مستحضرًا بقلبه جلالة موقفه ومنزلة من هو بحضرته، وأنه حي في قبره، ناظرًا إليه، وأنه ربما أطلعه الله على ما في قلبه.

قال الكرمانيّ الحنفي: ويضع يمينه على شماله كما في الصلاة ويبعد عن القبر الشريف بنحو أربعة أذرع، ذكره النووي في الإيضاح (2)، قال النووي: وهو الذي أطبق عليه العلماء. وفي كتب غيره من الشافعية ويقرب الزائر من القبر كقربه منه حيا، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وذكر ابن عبد السلام أنه يكون بمقدار ثلاثة أذرع، وعن جماعة من المالكية الأفضل القرب، وهذا أدخل الآن إلى داخل الحجرة، وأما من زار من خلف الشباك الحديد (أالذي وضع أ) محيطًا فهو قد زاد على ذلك، والزيارة من داخل الحجرة إذا أمكن لأن ذلك موقف السلف، ويندب له أن ينظر إلى أسفل ما يستقبله من جدار (ب) القبر، وأن يغض

(أ ، أ) سقط في هـ.

(ب) هـ: (أسفل).

_________

(1)

لم يكن الصحابة يدخلون عند القبر ولا يقفون عنده خارجًا مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلًا ونهارًا .... وقد علم الصحابة أن رسول الله لم يأمرهم بشيء من ذلك ولا أمرهم أن يخصوا قبره، أو حجرته إلى جوانب حجرته لا لصلاة ولا دعاء لا له ولا لأنفسهم. الصارم 306 - 307.

(2)

المجموع 204:8.

ص: 434

طرفه عما أحدث به من الزينة.

الثالث عشر: أنه يندب له أن يقول وهو مستقبل القبر الشريف: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نبي الرحمة، السلام عليك يا هادي الأمة، السلام عليك يا بشير يا نذير يا ظهير يا ظاهر، السلام عليك يا ماحي يا عاقب يا رؤوف يا رحيم يا حاشر، السلام عليك يا رسول رب العالمين، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك، وأزواجك وأصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وجميع عباد الله الصالحين، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبيا ورسولا عن أمته، وصلى الله تعالى عليك كما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل أفضل وأكمل وأطيب وأطهر وأزكى وأنمى ما صلى على أحدٍ من الخلق أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له وأشهد أَنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده اللهم آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون، اللهم صل على محمَّد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمَّد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم (1)، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد وأزواجه وذريته (أوأهل بيته أ) كما باركت على إبراهيم وعلى آل

(أ، أ) سقط في هـ.

_________

(1)

انظر المجموع 8: 205.

ص: 435

إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد كما يليق بعظيم شرفه وكماله ورضاك عنه وكما تحب وترضى له دائمًا أبدًا عدد معلوماتك ومداد كلماتك ورضى نفسك وزنة عرشك أفضل صلاة (أ) وأكملها وأتمها كما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون وسلم تسليمًا كذلك وعلينا معهم، وإذا عجز عن هذا اقتصر على بعضه، وأقله السلام عليك يا رسول الله - صلى الله عليك وسلم.

واختلف حال السلف في التطويل والتقصير فروى ابن عساكر عن ابن عمر التقصير وكذلك ما مر عن الحسن بن الحسن، وذهب النووي (1) وجماعة من العلماء إلى أن التطويل أفضل، والأولى أنه ما دام الزائر مستحضرًا للهيبة والإجلال صادق الاستمداد فالتطويل أولى، ومتى فقد ذلك فالإسراع أولى.

الرابع عشر: إذا وصاه أحد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان أو نحو ذلك، وحيث كان الموصي قد قبل من الموصى له ذلك التبليغ وجب الإبلاغ لأن ذلك من تحمل الأمانة، وكذلك في حق الحي، وعلى المبلغ إليه الرد ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو سامع يرد السلام على من سلم عليه، وهذا ذكره جماعة من الشافعية في تبليغ السلام إلى الحي، وكذلك يقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم فهو حيّ.

الخامس عشر: يتأكد على الزائر إذا فرغ من السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتأخر إلى جهة يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر الصديق، ويقول: السلام عليك يا أبا بكر صفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيه في الغار،

(أ) هـ: (صلاتك).

_________

(1)

المجموع 205:8.

ص: 436

جزاك الله تعالى عن أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم خيرًا؛ لأن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتأخر كذلك عن يمينه قدر ذراع للسلام على عمر لأن رأسه عند منكب أبي بكر رضي الله عنهما فيقول: السلام عليك يا عمر الذي أعز الله -تعالى- بك الإِسلام، جزاك الله تعالى عن أمة نبيه صلى الله عليه وسلم خيرًا، ثم إذا فرغ من السلام على الشيخَيْن رجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في حق نفسه، ويستشفع به إلى ربه، وقد استحسن العلماء من (1) جميع المذاهب أن يقول ما روي عن سفيان بن عيينة قال: كنتُ جالسًا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله تعالى يقول -وفي رواية يا خير الرسل- أن الله عز وجل أنزل عليك كتابًا صادقًا قال فيه {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2) وقد جئتك مستغفرًا بك من ذنوبي ثم بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دفنت في الترب أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال: ثم استغفر وانصرف فحملتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا سفيان الحق الأعرابي فبشره بأن الله تعالى قد غفر له فخرجت خلفه فلم أجده.

وروى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي - كرم

(1) هذه حكاية منكرة ذكرها البيهقي في شعب الإيمان بإسناد مظلم ولم أقف على ما ذكره من الاستحسان إلا لطائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد. الصارم 245 - 261.

(2)

سورة النساء، الآية 64.

ص: 437

الله وجهه - أنهم بعد دفنه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمى نفسه على القبر وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله سبحانه وتعالى وما وعينا عنك وكان فيما أنزل عليك {ولو أنهم ....} الآية وقد ظلمتُ نفسي وجئتك (أ) تستغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك (1).

وجاء ذلك عن علي من طريق أخرى، ويقول بعد أن يستغفر ويجدد التوبة: ونحن وفدك يا رسول الله وزوارك جئناك لقضاء حقك والتبرك بزيارتك، والاستشفاع بك مما أثقل ظهورنا وأظلم قلوبنا فليس لنا شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غيرك نصله فاستغفر الله تعالى لنا، واشفع لنا إلى ربك واسأله أن يمن علينا بسائر طلباتنا ويحشرنا في زمرة عباده الصالحين والعلماء العاملين.

ويكره أن يطوف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم بل نقل الثوري عن إطباق العلماء تحريمه لأن الطواف كالصلاة، وقد أجمعوا أنه يحرم الصلاة إلى قبره تعظيمًا له، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر المكرم، كذا ذكره الحليمي من الشافعية (2)، ويلحق به جدار الحاجز عليه المستور بالحرير الآن، ويكره وضع اليد على القبر ومسح جدار القبر باليد وتقبيله، والأدب أن يبعد منه لو كان حيًّا حاضرًا.

وادعى النووي (ب) إطباق العلماء على ذلك، واعترض دعوى الإطباق

(أ) هـ: (وجئت).

(ب) ي: (النورى) - غير منقوطة.

_________

(1)

هذا خبر منكر موضوع وأثر مختلق مصنوع لا يصلح الاعتماد عليه ولا يحسن المصير إليه وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض ....) الصارم 323.

(2)

المجموع 206:8.

ص: 438

العز بن جماعة. وقال: إنه سئل أحمد عن تقبيل القبر ومسه فقال (1): لا بأس به، ومثله عن المحب الطبري وابن أبي الصيف والإمام السبكي، وقد روي عن أبي أيوب الأنصاري تمريغ وجهه على القبر (أوهو ما أخرجه أحمد بسندٍ جيد أنه أقبل مروان يومًا فوجد رجلًا واضعًا وجهه على القبر فأخذ مروان برقبته (ب) ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فقال: نعم إني لم آت الحَجَر إنما جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم آت الحجر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تبكوا على (جـ) الدِّين إذا وليه أهله ولكن ابكوا (د) على الدِّين إذا وليه غير أهله"(2) وما تقدم من زيارة بلال وتمريغ وجهه، وجاء عن فاطمة رضي الله عنها أنها لما قبر صلى الله عليه وسلم أخذت قبضة من تراب قبره وجعلته على عينها وبكت وأنشدت:

ماذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليَّ مصائب لو أنها

صبت على الأيام عدن (هـ) لياليا

وقد رد ذلك بأن قول النووي إطباق العلماء أراد من بعد عصر الصحابة يعني أنهم رأوْا ترك ذلك لمصلحة وهو سد ذريعة المفسدة التي تحصل من

(أ - أ) سقط في ي.

(ب) هـ: (فأخذ مرران بن قبيصة

).

(جـ) سقط من هـ: (علي).

(د) سقط من هـ (ابكوا).

(هـ) ي: (صرن).

_________

(1)

اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرًا ولا يمسح به. الفتاوى 27: 31.

(2)

أحمد 5: 422 - الطبراني 4: 158 الحاكم 4: 515 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وفيه كثير بن زيد وثقه أحمد وغيره وضعفه النسائي.

ص: 439

عامة الناس من اعتقاد تعظيم الجماد من الحجر والتراب وغير ذلك وقد يفضي إلى اعتقاد أن ذلك يضر وينفع من دون الله تعالى (1).

وذكر الخطيب في تأويل ما تقدم عن بلال وغيره أنه يكون الحامل على ذلك الاستغراق في المحبة ومقصودهم إنما هو الاحترام والتعظيم، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته فإنه كان ناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم ويبادرون إليه وناس يكون فيهم أناة وكلهم يقصد الخير، وعلم من هذا كراهة مس مشاهد الأولياء وتقبيلها بالطريق الأولى، وكذلك يكره أيضًا الانحناء للقبر الشريف، وأقبح منه تقبيل الأرض، وحكى هذا ابن جماعة عن بعض العلماء.

السادس عشر: أنه إذا فرغ من الزيارة استقبل القبلة ووقف محاذيًا لرأس القبر المكرم والأسطوانة التي هي علم على جهة الرأس الشريف فيجعلها عن يساره، وتكون الأسطوانة المقابلة له الملاصقة للمقصورة المستديرة بالحجرة الشريفة على يمينه ويستقبل القبلة ويحمد الله -تعالى- ويمجده بأبلغ (أ) ما يمكنه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه بما أحب من خيري الدنيا والآخرة ولوالديه ولأقاربه ولأحبائه ولمن أوصاه ولسائر المسلمين واستقبال القبلة هو الأفضل على ما ذهب إليه جمهور العلماء، وذهب مالك إلى أن الأفضل أن يستقبل الوجه الشريف في حال الدعاء، وقد سأله المنصور الدوانيقي فقال له: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم

(أ) ي: (ما بلغ).

_________

(1)

هذا لا يصح فإن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء فما ظهر فيمن بعدهم ممن يظن أنه فضيلة للمتأخرين، ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة. سواء كانت من جنس العلوم أو من جنس العبادات أو من جنس الخوارق والآيات: ومن جنس السياسة والملك بل خير الناس بعدهم أتبعهم له. الصارم 302.

ص: 440

أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم - صلى الله على نبينا وعليه - يوم القيامة، استقبله واستشفع به فيشفعه الله تعالى قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ

} الآية (1)، ولمالك قول: إنه لا يستقبل القبر إلا للسلام دون الدعاء وجمع بين قوليه بأن الأول فيمن يعرف آداب الدعاء وشروطه والثاني في حق الجاهل لذلك (2).

السابع عشر: أنه يسن بعد إتمام الزيارة إدامة الوقوف في الروضة المشرفة ويجعل صلاته مدة إقامته فيها فهو أولى لما ورد فيها في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال صلى الله عليه وسلم "ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي"(2) وفي رواية "ما بين منبري وبيتي" وفي أخرى "ما بين حجرتي ومنبري" ولا منافاة لأن قبره في بيته، وبيته هو الحجرة.

ومعنى الحديث كما قال مالك: إنه ينقل إلى الجنة وليس كسائر الأرض يذهب ويفني أو هي من الجنة الآن حقيقة، وإن كانت في الظاهر صفتها صفة دار الدنيا كما أن الحجر الأسود ومقام إبراهيم من الجنة، وكونه على الحوض أنه ينصب على حوضه لأن الأصل بقاء اللفظ على ظاهره.

ويمسح رمانة المنبر لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمسكها وأنها باقية، وأما الأكل من التمر الصيحاني في الروضة فبدعة تفعلها الشيعة ويروون في

(1) الآية 64 من سورة النساء.

(2)

هذه الحكاية باطلة الصارم 260 ومذهب الإِمام مالك لا يختلف أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقًا. الصارم 259.

ص: 441

تسميته صيحانيا حديثًا وهو ما رواه ابن المؤيد الحموي عن جابر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومًا في بعض حيطان المدينة ويد علي في يده فمررنا بنخل فصاح النخل هذا محمَّد رسول الله -هذا علي سيف الله فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي وقال "سمه الصيحاني" ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وفضيلة المسجد كائنة لما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم ولما زيد فيه وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ما سيكون بعده. وقد أخبر بمضاعفة الثواب لمن صلى فيه، ويدل على ذلك أن عمر زاد فيه من جهة القبلة الرواق المتوسط بين الروضة ورواق المحراب العثماني وحده في الغرب إلى الأسطوانة السابعة من المنبر، ولم يزد شيئًا في جهة الشرق لأن الحجرة كانت هي الحدُّ في الشرق في زمنه ثم زاد عثمان في القبلة إلى موضع محرابه اليوم ولم يزد في شرقيه وزاد في غربيه قدر الأسطوانة فجدار المسجد في زمنه من جهة الغرب انتهى إلى الأسطوانة الثامنة (أ) من المنبر وما بعدها إلى الجدار أسطوانتان فقط زادهما الوليد والخامسة من المنبر هي نهاية المسجد النبوي بعد الزيادة الثانية وَحَدُّه من جهة الشام قريب من الأحجار التي عند ميزان الشمس بصحن المسجد خلف مجلس مشايخ الحرم، ويندب للزائر أن يصلي عند السواري التي كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم إذ لا يخلو من صلاته أو صلاة أحد من الصحابة رضي الله عنهم والذي ورد له فضل خاص هن ثمان: الأولى التي جعلت علامة لمصلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان الجذع الذي يخطب صلى الله عليه وسلم أمامها كذا قال ابن زبالة ثم أسطوان ثانية صلى إليها النبي صلى الله عليه وسلم بعد تحويل القبلة بضعة عشر يومًا وهي الثالثة من المنبر ومن القبر ومن القبلة متوسطة الروضة وتسمى أسطوانة الفرغة لما في الطبراني في "الأوسط" إن

(أ) ي: (الثانية).

ص: 442

في مسجدي لبقعة قبل هذه الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا إليها إلا أن تطير لهم فرغة" فكان أبو بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم يصلون إليها والمهاجرون من قريش يجتمعون عندها، قيل والدعاء عندها مستجاب يليها لناحية القبر أسطوان التوبة وهي أسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه إليها حتى نزلت توبته وأسطوان السرير وهي اللاصقة بالشباك اليوم شرقي أسطوان التوبة كان سريره صلى الله عليه وسلم يوضع عندها مرة، وعند أسطوان التوبة أخرى، والخامسة أسطوان علي رضي الله عنه كان يجلس في صفحتها التي تلي القبر يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خلف أسطوان التوبة من جهة الشمال، وكانت الخوخة التي يخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة إلى الروضة في مقابلتها وخلفها من الشمال أيضًا، والسادسة أسطوان الوفود كان صلى الله عليه وسلم يجلس عندها لوفود العرب، السابعة أسطوان مربعة القبر ويقال لها مقام جبريل وهي في حائز الحجرة الشريفة عند منحرف صفحته الغربية للشمال وبينها وبين أسطوان الوفود الأسطوان الملاصقة لشباك الحجرة وكذا ذكر ابن عساكر في أسطوان الوفود إنك إذا عددت الأسطوان التي فيها مقام جبريل كان هي الثالثة، وليحيى وابن زبالة عن مسلم بن أبي مريم كان باب بيت فاطمة رضي الله عنها في المربعة ولذا قال مسلم بن أبي مريم لسليمان: لا يَفتْك حظك من الصلاة إليها فإنها باب فاطمة أي وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه حتى يأخذ بعضادتيه ويقول: السلام عليكم أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا.

ورواه يحيى (أ) وفي رواية له "كل يوم فيقول الصلاة الصلاة .... " الحديث، وقد حرم الناس التبرك بأسطوان السرير لعلو الشباك.

(أ) هـ، ي:(وروي له).

ص: 443

الثامنة أسطوان التهجد كان يصلي صلى الله عليه وسلم إليها ومحلها الآن دعامة بها محراب مرحم (أ) قرب باب جبريل وقد روي أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج حصيرًا كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء باب عليّ رضي الله عنه ثم يصلي صلاة الليل فرآه رجل فصلى بصلاته ثم آخر فصلى بصلاته حتى كثروا فالتفت فإذا بهم فأمر بالحصير فطوي ثم دخل فلما أصبح جاءوه فقالوا يا رسول الله كنت تصلي بالليل فنصلي بصلاتك، فقال:"إني خشيت أن تنزل عليكم صلاة الليل ثم لا تقوون عليها"(1). قال عيسى بن عبد الله: وذلك موضع الأسطوان التي على طريق باب النبي صلى الله عليه وسلم مما يلي باب الزوراء والزوراء بالزي الموضع المزور خلف الحجرة من حائزها وهو كشكل المثلث، وكذا روي عن محمَّد بن علي بن الحنفية أنها كانت مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل.

قال ابن النجار: هذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة من جهة الشمال وفيها محراب إذا توجه المصلي إليه كانت يساره إلى باب عثمان المعروف اليوم بباب جبريل.

وقال المطري: وحولها الدرابزيان أي المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة، وقد كتب فيها بالرخام هذا متهجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد حصول الحريق الثاني دعامة عند بناء القبة واتخذ فيها محراب مرخمًا، وهذه الأسطوانة هي آخر الأساطين التي لها فضل خاص وإلا فجميع أساطين المسجد مشتركة في الفضل. وقد أخرج البخاري عن أنس "لقد أدركت كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري"(2) قد اختصت بصلاة أكابر الصحابة عندها.

(أ) غير ظاهر بالنسخ.

_________

(1)

البخاري نحوه 2: 213 - 214 ح 729.

(2)

البخاري الصلاة، باب الصلاة إلى الأسطوانة 1: 577 ح 503.

ص: 444