الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَفَحَاتٌ مُشْرِقَةٌ مِنْ حَيَاةِ السَّلَفِ: سُفْيَانُ بِن سَعِيْدٍ الثَّوْرِي
تأليف: محمد بن مطر الزهراني
بسم الله الرحمن الرحيم
ال
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. وبعد:
فقد عشنا في ثنايا هذا البحث مع صفحات مشرقة من سيرة إمام من أئمة الهدى هو: أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله، وقلَّبنا تلك الصفحات من سيرته العطرة فرأينا نموذجاً عملياً لأئمة السلف الذين يقتدى بهم: رأيناه خير قدوةٍ في طلبه للعلم: نية واجتهاداً في التحصيل، ورأيناه خير إمامٍ في العبادة والعمل، ورأيناه أُنموذجاً فريداً في زهده وورعه، ورأيناه إمام هدى في العقيدة والسُنَّة، ورأيناه داعية هدى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودخوله على
حكام زمانه في مناصحتهم في أمر الأمة.
ورأيناه معلماً لتلاميذه من طراز فريدٍ نادرٍ.
وجدنا سفيان الثوري من خلال هذه الصفحات - وما هي إلا غيض من فيض من سيرته العطرة - إماماً من أئمة السلف الصالح، وما هو إلا واحد من مئات بل أُلوف من أولئك الأعلام الذي كانوا نجوم هدى ومصابيح الدجى، كانوا على منهجٍ واضحٍ محدد المعالم في القول والعمل والهدي والأدب والاعتقاد والسلوك، حتى كان الواحد منهم كأنه صورة من الآخر، قولهم متفقٌ ورأيهم مؤتلفٌ.
قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني (ت 489هـ):
"ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنَّفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدةٍ ونمطٍ واحدٍ يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا
تفرقاً في شيء ما وإن قلَّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدتهم كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا". ثم قال:
"وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقةٍ واحدةٍ في الاعتقاد، يُبدِّع بعضهم بعضاً، بل يرتقون إلى التكفير، يكفِّر الابن أباه والرجل أخاه والجار جاره، تراهم أبداً في تناعٍ وتباغٍ واختلافٍ، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 1. أما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفِّر البغداديون منهم البصريين، والبصريون البغداديين، ويكفر أصحابَ أبي علي الجبائي ابنَه أبا هاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفِّرون أبا علي، وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم، إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم
1سورة الحشر - الآية (14).
متفرقين يكفر بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض، وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا". 1
أما عن سبب هذا الاتفاق والاختلاف فقال رحمه الله:
"وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسُنَّة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات المتقنين قلَّما يختلف، وإن اختلف في لفظةٍ أو كلمةٍ فذلك اختلاف لا يضر ولا يقدح فيه.
أما دلائل العقل فقلَّما تتَّفق، بل عقل كل واحدٍ يرى صاحبه غير ما يرى الآخر وهذا بيِّنٌ والحمد الله". 2
1انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 224 - 226)، فصول من كتاب الانتصار لأصحاب الحديث للسمعاني (ص: 44 - 46).
2الحجة في بيان المحجة للتيمي (2/ 226)، فصول من كتاب الانتصار للسمعاني (ص: 47).
وقال في موضع آخر: "غير أنَّ الله أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار، لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف وقرناً عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله الناس من الدِّين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث، وأما سائر الفرق فطلبوا الدِّين لا بطريقه لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم، فطلبوا الدِّين من قِبَلِهِ، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردُّوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرَّفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستكرهة، فحادوا عن الحقِّ، وزاغوا عنه، ونبذوا الدِّين وراء ظهورهم.
وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسُنَّة أمامهم وطلبوا الدِّين من قِبَلِهِمَا، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسُنَّة فإن وجدوه موافقاً لهما قَبِلُوهُ،
وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسُنَّة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسُنَّة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل". 1
إن هذا المنهج الواضح المحدد المعالم كما أورث السلف الاتفاق والائتلاف أورثهم أيضاً: الثبات والاستقرار وعدم التناقض والتنقل من قول إلى قول، أو من رأي إلى رأي، بل قد ورد عنهم التحذير من ذلك التنقل وذاك التناقض في الرأي. 2
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): "أهل الكلام أكثر الناس تنقلاً من قول إلى قول، وجزماً بالقول في موضع وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في
1 المصدر نفسه (2/ 223 - 224)، وفصول من كتاب الانتصار للسمعاني (ص: 44).
2انظر: الإبانة (2/ 503) وما بعدها.
موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، وأما أهل السُنَّة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك وإن امتُحِنوا بأنواع المحن وفُتِنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم وكسلف هذه الأُمَّة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء، يقول: إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} 1".
ثم قال: "ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق وبالجملة فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة بل المتفلسف أعظم اضطراباً وحيرة في أمره
1سورة السجدة - الآية (24).
من المتكلم لأنَّ عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف
وأيضاً تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقاً واختلافاً، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به، قام عليه البرهان.
وتجد أهل السُنَّة أعظم الناس اتفاقاً وائتلافاً، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب.
ولست تجد اتفاقاًوائتلافاً إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقاً واختلافاً إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه". اهـ ملخصاً 1
هكذا كان السلف الصالح لما وحدوا مصدر تلقي الدِّين متفقين مؤتلفين، وكذلك كانوا في منهج العمل، على وتيرة واحدة لا يحيدون عنها ثابتين مستقرين.
1انظر: نقض المنطق، تحقيق محمد عبد الرزاق بن حمزة وسليمان الصنيع (ص: 42 - 44).
قال الحافظ ابن بطة (ت 387هـ): "اعلموا رحمنا الله وإياكم، أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجود الإيمان فيهم ودوام الإشفاق على إيمانهم وشدة الحذر على أديانهم، فقلوبهم وجلة من خوف السلب، قد أحاط بهم الوجل لا يدرون ما الله صانع بهم في بقية أعمارهم، حذرين من التزكية متبعين لما أمرهم به مولاهم الكريم حين يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1 خائفين من حلول مكر الله بهم في سوء الخاتمة، لا يدرون على ما يصبحون ويمسون، فهم يعملون الصالحات ويخافون سَلْبَها والرجوع عنها، ويجانبون الفواحش والمنكرات وهم وجلون من مواقعتها، وبذلك جاءت السُنَّة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبَهُمْ وَجِلَةٌ} هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم
1سورة النجم - الآية (32).
ويصلي ويتصدق وهو يخاف أن لا يقبل منه". 1
وفي "الحجة في بيان المحجة" قال بعض العلماء: "ومن علامة أصحاب الحديث أداء الصلاة في أول الوقت وصدق اللهجة، والتهجد بالليل، وكتابة الحديث والرحلة فيه والتفقه فيه". 2 وفي "الإبانة": سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو فقال: "هو قولٌ ونيةٌ وعملٌ وسُنَّةٌ، لأنَّ الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نيةٍ فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونيةً بلا سُنَّةٍ فهو بدعة". 3
هذا ما تيسر لي جمعه والله الهادي إلى سواء السبيل.
1الإبانة (2/ 862 - 864).
2الحجة في بيان المحجة (2/ 500).
3الإبانة (2/ 814)، وقد روي نحو قول التستري عن أنس وعلي رضي الله عنهما وعن الحسن وسفيان والأوازاعي وغيرهم.
انظر: الإبانة (2/ 803).
تنبيه:
سبق أن نبهت في ترجمة عبد الله بن المبارك العالم المجاهد وأنبه هنا أيضاً أنني لم أقصد مجرد الترجمة كما هو موجود في كتب التراجم لئلا يكون عملي تكراراً بلا فائدة تُذكَر، وإنما قصدت الوقوف على جوانب القدوة العملية من حياة هؤلاء الأعلام، وجوانب التربية العملية في حياتهم وهديهم وكتبهم ومنهجهم في العلم والعمل والدعوة والاعتقاد، ليقتدي شباب الدعوة اليوم بهؤلاء الأئمة العلماء ويحذو حذوهم، وقد سلكت في ترجمة الإمام سفيان الثوري طريقة ابن أبي حاتم في تقدمته لـ "الجرح والتعديل" وقد اقتبست أكثر العناوين منه أيضاً، هذا والله من وراء القصد.
المؤلف
غرة رمضان من ألف وأربعمائة وثمانية عشر للهجرة
بالمدينة النبوية حرسها الله
اسمه ونسبه:
أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي بن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قال الذهبي: "من ثور طابخة، وبعضهم قال: هو من ثور همدان، وليس بشيء". 1
ولد سنة سبع وتسعين ومات سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله.
وطلب العلم وهو حدث السن باعتناء والده، المحدث الصادق: سعيد بن مسروق الثوري، وكان والده من أصحاب الشعبي وخيثمة بن عبد الرحمن، ومن ثقات
1السير (7/ 229 - 230)، وانظر عن نسبه: طبقات ابن سعد (6/ 371).
الكوفيين، وعداده في صغار التابعين، روى له الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه أولاده: سفيان الإمام وعمر ومبارك، وشعبة بن الحجاج، وزائدة، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وآخرون، ومات سنة (126 هـ). 1
شيوخه وتلاميذه:
اعتنى الإمامان الحافظان: أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت 742 هـ)، وأبو عبد الله الذهبي (ت 748 هـ) باستقصاء ذكر شيوخ وتلاميذ الإمام أبي عبد الله الثوري، وقد جاوزا بهم مائتين وثمانين شيخاً، ومائة وثلاثين تلميذاً. 2
قال الذهبي: "ويقال: إن عدد شيوخه ستمائة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله،
1السير (7/ 230).
2انظر: تهذيب الكمال للمزي (11/ 154 - 164)، السير للذهبي (7/ 230 - 236).
وابن عباس وأمثالهم".
ثم قال: "وأما الرواة عنه فخلقٌ، ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفاً، وهذا مدفوع ممنوع، فإن بلغوا ألفاً فبالجهد، وما علمت أحداً من الحفاظ روى عنه عددٌ أكثر من مالك، وبلغوا بالمجاهيل وبالكذابين: ألفاً وأربعمائة". 1
ثم ذكر بعد ذلك فصلاً بعنوان: مشايخ حدَّث عنهم الثوري وحدثوا هم عنه، ناقلاً ذلك عن أبي عبد الله الحاكم (ت 405 هـ)، وقد بلغوا خمسة وعشرين شيخاً 2 فيهم من هو من شيوخه: كسليمان الأعمش، وأبان بن تغلب، ومحمد بن عجلان المدني وغيرهم، وفيهم من هو من أقرانه: كشعبة بن الحجاج، وأبي عمرو الأوزاعي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وغيرهم، وفيهم من هو من
1السير (7/ 234).
2سير أعلام النبلاء (7/ 254).
تلاميذه: كعبد الله بن المبارك، وابن عيينة، ووكيع بن الجراح، وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم.
وهذا الصنيع منه ومن هؤلاء الشيوخ هو تطبيق عملي لقولهم:
"لايكون المحدث كاملاً، والعالم عالماً حتى يسمع ممن هو فوقه وممن هو مثله وممن هو دونه". 1
فرحمهم الله من أئمة هدى يقتدى بهم في التواضع والورع والحرص على أخذ العلم من أهله كباراً كانوا أم صغاراً، ورحمهم الله من أئمة هدى لم يعرف الكبر والعجب والغرور إلى نفوسهم سبيلاً.
1روي هذا من قول سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ومحمد بن إسماعيل البخاري، انظر: الجامع للخطيب البغدادي (2/ 218)، وهدي الساري لابن حجر (ص: 479).