المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما ذكر من علم سفيان الثوري وفقهه: - صفحات مشرقة من حياة السلف - سفيان الثوري

[محمد بن مطر الزهراني]

الفصل: ‌ما ذكر من علم سفيان الثوري وفقهه:

‌ما ذكر من علم سفيان الثوري وفقهه:

كل من ترجم لسفيان الثوري أورد في ترجمته طائفةً من أقوال الأئمة: من أقرانه وتلاميذه وتلاميذهم وغيرهم، في الثناء على علم سفيان وفقهه، وهذه أهم تلك الأقوال: 1

قال سفيان بن عيينة: "ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري". 2 وقال عبد الله بن المبارك: "ما أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان". 3

وعن عبد الرزاق الصنعاني (ت 211 هـ) قال: قال ابن عيينة: "أئمة الناس ثلاثة - بعد أصحاب رسول الله صلى الله

1من أهم الكتب التي ترجمت لسفيان: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - التقدمة (1/ 55 - 125)، الحلية لأبي نعيم (6/ 356)، و (7/ 144)، وتاريخ بغداد (9/ 151 - 174)، وسير أعلام النبلاء (7/ 229 - 279).

2الجرح والتعديل (1/ 55).

3الحلية (6/ 357) وتاريخ بغداد (9/ 156).

ص: 18

عليه وعلى آله وسلم -: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه". 1

وعن محمد بن المعتمر بن سليمان التيمي قال: قلت لأبي: مَن فقيه العرب قال: "سفيان الثوري". 2

وقال عبد الرحمن بن الحكم: "ما سمعت بعد التابعين بمثل سفيان". 3

وقال أبو طالب أحمد بن حميد: قال أبو عبد الله أحمد ابن حنبل: "دخل على مالك، الأوزاعي وسفيان الثوري، فلما خرجا قال مالك: أحدهما أكثر علماً من صاحبه، والآخر أصلح للإمامة، قلت لأبي عبد الله: فالذي عنى مالك أنه أعلم الرجلين هو سفيان قال: نعم، قال أبو عبد الله: أجل، سفيان أوسعهما علماً". 4

1تاريخ بغداد (9/ 154)، والحلية (6/ 356).

2الجرح والتعديل (1/ 57).

3المصدر نفسه.

4المصدر نفسه (1/ 59).

ص: 19

قال علي بن المديني: "لا أعلم سفيان صحَّف في شيء قط إلا في اسم امرأة أبي عبيدة، كان يقول: حفينة يعنى الصواب: بِجِيمٍ". 1

قال عبد الرزاق: قال ابن المبارك: "كنت أقعد إلى سفيان الثوري، فيحدث، فأقول: ما بقي من علمه شيء إلا وقد سمعته، ثم أقعد عنده مجلساً آخر، فيحدث، فأقول: ما سمعت من علمه شيئاً". 2

قال زائدة بن قدامة الثقفي (ت 160 هـ): "كان سفيان أفقه الناس". 3

وعن أبي الأحوص قال: سمعت أحمد بن يونس يقول: "ما رأيت أحداً أعلم من سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان". 4

1سير أعلام النبلاء (7/ 240).

2المصدر نفسه (7/ 248).

3الحلية (6/ 357)، سير أعلام النبلاء (7/ 247 - 254).

4الحلية (6/ 359).

ص: 20

عن أبي أسامة حماد بن أسامة (ت 201 هـ) قال سفيان: "إنما العلم عندنا الرُّخَصُ عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يحسنه". 1

وعن حفص بن غياث (ت 195 هـ) قال: سمعت سفيان يقول: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلِف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه". 2

قال الخريبي: "ما رأيت أفقه من سفيان الثوري". 3

عن عباس بن محمد الدوري قال: "رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان الثوري في زمانه أحداً في الفقه والحديث والزهد". 4

عن محمد بن عبيد الطنافسي قال: "لا أذكر سفيان

1الحلية (6/ 367)، جامع بيان العلم وفضله (1/ 784) برقم 1467، وفيه: "

الرخصة من الثقة

".

2الحلية (6/ 368)، الفقيه والمتفقه (2/ 69)، وفيه أيضاً عنه قال:"ما اختلف فيه الفقهاء، فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به".

3السير للذهبي (7/ 240).

4تاريخ بغداد (9/ 169)، السير (7/ 237).

ص: 21

الثوري إلا وهو يفتي، أذكر منذ سبعين سنة ونحن في الكُتَّاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان ليستفتوه فيفتيهم". 1

قال يزيد بن زريع: "كان سفيان راوياً ومفتياً". 2

وعن الوليد بن مسلم قال: "رأيت سفيان الثوري بمكة يستفتى، ولما يخط وجهه بعد". 3

قال الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله المديني (ت 234 هـ): "لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من له أصحاب يذهبون مذهبه ويفتون فتواه، ويسلكون طريقته إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس. فأصحاب عبد الله بن مسعود الذين يفتون بفتواه، ويقرأون بقراءته: علقمة بن قيس، والأسود بن

1الحلية (6/ 357).

2الجرح والتعديل (1/ 59).

3الجرح والتعديل (1/ 56).

ص: 22

يزيد، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو السلماني، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل".

ثم قال: "وأصحاب هؤلاء الستة من أصحاب عبد الله بن مسعود ممن يقول بقولهم ويفتي بفتواهم: إبراهيم بن يزيد النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي".

ثم قال: "وكان أعلم الناس من أهل الكوفة ممن يفتي بفتواهم ويذهب مذهبهم: الأعمش سليمان بن مهران، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، ومن بعد هؤلاء: سفيان بن سعيد الثوري، كان يذهب مذهبهم ويفتي بفتواهم. ومن بعد سفيان: يحيى بن سعيد القطان كان يذهب مذهب سفيان وأصحاب عبد الله". 1

1انظر: علل الحديث ومعرفة الرجال لعلي بن المديني (ص: 43 - 47) ط: عبد المعطي قلعجي.

وقال الحافظ ابن القيم: "والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله ابن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة".

ثم قال: "فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود".

ثم قال: "قال ابن جرير: وقد قيل: إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً". اهـ من: أعلام الموقعين (1/ 21) فصل: الأئمة الذين نشروا الدين والفقه.

ص: 23

هكذا يتلقى العلم على أهله: التلاميذ عن الشيوخ والخلف عن السلف قرناً بعد قرن، وهكذا تُلُقِيَ هذا الدين الذي ختم الله به الرسالات، ونسخ به الأديان، إذ تلقاه جبريل من رب العزة والجلال، فنزل به على قلب محمد الصادق الأمين، ثم بلغه محمد صلى الله عليه وسلم أمته أتم بلاغ وأوضحه بأحسن بيان، فتلقاه عنه الصحابة البررة الكرام الذين

ص: 24

اصطفاهم الله لصحبة خير الأنام، وفهموه عنه خير الفهم، وعملوا به أكمل عمل، ثم بلغوه إلى التابعين، وهكذا استمر التلقي لهذا الدين جيلاً بعد جيل، وما مدرسة ابن مسعود في الكوفة إلا نموذج من تلك المدارس العلمية الفقهية المنتشرة في كل مصر نزل فيه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وهي كذلك نموذج تطبيقي لذلك التسلسل في التلقي.

وأمرُ تلقي العلم فيه على أهله، واتِّباعُ الخلفِ للسَّلف فيه، أمرٌ مقطوعٌ به في هذه الأٌمَّة التي امتازت بعلمَي الرواية والدراية على سائر الأمم.

بَيْدَ أنَّه بعد انقضاء القرون المفضلة وانقضاء عصر ازدهار العلوم الإسلامية، وبعد تسلط أصحاب الأهواء والبدع على مقاليد السلطة في الأمة الإسلامية منذ القرن الرابع الهجري، وحملتهم على علماء السنة بعد ذلك انتشر الجهل وبدأ الجمود العلمي يسري في الأمة، عند ذلك نبتت ظاهرة التقليد والتعصب المذهبي المقيت، بعد أن لم يكن معروفاً في الأمة الإسلامية في عصورها الزاهرة.

ص: 25

وأخذت تلك الظاهرة تتسع حتى عمَّت وطمَّت، وبلغت ذروتها في القرون المتأخرة، حتى أنه في مطلع القرن الثالث عشر الهجري أحدثت شدة التعصب المذهبي والتقليد الأعمى ردة فعل معاكسة تماماً، فنادى بعض علماء ذلك القرن كالشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت 1255 هـ) بنَبْذِ كل المذاهب والأخذ مباشرة من الكتاب والسنة، وألف في ذلك كتابه المشهور "الدرر البهية" ثم شرحه في كتابه "الدراري المضية"، وألف "القول المفيد في حكم التقليد" وذلك لشدة ما كان عليه المقلِّدة والمتعصِّبة في ذلك الزمان وما لقيه رحمه الله وأمثاله من العلماء من شر هؤلاء المقلدين المتعصبين، ولم تزل الدعوة إلى نبذ المذاهب وحربها تتسع حتى بلغت ذروتها في هذا العصر، فنادى أصحابها بإطلاق الاجتهاد في الأخذ من الكتاب والسنة لكلِّ من هبَّ ودبَّ حتى لصغار الطلبة بل حتى العوام، فأنتج هذا الاجتهاد المطلق فوضى علمية لا نظير لها حتى أُلغي فيها كل معنى صحيح، وفهم سليم للتمذهب عند السلف كما ذكره الإمام

ص: 26

علي بن المديني ثم الحافظ ابن القيم رحمهما الله تعالى.

وكان الأولى أن يُحذى حذو الإمامين: شيخ الإسلام ابن تيمية في زمانه، والمجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في عصره، حيث قاوما التعصب المذهبي والتقليد الأعمى بإحياء المنهج الصحيح والفهم السليم للتمذهب الذي هو اتباع أصول مذهب معين من المذاهب التي عرفت في الأمة وحفظت أقوال وآراء أصحابها في طرق فهم النصوص وطريقة الاستنباط ومنهج الاستدلال والعمل، لذلك نجد أن هذين المجددين التزما في دعوتهما وتعلمهما وتعليمهما تلاميذهما مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولم يتعصبا له، كما لم يدعوا إلى إلغاء المذاهب الأخرى ومحاربتها.

وقد سبقهما لهذا المسلك فقهاء المحدثين حيث ذهبوا في طريقة استنباط فقه الحديث ومنهج الاستدلال به على الطريقة التي أصلها الإمام الشافعي رحمه الله في كتبه كـ "الرسالة" و "الأم" فذهبوا مذهبه، انظر مثلاً: فقه البخاري في تراجم أبواب "صحيحه"، وأبا داود والترمذي في "سننهما"،

ص: 27

وانظر ابن خزيمة وأبا عوانة وابن حبان في تراجم أبواب كتبهم وغيرهم.

ولم يكن هذا تقليداً، وإنما هو اتباع، قال الحافظ ابن عبد البر: "والتقليد عند جماعة العلماء غير الإتباع، لأن الاتباع هو: أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه.

والتقليد: أن تقول بقوله، وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه، وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله، وهذا محرَّم القولُ به في دين الله سبحانه". 1

وفرق أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي بين ما يجوز فيه التقليد وما لا يجوز فقال:

"وأما الأحكام الشرعية فضربان: أحدهما: يعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم: كالصلوات الخمس والزكوات

1انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 37) ط: دار الكتب العلمية، أو (2/ 787) ط: دار ابن الجوزي.

ص: 28

وصوم شهر رمضان، والحج، وتحريم الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز التقليد فيه لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه والعلم به فلا معنى للتقليد فيه.

وضرب آخر: لا يعلم إلا بالنظر والاستدلال كفروع العبادات والمعاملات، والفروج والمناكحات، وغير ذلك من الأحكام فهذا يسوغ فيه التقليد بدليل قوله تعالى:{فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . ولأنَّا لو منعنا التقليد في هذه المسألة التي هي من فروع الدين لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك، وفي إيجاب ذلك قطع عن المعائش، وهلاك الحرث والماشية، فوجب أن يسقط". 1

وعن حامد المروزي قال: سمعت ابن المبارك يقول: "كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان الثوري". 2

1انظر: الفقيه والمتفقه (2/ 67 - 68) ط: دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق إسماعيل الأنصاري.

2تاريخ بغداد (9/ 156)، سير أعلام النبلاء (7/ 237).

ص: 29

وعن عرفجة بن كلثوم البصري قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: "ما رأت عيناي مثل سفيان الثوري، ولا رأى سفيان مثله". 1

وعن سفيان بن عيينة قال: "كان سفيان الثوري كأن العلم ممثل بين عينيه يأخذ منه ما يريد ويدع ما لا يريد". 2

عن ضمرة بن ربيعة أن المثنى بن الصباح قال: "سفيان عالم الأمة وعابدها". 3

وعن أبي داود الحفري، قال ابن أبي ذئب:"ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري". 4

وقال أبو قطن قال شعبة: "ساد سفيان الناس بالورع والعلم".

قال يحيى بن أيوب العابد: حدثنا أبو المثنى قال:

1تاريخ بغداد (9/ 156).

2تاريخ بغداد (9/ 162).

3السير (7/ 238).

4المصدر نفسه.

ص: 30

"سمعتهم - بمرو - يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه - خرج شعره -".

قال الذهبي: "كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدَّث وهو شاب". 1

وقال قطبة بن العلاء: قال الثوري: "أنا في هذا الحديث من ستين سنة".

هذا غيض من فيض مما ذكر من علم سفيان وفقهه، ولولا الإطالة لذكرت كل ما وقفت عليه من ذلك، وأختم هذه الفقرة بنصين من أجمع ما ذكر في علم سفيان وفقهه ومكانته في الأمة:

الأول: قال أبو بكر الخطيب البغدادي: "وكان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، مجمع على إمامته، بحيث يستغنى عن تزكيته، مع الإتقان والحفظ

1المصدر نفسه (7/ 236).

ص: 31

والمعرفة والضبط والورع والزهد". 1

والثاني: قال الحافظ الذهبي: "قد كان سفيان رأساً في الزهد والتأله، والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الآثار، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان ينكر على الملوك ولا يرى الخروج عليهم أصلاً". 2

1تاريخ بغداد (9/ 152).

2السير (7/ 241 - 242).

ص: 32