المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌والإسلام حرم الخنزير واعتبره رجسا - شريعة القرآن من دلائل إعجازه

[محمد أبو زهرة]

الفصل: ‌والإسلام حرم الخنزير واعتبره رجسا

فالإسلام حرم الخمر وأقام الحد على شاربيها، ومع ذلك أبيح لهم أن يشربوها إن كانوا تحت حكم المسلمين.

* * *

‌والإسلام حرم الخنزير واعتبره رجساً

وأبيح لغير المسلمين أن يأكلوه، بل أكثر من ذلك أن الإسلام - ككل الأديان السماوية حرم الزواج من البنات والأمهات وغير ذلك، وكان المجوس يسيبيحون ذلك، فلم يمنعهم الإسلام من تلك الاستباحة التي تنفر منها الطبائع الإنسانية، بل لقد الغ الإسلام في حماية حرية المخالفين إن عاشوا تحت حكمه واستظلوا برايته العادلة، وإنه ليعاقب على من يعتدي على خمر أو خنزير يستبيحها ذمى، فإن أراق مسلم خمراً لذمى يعيش تحت الراية الإسلامية، أو قتل خنزيراً له أوجب الإسلام على مقتضى استنباط الإمام أبي حنيفة وكثيرين من الفقهاء، أن يدفع قيمة ما أتلف، ولقد همَّ الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أن يمنع غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الإسلام من أن يشربوا الخمر أو يأكلوا الخنزير ويتزوجوا البنات، فاستئار في ذلك واعظ التابعين الحسن البصري فمنعه، وبين له أن الصحابة ساروا على ذلك، ثم بين أن مخالفتهم بدعة في الدين لا تجوز، وقال له في قوة وحزم:"إنما أنت متبع لا مبتدع".

ص: 55

وإنه لكي يكون غير المسلمين في حرية دينية كاملة إن رضوا بالإقامة مع المسلمين في ظل دولتهم، أبيح لهم أن يتخاصموا في أمورهم الدينية أو ما يتصل بها، وفي المعاملات الخاصة بهم إلى غير القاضي المسلم العام، الذي يحكم بين المسلمين، إلا إذا كان في القضية خصم مسلم، فإنه في هذه الحال لا يسوغ للقاضي غير المسلم الذي أعطى ولاية خاصة أن يحكم على المسلم، وإن ذلك صريح القرآن الذي يؤخذ منه من غير تأويل:"فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" وفي ظل القرآن الكريم وجدت امتيازات طائفية كان الأصل فيها العدل المطلق والحرية السامية التي أعطاها الإسلام لغير المسلمين الذين ارتضوا ولايته، وإذا كان الإسلام العادل قد أعطاها فاتخذوها ذريعة للانتقاض على الحكم، والعبث بدولته، فليس العيب على الإسلام العادل، إنما العيب في الإنسان الناقص الذي استغل العدل ليتخذ منه بناء الظلم، واتخذ الحرية التي منحها أهل العدل ليفسد بها أمر العادلين، ويهزع حكم المتقين، وفي ظل الحرية الدينية التي أعطاها القرآن والرسول الذي بين القرآن وجدنا غير المسلمين في القرون الأولى يعيشون في ظل القرآن، في حرية دينية لم ينعموا بها في الأمم التي تتدين بدينهم، فإن القوارق المذهبية ومحاولة كل فريق أن

ص: 56

يجعل الآخر على مذهبه بسيف القوة وعنفوان السلطان، إن كان أحد المذهبين له سلطان، كان يذهب بالحرية الدينية، بل إن تلك المعاملة الإسلامية الرقيقة وتلك الحرية العادلة كان سبباً في أن الذين صفت نفوسهم ولم يستول عليها التعصب الطائفي، يدخلون في الإسلام أفواجاً أفواجاً، وإنه لإدراك الخلفاء الراشدين لمعنى الحرية الدينية العادلة لم يرهقوا أحدا أي عسر بسبب دينه، بل وجدنا الفاروق عمر بن الخطاب تحضره الصلاة في كنيسة فلا يصلي فيها، حتى لا يتخذها الناس مسجداً فيظلموا أهلها، بل لقد وجدنا ذلك الإمام العادل يتقدم بنفسه لإزالة التراب عن هيكل لليهود، فقد رأى عند دخوله بيت المقدس وعقده المعاهدة مع أهله رأس هيكل قد دفن في التراب ثم علم أنه هيكل لليهود وطمره الرومان، فأخذ عمر يزيل عنه التراب يفضل ثوبه فاتبعه كل جيشه فيما صنع فلم يمض وقت حتى زال التراب عن الهيكل، ولو أنطقه الله تعالى لقال: إن ذلك عدل الإسلام وحرية الإسلام وتسامح أهل القرآن.

ولقد كان عمر يتحرى عن أعمال الولاة الذين يوليهم الأمر في الأقاليم وكان كثير من أهلها ذميين، وأول من يسأل عن أعمالهم عو معاملتهم لأهل الذمة، فإن علم أنهم يأخذونهم بالرفق كان أمارة العدل، وإلا كان العزل، بل كان النكال والعقاب.

وعمر الحاكم بحكم القرآن هو الذي أمر الفتى القبطي با، يقتص

ص: 57

بيده من ابن عمرو بن العاص، حاكم مصر، وأن يكون القصاص في حضرته لكي يكون كاملا، ولكي يشفي صدر المظلوم، ثم يرسلها حكمة خالدة في الإنسانية قائلا لعمرو بن العاص:"منذ كم يا عمرو تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" فكانت شعار الأحرار في كل الأعصار والأمصار.

هذه هي الحرية التي أعطاها القرى، لمن يكفرون به، أعطاها لهم سمحاً كريماً لأ، هـ يكوَّن المسلم الحر الصادق في حريته، والحر حقاً وصدقاً هو الذي يقدر الحرية في غيره كما يقدرها في نفسه، وليس حراً كذلك الذي ينطلق في مآربة ويقيد حرية غيره تقييداً ظالما، وليس حراً ذلك الذي يوسع ما له ويضيق ما لغيره، ولقد بهرت هذه الحريةالدينية التي أعطاها القرآن لمن لا يؤمنون به أنظار العلماء المحققين من الاوربيين، الذين يميلون إلى الإنصاف أحياناً عندما يتكلمون في شئون الإسلام، واقرأ ما كتبه جوستاف لوبون في في كتابه حضارة العرب، فهو يقول:

"قد أدرك الخلفاء السابقون الذي كان عنهم من العبقرية ما ندر وجوده في دعاة الديانات، أن نظر الأديان ليست مما يفرض قسرا فعاملوا أهل سوريا ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه برفق عظيم، تاركين لهم نظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه فيما مضى على

ص: 58

أن تكون تلك الجزية في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحا مثل دينهم".

تلك هي حرية المخالفين للمسلمين في اعتقادهم التي أعطاها لهم الإسلام، وليوازن المنصفون بين هذه الحرية التي استمتع بها اليهود والنصارى تحت ظل القرآن، وبين ما يفعله أهل أوربا اليوم مع مخالفيهم من المسلمين، سلوا فرنسا التي تزعم أنها قادت العالم إلى الحرية والإخاء والمساواة، ماذا صنعت في المسلمين الذين يقيمون في فرنسا عاملين في مصانعها منتجين في اقتصادها، ماذا صنعت لهم وماذا أعطتهم من حرية دينية؟ وسلوها ماذا صنعت في الجزائر وتونس والمغرب وما أرهقت وما ضيقت من حرية دينية، بل سلوها عما سنعت يوم صوبت الرصاص على أهل دمشق، فلما وجه لوم إلى قائدهم اعتذر بأنه لم يقتل مسيحيا واحدا. بل كان كل صرعاه من المسلمين، ثم وازنوا بين عمل ذلك القائد وعمل ابن تيمية شيخ الإسلام في القرن السابع الهجري، عندما ذهب إلى قازان ملك التتار يكلمه في شأن الأسرى الذين أسرهم ففك أسرى المسلمين، ولم يفك أسرى اليهود والنصارى. فأبى ابن تيمية إلا أن يفك أسرى المسلمين ومن كانوا في ذمتهم من اليهود والنصارى، لأن لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

ص: 59

ثم ليوازن المنصفون بين القرآن وما صنعت جماعة الأمم المتحدة في فلسطين، فلقد خربت الديار وأخرجت ألف ألف أو يزيدون عراة يأكلهم الجوع والعري والحر والقر، ولم ترع عهداً ولا خلقاً ولا اجتماعاً ولا أي معنى من المعاني الإنسانية التي تربط بين بني الإنسان، ولكن الموازنة في الحقيقة لا تتحقق مقاييسها ولا تنضبط موازينها لأنها موازنة بين حكم الله الخالق العادل، وحكم عبد المخلوق الظالم، وموازنة بين حكم يقوي الروح، وحكم تسيطر عليه المادة والشهوة، وموازنة بين حكم الخوة الإنسانية الرابطة الجامعة التي وثقها مُنزل القرآن، وبين حكم القلب ووحشية بني الإنسان، هذه الحرية التي يعطيها الإسلام بنص القرآن لمن يستظاون بلوائه ممن يخالفونه، أما الحرية التي يعطيها جماعة المسلمين فهي الحرية المقيدة بالفضيلة وأحكام الدين وحقوق الغير، وقد كفل القرآن الكريم الحريات كلها دائرة الفضيلة واحترام الحقوق، فللمسلم بمقتضى حكم القرآن حرية الفكر، بل إنه حرص عليه ودعا إليه ومنع المسلم من أن يتبع الآباء، ونعى على الذين قالوا:{بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}

وإذا كان الإسلام دين العقل حقاً وصدقاً فأول ما اتجه إليه القرآن هو تحرير العقول من الأوصام ومن ربقة التقليد، ودعا إلى

ص: 60

النظر المجرد في الكون وما فيه والناس وما هم عليه، والأنفس وما استكن فيها من نزوع ومواهب:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ؟

وأطلق القرآن حرية القول من غير اعتداء حتى لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم الذي ينزل عليه الوحي، يستمع إلى ناقديه، بل لقد تجاوز بعضهم الحد وخلع الربقة واستعمل حرية القول في غير موضعها، فأرشد النبي ودعاه إلى الهدى ونهاه عن الهوى، وعن الخروج على الجادة في رفق وحلم وأناة وصبر.

وأطلق القرآن حرية العمل بشرط ألا يتجاوز حدود الفضيلة، ولا يعتدي على حق غيره" فله أن يعمل كل ما ليس شراً وقد تكافأت الفرص وتسهلت السبل وذلل له الإسلام كل صعب، ولم يحاجز بينه وبين خير يريده، وبر يبتغيه:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .

أما الحرية الشخصية فقد وضع القرآن أصولها وسبق كل الشرائع فيها سبقاً بعيداً، وأتى فيها بما لم يكن معروفاً عند العرب ولا عند غيرهم من الفرس والرومان الذين كان لهم السلطان، وكانوا يحملون صور المدنية القديمة وينشرون آراء الفلاسفة الذين توجت بهم المدنية اليونانية والرومانية

ونستطيع أن نقول في غير تهجم على الحقائق: إن الحرية

ص: 61

الشخصية كانت منقوصة في حكم اليونان والرومان والعرب وغيرهم من أمم العالم، حتى نزل القرآن فكان أول من كمل هذه الحرية ودعا إليها دعوة صريحة قوية، وإن أمارة نقصها عند الأقدمين، وكمالها في القرآن الكريم، حال المرأة والرقيق، فإن كليهما لم يكن له حرية شخصية بالمعنى الذي يليق بالآدمية الكريمة، فالرقيق لم يكن له في الأحكام التي أعطته إياه الشرائع السالفة على شريعة القرآن أي حق من الحقوق، بل كان يأخذ حكم البهائم وكان يعامل كأنه لعنة الإنسانية في هذه الأرض، فلم يكن إلا مالاً كسائر الأموال، ومن اعتدى عليه فقد اعتدى على مال الغير، أما إن اعتدى عليه صاحبه فلا حق لأحد قبله، كمن يتلف ماله ليس لأحد عليه من سبيل.

والمرأة كانت كالمتاع في البيت ليس لها حقوق الإنسانية الكاملة، بل كانت ناقصة لا يرعى لها حق في مال ولا زواج، بل أمر زواجها إلى غيرها، والزواج بالنسبة لها كان رقاً أو يشبه الرق حتى كانت تورث زوجيتها عند بعض القبائل العربية.

جاء القرآن بأمر جديد في هذا لم يكن معروفاً ولم تصل إليه مدارك الفلاسفة، فلم يذكر في أي لفظ صريح فيه إباحة الرق، ولكن ذكر فيه فيه العتق، فاستنبط الناس من الأمر بالعتق وإيحابه في أحوال كثيرة، أن القرآن يبيح الرق، وحسب الشريعة القرآنية

ص: 62

ذلك شرفاً أن يكون دليل إباحة الرق فيها هو إزالته وتخفيف ويلاته.

وجد الإسلام الرق حقيقة مقررة في الوجود في عصر نزول القرآن، وأسساً من أسس الاقتصاد، وقاعدة من قواعد الحرب المعترف بها في تلك الأزمنة، فلا يمكن تغييره إلا باتفاق الدول في ذلك الإبان لتكون المعاملة بينها بالقساط المستقيم، فلم يجد الإسلام مناصاً من تركه ولكنه خفف ويلاته بطرائق ثلاث تجعله بين المسلمين صورياً إن نفذت أوامر على وجهها:

وأول هذه الطرق: تضييق سبب الرق فلم يجعل الإسلام له إلا سبباً واحداً جوازياً، وليس إجبارياً وهو الأسر في الحري العادلة، التي لم تكن بغياً من قبل المسلمين، ولا اعتداء، فإن الإسلام لم يجوز البغي ولا الاعتداء أصلاً، فإن أسر المسلمون أسرى في هذه الحرب جاز استرقاقهم، أو المن عليهم، أو فداؤهم بالمال، وليس ولي الأمر ملزماً بواحد من الثلاثة، بل يفعل منها ما يراه المصلحة للمسلمين، وماا يسجل أن ذلك كان علاجاً وقتياً أو خضوعاً للأمر الذي لم يكن ثمة سبيل لتغييره. وإلا كلب الأعداء المسلمين وصاروا يسترقون المسلمين ولا يسترق أحد منهم، ومما يسجل ذلك أن إباحة الاسترقاق في الأسرى ثبتت بعمل الصحابة، ولم تقبت بالقرآن، فإن الله سبحانه وتعالى قال في الأسرى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ

ص: 63

فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} فخير ولي الأمر بين المن والفداء بالنسبة للأسرى، ولم يذكر الاسترقاق ليكون الباب مفتوحاً لإلغاء الرق عندما يكون الاتفاق الدولي على إلغائه.

وإذا كان الشرع الإسلامي قد ضيق أسباب الرق فقد وسع القرآن أسباب العتق فجعله في ذاته من أعظم القرب: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ} وأوجبه في كل الكفارات لمن كان عنده رقيق فكفارة القتل الخطأ عتق رقبة، وكفارة الصوم عتق رقبة، وكفارة اليمين عتق رقبة، وكفارة الظهار عتق رقبة، وهكذا

وأوجب الاتفاق بين السيد والعبد إن تعهد بأداء قيمته على أن يتركه يسعى في تحصيلها، وعلى أن يكون ذلك ثمن حريته، وجعل قسماً من مصارف الزكاة لفك الرقاب يشتري ولي الأمر به عبيداً ويعتقهم، أو يعين من يكون بينهم وبين أسيادهم اتفاق على مال يكون فدية رقابهم، ومن ضري عبده فكفارته عتقه، ولو أن مبادئ الإسلام نفذت كاملة في هذا ما بقى رقيق أكثر من عام بعد استرقاقه

وهذا هو الطريق الثاني

والطريق الثالث لتخفيف ويلات الرق: أن الإسلام لم يهدر آدميته بل جعل له حقوقاً وعليه واجبات، ولكلامه اعتبار، وله منزلة، فالإمام أحمد بن حنبل اعبتر شهادته كشهادة الأحرار

ص: 64