الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما ذكر من عبادة سفيان وزهده وورعه:
كانت عبادة وزهد وورع السلف رحمهم الله تعالى مبنية على ثلاثة أمور:
الأول: الاقتداء التام بالرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوز ما جاء به من الهدى والعلم وما كان عليه من العمل، وهاديهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 1، وقوله أيضاً:"من رغب عن سنتي فليس مني". 2
الثاني: علم صحيح ثابت عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم
الثالث: الفقه في الدين بالفهم السليم لنصوص الشرع وأحكامه.
قال ابن القيم رحمه الله (ت 751 هـ) - في تفسير قول
1رواه مسلم في كتاب الأضحية - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، عن عائشة رضي الله عنها (ح 18).
2انظر: صحيح الإمام البخاري، كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح من حديث أنس بن مالك، الحديث الأول في الباب.
ابن شهاب الزهري: "ما عُبِدَ الله بمثل الفقه" -: "وهذا الكلام ونحوه يراد به أنه ما يُعْبَدُ الله بمثل أن يعبد بالفقه في الدين، فيكون نفس التفقه عبادة، وقد يراد به أنه ما عُبِدَ الله بعبادة أفضل من عبادة يصحبها الفقه في الدين لعلم الفقيه في دينه بمراتب العبادات ومفسداتها وواجباتها وسننها، وما يكملها وما ينقصها وكلا المعنيين صحيح". 1
وهذا أبو عبد الله سفيان الثوري مثال من أولئك السلف في عبادته، وزهده، وورعه، وهذا بعض ما جاء في سيرته في ذلك:
أخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى زائدة بن قدامة الثقفي (ت 160 هـ أو بعدها) قال: قال سفيان: "إني لأفرح بالليل إذا جاء".
وفي رواية أخرى عنه قال: قال سفيان: "إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت".
1انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 144).
وبسنده إلى أبي نعيم الفضل بن دكين (ت 218 هـ) قال: "كان سفيان إذا ذكر الموت مكث أياماً لا ينتفع به، فإذا سئل عن شيء قال: ما أدري ما أدري".
وبسنده أيضاً إلى أبي أسامة حماد بن أسامة (ت 201هـ) قال: "كثيراً ما كنت أسمع سفيان يقول: اللهم سلم سلم، رب بارك لي في الموت وفيما بعد الموت".
وأخرج أيضاً عن أبي الأحوص سلام بن سليم (ت 179 هـ) قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "عليك بعمل الأبطال: الاكتساب من الحلال، والإنفاق على العيال".
وعن أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان (ت 190هـ أو قبلها) قال: "أكل سفيان ليلة فشبع فقال: إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله، فقام حتى أصبح".
وعنه أيضاً قال: "صحبت سفيان في طريق مكة، فكان يقرأ في المصحف كل يوم، فإذا لم يقرأ فيه، فتحه فنظر فيه وأطبقه". 1
1انظر هذه النصوص في: الجرح والتعديل (1/ 85 - 86).
وعن يوسف بن أسباط قال لي سفيان الثوري: "لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس". 1
وفي "الحلية" لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "كنا نكون عند سفيان الثوري فكأنه قد أوقف للحساب فلا نجترئ أن نكلمه، فنعرض بذكر الحديث، فيذهب ذلك الخشوع، فإنما هو حدثنا وحدثنا".
وعن ابن عُلَيّة قال: قلت لسفيان: "إذا أخذت في الحديث نشطت وأنكرتك، وإذا كنت في غير الحديث كأنك ميت؟ قال سفيان: أما علمت أن الكلام فتنة". 2
وعن عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ): "كان الثوري جعل على نفسه لكل ليلة جزءاً من القرآن وجزءاً من الحديث، قال: فيقرأ جزأه من القرآن، ثم يجلس
1المصدر نفسه (1/ 89 - 90).
2الحلية (7/ 63).
على الفراش فيقرأ جزأه من الحديث، ثم ينام". 1
وعن أبي أحمد محمد بن عبد الله الزبيري (ت 203هـ): "كتب بعض الإخوان إلى سفيان: أن عظني وأوجز، فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، عافانا الله وإياك من السوء، اعلم يا أخي أن الدنيا غمها لا يفنى، وفكرها لا ينقضي، وفرحها لا يدوم، فلا توان فتعطب، والسلام عليكم". 2
وعن يوسف بن أسباط قال: "ما رأيت رجلاً قط أترك للدنيا من سفيان الثوري ومحمد بن النضر الحارثي". 3
وقال علي بن هشام القرشي: "جاء سفيان الثوري إلى صيرفي بمكة يشتري دراهم بدينار، فأعطاه الدينار وكان معه آخر فسقط من سفيان، فطلبه فإذا إلى جانبه دينار آخر، فقال له الصيرفي: خذ دينارك، قال: ما أعرفه، قال: خذ
1الجرح والتعديل (1/ 116).
2المصدر نفسه (1/ 104).
3المصدر نفسه (1/ 105).
الناقص، قال: فلعله الزائد، قال: فتركه ومضى". 1
وعن إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: "كنا في مجلس سفيان الثوري وهو يسأل رجلاً رجلاً عما يصنع في ليله فنخبره، حتى دار القوم، فقالوا: يا أبا عبد الله قد سألتنا فأخبرناك، فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك فقال: لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها، فإذا استيقظت فلا أقيلها والله". 2
وعن زيد بن الحباب (ت 203 هـ) قال: "نفدت نفقة سفيان بمكة فقدم عليه رجل من قومه، فقال لسفيان: لك معي عشرة دراهم، قال: من أين؟ قال: من غزل فلانة، قال: ائتني بهم، فإني منذ ثلاث استف الرمل". 3
في "الحلية" لأبي نعيم: قال أبو شهاب الحناط عبد ربه ابن نافع (ت 171 هـ): "جلست إلى سفيان الثوري، وهو
1الحلية (7/ 53).
2المصدر نفسه (7/ 60).
3المصدر نفسه (7/ 63).
في دير الكعبة مستلق فسلمت عليه، فلم يرد علي كما ينبغي، فقلت: إن اختك قد بعثت إليك معي بشيء فاستوى، فقلت له: يا أبا عبد الله سلمت عليك فلم ترد علي كما كنت أريد، فلما قلت لك بعثت أختك معي بشيء استويت، قال: تكتم علي: لم آكل منذ ثلاث، فلما قلتَ: بعثت إليك أختك علمت من ذا - وأشار بيده - أي بغزلها". 1
وفي "الجرح والتعديل" عن حسين بن روح قال: "أتى سفيان الثوري رجل فقال: إني مررت بفلان فأعطاني صرة فيها ألف دينار أعطيك إياها، قال له سفيان: فمررت بأختي فأعطتك شيئاً من دقيق؟ قال: نعم، قال: فأتني بصرة الدقيق، ورد صرة الدنانير، قال: فكان يختبز منها أقراصاً ويأكل". 2
وعن أبي محمد قال سفيان الثوري: "الزهد في الدنيا هو
1 (7/ 67)، وانظر: السير (7/ 245).
2الجرح والتعديل (1/ 101).
الزهد في الناس، وأول الزهد في الناس زهدك في نفسك". 1
وقال يوسف بن أسباط: "كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم". 2
وقال وكيع: سمعت سفيان يقول: "ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت". 3
وعن يحيى بن يمان عن سفيان قال: "إني لأرى الشيء يجب علي أن أتكلم فيه، فلا أفعل فأبول الدم كمداً". 4
وقال شجاع بن الوليد: "كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً". 5
وعن عبد الرحمن بن مصعب قال: "برز سفيان على
1الحلية (7/ 69)، السير (7/ 268).
2السير (7/ 242).
3المصدر نفسه (7/ 243).
4المصدر نفسه (7/ 259).
5المصدر نفسه (7/ 259).
الناس، لأنه كان صحيح الأديم بعيداً من الأهواء عابداً يقول الحق ويريده إن شاء الله". 1
وقال يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية: "ما رأيت أحداً أصفق وجهاً في ذات الله من سفيان". 2
وعن أبي أسامة حماد بن أسامة قال: "اشتكى سفيان ابن سعيد فذهبت بمائه في قارورة، فأريته الديراني، فنظر إليه فقال: بول من هذا؟ ينبغي أن يكون هذا بول راهب، هذا رجل قد فتت الحزن كبده، ما لهذا دواء". 3
قال عبد الرحمن بن عمر رسته (ت 250 هـ): سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: "بات سفيان عندي فجعل يبكي فقيل له، فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا - ورفع شيئاً من الأرض - إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن
1الجرح والتعديل (1/ 95).
2سير أعلام النبلاء (7/ 278).
3تاريخ بغداد (9/ 158)، السير (7/ 270).
أموت". 1 وقال عطاء بن الخفاف: "ما لقيت الثوري إلا باكياً، فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً". 2
وفي "الحلية" و "تاريخ بغداد" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "ما عاشرت في الناس رجلاً هو أرق من سفيان وكنت أرمقه في الليلة بعد الليلة، ينهض مذعوراً ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، وقال أيضاً: وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياءً وهيبة منه". 3
وعن يوسف بن أسباط قال: "قال لي سفيان الثوري - وقد صلينا العشاء الآخرة -: ناولني المطهرة، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر، فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هي، فقلت:
1السير (7/ 258).
2الحلية (7/ 51).
3الحلية (7/ 60)، تاريخ بغداد (9/ 157).
هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة". 1
وعن مؤمل بن إسماعيل (ت 206 هـ) قال: "أقام سفيان بمكة سنة، فما فتر من العبادة سوى من بعد العصر إلى المغرب، كان يجلس مع أصحاب الحديث، وذلك عبادة". 2
في "الحلية" عن يحيى بن سعيد القطان: "ما رأيت رجلاً أفضل من سفيان، كان يصلي ما بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء صلاة، فإذا سمع مذاكرة الحديث ترك الصلاة وجاء". 3
وعن عبد الرحمن بن مصعب المعني قال: "كان سفيان الثوري إذا أصبح مد رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل". 4
1تاريخ بغداد (9/ 157).
2سير أعلام النبلاء (7/ 277).
3 (7/ 63).
4الجرح والتعديل (1/ 95).
وقال ابن مهدي: "كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان الثوري من كثرة بكائه". 1
وقال مؤمل أيضاً: "ما رأيت عالماً يعمل بعلمه إلا سفيان". 2
وفي "سير أعلام النبلاء" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت سفيان يقول: "ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة". 3
وفي "التاريخ الكبير" للبخاري عن عبدان قال: قال ابن المبارك: "كنت إذا شئت رأيت سفيان مصلياً، وإذا شئت رأيته محدثاً، وإذا شئت رأيته في غامض الفقه". 4
وعن الفريابي وقبيصة قالا: سمعنا سفيان يقول: "
1الحلية (7/ 60)، السير (7/ 277).
2الحلية (6/ 359).
3 (7/ 242).
4 (4/ 92).
وددت أني نجوت من هذا العلم كفافاً لا لي ولا علي". 1
وعن عبد الرحمن بن مصعب المعني قال الثوري: "من ازداد علماً ازداد وجعاً، لو لم أعلم لكان أقل لحزني". 2
وفي "السير" للذهبي: قال سفيان: "وددت أني قرأت القرآن ووقفت عنده ولم أتجاوز إلى غيره"، وقال أيضاً:"وددت أن علمي نسخ من صدري، فنوقش في ذلك فقال: ألست أريد أن أسأل غداً عن كل حديث رويته: إيش أردت به". 3
وقال القطان: "كان الثوري قد غلبت عليه شهوة الحديث، ما أخاف عليه إلا من حبه للحديث".
قال الذهبي رحمه الله معلقاً على هذا: "حب ذات الحديث والعمل به مطلوب من زاد المعاد، وحب روايته
1الحلية (6/ 363)، وجامع بيان العلم وفضله (رقم: 1957 - 1958).
2الحلية (6/ 363).
3السير (7/ 255).
وعواليه والتكثر بمعرفته وفهمه مذموم مخوف، فهو الذي خاف سفيان والقطان وأهل المراقبة، فإن كثيراً من ذلك وبال على المحدث". 1
وقال رحمه الله في "التذكرة" تعليقاً أيضاً على قول سفيان: "ليس طلب الحديث من عدة الموت لكنه علة يتشاغل بها الرجل".
قلت: "صدق والله، إن طلب الحديث شيء غير الحديث، فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث وكثير منها مراقٍ إلى العلم وأكثرها أمور يشغف بها المحدث من تحصيل النسخ المليحة وتطلب العالي وتكثير الشيوخ والفرح بالألقاب والثناء وتمني العمر الطويل ليروي وحب التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا الأعمال الربانية، فإذا كان طلبك الحديث النبوي محفوفاً بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى
1المصدر نفسه (7/ 256).
الإخلاص، وإذا كان علم الآثار مدخولاً فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان وتورث الشك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين، ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة، ولا والله عرفها ابن المبارك وأبو يوسف القائل: من طلب الدين بالكلام تزندق، ولا وكيع ولا ابن مهدي الخ وأمثالهم، بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو وشبه ذلك". 1 اهـ مختصراً.
وفي "سير أعلام النبلاء" قال علي بن ثابت الجزري: سمعت سفيان يقول: "طلبت العلم فلم يكن لي نية، ثم رزقني الله النية". 2
وأخرج ابن عبد البر بإسناده إلى وكيع قال: قال سفيان:
1تذكرة الحفاظ (1/ 204 - 205).
2سير أعلام النبلاء (7/ 272).
"لا أعلم من العبادة شيئاً أفضل من أن تعلم الناس العلم". 1
وأخرج أيضاً بإسناده إلى بشر بن الحارث - الحافي - (ت 227 هـ): "إنما يراد من العلم العمل، اسمع وتعلم، واعلم وعلّم واهرب، ألم تر إلى سفيان الثوري كيف طلب العلم فعلم وعلّم وعمل وهرب، وهكذا العلم إنما يدل على الهرب عن الدنيا ليس على طلبها". 2
وفي "الحلية" عن محمد بن يحيى الخنيسي قال: "سمعت رجلاً قال لسفيان: لو أنك نشرت ما عندك من العلم رجوت أن ينفع الله به بعض عباده وتوجر على ذلك فقال سفيان: والله لو أعلم بالذي يطلب هذا العلم لا يريد به إلا ما عند الله لكنت أنا الذي آتيه في منزله فأحدثه بما عندي مما أرجو أن ينفعه الله به". 3
1جامع بيان العلم وفضله (برقم 120، 227).
2المصدر نفسه (برقم 1250).
3الحلية (6/ 369).
وعن محمد بن أبي عتاب الأعين قال: سمعت محمد بن يوسف الفريابي يقول: "كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم يتغير وجهه، فقلت له: يا أبا عبد الله: نراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك فقال: كان العلم في العرب وفي سادة الناس، فإذا خرج عنهم صار إلى هؤلاء - يعني النبط والسفلة - غُيِّر الدين". 1
وفي "الحلية" عن خلف بن تميم قال: سمعت سفيان الثوري بمكة - وقد كثر الناس عليه - فسمعته يقول: "ضاعت الأمة حين احتيج إلي". 2
وعن أبي قدامة السرخسي سمعت أحمد بن حنبل يقول: "كان سفيان الثوري إذا قيل له: إنه رؤي في المنام يقول: أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات". 3
عن يحيى بن أبي بكير قال: قيل لسفيان الثوري: إلى
1جامع بيان العلم (برقم 1072)، وانظر: الحلية (6/ 369).
2السير (7/ 275).
3المصدر نفسه (7/ 252).
متى تطلب الحديث؟ قال: "وأي خير أنا فيه خير من الحديث فأصير إليه إن الحديث خير علوم الدنيا". 1
أخرج أبو نعيم بإسناده إلى الحسين بن الحسن الحناط قال: سمعت فرقداً إمام مسجد البصرة يقول: "دخلوا على سفيان الثوري في مرضه الذي مات فيه، فحدثه رجل بحديث فأعجبه وضرب يده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحاً له فكتب ذلك الحديث، فقالوا له: على هذه الحال منك؟ فقال: إنه حسن إن بقيت فقد سمعت حسناً، وإن مت فقد كتبت حسناً".
وفيه أيضاً عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: "الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم".
وفيه أيضاً قال أبو عبد الرحمن الحارثي: "دفن سفيان ابن سعيد كتبه وكنت أعينه عليها، فدفن منها كذا وكذا
1سير أعلام النبلاء (7/ 243).
قمطرة إلى صدري، فقلت: يا أبا عبد الله وفي الركاز الخمس، فقال لي: خذ ما شئت فعزلت منها شيئاً كان يحدثني به منه".
وفي "السير" عن وكيع قال: "أوصى سفيان إلى عمارة بن سيف في كتبه فأحرقها". 1
وفي "الحلية" أيضاً عن الأصمعي قال: "أما سفيان الثوري فأوصى أن تدفن كتبه وكان ندم على أشياء كتبها عن قوم، قال: حملني عليه شهوة الحديث". 2
1 (7/ 242).
2انظر هذه النصوص في: الحلية (7/ 64 - 65)، وقد ذكر الخطيب البغدادي تعليلاً آخر لإتلاف الكتب بالدفن أو الإحراق فقال في تقييد العلم (ص: 61): "وكان غير واحد من المتقدمين، إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه أو أوصى بإتلافها، خوفاً من أن تصير إلى من ليس من أهل العلم، فلا يعرف إحكامها، ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص، فيكون ذلك منسوباً إلى كاتبها في الأصل، وهذا كله وما أشبهه قد نقل عن المتقدمين الاحتراس منه". اهـ
ثم ساق بأسانيده جملة من الأخبار عن بعض السلف الذين فعلوا ذلك، ومنهم: عَبيدة السماني، وأبو قلابة، وشعبة وغيرهم.
هذه جملة مما ذُكِرَ من عبادة سفيان وفقهه في العبادة وورعه في العلم والعمل.
وأما عن زهده في الدنيا وحطامها الفاني وورعه وفقهه في ذلك، فهذه طائفة مما ورد في سيرته:
أخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى قبيصة بن عقبة (ت 215 هـ) قال: "رأيت على الثوري كساء ما يساوي درهماً، ورأيت عليه نعلين مخصوفتين قومتهما ديناراً". 1
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" 2 عن علي بن ثابت قال: "رأيت سفيان الثوري في طريق مكة، فقومت كل شيء عليه حتى نعليه: درهم وأربع دوانق، وما رأيت الثوري في صدر مجلس قط، إنما كان يقعد إلى جنب حائط ويجمع بين ركبتيه".
وفيه أيضاً عن بشر بن الحارث قال: قيل لسفيان الثوري: "أيكون الرجل زاهداً ويكون له مال؟ قال: نعم
1الجرح والتعديل (1/ 100).
2 (6/ 378).
إن كان إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر". 1
وعن داود بن الجراح قال: سمعت سفيان يقول: "كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن". 2
وقال عبد الله بن محمد الباهلي: جاء رجل إلى الثوري فقال: "يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير فقال: اسكت لولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك، ثم قال: من كان في يده من هذه شيء فليصلحه، فإنه في زمان من احتاج كان أول ما يبذل دينه". 3
وعن يوسف بن أسباط قال: قال لي الثوري: "لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس". 4
1 (6/ 387 - 388).
2الحلية (6/ 381)، السير (7/ 246).
3الحلية (6/ 381)، السير (7/ 241).
4الجرح والتعديل (1/ 90)، الحلية (6/ 381)، جامع بيان العلم (برقم 1321).
قال محمد بن عبيد: "كان سفيان الثوري إذا أبطأت عليه بضاعته نقض جذوع بيته فباعها، فإذا رجعت بضاعته أعادها". 1
وقال يحيى بن يمان: "ما رأيت مثل سفيان، ولا أبصر سفيان مثل نفسه، أقبلت الدنيا عليه فصرف وجهه عنها". 2
عن محمد بن يوسف الفريابي (ت 212 هـ): سمعت سفيان يقول: "لنعمة الله علي فيما زوى عني من الدنيا أفضل من نعمته فيما أعطاني". 3
وعن حفص بن غياث (ت 194 هـ) قال: "كنا نتعزى بمجلس سفيان الثوري عن الدنيا".
وعن سفيان بن وكيع عن أبيه قال: "مات سفيان وله مائة دينار بضاعة". 4
1الجرح والتعديل (1/ 99).
2الحلية (7/ 3).
3الحلية (7/ 82).
4الحلية (7/ 82)، السير (7/ 242).
وفي "الحلية" لأبي نعيم عن محمد بن مزاحم قال: "كان جعل سفيان على نفسه ثلاثة أشياء: أن لا يخدمه أحد، وأن لا تطوى له ثوب، وأن لا يضع لبنة على لبنة". 1
وفيه أيضاً عن عبد الله بن داود الخريبي (ت 213 هـ) قال: قال سفيان: "ما أنفقت قط درهماً في بناء". 2
وفي "الجرح والتعديل" قال عبد الرحمن بن مصعب: "كان سفيان الثوري يكره الطيلسان الطرازي والثوب المروي، وقال: إنهما من ثياب المترفين". 3
وعن أحمد بن عبد الله بن يونس: سمعت سفيان الثوري ما لا أحصي يقول: "اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا منها إلى خير، اللهم ارزقنا العافية في الدنيا والآخرة". 4
وعن متٍّ البلخي قال: "أهديت لسفيان الثوري ثوباً
1الحلية (6/ 390).
2المصدر نفسه (6/ 392).
3 (1/ 95).
4الحلية (6/ 392).
فرده علي، قلت له: يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي، قال: علمت أنك ليس ممن يسمع الحديث، ولكن أخوك يسمع مني الحديث، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك مما يلين لغيره". 1
وعن يحيى بن سليم الطائفي قال: "بعث محمد بن إبراهيم الهاشمي - كان والياً على مكة - إلى سفيان الثوري بمائتي دينار فأبى أن يقبلها، فقلت: يا أبا عبد الله كأنك لا تراها حلالاً، قال: بلى، ما كان آبائي وأجدادي إلا في العطية، ولكن أكره أن أذل لهم"2
وذكر الخطيب بسنده إلى يحيى بن أيوب عن مبارك بن سعيد - أخو سفيان - قال: "جاء رجل إلى سفيان ببدرة أو ببدرتين - شك أبو زكريا -، وكان أبو ذلك الرجل صديقاً لسفيان جداً، وكان سفيان يأتيه فيقيل عنده، ويأتيه
1المصدر نفسه (7/ 3).
2المصدر نفسه (7/ 40).
كثيراً، قال: فقال:
يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء؟ فأثنى عليه، وقال: رحم الله أباك وذكر من فضله، فقال له: يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار إلي هذا المال، وأنا أحب أن تقبل هذا الذي جئتك به تستعين به على عيالك، قال: فقبله منه، فخرج الرجل، فلما خرج أو كاد أن يخرج قال لي: يا مبارك الحق فرده، قال: فلحقته فرددته، فقال: يا ابن أخي أحب أن تقبل هذا المال، فإني قد قبلته منك، ولكن أحب أن تأخذه فترجع به، فقال: يا أبا عبد الله في نفسك منه شيء قال: لا، ولكن أحب أن تقبله، فلم يزل به حتى أخذه، فلما خرج وقد داخلني ما لا أملك، فقعدت بين يديه فقلت: ويحك يا أخي إيش قلبك هذا حجارة أنت ليس لك عيال، أما ترحمني، أما ترحم إخوانك أما ترحم صبياننا، قال: فأكثرت عليه من هذا النحو فقال: يا مبارك تأكلها أنت هنيئاً مريئاً وأسأل أنا عنها لا يكون هذا
أبداً". 1
وفي "طبقات ابن سعد" قال: "وكانوا يرون أن سفيان أخذ مرة من بعض الولاة مالاً وصلة، ثم ترك ذلك فلم يقبل من أحد شيئاً، وكان يأتي اليمن فيتجر، وكان يفرق ما عنده على قوم من إخوانه يبضعون له به ويوافي الموسم كل عام فيلقاهم ويحاسبهم ويأخذ ما ربحوا". 2
وفي"السير" للذهبي: "قيل: إن سفيان سار إلى اليمن بأربعة آلاف مضاربة، فأنفق الربح". 3
وعن يحيى بن يمان قال لي سفيان: "إن اقتصرت على خبزك وبقلك، لم يستعبدك هؤلاء". 4
1تاريخ بغداد (9/ 161).
2الطبقات الكبرى (6/ 372).
3سير أعلام النبلاء (7/ 277).
4الحلية (6/ 378).