الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
1 -
بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تشده لها العقول. وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان.
وكل معجزة تناسب العصر الذي بعث فيه النبي، وتتفق مع ما تدركه عقولهم، من حدود القدرة البشرية في موضوع المعجزة وذاتها، وقد تكون علاجاً لحالهم.
فمعجزة موسى كانت في بلد أتقن السحر، فجاءت من جنسه
…
ومعجزة عيسى عليه السلام كانت في قوم خضعوا لحكم المادة، ولم يعترفوا بغيرها، فجاءت معجزته عليه السلام متجهة كلها لإثبات ما وراء المادة. بل إن ولادته عليه السلام نفسها كانت من هذا النوع، فهي وحدها برهان على سلطان الروح وتفكك الأسباب المادية وتراخيها عن مسبباتها، ووجود تلك المسببات من غير قيام الأسباب.
2 -
ولقد كانت كل المعجزات التي حكيت عن النبيين السابقين
معجزات مادية حسية، تكشف عن معنى روحي، وعن تنزيل سماوي؛ فقد كانت تقر الحس فيخضع، وتبده العقول فتخنع، فيذعن من أزال الله عن قلبه الغشاوة، وينكر من غلبت عليه شقوته وعمّت كل نواحي نفسه ضلالته.
ولكن معجزة محمد - صلوات الله عليه - لم تكن مادة تقرع، ولا أمراً حسياً ترى العيون إعجازه رأي العيان، بل كانت أمراً معنوياً تتأمله العقول والأفهام، وتتعرفه المدارك البشرية في كل الأزمان، ولم يفقد حجيته، ولم يزل إعجازه كر الغداة ومر العشى.
3 -
وهنا يثور بادى الرأي ويلمح النظر سؤال:
ولماذا كانت معجزة محمد - صلوات الله عليه - أمراً معنوياً، والمعجزات السابقة أموراً حسية، أو لماذا كانت معجزة محمد كلاماًَ متلوا ومعجزات غيره وقائع مادية؟
إن الجواب عن ذلك السؤال مشتق من شريعة محمد ذاتها، ومن حقيقة القرآن الكريم، فشريعة محمد خالدة باقية، خوطبت بها الأجيال من مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد خوطب بها الناس جميعاً في كل الأرض، مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقاليمهم، وتضاربت عاداتهم.
فكان لابد أن تكون معجزة النبي متفقة مع هذا العموم،
ومتلائمة مع هذا الخلود، ولا يمكن أن تكون كذلك إذا كانت وقائع مادية تقتضي بإنقضاء وقتها، ولا يعلم بها علم اليقين إلا من عاينها، فالنار التي ألقى فيها خليل الله إبراهيم ولم تحرقه، لم يعلمها علم اليقين إلا الذين رأوها، وعصا موسى التي انقلبت حية تسعى، تلقف ما يأفكون، لم يعلمها علماً جازماً إلا الذين شاهدوها، وإبراء عيسى للأكمة والأبرص لم يعلم به إلآ الذين لمسوه.
أما معجزة محمد فهي ذلك القرآن المتلو المشتمل على الشريعة المحكمة، وهو باق يرى ويتلوى إلى يوم القيامة فيعلم حقيقته من ألتقى بالنبي صلوات الله عليخ وعاينه وخاطبه، ومن جاء بعد عذر الرسول بعشرة قرون. بل بعشرات القرون إن أمتد عمر الإنسان في هذه الأرض عشرات القرون، ولقد حفظه منزله الأجيال كما نزل على محمد {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
فالناس في كل الأجيال بعد محمد يرون معجزته رأي العيان، كمن شاهدوا محمداً وخاطبوه، وإن كان لهؤلاء الصحب الكرام فضل علم، فهم مشتق من مشافهة النبي خطابه والتحدث عليه، وهو مشرق الحق ومصدر العرفان وروح الهدى ونور الوجود.
وإذا كانت الأجيال كلها ترى تلك المعجزة وتفهمها، فهي حجة الله الفاتحة عليها، فإن ضلت لا تضل عن جهالة ولا عن
نقص في البينات، ولا عن شك في الأمر، بل عن عمى في البصيرة وتحكم الهوى وسيطرة الأوهام،
4 -
ولقد تكلم العلماء قديماً وحديثاً في موضع الإعجاز في القرآن - معجزة النبي صلوات الله عليه وسلم الكبرى، فمن قائل: إنه ما اشتمل عليه من قصص صادقة لم يعلمها النبي الأمين عن غير طريق الوحي، أو لم يجلس إلى معلم ولم يتعلم، ولم يكن كثير الرحلة حتى ينال علم التجربة بالأسفار، بل لم يتجاوز بطحاء مكة إلا مرتين: إحداهما في الثانية عشرة، والأخرى في نحو الخامسة والعشرين، فصدقها مع هذه الأمية دليل على أنها من عند الله".
ومن قائل: "إن الإعجاز في اشتماله على حقائق علمية كونبة، لم يصل إليها العقل البشري إلا بعد قرون، وقد جاءت في القرآن على لسان نبي أمي لم يتعلم، ولم يجلس إلى معلم كما بينا".
ومن قائل: "إن ذلك الإعجاز في أسلوب القرآن ونغمه ونسقه، وعلى ذلك الأكثرون".
وهو ما تومئ إليه عبارات القرآن الكريم، فقد تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله ولو مفتريات فعجزوا، فكان أسلوب القرآن معجزاً لا ريب في ذلك.
5 -
ونحن نرى إن كل ما ذكره العلماء سبباً لإعجاز القرآن هو
بلا ريب من أسبابه، غير أن سبباً واحداً لم نر العلماء قد ذكروه، ونراه من أقوى الأسباب أو يعدل أقراها إن لم يكن أقواها جميعاً، وبه القرآن يكون معجزاًَ لكل الناس، لا للعرب وحدهم، ولا لجيل من الأجيال، بل يكون معجزاً للأجيال كلها، ألا وهو شريعة القرآن، فما اشتمل عليه القرآن من أحكام سواء ما كان منها يتعلق بالأسرة أو ما يتعلق بالمجتمع، وما يتعلق بالعلاقة الدولية، فريد في بابه لم يسبقه شرع سابق، ولم يلحق بما وصل إليه شرع لاحق، وإذا ما كان ذلك كله قد جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، لم يتعلم قط لا بالقلم والقرطاس، ولا بالتلقين والتوقيف، ولا بالتجربة والأسفار، إن ذلك هو الإعجاز الذي تتيه العقول في تعرف سببه، إلا أن يكون ذلك من عند الله العلي الحكيم، وكذلك قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
6 -
هذا كلام إجمالي وهو يحتاج إلى بعض من البيان، ولأجل أن نتبين قيمة ذلك الشرع في ذاته ونظر الناس يجدر بنا أن نرجع إلى الماضي السحيق ونتطلع إلى المستقبل البعيد.
أما في الماضي فنجد أن الشرع الذي أقترن بظهور محمد الرسول الأمين، هو قانون الرومان، فقد كان الشرع المسيطر في التطبيقات العملية والقضائية في مصر والشام وغيرها من البلدان التي تصاقب البلاد العربية وتحيط بها من الغرب والشمال، ويقول علماء
القانون اليوم إنه من أكمل الشرائع التي تفتق عنها العقل البشري، ولا زال يعتبر اصلاً لكثير من الشرائع القائمة، انفرعت من أصوله وقامت على دعائمه.
وإن من يريد أن يعرف منزلة الشريعة الإسلامية وأنها في درجة فوق مستوى العقل البشري، فليوازن بينها وبين القانون الروماني، لأن قانون الرومان قد استوى على سوقه، وبلغ نهاية كماله في عهد جوستنيان سنة 533 بعد ميلاد المسيح عليه السلام، وهو في هذا الوقت كان صفوة القوانين السابقة، وفيه علاج لعيوبها وسد لخللها من يوم أن أنشئت روما سنة 744 قبل الميلاد، إلى سنة 533 بعده، أي أنه ثمرة تجارب قانونية لنحو ثلاثة عشر قرناً ظهرت فيها الفلسفة اليونانية. وبلغت أوجها، وقد أستعانوا في تلك التجارب القانونية بقوانين سولون لأثينا، وقوانين ليكورغ لإسبارظة والنظم اليونانية عامة، والمناهج النظامية والفلسفية التي فكر فيها الفلاسفة اليونان، لبيان أمثل النظم التي يقوم عليها المجتمع الفاضل. كالذي جاء في كتاب القانون وكتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، وغيرها من ثمرات عقول الفلاسفة والعلماء في عهد اليوناان والرومان.
وإن شئت فقل: إن القانون الروماني هو خلاصة ما وصل
إليه العقل البشري في مدى ثلاثة عشر قرناً في تنظيم الحقوق والواجبات، فإذا وازنا بينه وبين ما جاء على لسان محمد النبي النبي الأمي وأنتجت الموازنة أن العدل فيما قاله محمد ليس من صنع بشر، إنه العليم الحكيم اللطيف الخبير سبحانه.
7 -
وفي أي جانب أخترت الموازنة بين ما اشتمل عليه القرآن وما اشتملت عليه الشرائع التي سبقته أو عاصرته بدا لك الفرق ما بين السمو الروح0ي، والأخلاق الأرضية. فمن ناحية المساواة القانونية نجد الشريعة قد وصلت إلى أعلا درجاتها، بينما القوانين التي عاصرتها لم تعترف بأصلها.
فالقرآن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} والشرائع التي سبقته وعاصرته لم تعرف تلك المساواة بين الأجناس والألوان، بل لم تعرف المساواة بين آحاد الأمة الواحدة.
وبينما شريعة القرآن تخفف عقوبة الأرقاء فتجعل عقوبتهم نصف عقوبة الحر، نجد قانون الرومان يضاعف عقوبة الضعفاء فالقرآن يقول في الإماء:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وكذلك العبد إن أتى بفاحشة فعقوبته نصف الحر.
ولكن قانون الرومان يقول: "ومن يستهوي أرملة مستقيمة
أو عذراء فعقوبته إن كان من بيئة كريمة مصادرة نصف ماله، وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض.
وإن النظر العادل يقر بالبداهة نظر شريعة القرآن لأن العقوبات يجب أن تشير بنسبة تصاعدية مع الأشخاص لا بنسبة عكسية، فتكبر جريمة الكبير وتصغر عقوبة الصغير.. لأنه إذا هانت النفس على صاحبها سهل عليه الوقوع في الجرائم، فكان التخفيف، وإذا كبرت قيمة الرجل في أعين الناس كانت عليه تبعات بمقدار عظمته، وكانت صغائره كبائر، وتضاعفت العقوبة، فالجاه والثروة وغيرها ليست متعاً خالصة خالية من تبعات بل عليها تبعات بقدرها.
وإن القوانين التي تسير عكساً لا طرداً، كالقانون الروماني، قوانين ظالمة، كيف؟ لأنها تستمد منطقها من القوة الغالبة، فكلما كان الشخص من ذوي الجاه ضعفت عقوبته، وكلما كان نم الضعفاء زادت من عقوبته، فهو يحمي الشريف ولا يحمي الضعيف، وقد سمي القرآن ذلك حكم الجاهلية، ولذا قال الله في حق اليهود عندما طلبوا أن يحكم النبي على الشريف الزاني بغير العقوبة المقررة:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؟
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أهلك الذين من قبلكم كانوا إذا سرق الشريف تركوه. وإذا سرق الضعيف