المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إن دراسة الطلاق الذي جاء به الإسلام - شريعة القرآن من دلائل إعجازه

[محمد أبو زهرة]

الفصل: ‌إن دراسة الطلاق الذي جاء به الإسلام

وفوق ذلك ففيه تحفظ المرأة من الدنس ولا يهون شأنها، وأي الأمرين يكون أهون بالمرأة وأحط لدرجتها في الاجتماع: أن تكون زوجاً لها بيت ترعاه وزوج يرعاها وأولاد شرعيون تقوم على شئونهم، أم أن تكون خليلة أو بغياً ليس لها زوج تتادى باسمه، ولا بيت تأوى إليه، وأولادها ليس لهم أب كافل يحميهم، إن الهوان بلا شك في الثاني

وإن التعجج ليس في مصلحة الرجل دائماً، وليس ضرراً على المرأة دائماً، فقد يكون لها ضرورة لابد منها ليحفظ لها اعتبارها، فإن التعدد العادل طريق سوي، وإن النظر الفاحص ينتهي لا محالة إلى أن التعدد في مصلحة المرأة، فإن أي امرأة لا تقدم على التزوج بمتزوج، إلا إذا كانت على ثقة كاملة بأن ذلك من مصلحتها أو الضرورة ألزمتها بذلك.

هذا منطق الحياة وتلك شريعة الله فإذا كانت قد جاءت على لسان أمي لم يؤتَ علماً، وقال: إن ذلك من عند الله

ألا يكون قوله مع حاله، فيه الدليل الساطع والبرهان القاطع؟.

* * *

‌إن دراسة الطلاق الذي جاء به الإسلام

ينتهي إلى أن ذلك النظام لا يمكن أن يصل إليه عقل محمد الأمي، إذ لم تتفتق عنه العقول من قبله، فلا يمكن أن يكون إلا من عند الله.

ص: 31

وكان الطلاق مطلقاً في الجاهلية وكان بابه مفتوحاً في الشريعة اليهودية، لا يقيده إلا قيد رقيق واه ضعيف، وهو كتابة الطلاق أمام القاضي، فلما جاء محمد بالقرآن من عند الله جاء بجديد على الفكر في هذه المسألة، لم يقيد الطلاق بذلك القيد الواهي الضعيف الذي لا يحاجز دون الهوى، ولم يمنعه منعاً مطلقاً كما توارث المسيحيون، وإن كانت بعض فرقهم قد أخذت تتحلل من المنع شيئاً فشيئاً، ففتحوا الباب بزاوية ضيقة، ولكنها قد توجد متنفساً من التحلل من زوجية فاسدة، ولم يجزه إجازة مطلقة كما كان يفعل الجاهليون ويتخذونه للمضارة والمكايدة: يطلقون النساء ثم يعضلونهن بالمنع من الزواج.

والمسألة في الطلاق أن الزواج لابد أن يقوم على أساس من الود الدائم المستمر {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} وإذا كان الود المستمر أساس العلاقة الزوجية المستمرة لكي تكون صالحة للبقاء، فإنه إذا تقطع حبل القلوب وتنافر ودها واستحكمت النفرة ولم يمكن علاجها، فالعلاقة الزوجية تكون غير صالحة للبقاء، وإن من المصلحة فصمها، ومن الخير إنهاؤها، ولكن كيف يكون الإنهاء، وكيف يتبين أن السبب المسوغ للطلاق قد وجد، وهو استحكام النفرة وتقطع أوصال المودة، ما السبيل إلى ذلك؟ وكيف يعرف؟

ص: 32

هنا نجد القرآن قد عالج الأمر علاجاً نفسياً قلبياً فيه هداية المضالين، وإرشاد وتقويم، ذلك أنه عند الشقاق بين الزوجين أو خوفه، أملا بتحكيم حكمين {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} .

ودعا إلى محاولة الإصلاح ما أمكن، وأمر بالتدخل للصلح عند وجود ما يدعو إليه:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}

حتى إذا تعذر الصلح ورأب القلم ورتق الفتق لم يبق إلا التفريق بينهما: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}

لابد من التفريق ولكن ما طرائقه وما مسالكه؟ أيكون بيد الزوجين متفقين بحيث ينهيان ذلك العقد كما أنشآه؟ إنه بلا شك إذا تلاقت الإرادتان واتفقت الكلمتان بينهما على الافتراق كان الافتراق منطقياً والطلاق أمراً مستقيماً، وكل محاولة لعرقلة ذلك تكون ضد الفكر المستقيم، واعوجاجاً في الأمر، بيد أنه لابد من تحقق أن ذلك كان لاستحكام النفرة من كل الوجوه بتحكيم

ص: 33

الحكمين، ومحاولة الصلح، ثم بالقيود التي قيد القرآن بها الطلاق وسنبينها، وإن تلك هي القاعدة العامة في العقود اللازمة فإنها تفسخ بتراضيهما كما تنشأ بتراضيهما، ولكن الشرائع التي حرمت الطلاق لا تلتفت إلى هذه القاعدة، ولو أكلت البغضاء قلب الزوجين وحلت الشحناء محل الوداد، ولقد ندد بذلك المحققون من علماء الفرنجة فهذا "بنتام" يقول:"إن القانون يتدخل بين المتعاقدين في الزواج حال التعاقد ويقول لهما: "أنتما تقترنان لتكونا سعداء فلتعلما أنكما تدخلان سجناً سيحكم عليكما بابه وتصم الآذان دونكما وإن علا منكما الصياح وأشتد بكما الألم ولن أسمح بخروكما ولو تقاتلتما بسلاح العداوة والبغضاء".

وإذ لم يتفق الزوجان على إرادة الطلاق، بل كام إرادة لأحدهما فقط، فهل يسوغ الطلاق؟ لا شك أنه إذا كان الراغب في الطلاق هو الزوجة لا يقع الطلاق إلا بحكم القاضي على نظام بينَّه الإسلام واستنبطه من كتاب الله وسنة رسوله أولئك الأئمة الأعلام.

أما إذا كان الراغب هو الزوج فهل يسوغ أن يكون الطلاق بيد القاضي ولا يسوغ سواه؟ ذلك هو الأمر أو تلك هي القضية التي اثاروا حولها الغبار وتقوَّلوا على الإسلام فيها الأقاويل، وتبعهم في ذلك من تبعهم من مقلدة المسلمين الذين يتبعون كل جديد، ويعتنقون من الآراء كل بدئ، وتستطار ألبابهم لكل

ص: 34

صوت أو دعوة أو نقد يجئ من قبل الأوربيين، كأن أوربا هي أرض الله المختارة أو جنته في الأرض وسكانها هم شعب الله المختار.

لقد قالوا: إنه في هذه الحال لا يصح أن يقع الطلاق إلا بإذن نم القاضي بعد بحث عن البواعث وتحر للوقائع ومناقشة ومجاوبة وإثبات ودفاع، ونسوا أن شئون الأسر لا تجري الأمور فيها بالإثبات والكتاب حتى تكون فيها المخاصمة والمداعاة، فهي علاقة في أصلها تجري بالود وما بين الزوجين لا يعلن بين الملآ من الناس، ثم إذا لم يكن لدى الزوج من البواعث إلا البغض الشديد لزوجته، والنفرة المستحكمة بينهما، فهل يطلب إثبات باعث وراء هذا الباعث الخطير، الذي يفسد كل علاقة زوجية ويذهب بكل الدعائم الصالحة التي يقوم عليها بنيان الأسرة؟ وهل يطلب القاضي منه أدلة عليه؟ وإذا كان المنطق والمعقول أن يترك أمر الإثبات وألا يبحث عن بواعث أخرى وراء هذا الباعث، فلا جدوى إذن في كون الطلاق بين يدى القاضي وبأمره أو قوله، وبين أن يطلق الزوج من تلقاء نفسه، بل أن تولية الطلاق من تلقاء نفسه أحرى بالقبول، لأن التدافع إلى القضاء يكشف الأسرار ويهتك الأستار ويثير ما لا يسوغ إعلانه، ويتكلم الناس فيه بما لا يحسن بيانه.!

ص: 35

وقد يقول قائل: إن رفع الأمر للقضاء ولو كان مآل التطليق إلى أن يكون للزوج مخلصاً، قد يدفعه إلى التريث بل إنه يكون تعويقاً وكل تعويق في هذا الأمر ينفع ولا يضر، فإنه يدفعه إلى التفكير في أسباب البغض تفكيراً عميقاً، وعسى أن يحدث الله بعد ذلك أمراً، فتكون المحبة وتكون سحابة صيف تقشعت، وإن لذلك القول وجاهته ولكن كشف الأستار بين الفضاء. وتحدث الناس بشأنها مما لا تقره العقول، ولا ترضاه الطباع، بل إن من شأنه أو يزيد البغض وليس من شأنه أن يخففه، بل إنهما لو عادت بينهما الحياة من بعد لرتقها تذكر ما كان بين يدى القضاء من دعاوي، وما جرى من أقوال، ولقد سلك الإسلام طريقاً لتعويق الإنفصال وجعله في حال تعذر الاتصال توصل إلى النتيجة المؤكدة وهي ألا يكون طلاق من الزوج إلا عند استحكام النفرة.

وتبتدئ تلك الطريق بنحكيم الحكمين ومحاولة الاصلاح وقد أمر القرآن بذلك أمراً لازماً، وقال جمهور الفقهاء: إن التحكيم واجب وجوباً حتمياً لا يصح التفريط فيه، ومن يوم أن فرطناً فيه قد أعوج السبيل، واضطرب الحبل، وفتحت النفرة لمن يتكلمون في شأن الطلاق، كأنه كارثة الزواج، وما علموا أنه دواء لا داء، وأنه علاج لا مرض.

ص: 36

ولقد ورد في الأثر: أن عقيل بن أبي طالب قد وقع بينه وبين زوجته خلاف، فلما علم بأمره عثمان، وقد كان الأمر في عهده، حكم الحكمين فأصلحا بينهما، وأوجبه مالك وأحمد في كل نفرة بين الزوجين، لا يعلم سببها، وجعلا ذلك لازماً على القضاء إذا ترافع الزوجان إليه في ذي شيء من شئون الزوجية تبين من ورائه القاضي أن ذلك الخلاف يكشف عن نفرة، وليس بين يديه من الظواهر ما يعرف به سببها.

حتى إذا كانت النفرة غيرها قابلة للعلاج وكان التفريق أمرا لابد منه، جعل القرآن الكريم التفريق تدريجياً لا قطعياً بالنسبة للزوجة المدخول بها، وذلك أن النفرة إن كانت قبل الدخول فإن الإسلام جعلها قاطعة من غير تدريج لأنهما اختلفا في أول الطريق وكان من المصلحة الإجتماعية ألا يستمرا، وأن يتجه كل منها إلى وجهته كالرفيقين في سفر إن اختلفا في الطريق قبل ابتداء السير عدلاً عن الرفقة، ولم يوغلا في الطريق، واتجه كل إلى وجهته، ولذلك لم يحرص القرآن الكريم على إعطاء فرصة للمراجعة بفرض عدة بعد الطلاق قبل الدخول عسى أن يراجعا فيها ويستأنفا حياة زوجية، بل جعل الفرقة بائنة فاصمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} فلم يجعل

ص: 37

الإسلام في هذه الحال فرصة للمراجعة ولكنه أوجب أن يكون التسريح جميلاً، وأن تكون الفرقة غير مانعة من التراحم والمعاملة الحسنة والتسامح الكريم.

أما إذا كانت النفرة بعد الدخول فتلك هي التي احتاط القرآن في أمرها، وجعلها النبي في دائرة لا يمكن أن يكون معها طلاق، وثمة إمكان لعيش رغيد وهناءة وسعادة في هذه الزوجية التي انفصمت عرا المودة فيها، وسنَّ في سبيل ذلك سنناً مستقيماً لو استقام الناس على طريقته ما ضلوا وما كانوا حجة على الإسلام.

وأول احتياط: أن الفقهاء مستنبطين من الآثار اشترطوا في الطلاق الذي يسير على مقتضى السنن المحمدي أن يطلقها في حال من شأنها أن يكون راغباً فيها، فاشترطوا أن لا يطلقها في حال حيض، لأن هذا الحال من شأنها أن تنفر الزوج من امرأته، ولقد أمر النبي عبد الله بن عمر لما طلق امرأته في حال الحيض أن يردها إليه، ولقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي طلقوهن مستقبلات عدتهن، وقد قال العلماء في تفسير ذلك: أن يطلقها في حال طهر لا في حال حيض، واشترطوا أن يكون الطهر الذي طلقها فيه لم يحصل فيه دخول بها، فإذا حصل دخول لا يسوغ له ان يطلقها، وإن فعل يكون

ص: 38

الطلاق بدعياً لا يسير على السنن المحمدي.

فإذا كان الطلاق في طهر لم يدخل بها فإن ذلك يكون دليلاً على نفرة قوية، ولكنه لا يدل على استحكامها وتعصيها على العلاج، بل يجوز أنها عاصفة تزول أو غيمة قد تتكشف.

ولذلك يجئ الاحتياط الثاني: وهو أن يكون الطلاق واحدة رجعية أي يجوز للزوج أن يراجع زوجته فيها: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

والاحتياط الثالث: أن تقضي مدة العدة في بيت الزوجية لا تخرج منه ولا يخرجها منه، والخروج منه إتيان فاحشة مبينة في ذاته:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}

ص: 39

ولا شك أن رؤيته لها أو إمكانه الرؤية، وسكناها في بيته طول مدة العدة، وقدرته على المراجعة، واستمراره على الطلاق طول هذه المدة، وهي نحو ثلاثة أشهر في أكثر الأحوال، وعدم محاولته المراجعة فيها، دليل على أن النفرة مستحكمة، وقد بلغت أقصى مداها، وآخر منتهاها، بحيث لا يمكن أن تكون عشرة صالحة بحال من الأحوال - ومع ذلك فإن النفس قد تكون تائقة لعد العدة وأنه يمكن أن يتدارك الأمر، فالشارع قد احتاط احتياطاً رابعاً، فلم يجعل الطلاق الأول قاطعاً قطعاً غير قابل للوصل، بل أعطى المطلق ثلاث طلقات على ثلاث دفعات، فإذا كان وانتهت العدة جاز استئناف الحياة الزوجية بعقد جديد ومهر جديد، إذا كان ثمة احتمال لاستئناف حياة زوجية يؤدم فيها بمودة رابطة وعشرة حسنة وعدالة في المعاملة من الجانين.

وقد احتاط الشارع احتياط خامساً، ذكر في القرآن وهو الإشهاد على الطلاق، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} ولا شك أن حضور الشهود العدول في الطلاق قد يحملان المطلق على مراجعة نفسه قبل إيقاع الطلاق، بل قد يحملانه على العدول،

ص: 40

بل قد يصعبان الأمر في الطلاق فيمتنعان عن الحضور.

وقد قرر فقهاء الشيعة: أن الإشهاد على الطلاق شرط في وقوعه كما أن الشهادة في الزواج شرط لإنشائه، وإن ذلك صريح القرآن الذي تلوناه، وإن ذلك هو الذي يتفق مع طبيعة ذلك العقد، فإن شرطه الشهر والإعلان، كما ورد في الأثر:"فرْقُ ما بين الحلال والحرام الإعلان" وإذا كان كذلك في إنشائه فلابد أن يكون كذلك في إنهائه.

هذه كلها احتياطات الشارع الإسلامي ليكون الطلاق في حال الحاجة إليه تستحكم النفرة، وتكون الحياة الزوجية بغضاء لا نعماء، وإن تلك الاحتياطات سنها الشارع الإسلامي بنصوص القرآن الكريم، وبالهدي المحمدي، وقد قال بعض الفقهاء من الشيعة الإمامية والظاهرية وغيرهم: إن الطلاق إن لم يكن ذلك المنهاج لا يقع".

أي احتياط نفسي أدق من هذا وأحكم، وهل يغني غناءه تحقيق القضاء ومراجعة الإثبات إن كانت العواطف الإنسانية يجرى فبها التحري والإثبات، إن أعلم أهل الخبرة من علماء النفس الإنسانية في الآحاد والجماعات لا يمكنه أن يبتكر مثل هذا، وأقصى ما يصل إليه أن يدرك مرماه وغايته ومقصده، وقد جاء به أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم قط، ولم يجلس إلى معلم قط،

ص: 41

ولم يكن عنده من تجارب الحياة أكثر من شخص يقيم في بلد أمي ليس فيه علم، ولا درس، ولا بحث، ولا استقصاء، وليست له أسفار أكثر من مرتين، فإذا قال هذا الأمي: إن هذا علمنية اللطيف الخبير، وإنه تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهل يكون كاذباً؟ إن الوقائع تؤيده والحقائق تصدقه والعقل يقره، مذعناً مؤمناً مطمئناً، إذ لم يكن مئوفاً بآفة من الغرض والهوى، قد أركسته الشهوات وأضلته الأوهام.

وقد يقول قائل: إنك مهما تصور الطلاق بصورة الحقيقة التي يلجأ إليها والضروره المرة التي يضكر المطلق إليها، فإن ثمة ظلماً واقعاًَ بالمرأة، فإنها الأخرى قد تنفر من الزوج أشد النفور فكان ينبغي أن يفتح لها الباب كما فتح للزوج، ولكنه غلق دونها وأحكم تغليقه.

والجواب عن ذلك: أنه لم يغلق دونها بل فتح لها، ولكن بين يدى القضاء، وبتطليق القاضي، ولم يترك لها الأمر وحدها لسببين:

أحداهما: أن الزوج قد تكلف في سبيل الزواج تكليفات مالية كبيرة، فليس من العدالة أن نجعل لها أمر التطليق تطلق نفسها

ص: 42

كما تشاء، فتضيع عليه التكليفات المالية، وإن هذه التكليفات تقيده إن كان الطلاق بيده، ولا تقيدها إن كان بيدها.

ثانيهما: ما لوحظ من أن المرأة تحكمها العاطفة وتؤثر فيها الحال الوقتية، وقد قال النبي في وصف معاملتها لزوجها:"يحسن إليهن الدهر كله ثم يسئ مرة فتقول: ما رأيت منه خيراً قط" وقد لوحظ أن النسوة اللائي تكون عصمتهن بأيديهن بمقتضى تفويض الطلاق، يطلقن لأتفه الأسباب.

ولكن هذل للمرأة أن تطلب الطلاق لمجرد أنها تبغض الزوج؟ نعم لقد قرر ذلك المالكية وأخذوه مما روى من حديث البخاري: أن امرأة ثابت بن قيس قال: "يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، إني لا أطيقه بغضاً، فقال رسول الله: تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال: إقبل الحديقة وطلقها تطليقة، وبهذا افتدت".

ومن هذا ومن بعث الحكمين عند الاختلاف، إذا تعذر الوفاق قرر مالك أن القاضي إن تبين أنها ناشرة لبغضها لزوجها يفرق بينهما ويلزمها بالمهر الذي دفعه، ولقد قال ابن رشد في هذا المقام:"الفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة، جعل الخلع بيد المراة إذا تركت الرجل".

ص: 43

هذا هو الطلاق في الإسلام وقد تهجم عليه المتهجمون وتبعهم الضالون وادعوا استمراره مفتوحاً سيؤدي إلى انهيار الأسرة المصرية، بينما الواقع أن إغلاقه هو الذي سيقضي على الأسرة الإسلامية، لأنه يؤدي إلى بقاء زواج غير صالح للبقاء، ولأن الإحصاء أثبت أن الطلاق لا يكثر إلا في أول الحياة الزوجية، فمعنى تغليق بابه إبقاء على زوجية ثبت في أول أمرها أنها غير صصالحة للبقاء، وأنه يقل كلما دامت العشرة حتى يصير نارداً، والنادر لا حكم له.

وإن فتح بابه هو حكمة اللطيف الخبير، والذين غلقوه قد أدركوا مغبة التغليق، ولذا قال "بنتام" في أصول الشرائع ما نصه:"لو وضع قانون للنهي عن فض الشركات ورفع الوصايا وعزل الدليل، ومفارقة الرفيق، لصاح الناس أجمعون: "إنه نهاية الظلم" والزوج رفيق ووصي ووكيل وشريك، وفوق كل هؤلاء، ومع ذلك حكمت قوانين أكثر البلاد المتمدينة بأن الزواج أبدي.. إن أقبح الأمور عدم انحلال ذلك الاتفاق، لأن الأمر بعدم الخروج من حالة بعدم الدخول فيها. أي إن منع الطلاق يمنع الزواج، وقد شرع الله الطلاق وهو العليم الحكيم.

* * *

ص: 44