المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌دعائم ثلاث … إن حكم القرآن يقوم على ثلاثة أقطاب: أولها: العدل - شريعة القرآن من دلائل إعجازه

[محمد أبو زهرة]

الفصل: ‌ ‌دعائم ثلاث … إن حكم القرآن يقوم على ثلاثة أقطاب: أولها: العدل

‌دعائم ثلاث

إن حكم القرآن يقوم على ثلاثة أقطاب:

أولها: العدل وهو قوامها ونظامها وواسطة عقدها

وثانيها: رعاية المصالح

وثالثها: الشورى بين المسلمين

إن كل جماعة يوثق الروابط بينها نوعان من التوثيق:

أحدهما: قوانين منظمة للعلاقات مع ولاية حاكمة توزع العدل بين الناس وترعى مصالح العباد، وتنظم الحقوق والواجبات.

وثانيهما: فضائل تهذب القلوب، وتربط النفوس.

والنوع الثاني لا يكون بأحكام قضائية أو إدارية، إنما يكون يتهذيب نفسي وتربية وجدانية، وأما النوع الأول فهو الذي ينظمه حكم القرآن وأساسه الجعائم الثلاث: العدل، ومصالح الناس، والشورى.

إن القرآن دعا إلى العدل مع العدو والولي، أنه حقيقة خالدة ليست مقصورة على الأحباء، بل إنها تعلو إلى المعاني القديسة عندما يشمل الأعداء:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ}

ص: 68

وليس العدل في القرآن حقاً للحاكم يعيطه أو لا يعيطه، بل هو واجب عليه. وأمانة في عنقه، بل إن العدل لأشد الأمانات وجوباً، وأغلظها طلباً من الحكام، ولعله الأمانة التي صعب على السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.

والعدل له شعب شتى

وإن اختلفت الحقيقة في كلها، فالحقيقة الشاملة لكل معاني العدل هي إعطاء كب ذي حق حقه، سواء أكان هذا الحق شخصياً أم كان اجتماعياً، أم كان سياساً، وكل تصعيب لوصول الحق إلى صاحبه أو إلقاء عقبات في سبيله هو من قبيل الظلم

وليس العدل في حقيقته - كما هو في الإسلام هو المساواة في كل صورها، بل إن من المساواة ما يكون عدلاً، ومنها ما يكون ظلماً، فالمساواة حيث تختلف الأسباب والأعمال وقوة الإنتاج ظلم كل الظلم

وليس العدل أن يكون الناس سواء في الغنى والفقر، لأنهما ثمرتان في أكثر أحوالهما تفاوت: وتفاوت الفرص واختلاف المقادير، إذن فالتفاوت بين الناس في الغنى والفقر من الحقائق الثابتة التي لا يمكن محوها من الوجود، ولذك اعترف القرآن بهذه الحقيقة، ولم يحاول الشرع الإسلامي سنَّ نظام المساواة بين الأغنياء

ص: 69

والفقراء في الثمرات والنتائج المالية، ولكنع عالج الفقر بتخفيف ويلاته، ومنعه من أن يرخص نفس الفقير، وجعل للفقير كل الحقوق الإنسانية والقانونية والسياسية والاجتماعية التي للغنى على سواء.

ومهما يكن أمر التلازم بين العدالة والمساواة، أو الانفكاك الفكري بينهما، فإن من المقرر أن المساواة القضائية والقانونية والسياسية ركن من أركان العدالة، وجزء من حقيقتها، ولذلك سوى القرآن بين الشريف النسيب، والضعيف، في الأحكام القضائية، وأعتبر القضاء الذي يكيل للناس بكيلين، حكماً جاهلياً.

العدل والمصلحة وما ينطوي في ثناياهما من معاني الحرية والكرامة والمعيشة الإنسانية على أكمل وجه في ظل الفضيلة الواصلة الرابطة برباط من الإخلاص ومكارم الأخلاق، غايات الإنسان، وإذا كانت الشورى وسيلة لغاية فإنه يتأخر بيانها عن بيان الغاية، لأنه بمعرفة الغايات يمكن وضع حد سليم مستقيم للوسائل، ففي الحقيقة أن بيان الغايات يشير إلى معاني الوسائل، إذ يجب أن تكون من جنسها ومن نوعهاظت فإن كانت الغاية فضيلة فلابد أن تكون الوسيلة فاضلة، وإن كانت الغاية تنحو نحو الكمال الإنساني فلابد أن تكون الوسيلة سامية بمقدار هذا السمو، وأولئك الذين يفرقون بين الوسيلة والغاية من ناحية الحكم الخلقي ليسوا

ص: 70

من الأخلاق في شيء لأنهم يهدمون أحياناً أقدس المبادئ الدينية والخلقية والاجتماعية، بدعوى أن الغاية الفاضلة تبرر طرائقها أياً كان نوعها، وإن قضية الغاية تبرر الوسيلة، ويقصدون بها أن الغاية الفاضلة تسهل قبول الوسيلة الآثمة، إنما هي ثمرة العقول الأوربية التي لا يهمها إلا الوصول إلى ما يبغون، فيهتكون الحرمات ويبيحون المرحمات بدعوى أن الغاية تبرر الوسيلة.

والحقيقة أن ذلك ستر لمآثمهم وإخفاء لمقاصدهم وتبرير لجرائهم، وإن غايتهم هي من جنس وسائلهم، إن الفاضل حقاً وصدقاً يطيع أوامر الأخلاق ونواهيها، وهي أمر الله ونواهيه، ويعتبرها كلها غايات في ذات نفسها، والحيل التي تهدي إلى الفضيلة لابد أن تكون فاضلة ولقد قال علي بن أبي طالب:"وقد يرى الحُوَّلُ القلبَّ وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فينتهزها من لا صريحة للدين في قلبه".

ولقد سقنا ذلك القول لإثبات أن الغايات الفاضلة من العدل والمصلحة هي التي تحدد نوع الشورى التي تكون وسيلتها فنقدمها في البيان عليها.

إن شريعة القرآن هي شريعة الرحمة ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه أن أقام أمورهم على دعائم من المصلحة الحقيقة التي تليق بالإنسانية العالية التي تسير بالإنسان في مدارج الرقي.

ص: 71

وهاتان مقدمتان صادقتان كل الصدق تنطبق بهما آي القرآن الكريم.

أما الرحمة فهي صريح القرآن وهي غاية البعث المحمدي فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ولقد بين سبحانه أن استمساكم بالقرآن يؤدي إلى الرحمة الإلهية والإنعام في الدنيا والآخرة: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وهكذا يجد المتتبع لآيات القرآن الكريم أنه في ذاته رحمة وفي شريعته رحمة وفي الغاية التي ينتهي إليها المؤمن إن استمسك به رحمة، والرحمة غاية البعث المحمدي وثمرته ونتيجته ونهايته.

وقد يقول قائل: كيف يتفق مع الرحمة ما شرع القرآن من عقوبات زاجرة صارمة ويعبر بعض الناس بأنها قاسية: كقطع يد السارق وجلد الزاني مائة جلدة، وسمي ذلك القرآن عذاباً فقال:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وكذلك القاذف للمحصنات ثمانين جلدة، ثم كيف تكون الشريعة رحمة وقد شرع فيها القتال وأبيحت فيها الدماء؟

وما كان لهذا القول من مكان النظر والاستدلال لأن رده مشتق من البدهيات المقررة التي تواضعت عليها كل الشرائع، من

ص: 72

سماوية وأرضية، ولكن ردده ناس وطعنوا في حكم القرآن واتخذوا ذلك مساغاً للطعن، وهدفاً للاستنكار، ولذلك حق علينا أن نشير إلى الرق في هذا المقام.

إن رحمة القآن رحمة العموم وهي الرحمة الفاضلة التي تكون لنصرة ونفع الناس، وليست رحمة القرآن هي الرحمة التي تحمي الجرائم وتعطف على الآثمين، وتدلل الفجار، وتعتذر للجريمة والإجرام، وتقف نفسها من نفع الناس في جملة أحوالهم موقف من لا يعبأ ولا يلتفت، ومن الجريمة والإجرام موقف من يتغاضى ويعطف، فإن الرحمة بالجاني هي عين القسوة، وإن العطف على المجرم هي عين الأذى، وكم من مظاهر رحمة هي في غابتها ونتيجتها شر القسوة وكم من مظاهر شدة هي في معناها ونتيجتها عين الرحمة.

ومن أجل هذه الرحمة الحازمة الفاضلة كانت الحدود الإسلامية، ومن رأي فيها ما يناقض الرحمة فهو لم يفهم نظم الاجتماع، ولم يخضع لقانون الفضيلة الرادع، بل يتجه إلى ترك الشر يجرى في مجاريه حتى يحطم سبله، ويتفاقم أمره، ويكون من ذلك الناس في شدة ليس وراءها شدة.

إن قطع يد السارق أهون عند الله وعند كل من يفهم حكمة شرع الله، من أن تنتهب الأموال ويسود الخوف بدل الأمن،

ص: 73

وترتكب الجرائم والجنايات على الأرواح في جنح ظلام الليل البهيم، وليسأل الذين ينقذون حكم الشارع في هذا: كم جريمة سرقت أفضت إلى موت المسروق؟ وكم يد تقطع كل عام إذا أقيم حد السرقة؟ مع ملاحظة أن الحد لا يقام إلا إذا انتقت كل شبهة، كما قال عليه السلام:"أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" إن نتيجة الإحصاء ستوضح لا محالة أن عدد المقطوعين بحكم الله دون من يموتون تحت سلطان الهوى وغواية الشيطان.

إن أنهار الصحف السيارة تفيض كل يوم بسارق يترقب المسروق ثم يقتله لبضعة جنيهات، لأنه لا يصل إلى الجريمة إلا بعد بخع نفسه، وإزالة نأمتع حتى لا يتحرك، وإنه أصبح من المألوف لدى الباحثين أن يكون القتل لقصد السرقة حتى إن رجال التحقيق عندما يبتدئون تحقيقهم ليضعوا أصابعهم على الجريمة والمجرمين، وليضيئوا التحقيق بين أيديهم، ويبحوث أولاً، أكان القتل لأجل المال أم كان لما سواه، وكثيراً ما يتجهون إلى الصواب في الأمر إن قصدوا ذلك القصد، ويعرفون أن القتل لأجل السرقة والمال لا شيء سوى ذلك، فإذا جاء امرؤ يقول: إن قطع اليد ليس من قوانين الرحمة، ولا مما يدخل في عمومها فقد نظر إلى الرحمة بالجاني وترك الرحمة بالمجني عليه؟

إن بين أيدينا اثنين: قاتلاً ومقتولاً، وسارقاً ومسروقاً،

ص: 74

وهاتك عرض وأصحاب أعراض مهتوكة، ووراء ذلك جماعة يجب أن يسودها الأمن ولا تشيع الفاحشة فيها، فإذا أراد ذو عقل أن يخص برحمته أحد الفريقين، أيخص برحمته من اعتدى وجنى وأزعج الآمنين وهتك الأعراض وأشاع الرذيلة وفتح باب الفوضى على مصراعيه، أم يخص برحمته من اعتدى عليه، والجماعة التي يجب أن يبدل خوفها أمنا، وتسودها الفضيلة وتختفي فيها الرذيلة؟ إن قانون العقل يقول: إن الرحمة تكون بمن وقعت عليهم الجريمة، وهم الآحاد والجماعة، والنكال الشديد بمن وقعت منه الجريمة، وإن النكال بهذا هو الرحمة بهؤلاء، فلينل حكم الله من جريمته ولتكن شاهد عار إلي يوم القيامة، ليرتدع من غوى ولا يضل من اهتدى، وعسى أن يكون العقاب لذنبه إن تاب وأناب.

وقد يقول قائل: "إن عقاب السارق بقطع يده ليس فيه مساواة بين الجريمة والعقاب، فقد يكون المسروق ضئيلاً، ولقج حدَّ نصاب السرقة على مذهب من حده بقدر ضئيل، وهو ربع دينار أو عشرة دنانير، وإن اليد لا يعد لها مال إن لوحظ أنها جزء من كون الإنسان، ووجوده، والمال كيفما كان، ظل زائل وعرَض حائل، ومال الله غاد ورائح، أما اليد فإن زالت لا تعود، وإن قطعت لا توصل، فلا تناسب بين الجريمة والعقوبة، بل بينهما تفاوت كبير، وإن ذلك الكلام يبدو بادئ الرأي وجيهاً

ص: 75

وهو من عند الله وعند أهل الفكر والإصلاح والعدل الإجتماعي والرحمة العامة الشاملة ليس بوجيه، لأنه التماثل بين الجريمة والعقوبة ليس بشرط - لا في نظر القانونيين ولا في شريعة السماء، إلا إذا كانت العقوبة قصاصا، فإن القصاص أساسه التساوي.

وأما فيما عدا القصاص فالتساوي ليس بشرط لأن المقصد من العقوبة ليس هو المقصود من الضمان المالي، بأن يضمن المعتدي على مال غيره بقدر ما أتلف له من مال، وما ضيع له من منافع، إنما المقصود من العقوبة هو الردع، ومنع التفكير فيها من كل أمرئ تكون نفسه مستعدة لهذا الأثم، وحاله تسهل له ارتكاب ذلك الجرم، فالعقوبة إصلاح اجتماعي وتهذيب عام وزجر نفسي للآحاد والشذاب، ولقد نهجت القوانين الحديثة ذلك المنهاج فهي لا تنظر في جرائم السرقات ونحوها إلى مقدار المسروق بمقدار نظرها إلى نفس السارق، وما يترتب على جريمته من إشاعة للخوف وإزعاج للأمن، ولذلك تضاعف العقوبة إذا اعتاد الجريمة وتكررت منه، وقد تحكم ببضع سنين في سرقة بضعة جنيهات، والتفاوت كبير بين الجريمة والعقاب، بل تعطي الجريمة وصفاً إن ارتكبها من غير اعتياد، ووصفاً آخر إن اعتادها وألفها، فتكون العقوبة بمقدار خطر المجرم على المجتمع، وبمقدار الجرأة على الشر، ينشرها بتركه فيفسد الناس.

ص: 76

وبهذا نظر الإسلام وبهذا نطقت مبادئه في العقوبات عامة. وفي الحدود خاصة، فقد قال في القصاص:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقال {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فإن هذا صريح في أن العقوبة لمنع سريان الجريمة إلى غير المجرم، إذ النكال هو العقوبة الشديدة، التي تجعل غير المجرم ينكل عن الجريمة، إن وسوست بها نفسه، وهتف بها هاتف الشر في قلبه.

وإن من المقررات العلمية في علم العقاب، أن الجريمة كلما خفيت وجب أن تكون عقوبتها بمقدار خفائها والقدرة على سترها والتخلص من أحكام القوانين في أمرها، وذلك لكي تضطرب نفس المجرم عند إقدامه على الجريمة، وتذكر العقاب فيرتدع ويحجم، ولا يقدم، وإن أستمر على إقدامه فإن الاضطراب يفوت عليه الاحتراس فيترك أثراً يدل عليه، أو يكون منه ما يجعل الناس يشعرون به، فيقبضون عليه وإن من رحمة الله بالناس أنه لا يكاد مجرد يقدم على جريمة شديدة إلا كان منه ما يعلن عمله أو كان من أثاره ما يهدي إليه.

وإن جريمة السرقة كان لها ذلك الخفاء، بل إنها بطبيعتها لا تقع إلا مستترة بظلام دامس، فكان من رحمة الشارع الحكيم أن جعل عقوبتها صارمة دائمة تلقي الذعر في نفس الجاني فيصطرب،

ص: 77

وينكشف أمره قبل تمام فعله، أو يكون منه ما يكون أثراً يدل عليه ويومئ إليه.

ولنترك السرقة وعقوبتها ولنومئ إيماءة صغيرة إلى الزنا والقذف، إن العقوبة فيهما ليست ضرباً ويضاف إلى الضرب في الأولى الإعلان، ولقد ندد سبحانه في توقيع عقوبة الزنا:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إن الشريعة الإسلامية النزهة هب التي شددت في عقوبة الزنا، لأنها حريصة على حفظ النسل، وعلى حفظ الأجسام من الأوباء، وحريصة على أن تكون العلاقة بين الرجل والمرأة في دائرة الاجتماع تحت ظل الله وبكلمة الله، ولا تكون ساقدة كالحيوان يساقد الذكر مع أي أنثى يلقاها، وحريصة على أن تكون هذه العلاقة سامية تليق بسمو الإنسان، وحريصة على أن تكون تلك العلاقة رحمة دائمة بين عنصري الوجود الإنساني:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} .

كانت الشريعة حريصة كل الحرص على الكرامة الإنسانية، وعلى النفوس وعلى الذرية، فشددت في عقوبة الزاني لكيلا ينهوي الإمسام بإنسانيته، وينحط إلى دركة الحيوانية.

ولكن الأوربيين ومن سلك مسلكهم استنكروا هذه

ص: 78

العقوبة وأخذتهم الرأفة وما كانوا مؤمنين، وجعلوا الأساس في اعتراضهم يقوم على ثلاثة أمور:

أولها: أن أساس العقاب أن يكون من الشخص اعتداء على غيره، وإذا تراضى اثنان على هذه الحادثة، فكيف يعاقب كلاهما عليها مع أنها أمر شخصي لا اعتداء فيها ولا مساس لغيره؟.

ثانيها: أن العقوبات البدنية في ذاتها غليظة لا تجوز، وهي بقية من بقايا الهمجية، ولا تتفق مع الحضارة القائمة.

ثالثها: أن مقدار العقوبة في ذاته كبير، فقد تضعف القوة عن احتماله، فيكون الموت

ذلك قولهم بأفواهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وإن أساس القول عندهم أنه لا جريمة في الونا، إلا إذا كان اعتداء، وإذا لم تكن جريمة فلا عقوبة، وعلى فرض أن ثمة عقوبة فعقوبة الإسلام قاسية في نوعها، وقاسية في مقدارها، وهنا يختلف نظر الإسلام في الجريمة عن نظرهم، فالإسلام نظر إلى هذه الجريمة من حيث المعنى الخلقي فيها، ومن حيث ما تؤدي إليه من إضعاف النسل، وإفشاء الأدواء التي تتوارث وتشوه الأجسام، وتفسد الضمائر، وتخرج إلى الوجود أطفالاً لا أسر لهم ولا أباء يرعونهم، ويكونون كلاًّ على المجتمع، فوضع العقوبة

ص: 79

على قدر هذه المآلات، وليمنع الإنسان من التردى إلى الحيوانية، وإن هذه العقوبة من جنس الجريمة، لأن الزاني والزانية انحدار بجريمتهما إلى الدركة الحيوانية، فحق عليهما أن يعاقبا بعقاب الحيوان، بالضرب الشديد والرقع العنيف، ولا يصلح أن ينزل امرؤ إلى درك الحيوانية الأسفل، ويطالب بأن يعامل معاملة الإنسان الكامل فطبائع الأشياء تقتضي التجانس بين العمل والأجر، والعقاب، هذا نظر الإسلام، أما أولئك فسوغت لهم أنفسهم أن يفهموا الجريمة ذلك الفهم القاصر، ولم يلتفتوا إلى المعنى الخلقي، ولا إلى المعنى الإنساني، ولم يلتفتوا إلى تلك المآلات الاجتماعية والصحية فشاعت بينهم الفاحشة، وقل النسل عندهم، وانتشرت الأدواء الفتاكة وحملوا إلى الشرق مع الداء النفسي وهو فشو الزنا، الداء الأفرنجي، فوجدت في الشرق تلك الأدواء الخبيثة، وشاهشت الأجسام وتوارث الأبناء الداء عن الآباء.

ومن الغريب أن يتكلم الغربيون ومن لف لفهم في العقوبات البدنية، وهم في الحروب ومعاملة غيرهم لا يرعون إلاًّ ولاذمة، وفوق ذلك فإن العقوبة البدنية ليست شراً لذاتها، بل هي شر لما فيها من إيلام، وكذلك كل عقوبة، فلماذا تعد هذه همجية وتلك إنسانية إنه حيث وقعت الجريمة ووجب العقاب فالعدل والإصلاح هو الذي يقرر العقوبة، وقد ذكرنا أن عقوبة الجلد من جنس العمل.

ص: 80

إن المصلحو لها جانبان: جانب الرحمة البينة بدفع المضار والرفق في المعاملة، وجانب النفع يجلب المنافع العامة والخاصة، والجانبان متلازمان، وقد بينا رحمة الله بعباده في شرعه، ولكن أمراً شرعه القرآن واعتبره أعظم القربات، وهو يدبو بادئ الرأي غير متفق مع الرحمة، وذلك الأمر هو الجهاد في سبيل الله ومحاربة المشركين وقتال المعتدين.

فإن قوم هذا العصر وغيره من العصور السابقة الذين لا ينطقون بالحق، عابوا شريعة القرآن بأنها أباحت القتال، ووازنوها بشريعة الأناجيل القائمة وأنها لا تبيح القتال، وتدعو إلى التسامح، وتقول:"من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر" وقالوا إن الذي يتفق مع روح التدين هو السماح لا القتال، والعفو - لا الجهاد، وليس النبيون قواد حروب حتى يمتشقوا الحسام ويقودوا الجيوش ويقتلوا النفوس، وهي في الأصل قد حرم الله قتلها، ذلك قولهم بأفواهم، ولسنا نتعرض لما جاء في المسيحية من تسامح مع المعتدين، بل نتعرض لما جاء في القرآن من شريعة الانتصاف من الظالمين، فتقول: إن القتال في الإسلام هو عين الرحمة، وهو عين السلام، وهو عين العدل.

أما أنه العدل فظاهر لأنه لرد الاعتداء والجاني يجب أن يذوق ثمرة جنايته، ووبال أمره، والمعتدي، يجب أن يرد اعتداؤه،

ص: 81

وليس بظالم من انتصر على من ظلمه ورد كيده في نحره، وإذا كانت بعض الديانات قد حسنت الصفح عن المعتدي، فالإسلام لم يسوغ ذلك في الاعتداء على الجماعات مطلقاً، بل قال في صراحة:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} .

أما بالنسبة للاعتداء على الآحاد فسوغ القرآن القصاص وسوغ العفو: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .

وأما أنى القتال هو عين السلام إذا كان ردا للاعتداء فلأنه لا ينفي الحرب إلا الحرب، وكما يقول العرب:"القتل أنفى للقتل" ولا يُطمع المعتدي إلا التراخي في رد اعتدائه، ولا يقمعه إلا توقعه أن خصمه سينال منه، وسيأخذ من نواصيه، وإن الشر يستمرئ استسلام الخير، وليس السلام هو الذي يقوم على الاستسلام، إنما السلام الحق هو الذي يقوم على العزة والكرامة الإنسانية، ولا يكون ذلك إلا بأخذ الأهمية والاستعداد القوي، والضرب على يد الظالم، ومنازلته بكل أسلحته ما لم تكن إثماً لا شك فيه.

وأما كون القتال في القرآن هو عين الرحمة، فإن ذلك يحتاج إلى فضل من التأمل والنظر، وإن ذلك ينجلي على وجهه إذا أشرنا إلى الباعث عليه والادعي إليه، ثم أشرنا إلى منهاجه ومسلكه، ثم

ص: 82

أشرنا إلى نتيجته وغايته، فسنجد حينئذ أن الباعث عليه هو الرحمة، وأنه في أثناء القتال تظهر الرحمة كالنسيم في وسط النيران، وكالدفْ في وسط الزمهرير، ثم إن النتيجة ستكون رحمة وأمناً وسلاماً، فالقتال في الإسلام رحمة من ابتدائه إلى انتهائه ومن مقدمته إلى نتيجته. والقتال في الإسلام شرع لرد الاعتداء ورد اعتداء المعتدي رحمة بالمعتدي والمعتدي عيله، والقتال في الإسلام في مبعثه رحمة عاملة شاملة. هاتان مقدمتان صادقتان ونتيجة صادقة. ولنُثبت كل واحدة من المقدمتين وبثبوتهما تثبت النتيجة لا محالة، أما كون القتال في الإسلام شرع لرد الاعتداء وأنه لا يسوغ إلا عند لاعتداء أو توقعه - وإن لبس الدفاع لبوس الهجوم لأن أقوى الدفاع ما كان هجوماً ليجتث الشر من أصله - فإن ذلك صريح آيات القرآن:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ

ص: 83

قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}

فهذه الاية حدّت الباعث على القتال وحدت قانون القتال وحدت قانون الثتال وهو متصل بالباعث عليه، ثم حدث غايته ونهايته، فالباعث على القتال بمقتضى هذه الآيات هو رد الاعتداء بمثله، وقد دل على ذلك ما نطوى في ثناياها من عبارات وإثارات واضحة بينة:

أولها: أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فإباحة القتال من المسلمين مبينة على القتال من غيرهم، فكان العلة الباعثة على القتال اعتداء المشركين.

ثانيها: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فالسبب بصريح اللفظ هو الاعتداء على المسلمين وإيقاع الذى بهم.

ثالثها: وقوله تعالى عند الإذن بالقتال: {وَلَا تَعْتَدُوا} وهذا معناه ألا يبدؤا بالقتال وألاّ يقتلوا غير المقاتلين، فهم منهيون عن الاعتداء مأمورن بالتقاء، فلا تكون سيوفهم على أعناقهم يضعونها على المعتدي وغير المعتدي، وعلى موضع البرء، وموضع السقيم.

رابعها: أن الله سبحانه جعل الغاية من القتال منع الفتتنة، فإن انتهت انتهى القتال، وذلك لأن المشركين كانوا يحاولون أن يفتنوا

ص: 84

الناس عن دينهم بالإرهاق والبلاء والشدة والتعذيب والقتل، فكان لابد من إزالة هذه الفتنة، لتكون الكلمة في الدين لله ويدخل الناس فيما يختارون، ولا كره فيه.

وإن المنهاج الذي سنه القرآن الكريم، للقتال هو أن يكون خالياً من الاعتداء في أثنائه كما كان دفاعاً في باعثه، فالآيات التي تلوناها ناهية عن الاعتداء بالقتال، وناهية عن الاعتداء في أثناء القتال، فالاعتداء بالقتال أن يبدأ المسلمون بالقتال، وذلك منهي عنه إلا إذا توقعوا الاعتداء، ولقد ذكر ابن تيمية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ أحداً بقتال قط.

وأما الاعتداء في القتال، فهو أن يقتل من ليس له رأي في قتال ولا يعين على قتال. ولا يحمل سيفاً، وقد نهى الإسلام عن ذلك وهو داخل في عموم النهي عن الاعتداء، وفي عموم الأمر. بالتقوى في القتال، وقد طبق ذلك النبي، فنهى عن المثلة في القتال:"إياكم والمثلة ولو بالكلب" ونهى عن نقل من لا يحمل سيفاً ولا يعين على قتال، فنهى عن قتل النساء والذرية والشيوخ الضعاف. ونهى عن أن تكون الحرب إتلافاً وتخريباً، فنهى عن قطع الأشجار وتحريق الثمار.

وقد استفاضت عن الأخبار بذلك: يروى أنه مر في بعض مغازية على امرأة مقتولة فقال عليه السلام مستنكراً: "ما كانت

ص: 85

هذه لتقاتل" ولقد قال في إحدى وصاياه لجيوشه: "انطلقوا باسم الله، وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً، ولا امرأة، ولا تغلو وضموا غنائكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين".

وإن الغاية التي تنتهي عندها ذلك القتال الفاضل هو انتهاء الاعتداء حيث يكون الاطمئنان والسلام: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}

* * *

لم تمكن ثمة شك - إذن - عند من يطلب الحقائق الإسلامية من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، في القتال الذي أباحة الإسلام بعض القرآن هو لرد الاعتداء.

وإن رد الاعتداء هو الرحمة وهذه هي المقدمة الثانية التي قررناها في صدر كلامنا، وبقى أن نبين وجهة نظرنا ودليل المنهاج القرآني فيها.

ليست الرحمة الإسلامية انفعالاً نفسياً، بل إن الرحمة القرآنية: تنظيم ثابت، وعدل قائم، وأمن وقرار واطمئنان،

ص: 86

وأن يعيش كل من يستظل بالراية الإسلامية آمناً في سربه، مطمئناً في قراره، وإن ذلك لا يكون إلا بقطع الاعتداء واجتثاثه من اصله، ومن أجل ذلك شرعت العقوبات الزاجرة الصارمة، فلو ترك السارقون من غير عقاب لزلزل أمن الآمنين، ولو ترك القاتلون من غير أن يقادوا إلى الموت الذي أذاقوه للبرآء، لتعرضت الأرواح الآمنة للقتل والاعتداء، لأن من قتل لا يرعوى، ومن يكون في نفسه نية الاعتداء لا يحجم:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} .

وأعتبر الإسلام كسائر الشرائع السماوية أن من قتل نفساً اعتداء فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه اعتدى على حق الحياة الذي هو حق الجميع، واعتدى على المعنى الإنساني الذي يستوي فيه الجميع:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وإحياؤها بالقود من الجاني وأخذه بجريمته.

فالرحمة القرآنية ليست هي تلك الشفقة التي تنفعل بها نفوس الناس على أهل الجرائم، وينسون أن ذلك النوع من الرحمة الظاهرة يستر في ثناياه شقاء الذين يكونون فريسة المجرمين، الذين تنفطر نحوهم تلك النفوس الضعيفة، وتفكر فيهم تلك

ص: 87

العقول الضعيفة، ولذلك كان محمد أرحم الناس بالناس عندما قال:"من لا يَرحم لا يُرحم" لأن قانون الرحمة يوجب الرحمة مراعاة أمن الآمنين، وهي كالمنفعة يجب أن تكون في ظل الفضيلة وأن تكون شاملة لأكبر عدد من الناس، ولو تردد الإنسان بين الرحمة بعشرة ينقذهم من فتك شرير أثم بقتله، وبين الرحمة بهذا الشرير يتركه حياً، لكان قانون العدد والحساب يقول: إن الرحمة بالواحد إجرام وإشقاء، وإن الرحمة بالعشرة عدل وإبقاء، وإنها الرحمة الحق وغيرها هوى النفس، وإن لبس مسوح التسامح والعفو" فكم من تسامح يكون في ظله الإجرام ويفرخ فيه الفساد.

بهذا المنطق نسبر عندما ننظر إلى اعتداء جماعة على جماعة، ونحكم على اعتداء المشركين على المسلمين، فالرحمة توجب قتالهم والسلام يوجب امتشاق الحسام لنزالهم وليس رحمة أن يتركوا يعبثون في الأرض فساداً، وليس تسامحه أن يتركوا في اعتدائهم سادرين في غيهم، إنما الرحمة أن يقفهم أهل العدل ويجتثوا بقتالهم شأنه الظلم، وإن التسامح مع الأشرار شر مادام شرهم يعم ولا يخص.

وإن القتال ليس فقط رحمة بالمعتدي عليهم بل إنه رحمة بالمعتدين أنفسهم، ولا نقرر ذلك لأن من الرحمة بيهم أن يدخلوا

ص: 88

في دين الإسلام طائعين، وإن القتال الذي يثيره قادتهم يحول دون ذلك، وأن دفع المسلمين لهم يسهل وصول الدعوة الإسلامية إلى القلوب، وتلك رحمة ربانية لا نقول ذلك، كما لا نقول: إن رد المعتدين هو حمل لهم الفضيلة على وقتل لروح الشر في نفوسهم، وتلك رحمة إنسانية، فقد يقول قائل: إن ذلك إكراه على الدين، أو قريب من معنى الإكراه والله سبحانه وتعالى يقول:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

وإنما نقول: إن رد الأعداء بقتال المعتدين هو رحمة بالأمم التي تقاد إلى الاعتداء من نوع آخر، ذلك أن الناس في الماضي كما هو في الحاضر لا يفكر دهماؤهم في قتل ولا قتال ولا حرب ولا نزال، إنما يريدون أن يقيموا بين ذويهم وأولادهم في عيشة راضية وحياة هادئة، ولكن كان يزعج أمنهم في الماضي طمع ملوكهم وأهواء قوادهم وحب للغلب يسيطر على الأمراء، ويرون ذلك فروسية، فيقودون جماعاتهم إلى الحتوف ويزعجون أمنهم ويخرجونهم من ديارهم، وقد حل الساسة اليوم محل الأمراء ينسابون بتلك الجموع التي خرجت وهي تريد الفرار إلى حرب لا يريدونها ولا يبغونها.

فإذا ترك الملوك المعتدون من غير رادع يردعهم، ولا مدافع

ص: 89

يدفعهم، ويرد اعتداءهم انسابوا في الأرض مشردين لجماعاتهم مشتتين لشمل الأسر في أمتهم، فكان رد الاعتداء وحمل الملوك على أن يعودوا بآممهم إلى عقر دارهم رحمة بالناس:

{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}

ولقد كان قتال الإسلام رحمة بالمجموع التي قادها المعتدون من جهة أخرى، ذلك أن الإسلام دين العدل والحق والحرية، والملوك الذين قاتلوا كانوا ظالمين لأممهم مفسدين لجماعاتهم، فلما اصطدموا بالإسلام عند اعتدائهم أزال الإسلام شوكة أولئك الملوك الطغاة، وأباد خضراءهم، وأي قوة غير قوة الدفاع الإسلامية كانت تستطيع إزالة ملك كسرى وإخراج الناس من طغيانه؟ وأي قوة غير قوة الإسلام كانت تستطيع أن تزيل ملك الرومان في مصر بعد أن أنزلوا بالمصريين الشدائد؟ وما كان فتك دقلديانوس ببعيد - إن قتال الإسلام الذي كان رداً على الاعتداء كان بلا شك رحمة بأمم المعتدين.

قد تبين إذن أن قتال الإسلام كان رداً للاعتداء وتبين أن رد الاعتداء كان رحمة باعثة ورحمة في منهاجه ورحمة في غايته.

وإن التاريخ لم يعرف حرباً فاضلة كحرب النبي وصحابته ولم

ص: 90

يعرف حرباً رحيمة كحرب أولئك الصديقين والشهداء الصالحين، ووازنوا بين تلك الحرب التي كانت رحمة للعالمين ولا يقاتل فيها إلا من يحمل سيفاً ويضرب، والتي كان يعامل فيها الأسرى كأنهم في ضيافة، والتي اعتبر فيها إطعام السير من أقرب القربات.

كما قال سبحانه في وصف المتقين الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} ولقد أنزل النبي صلى الله عليه وسلم أسرى المشركين في غزوة بدر بدور الأنصار، وأوصاهم بهم خيراً، فكانوا يقدمون الطعام لهم ويؤثرونهم على ذويهم، وكأنهم في ضيافة، قابلوا بين هذا وما يصنع اليوم مع أسرى الحروب، وإن الصحف لتذكر أم من أسرى الحروب الأخيرة من تجاوز المليون والنصف، لا يعرف مقرهم ولا يعرف حالهم:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} ولكن أنى تكون الموازنة وتلك حرب تستمد قانونها من قانون الغابات والآكام.

وإذا كانت شريعة القرآن رحمة بالناس لأن رسالة الرسول عليه السلام كانت رحنة بالناس - أن جاءت الشريعة في جملتها وتقصيلها لمصلحة الناس، وما من مصلحة حقيقية للناس وليست وهماًَ من الأوهام إلا وقد تبينت النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية بالعبارة المبينة أو الإشارة الجليلة أو العلة القياسية، وقد

ص: 91