المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌أما تعدد الزوجات

لذلك كان لابد من وضع حدود حاجزة، ولابد أن يكون الحد الراسم للحقوق في ثبوت النسب أمراً ظاهراً لكي يمكن الاحتكام إليه، ثم لابد أن يكون ذلك الأمر فاضلاً ولا يكون آثماً إذ أن الطرق الآثمة في هذا الباب وغيرهة مثارات للشيطان؛ ولا يمكن الاهتداء إلى حق في وسطها ولا معرفة حقيقة مستقرة في طلامها، لأنها ظلام معتم يؤدي إلى الفوضى في الأنساب.

* * *

‌أما تعدد الزوجات

فهو الأمر الذي يتخذه يوحنا الدمشقي سبيلاً لتشكيك المسلمين في دينهم، ومنع النصارى من الانتقال إليه

إذ قد يتبين لهم الهدى فيه.

إن شريعة محمد في تعدد الزوجات تدل على أن محمداً ما كان ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، وأن القرآن الذي نظم أمرها ليس من عند محمد، بل هو من عند اللطيف الخبير، لقد كان التعدد في الزوجات قبل الإسلام مطلقاً من غير قيد يقيده، فلم تقيده الشريعة الموسوية بأي قيد من العدد، وفي بعض عهوده قيدوه بثماني عشرة لأنها أقصى ما يمكن أن تصل إليه الطاقة في الإنفاق، ولم تكن أمة توحد في الزوجة إلا مصر، وسرى إلى الرومان عن طريقهم منع التعدد وبهذا أخذ النصارى، وليس في الأناجيل ولا في رسائل الرسل عندهم أي عبارة تفيد منع التعدد.

ولقد كان العرب يعددون من غير قيد يقيدهم، لأن المرأة

ص: 27

كانت عندهم كالمتاع، بل إن الزوجة كانت تورث كما تورث التركة، فجاء محمد ووقف حاجزاً دون ذلك الإفراط، ودون ذلك الظلم، ورد للمرأة كرامتها، فمنع التعدد لأكثر من أربع، واشترط القرآن الكريم لإباحة التعدد إقامة العدل والقدرة على الإنفاق ولذلك قال سبحانه:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}

وقد اتفق علماء المسلمين على أمرين:

أولهما: أن المراد بالعدل، هو العدل الظاهر، الذي يستطيع كل إنسان، وليس المراد العدل في المحبة القلبية، الذي نفى الله استطاعته نفياً مؤبداً في قوله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}

ثانيهما: أن الزواج مع تحقق العدالة زواج صحيح، وليس بباطل لاستيفاء أركانه وشروطه، ولأن العقود تناط صحتها وفسادها بأمور متحققة، واقعة عند العدل، لا بأمور متوقعة، فالشخص عند الزواج، لا يتحقق ظلمه إنما يتحقق بعد ذلك، وربما لا يتحقق فيجئ ما ليس في الحسبان، ويعدل، ولكنه يكون آثماًَ إذا ظلم، كما يتحقق الإثم في كل ظلم، بل آثمه هنا مضاعف. لأنه ظلم أولاً، وتزوج وهو يعتقد أنه يظلم، فكان عاصياً من هذه الناحية ثانياً.

ص: 28

وإن المسلك الذي سلكته شريعة القرآن هو المسلك المستقيم، فلم تبحه بإطلاق، ولم تمنعه بإطلاق، وإن ذلك هو الذي يتفق مع عموم الرسالة للناس فس كل الأجيال وكل الأجناس، وكل الطبقات، فهي قد جاءت للجنس الأبيض، والجنس الأحمر، والجنس الأصفر، والجنس الأسود، ومن يسكن في البلاد الحارة، ومن يسكن في البلاد الباردة وأن الشريعة التي يكون لها ذلك العموم يكون فيها من المرونة والسعة ما يوافق كل الأمزجة، ولا يشق عليها، وما تعالج به كل الأدواء، ويجب أن تكون قيودها قابلة للسعة والضيق.

وإن ذلك المعنى واضح كل الوضوح في تعدد الزوجات، لقد أبيح عدد يجد فيه الزواج القادر على إقامة العدل رغبته، وقيّد في الإباحة بقيد لو شدد فيه لكان قريباً من المنع المطلق، ولو أرخى فيه لكان بين ذلك قواماً، ولو كانت الشريعة لأهل أوربا فقط - وهم الذين تمرست نفوس بعضهم بالزوجة الواحدة، لاستساغت نفوسهم في ظاهر الأمر المنع، ولوجدوا في شدة القيد ما ألفوه من أحكام الزواج، ولكن الإسلام خاطب الجميع ولا يزال في الدنيا ناس لا يعرفون إلا التعدد، وفي الدنيا نساء يفرحن عند دخول ضرة جديدة عليهن، لأنها تخفف عنهن أثقال

ص: 29

الخدمة، وتكون لهن الرياسة عليها، فهل يستسيع هؤلاء المنع المطلق.؟

إنه إن أغلق باب التعدد وأحكم إغلاقه بالمنع المطلق، اقتحم الرجال الذين لا يصعب عليهم ذلك المنع أبواب الفسق، فهتكت الأعراض، وكثر الأولاد الذين لا آباء لهم، وكثرت الأمراض الخبيثة التي تنتقل إلى الذرية.

لقد حرم الأوربيون تعدد الزوجات واستمسكوا به وارتضوه ديناً، ولكنهم فتحوا لأنفسهم باب الحرام على مصراعيه، فكان التضييق في الحلال سبباً في التوسع في الحرام فانسابوا فيه انسياباً، وكان الوباء على النسل في البلاد عظيماً، وإن العاقل لو خيّر بين حلا معيب وحرام لا شك فيه، لاختار الحلال المعيب، ولو خير بين تعدد فيه رعايو الأولاد وحفظ الأنساب، وبين فسق فيه إهمال الأولاد وضياع الأنساب لاختار الأول بلا شك.

وإن التعدد قد يكون علاجاً اجتماعياً لنقص يوجد للأمة ونسلها، فقد يقل عدد الرجال الصالحين للزواج عن عدد الأناث، وقد بدأ ذلك في ألمانيا بعد الحرب الأخيرة، فقد صار عدد النساء الصالحات للزواج أضعاف عدد الرجال الصالحين، وخيف على النسل، ولذلك أباحت حكومة "بون" عاصمة ألمانيا الغربية التعدد لأنها وجدت فيه علاجاً لهذا الداء الإجتماعي، وسبيلاً لتكثير نسلها، وإلا أوشكت على الفناء.

ص: 30