الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأوربين سائغ فرات، وكل ما عندنا ملح أجاج، وليسوا في حاجة إلي دس أمثال يوحنا الدمشقي، بل إنه يكفي أن يكون الأوربيون لا تسيغ شريعنهم التعدد حتى يكون ذلك المنه سائغاً مقبولاً، وحتى يكون ما عند المسلمين مقيتاً مرذولاً
…
وهكذا يفعل الاستخذاء في نفوس الضعفاء يستقبحون كل ما بأيديهم ويستحسنون كل ما بأيدي الأقوياء.
* * *
ونحن وإذا حاولنا أن نبين فضل الشريعة في الزواج والطلاق
، فإنا لا نرد على المسلمين الذين رددوا تلك الأقوال عن غير بينة، بل إنا نرد على الذين اثاروها بين المسلمين، ولم يجدوا مرتعاً خصيباً من اقدم العصور إلا في أذهان رجال في عصرنا، ونحن نتكلم في هذه الأمور الثلاثة: قصة زيد وزينب ونظام التبني والنسب، وتعدد الزوجات، والطلاق.
ونبدأ بقصة زيد وزينب والتبني لأن كثيرين خدعوا بالكذب الذي أثير حولها، ووجدنا في مصر كاتباً كبيراً كتب في السيرة، وجعل لها عنواناً قائماً بذاته، سماع عشق النبي، وبعض كتب التفسير رأج فيها ذلك العرس الخبيث، ولأن إثارة القول في هذه القصة بحرنا إلى الكلام في خاصة اختصت بها الشريعة
الإسلامية في النسب، وهي أن التبني لا يوجد نسباً ولا يثبت حقوقاً ولا يلزم بواجبات، وذلك غير ما كان عند الرومان، ولأن تلك القصة تكشف عن خلق النبي الكريم،
كان لمحمد مولى هو زيد بن حارثة، وقد اختطف من قبيلته وبيه بيع العبيد وآل أمره إلى سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فحدب علبه وأكرمه وجعله منه بمنزلة الولد، يرفق به رفق الأب بولده، فلما عثر عليه أهله وأرادوا ان يفتدوا بثمنه أو بأكثر رضى المقام مع النبي فأعتقه وألحقه بنسبه وتبناه، وكان ذلك شرعاً مقرراً عند العرب، وعرف بين الناس: إنه زيد بن محمد، فكام قرشياً هاشمياً بهاذ الإلحاق، وتزوج بنت جحش على أنه زيد ابن محمد، لأنه كفء لها بهذا النسب القانوني عندهم، ولكن الإسلام منع التبني وقال الله سبحانه وتعالى في أول سورة الأحزاب: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ
…
}
ثم أردف هذا بقوله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} عندئذ بدا الصريح عن الرغوة، وتبين أن وزيداً ليس ابن محمد، ولكنه ابن حارثة، وتبين أنه ليس قرشياً، ثم تبين أنه ليس كفئاً لهذه الزوجة المعتزة بنسبها،
الفخورة بقومها، فتململت به وتململ بها لكبريائها واعتزازها بنسبها، فكان لابد أن يفترقا لتعذر العشرة الحسنة بينهما.
ولقد كان التبني نظاماً مقرراً ثابتاً في النفص العربية مشهوراً متغلغلة فكرته في نفوس العرب كما كان الشأن عند مجاوريهم الرومان، الذين كانوا ينظمون أحكامه ويرتبون حقوقه وواجباته، وكان لابد لاقتلاعه من النفس العربية - من قارعة مشهورة تقرع حسهم، فابتلى الله محمداً بأن يكون المتولى لهذه القارعة تتميما لرسالته وقياماً بحق التبليغ، ابتلاه بأن يتزوج زينب عندما تطلق من زوجها وصدر إليه أمر السماء بأن يكون على أهبة لذلك. ولكنه لم يعلن ذلك الأمر، وأعلم أن زيداً مطلق زينب لا محالة لاستحكام الثغرة، وأخفى النبي أيضاً ذلك على الزوجين ما علم، وفي هذه الأثناء كان زيد لا ينى عن شكوى زوجته إلى الرسول، واستئذانه في طلاقها، وقد حكى الله سبحانه قول النبي له، فقال:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي تخفي في نفسك أنه لابد مطلقها، وأن الله أمرك بتزوجها {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} وهو أمر الزواج والطلاق وليس أمر العشق والهوى لأن الله سبحانه ما أبدى عشقاً للنبي وهوى له {وَتَخْشَى النَّاسَ} تستحي من مفأجاتعم بغير ما يألفون {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ} وقد أمرك فلا مناص من الإجابة: "فلما قضى زيد منها وطرأ زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرأ، وكان أمر الله مفعولاً. ما كان على النبي من حرج فيما فرص الله له، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} .
هذه الآيات الكريمة صريحة في أن الأمر قد قصد به قارعة تقرع حس العرب لكي تقتلع من نفوسهم فكرة التبني، وقد صرح الله سبحانه بذلك إذ قال:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} .
ولقد تعلق الدساسون ومن تبعهم من الجهلاء بقوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} فزعموا أن الذي أخفاه الحب والهيام، وفات الجهلاء أن الله ما أبدى شيئاً من ذلك، وإن الذي فسرنا به الآية ليس بدعاً ابتدعناه ولا بديئاً سبقنا به، بل هو التفسير الأثري الصحيح - لا سيما تفسير ابن كثير.
ومن الغريب أن دس يوحنا الدمشقي في هذا المقام كان عظيم الأثر حتى راجت عن التابعين الروايات التي تدل على التأثر بذلك التفكير البعيد عن حقيقة النبي، بل إن "جرير" شيخ مفسري السلف وقع في تأثير تلك الروايات فقبلها تفسيراً ورأياً، مع أنها كلها روايات باطلة، وقد قالق ابن كثير في ذلك:
"ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها".
هذه حقيقة الأمر في ذلك الأمر الذي روّجه المفسدون من أقدم العصور إلى اليوم، وإنما سقنا ذلك القول لا لبيان ذلك فقط، بل لننفذ منه إلى ما اتجهت إليه الشريعة في تحري الأنساب والمحافظة عليها والصيانة للفضيلة والحرص عليها. ولقد أغلقت الشريعة باب التبني:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فما أعدل حكم اللح يحث على أن يُدعى الناس لآبائهم لأن التبني كذب في ذاته، واعتداء على الآباء الحقيقيين، فكان القسط عند الله أن يكون كل امرئ لأبيه، فإن لم يكن لهم أب فلن يكسبوا شرفاً بذلك الإدعاء الباطل الذي هو كذب في ذاته، بل الشرف كل الشرف لهم في أن يكونوا إخواناً لكم ونصراء، ولا تعتبروهم أدنياء أذلاء لأن الشرف لا يكتسب بالكذب، والشرف الحقيقي هو في الأخوة الإسلامية العامة"
…
هذا ما يقرره محمد بين عبد الله الأمي الذي كان من أمة تعتبر من أسباب ثبوت النسب: الإلحاق والتبني، كما كان ذلك مقرراً عند الرومان، ولقد ادعي بعض المستشرقين ولم ينف ادعاءه جهداً، أن محمد أتى بالعادات العربية فجعل منها أحكاماً واجبة التطبيق،
وهذا كلام لا يقف على أصل ثابت ولا يعتمد على دعامة قائمة، بل فرية لا شك فيها، ولو كان محمد كذلك فيما أنزل عليه من شرع لأقر نظام التبني كما كان عند العرب، ولا أستمر زيدٌ ابناً له، وقد كان صفيه وحبه حتى أنه كان يلي ابنته فاطمة من المحبة، ولكن شرع الله أتى بالعدل الذي لم ينطق به ولم يقله أحد، ولم يجر على لسان أحد قبل محمد في البلاد العربية وما حولها.
وإن أردت أن تعرف فضل الإسلام فأقرنه يقانون الرومان الذي كان يعتبر القانون الأمثل في ذلك الزمن الغابر، بل إنه لازال يعتبر من أمثل القوانين في عصرنا الحاضر.
كان القانون الروماني يجيز التبني للأولاد المجهولي النسب وغير المجهولي النسب، ومجهولو النسب ومعلومو النسب تبنيهم يجوز بالاتفاق معهم وتصديق الإمبرطور إن لم يكونوا من ولاية أحد، وإن كانوا في ولاية آبائهم فبالاتفاق مع آبائهم، وكأن النسب شيء يمكن الاتفاق بالتراضي عليه، ولعل الأمر المعقول في هذا التبني غير المعقول أنهم اشترطوا أن يولد مثل الدعي لمدعيه، فقد جاء في مدونة جوستنيان ما نصه: "ومن المقرر أنه ليس لأحد قط أن يتبنى من هو أكبر منه سناً لأن التبني محاكاه للطبيعة، ومما يخالف الطبيعة أن يكون الإبن أكبر سناً من أبيه، وعليه فمن يريد أن يتبنى أحداًَ أو يستلحقه يجب أن يكون أسن منه،
بقدر مدة البلوغ التام أي بمقدار ثماني عشرة سنة".
وقد كان الذين يتبنون ولهم آباء معروفون يجردون من أسرهم تماماً ويصيرون من أسرة من تبناهم.
وإذا كان النبي الأمي قد قرر تلك الحقائق التي جاءت على غير المألوف عندهم، بل إنه هو نفسه قد خضع له وقتاً ما، وقال إن تلك الحقائق هي من عند الله، فمن الذي يكذبه معتمداً على حق أو على أمر معقول؟ إنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب قط، ولم يتعلم قط، ولم يكن في عصره علم على هذا النوع، حتى يكون قد لقنَّه أو تعلمه
…
إنه بلا ريب من عند الله العليم الحكيم.
هذا شأن ثبوت النسب في الإسلام جعلوا أساسه الفطرة مع الفضيلة، فجعل النسب لا يثبت إلا في ظل زوجة شرعية ولا يثبت من إثم فاجر. فقال عليه السلام:"الولد للفراش وللعاهر الحَجَرُ" لأن ثبوت النسب نعمة تساق إلى المنتسب والمنسوب إليه، بل هو أعظم نعمة تساق في هذا الوجود الإنساني، وإنه لو فتح الباب فيه للرزيلة كما هو مفتوح للفضيلة لكانت الأنساب فوضى ليس لها حدود، ولا ضوابط، وكان يسوغ للبغىَّ أن تلحق ولداً برجل لمجرد مسافحة عارضة، كما كان يجرى في بعض بغايا العرب، فقد كانت البغي تلحق أولادها بمن تشاء ممن بقوا معها، ولا شك أنها ستختار الأملأ والأشرف، وإن لم يكن الولد منه