الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم القرآن.... والحريات
إن مجموعة الأحكام التي اشتمل عليها القرآن في تنظيم الجماعة الإسلامية، وإقامة بنياتها، تتجه إلى تكوين نظام عام تحمي فيه الأنفس والأديان والأنساب والعقول، ويكون للجماعة سياج قوي من الفضلية والأخلاق الكريمة لتكون تلك الجماعة مثالاً صالحاً يحتذي في المعاملات الإنسانية، وتقوم علاقته بغيره على أسس من التعارف الإنساني وتكريم الإنسانية، في كل إنسان سواء أكان عدواً أم كان ولياً:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}
فنظام القرآن العام يقرر تلك الكرامة الإنسانية في داخل الدولة الإسلامية، ويقررها في كل العلاقات الإنسانية ليكون التآخي العام أو يكون تنازع البقاء تحت ظل الفضيلة الحاكمة، لا تحت ظل الغابات والأحكام التي يحكم فيها الظفر والغاب وحدهما.
إن أول ما تجه إليه الإسلام هو حماية الحريات العامة والخاصة، ذلك لأن الحرية هي الإنسانية، في معناها ومغزاها، فمن أهدر الحرية
فقد أهدر الإنسانية، وإن من يستلب منه ذخص بعض حريته التي استحقها بمقتضى ناموس الوجود، والفطرة التي فطر الناس عليها، فقد نقصه بعض إنسانيته وسلبه بعض شخصيته. بيد أن تلك الحرية التي يحميها القرآن، ليست هي الحرية المطلقة، فالحرية المطلقة كالحقيقة المطلقة، أمور معنوية تتخيل ولا تحي، ولا تتحق في ذلك الوجود اللاغب المتناحر، وإن الذين ينطلقون في حرياتهم انطلاقاً يخلعون الربقة، ويهتكون الحمى، يضيعون من حرية غيرهم بمقدار ما ينطلقون، ولذلك لم يبح الإسلام الحرية المنطلقة من كل القيود، لأنها هدم وليست ببناء. وإنما حمى الإسلام الحرية المقيدة بشكائم من الأخلاق وحماية حق الغير، وما يتصل بالحرية العامة التي تستمتع بها الجماعة الفاضلة، وإن هذه الحرية العامة هي الحرية الكلية التي تجتمع من أجزاء قد أخذت من حريات الآحاد انتفاضاً عادلاً، ستكون الحرية العامة التي تظل الجميع، و"كل تقييد للحرية لابد أن يكون له مبرر من قواعد الحرية ذاتها وإلا كان ظلماً
…
" - كما قال سعد زغلول رحمه الله.
لقد دعا القرآن إلى الحريات بكل أنواعها على أن تكون غير منطلقة إلى الهدم كما بينا، فسوّغ حرية التدين ونادى في قوة:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" وقال في وضوح
وجلاء لمخالفيه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} بيد أنه في هذه افباحة الكريمة التي لم تكن معروفة قط في عصر نزوله، ولم يدرك الناس معناها إلا في العصور الأخيرة، لم يسوغها مطلقة غير مقيدة حتى لا يترتب على الاطلاق تقييد حرية الغير العادلة، فأباح للنصارى أن يتدينوا بدينهم تحت ظل المسلمين، وأباح لليهود مثل ذلك، بل اباح للمجوس أن يقيموا طقوسهم الدينية في معابدهم، ومع هذه الإباحة لم يسوغ الزندقة من الذين كانوا يظهرون الإسلام، ويبطنون غيره، لأن ذلك تضليل لا مجرد استمتاع بالحرية الدينية، ولم يسوغ لذوي الأهواء. أن يعبثوا بالأديان فيدخل في الإسلام لغاية ثم يخرج منه لغاية، بل أعتبر ذلك لعباً بالدين وتضليلاً للمتدينين، ولذ عاقب المرتدين وقال مبين القرآن وشارحه صلوات الله عليه:"من بدّل دينه فاقتلوه" واعتبر القرآن ذلك أشد التضليل فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}
وإن الإسلام قد سوغ حرية التدين تحت ظله وحماها فجعل لغير المسلمين الذين يكونون في ولايته، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، أن يستمتعوا بحريتهم الدينية كاملة حتى أنهم ليستبيحون لأنفسهم تحت ظله ما لا يبيحه الإسلام لأهله،