المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌فصلفي حكم ترك السنن

‌فصل

في حكم ترك السنن

تقدَّم أن للحنفية اصطلاحاً خاصاً بهم في «السُّنة» فهم يفرقون بينها، وبين «النَّفْل» ، ونشأ عن هذا التفريق: ترتيب حكمٍ لكلِّ واحدٍ منهما.

قال البزدوي في أصوله:

«والسنَنُ نوعان: سنَّة الهدى؛ وتاركها: يستوجب: إساءةً، وكراهيةً.

والزوائِدِ؛ وتاركها: لا يستوجب إساءة

وأما النفلُ فما يثاب المرء على فعله، ولا يعاقب على تركه

» اهـ.

قال علاء الدين البخاري في شرحه لأصول البزدوي، المسمى «كشف الأسرار» (1).

«قوله: «سنَّة الهدى» يعني: سنةً أخذها من تكميل الهدى - أي الدين - وهي التي تعلق بتركها: كراهية وإساءة

وهي مثل: الأذانِ، والإقامة، والجماعة، والسنن الرواتب.

(1) 2/ 567 - 568، ط دار الكتاب العربي، تحقيق محمد المعتصم بالله.

ص: 57

ولهذا قال محمد - أي ابن الحسن - في بعضها: إنه يصير مسيئاً، وفي بعضها: إنه يأثم، وفي بعضها: يجب القضاء، وهي: سنَّة الفجر، ولكن لا يعاقب بتركها، لأنها ليست بفريضة ولا واجبة.

و «الزوائد» أي: النوع الثاني: الزوائد، وهي التي لا يتعلق بتركها كراهة ولا إساءة، نحو: تطويل القراءة في الصلاة، وتطويل الركوع والسجود، وأفعاله خارج الصلاة من المشي، واللبس، والأكل.

فإن العبد لا يطالب بإقامتها، ولا يأثم بتركها، ولا يصير مسيئاً.

والأفضل أن يأتي بها، كذا في بعض مصنفات الشيخ

قوله: «وأما النفل فما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه» .

قال القاضي الإمام: نوافل العبادات هي التي يبتدئ بها العبدُ زيادةً على الفرائض، والسنن المشهورة.

وحكمها: أن يثاب العبد على فعلها، ولا يذم على تركها، لأنها جعلت زيادةً له لا عليه، بخلاف السنَّة؛ فإنها طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن حيث سبيلها الإِحياءُ، كان حقاً علينا، فعوتبنا على تركه». اهـ.

ومثال النفل عندهم «ما زاد على القَصْرِ من صلاة السفر» وهو الشفع الثاني، لأن العبد لا يلام على تركه رأساً وأصلاً، ويثاب على فعله في الجملة.

فتبيَّن بهذا أن الأقسام عند الحنفية ثلاثةٌ: سنن الهدى - ويقال لها: السنَّة المؤكدة - كالأذان، والإقامة، والسُّنَنِ المروية، والمضمضة

ص: 58

والاستنشاق؛ وسنن الزوائد، كأذان المنفرد، والسواك، ونحوها؛ ونفلٌ ومنه: المندوب والمستحب.

قال ابن عابدين في «حاشيته» (1):

«

أقول: فلا فرق بين النفل وسنن الزوائد من حيث الحكم، لأنه لا يكره ترك كلٌّ منهما».

وإنما الفرق كون الأول - النفل - من العبادات، والثاني - سنن الزوائد - من العادات

قال: وقد مثلوا لسنَّة الزوائد بتطويله صلى الله عليه وسلم القراءة والركوع، والسجود؛ ولا شك في كون ذلك عبادة، وحينئذٍ فمعنى كون سنةِ الزوائد عادةً أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها حتى صارت عادةً له، ولم يتركها إِلا أحياناً، لأن السنَّة هي: الطريقة المسلوكة في الدين فهي في نفسها عبادة، وسميت عادةً لما ذكرنا.

ولما لم تكن من مكملات الدين وشعائره سميت: سنَّة زوائد، بخلاف سنَّة الهدى، وهي: السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلل تاركها، لأن تركها: استخفاف بالدين، وبخلاف النفل، فإنه كما قالوا: ما شرعَ لنا زيادة على الفرض والواجب والسنَّة بنوعيها، ولذا جعلوه قسماً رابعاً، وجعلوا منه: المندوب، والمستحب، وهو ما ورد بد دليل ندبٍ يخصه، كما في «التحرير» .

فالنفل: ما ورد به دليل ندبٍ عموماً أو خصوصاً، ولم يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان دون سنَّة الزوائد، كما صرَّح به في «التنقيح» . وقد

(1) 1/ 103، ط 2 الحلبي، عام 1386 هـ.

ص: 59

يطلق النفل على ما يشمل السنن الرواتب، ومنه قولهم: باب الوتر والنوافل، ومنه تسمية الحج نافلةً

إلخ». اهـ.

وتبيَّن أن الأحكام المترتبة على هذه الأقسام كما يلي:

أما سنن الهدى: فإن فاعلها يثاب، وتاركها بلا عذرٍ - على سبيل الإصرار - يستحق الحرمان من الشفاعة (1)، ويستوجب اللوم، والتضليل لاستخفافه بالدين.

أما سنن الزوائد: فإنه يثاب على فعلها، ولا يستوجب تاركها إساءة ولا كراهة.

أما النفل فحكمه حكم السنن الزوائد (2).

بقي مسألة، وهي: هل يلحق تارك سنن الهدى - عندهم - الإثمُ، أو لا؟

نَقَلَ علاء الدين البخاري في «كشف الأسرار» (3)، عن أبي اليسر أنه قال:

«وأما السنَّة فكل نَفْل واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل التشهُّد في الصلوات، والسنن الرواتب.

(1) اعتماداً على حديث يذكره فقهاء الأحناف، لفظه:(من ترك سنتي لم ينل شفاعتي) ولم أقف على إسنادٍ له، وقد أنكره بعض الحنفية المعاصرين.

(2)

وهنا تفاصيل أخرى عند الحنفية لا فائدة هنا من ذكرها، كالخلاف في المستحب والمندوب هل يرادفان النفل أم لا؟ والمستحب والمندوب هل هما مترادفان أم لا؟

(3)

2/ 563.

ص: 60

وحكمها: أنه يندب إلى تحصيلها، ويلام على تركها، مع لحوقِ إثمٍ يسير». أهـ.

ونقل ابن عابدين في «حاشيته» (1) عن كتاب «البحر» أنه قال:

«الذي يظهر من كلام أهل المذهب: أن الإثم منوط بترك الواجب أو السنَّة المؤكدة على الصحيح، لتصريحهم بأن من ترك سنن الصلوات الخمس، قيل: لا يأثم، والصحيح أنه يأثم، ذكره في «فتح القدير» ». اهـ.

هذا مجمل تأصيل الحنفية في هذا المسألة، وما ذكروه من الأمثلةِ المندرجة تحت «التقسيم» فهو باعتبار ما رجّحوه وذهبوا إليه، فتنبه لذلك، لئلا يقع عندك إشكالٌ.

وقد وافقهم في الحكم بالتأثيم أفراد من علماء المذاهب الأخرى، منهم القاضي من الحنابلة (2)، وغيره.

* * *

أما الجمهور فإنهم يصرِّحون بحكم السنَّة المرادفةِ للمندوبِ والنفل والمستحب في ضمن تعريفاتهم لها، فيقولون: هي «ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه» (3).

(1) 1/ 104.

(2)

الفروع لابن مفلح (6/ 560)، ط آل ثاني.

(3)

الحكم التكليفي في الشريعة الإسلامي، للبيانوني، ص: 171، ط 1 دار القلم - دمشق.

ص: 61

إِلَاّ أنَّ هناكَ سنناً - كالوترِ وركعتي الفجر - يُشدِّدون في تركها مطلقاً.

كما أنَّهُمْ يُسَوِّغونَ: الإنكار على مَنْ تركَ سنةً ولو لم تصل إلى درجة «الوتر» ونحوه.

فمن الأول: قول الإمام مالك في «الوتر» : «ليس فرضاً؛ ولكن من تركه أُدِّبَ، وكانت جرحةً في شهادته» (1). اهـ.

وقال الإمام أحمد: «من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل شهادته (2)» . اهـ.

قال ابن مفلح في «الفروع» (3):

«وإنما قال هذا فيمن تركه طول عمره، أو أكثره؛ فإنه يُفَسَّقُ بذلك، وكذلك جميع السنن الراتبة إذا داومَ على تركها.

لأنه بالمداومة يحصلُ راغباً عن السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من رغب عن سنتي فليس مني» .

ولأنه بالمداومة تلحقُهُ التهمة بأنه غير معتقدٍ لكونه سنَّةً، وهذا

(1) هكذا نقل ابن حزم (2/ 314)، هذا القول ونسبه إلى مالك، والمشهور عند المالكية، قول سحنون: يجرح تاركه، وقول أصبغ: يؤدب، انظر شرح العلامة زرّوق على الرسالة 1/ 184، ط 1 الجمالية بمصر.

(2)

المغني (2/ 594)، ط 1 هجر تحقيق الدكتورين: عبد الله بن عبد المحسن التركي، وعبد الفتاح الحلو.

(3)

6/ 560 - 561.

ص: 62

ممنوعٌ منه، ولهذا قال عليه السلام:«أنا بريء من كلِّ مسلمٍ بين ظهراني المشركين لا تتراءى ناراهما» (1).

وإنما قال ذلك لأنه متّهم في أنه يكثّر جمعهم، ويقصد نصرهم، ويَرْغب في دينهم.

وكلام أحمد خُرَّج على هذا.

وكذا في «الفصول» : الإدمان على ترك هذه السنن الراتبة غير جائز، واحتجّ بقول أحمد في الوتر، لأنه يُعَدّ راغباً عن السنة.

وقال بعد قول أحمد في الوتر: وهذا يقتضي أنه حكم بفسقه.

ونَقَلَ جماعةٌ: مَنْ تركَ الوتر ليس عدلاً

» اهـ.

وقال النووي في «روضة الطالبين» (2):

(1)(3 (أخرجه أبو داود في الجهاد من سننه (3/ 104)، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله بلفظ (أبا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تَرَاءى نارَاهُما).

قيل معناه: لا يستوي حكماهما، وقيل: إن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم، حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها

اهـ. من الخطابي (3/ 437) معالم السنن.

والحديث أخرجه الترمذي في كتاب السير من جامعه (5/ 328، رقم 1604)، عن قيس، عن جرير به.

وعن قيس مرسلاً، قال: وهو أصح

إلخ، وقد رواه النسائي 8/ 36 مرسلاً، وهو الذي رجحه الأئمة: البخاري، والدارقطني، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي.

(2)

(11/ 233) ط المكتب الإسلامي.

ص: 63

«

ومن اعتاد تركها - أي السنن الرواتب

- ردَّت شهادتُهُ، لتهاونه بالدين، وإشعارِ هذا بقلَّة مبالاته بالمهمَّات.

وحكى أبو الفرج في غير الوترِ وركعتي الفجر: وجهان؛ أنه لا تُرَدُّ شهادته باعتياد تركها». اهـ.

وقد سئل الرَّمْلي عن القولين اللذين حكاهما أبو الفرج أيهما المعتمد؟ فأجاب: بأن المعتمد عدم ردِّ شهادته، وهو مقتضى قولهم: المداومة على ترك السنن الراتبة وتسبيحات الصلاة: يقدح في الشهادة». اهـ (1).

* * *

وقال شيخ الإسلام:

«الوتر سنَّة مؤكدة باتفاق المسلمين، ومن أصرَّ على تركه فإنه تردُّ شهادته.

ثم حكى تنازع العلماء في وجوبه وقال: لكن هو باتفاق المسلمين سنَّة مؤكدة، لا ينبغي لأحدٍ تركه». اهـ (2).

وسئل رحمه الله عمَّن لا يواظب على السنن الرواتب:

فأجاب: «من أصرَّ على تركها دلّ ذلك على قلَّةِ دينه، وردّت شهادته في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما» . اهـ (3).

(1) فتاوى الرملى - هامش فتاوى الهيتمي الكُبْرى - 4/ 151، تصوير: دار الكتب العلمية، ولعل صواب العبارة:(المعتمد ردُّ شهادته).

(2)

مجموع الفتاوى 23/ 88.

(3)

المصدر السابق 23/ 127.

ص: 64

وقال - أيضاً -:

«

حتى أنّ من داوم على ترك السنن التي هي دون الجماعة سقطت عدالتُهُ عندهم ولم تقبل شهادته، فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة؟ فإنه يؤمر بها باتفاق المسلمين، ويلامُ على تركها، فلا يُمَكَّنُ من حُكمٍ ولا شهادة ولا فتياً مع إصراره على ترك السنن الراتبة، التي هي دون الجماعة، فكيف بالجماعة

» اهـ (1).

وقال الشاطبي في «الموافقات» (2):

«إذا كان الفعل مندوباً بالجزء كان واجباً بالكلِّ، كالأذان في المساجِدِ الجوامِع، أو غيرها

وصدقة التّطوُّع، والنكاح، والوِتْر

وسائر النَّوافل الرواتب؛ فإنها مندوبٌ إليها بالجزء، ولو فُرِضَ تَرْكُها جُمْلَةً: لَجُرِحَ التارِكُ لها، ألا ترى أنّ في الأذان إظهاراً لشعائر الإسلام، ولذلك يستحِقُّ أهل المصر القِتَالَ إذا تركوهُ

والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع، من تكثِيْرِ النَّسْلِ، وإبقاءِ النَّوع الإنسانيّ، وما أشبهَ ذلك.

فالتركُ لها جملة: مؤثِّر في أوضاع الدِّينِ إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له، فلا محظور من الترك». اهـ.

* * *

ومن الثاني: ـ وهو تسويغ الإنكار على منْ ترك السُّنَنَ - ما ذكره

(1) المصدر السابق 23/ 253.

(2)

1/ 79 - 80، ط محمد محيي الدين عبد الحميد.

ص: 65

الحنابلة - رحمهم الله تعالى - من أن إنكار المنكر قد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً.

فيكون واجباً إذا تُرِكَ الواجبُ، وفُعل الحرامُ.

ويكون مندوباً إذا تُرِكَ المندوبُ، وفُعل المكروه.

وهذا أيضاً عند غير الحنابلة، كما ذكره العلامة ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (1).

قال النووي في شرح مسلم (2) على حديث أبي هريرة في إنكار عمر على عثمان رضي الله عنهم عندما تأخَّرَ عن التكبير لصلاة الجمعة، وعندما تركَ الغُسْلَ لها:

«فيه

الإنكار على مخالف السنَّة، وإن كان كبير القدر». اهـ.

وقال عليه الحافظ في «الفتح» (3):

«وفي هذا الحديث من الفوائد

وإنكار الإمام على من أخلَّ بالفضل وإن كان عظيم المحلّ، ومواجهتُهُ بالإنكار ليرتدعَ مَنْ هو دونه بذلك». اهـ.

وقال الحافظ - أيضا - في معرض المناقشة:

«الإنكار قد يقع على ترك السُّنَّة» . اهـ (4).

* * *

(1) 1/ 194، ط 1 المنار، عام 1348 هـ.

(2)

6/ 134 ط الحلبي.

(3)

2/ 360.

(4)

الفتح 2/ 210.

ص: 66

فصل

وقد وردت أحاديث وآثار تتضمَّن اللوم والإنكار على من ترك سُنَّة، نذكر طرفاً منها، وكلام أهل العلم عليها:

فمن ذلك ما رواه مسلم في «صحيحه» (1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً - وفي رواية له «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً في مؤَخَّر المسجد» - فقال لهم:

«تقدَّموا، فائتموا بي، وليأتم بكم مَنْ بعدكم؛ لا يزال قوم يتأَخَّرون حتى يؤخِّرهم الله» .

قال النووي في «شرحه» :

«حتى يؤخرهم الله تعالى عن رحمته، أو عظيم فضله، ورفْع المنزلة، وعن العلم، ونحو ذلك» . اهـ.

وقال ابن علان في «دليل الفالحين» (2):

«[لا يزال قومٌ يتأخرون] أي عن اكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل [حتى يؤخرهم الله] عن رحمته، وعظيم ثوابه، وفضله، ورفيع

(1) 4/ 158.

(2)

3/ 583.

ص: 67

منزلةِ أهل قربه، حتى يكون عاقبة أمرهم النار، كما جاء في رواية».اهـ.

والرواية التي أشار إليها، هي ما رواه عبد الرزاق في المصنف «2/ 52» قال: أخبرنا عكرمة بن عمَّار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال قومٌ يتخلفون عن الصفِّ الأول حتى يخلِّفَهُمُ الله في النار» .

وأخرجه من طريق عبد الرزاق: أبو داود في سننه «1/ 438» - وبوّب عليه: باب كراهية التأخُر عن الصفِّ الأول -، وابنُ خزيمة في صحيحه (3/ 27) - وبوَّب عليه: باب التغليظ في التخلُّف عن الصف الأول -، وابنُ حبان في صحيحه «5/ 529 / الإحسان» وغيرهم. وإسناده ضعيف، عكرمة بن عمَّار اليَمَامي مضعَّفٌ في روايته عن يحيى بن أبي كثير عند الأئمة.

ومنها ما رواه البخاري في صحيحه - باب إثم من لم يتم الصفوف - عن أنس رضي الله عنه أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرتَ مِنَّا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:

«ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف» .

والاحتجاج بهذا الحديث على ما نحن فيه ينبني على قولِ من قال: إن تسوية الصفوفِ مستحبَّة لا واجبةٌ.

قال الحافظ في «الفتح» (1):

(1) 2/ 209 (الفتح).

ص: 68

«ونازعَ - ابن حزمٍ - من ادعى الإجماع على عدم الوجوب بما صح عن عمر أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصفّ، وبما صحَّ عن سويد بن غفلة قال: «كان بلال يسوي مناكبنا، ويضرب أقدامنا في الصلاة» ، فقال: ما كان عمر وبلالُ يضربانِ أحداً على تركِ غير الواجب، وفيه نظر، لجواز أنهما كانا يريان التَّعْزِيْرَ على تركِ السُّنةِ». اهـ.

وقال الحافظ - أيضاً - على حديث أنسٍ مرفوعاً: «سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة» :

«واستدلَّ ابن حزم (1) بقوله: «إقامة الصلاة» على وجوب تسوية الصفوف قال: لأن إقامة الصلاة واجبةٌ، وكل شيء من الواجب واجبٌ.

ولا يخفى ما فيه، ولا سيما وقد بيّنا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة.

وتمسَّك ابن بطّال بظاهر لفظ أبي هريرة: (فإن إقامة الصف من حُسْنِ الصلاة» فاستدلّ به على أنَّ التسويةَ سنَّة، قال: لأن حُسْنَ الشَيءِ زيادة على تمامه.

وأُورِدَ عليه رواية «من تمام الصلاة» .

وأجاب ابنُ دقيق العيد، فقال: قد يؤخذ من قوله: «تمام الصلاة» الاستحباب، لأنَّ تمام الشيء في العرفِ أمرٌ زائدٌ على حقيقته التي لا يتحقَّق إِلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتمُّ

(1) ينظر (المحلَى) 4/ 75، ط مكتبة الجمهورية العربية.

ص: 69

الحقيقةُ إلا به. كذا قال!! وهذا الأخذ بعيدٌ، لأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دلّ عليه الوضع في اللسانِ العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عُرْف الشارع، لا العرف الحادث. اهـ (1).

أما حديث: «لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ اللهُ بين وجوهكم» .

فقد اختلف في هذا الوعيد هل يحمل على الحقيقة أم المجاز؟ فمن حَمَلَهُ على الحقيقة لزمه القول بالوجوب» (2).

هذا وقد حكى ابن رشد الإجماعَ على عدم الوجوب، فقال في «بداية المجتهد» (3):

«أجمع العلماء على أنَّ الصفَّ الأول مُرَغَّبٌ فيه، وكذلك: تراص الصفوفِ وتسويتها، لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» . اهـ. وعلى كلّ فإن المسألة ليس هذا موضع بسطها؛ إلا أن المقصود بها هنا: أن جماهير الأمَّة يرون سُنِّيَّة تراصِّ الصفوفِ وينكرون على من خالفها.

فتحصَّل المراد، وهو: الإنكار على من خالف السنن، عند العلماء.

ومن ذلك ما اتفقا عليه من حديث عليَّ بن حُسَيْن، أن حُسَيْن بن عليَّ أخبره، أنَّ عليَّ بن أبي طالب أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقَه وفاطمةَ بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال:«ألا تصليان؟» فقلتُ: يا رسول الله

(1) فتح الباري 2/ 209.

(2)

ينظر الفتح 2/ 207.

(3)

1/ 187، ط دار الكتب الحديثة.

ص: 70

أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلتُ ذلك، ولم يرجعْ إليَّ شيئاً، ثم سمعتُهُ وهو مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخذَه، وهو يقول:

{وَكَانَ اَلإِنَسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً} .

وأخرجه النسائي في سننه «3/ 206» باب الترغيب في قيام الليل من طريق ابن إسحاق، حدثني حكيم بن حكيم، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده عليّ بن أبي طالب قال:

دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هَوِيًّا من الليل فلم يسمع لنا حِسًّا فرجع إلينا فأيقظنا، فقال:«قوما فصَليا» قال: فَجَلَسْتُ وأنا أعْرُكُ عيني، وأقول: إِنا واللهِ ما نُصَلِّي إلا ما كتب الله لنا، إنما أنفُسُنا بيد الله، فإن شاء أن يبعثنا بعثنا: قال: فَوَلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول - ويضربُ بيده على فخِذِهِ -: ما نُصَلِّي إلا ما كَتَبَ الله لنا.

{وَكَانَ اَلإِنَسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً} .

وقد اختلف أهل العلم في قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، هل هو إنكاراً على عليّ رضي الله عنه أو تعجب من سرعة جوابه

، أو تسليم لعذرهما وأنه لا عتب عليهما.

والراجح - والله أعلم - ما اختاره العلامة السندي في «حاشيته على سنن النسائي» حيث قال على قوله: وهو يقول:

{وَكَانَ اَلإِنَسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً} .

«إنكارٌ لجدل عليّ، لأنه تمسَّك بالتقدير والمشيئة في مقابلة

ص: 71

التكليف وهو مردودٌ، ولا يتأتى إلا عن كثرة جدله. نعَم: التكليف ههنا ندبي لا وجوبي، فلذلك انصرف عنهم وقال ذلك. ولو كان وجوبياً لما تركهم على حالهم، والله تعالى أعلم». اهـ (1).

* * *

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 463)، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«ما قعد قومٌ مقعداً لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب» .

وهو في سنن أبي داود (5/ 180) بلفظ:

«ما من قومٍ يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة» .

وفي سنن أبي داود - أيضاً - بلفظ:

«من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة» .

قال الهيثمي في المجمع «10/ 79» عن إسناد الإمام أحمد: «رجاله رجال الصحيح» . اهـ.

وقال النووي في الأذكار «ص: 255» ، عن إسناد أبي داود للفظ

(1) حاشية السندي 1/ 239، ط الميمنية - بهامش السنن - عام 1312 هـ.

وينظر الخلاف في: شرح النووي على مسلم (6/ 65)، وفتح الباري (3/ 11).

ص: 72

الأول: «إسناده صحيح» . اهـ.

وقد أخرجه الترمذي في سننه «5/ 461» من طريق سفيان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم» .

قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» . اهـ.

وقال الحاكم «1/ 496» «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصالح ليس بالساقط» . اهـ.

فتعقبه الذهبي، وقال:«قلت: صالحٌ ضعيف» . اهـ.

وهو قد اختلط، ورواية سفيان الثوري عنه بعد الاختلاط، كما نص على ذلك ابن معين، وغيره.

ومما يَدُلُّ على أنه لم يتقن لفظ هذا الحديث أن الإمام أحمد رواه من طريق ابن أبي ذئب، عن صالح، عن أبي هريرة، بلفظ:«ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليه ترة» «2/ 453» .

وابن أبي ذئب سمع من صالحٍ قبل أن يُخرِّف، قاله ابن معين.

وقال الجوزجاني: «سماع ابن أبي ذئبٍ منه قديم» . اهـ (1).

(1) ميزان الاعتدال (2/ 303).

ص: 73

ورواه الإمام أحمد أيضاً «2/ 495» من طريق زياد بن سعد أن صالحاً مولى التوأمة أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قعد القوم في المجلس، ثم قاموا ولم يذكروا الله فيه كانت عليهم فيه حسرة يوم القيامة» . وزياد قد سمع من صالح قبل الاختلاط نص على ذلك ابن عدي (1).

فجعل الأحاديث السابقة مقوِّيةً لحديث صالح هذا بهذا اللفظ: لا يصحُّ، لأننا - حسب اطلاعنا - أدركنا أنه لم يتقن اللفظ.

فإن تبَّين أنه قد أتقن فالحديث لا يدلُّ على الوجوب، فقد قال ابن علان في «شرح الأذكار» (2) عند قوله في الحديث:«فإن شاء عذَّبهم» : أي على ذنوبهم الماضية، لا على ترك الذكر، فإنه ليس بمعصيةٍ، كذا في «الحرز» .

وقيل: إنه على سبيل الزجر والتهديد، إذ لله أن يعذب من غير ذنبٍ، فكيف وتفويتُ ذكره، والصلاة على أفضل خلقه، بالكلمات التي تجري في المجالس الموجبة للعقوبة غالباً في غايةٍ من التفريط والاستهتار بجانب الحق سبحانه ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم. فعُلِمَ أن ذلك المجلس لما كان مظنَّة للذنب نزل ما وقع فيها منزلةَ الذنب، فهُدِّدوا بذلك تنفيراً للناسِ عن خلوَّ مجالسهم عن أحد الأمرين: الذكر، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم». اهـ.

(1) الكامل (4/ 1376).

(2)

6/ 175.

ص: 74

«قال الخطابي في «معالم السنن» (1):

«أصل الترة: النقص - ومعناها ههنا: التَّبِعَةُ» . اهـ.

وقال النووي: «ترة» أي نقص، وقيل: تبعة، ويجوز أن يكون حسرة، كما في الرواية الأخرى». اهـ (2).

* * *

ومن ذلك ما اتفقا عليه من حديث أبي هريرة، قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة إذْ دخل عثمان بن عفان، فعَرَّض به عمر، فقال: ما بالُ رجالٍ يتأخَّرُوْنَ بعد النِّداء! فقال عثمان: يا أمير المؤمنين؛ ما زدْتُ حين سمعتُ النِّداء أنْ توضأتُ، ثم أَقْبَلتُ، فقال عمر: والوضوء أيضاً! ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» .

هذا لفظ مسلم.

وقد تقدم ذكر كلام النووي وابن حجر على الحديث، حيثُ استنبطوا منه: الإنكار على مخالف السنَّة، وإن كان كبير القدر (3).

قال الحافظ:

«واستُدِل به على أنَّ غُسْل الجمعة واجبٌ؛ لقطع عمر الخطبةَ، وإنكاره على عثمان تركه.

(1) 7/ 201.

(2)

الأذكار - مع الشرح - 6/ 75.

(3)

انظر ص: 66 من هذه الرسالة.

ص: 75

وهو متعقب: لأنه أنكر عليه تركِ السُّنَّة المذكورة، وهي: التبكير إلى الجمعة، فيكون الغسل كذلك». اهـ (1).

* * *

ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور في «سننه» ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:

«ما أصبح رجلٌ علي غير وترٍ إلا أصبح على رأسه جريرٌ، قَدْرَ سبعين ذراعاً» .

قال الحافظ في «الفتح» (2). «إسناده جيد» . اهـ.

والجرير: حَبْلٌ من أَدَمٍ نحو الزِّمام، قاله ابن الأثير في «النهاية» 1/ 259.

* * *

(1) الفتح 2/ 360.

(2)

3/ 25.

ص: 76

فصل

وقد ذهب ابن حزمٍ إلى إنكار ما تقدم من لحوق اللومِ والعتاب على من ترك السنن.

قال في «المحلى» (1) على قول الإمام مالك في الوتر: «ليس فرضاً، ولكن من تركه أُدِّبَ، وكانت جُرْحةً في شهادته» .

قال أبو محمد: «وهو خطأٌ بيِّن، لأنه لا يخلو تاركه أن يكون عاصياً لله عز وجل أو غير عاصٍ؛ فإن كان عاصياً لله تعالى فلا يعصي أحد بترك ما لا يلزمه وليس فرضاً؛ فالوتر إذن فرضٌ، وهو لا يقول بهذا.

وإنْ قال: بل هو غير عاصٍ لله تعالى.

قيل: فمن الباطلِ أنْ يُودَّبَ من لم يعصِ الله تعالى، أو أن تجرح شهادة مَنْ ليس عاصياً لله عز وجل؛ لأن من لم يعصِ الله عز وجل فقد أحسن، والله يقول:

{مَا عَلَى اُلمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} . اهـ.

وقد استدل ابن حزم على هذا بما أخرجه من طريق مسلم بن الحجَّاج، ثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن أبي سهيل بن

(1) 2/ 314.

ص: 77

مالك، عن أبيه، أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» «خمس صلواتٍ في اليوم والليلة» قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: «لا إلا أن تتطوع

»، وذكر باقي الحديث: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق» .

وقد اتفق الشيخان على إخراجه من طريق مالكٍ.

وأخرجه البخاري في كتاب الصيام من صحيحه، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل، عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله، به، وفيه: قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك بالحقِّ لا أتطوَّع شيئا ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئاً

قال ابن حزمٍ: «وهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على قولنا، وأنه ليس إلا واجب أو تطوُّع، فإن ما عدا الخمس فهو تطوُّع؛ وهذا لا يسع أحداً خلافه» . اهـ.

وقد جعل ضابط الواجبِ: بأن مَنْ تركه عامداً كان عاصياً لله تعالى.

والتطوُّع: ما إن تركه المرء عامداً لم يكن عاصياً لله تعالى.

أقول: إن مما لا ريب فيه أن مَنْ أتى بهذه الفرائض كما أمره الله تعالى، تامَّةَ الأركان والشروط والواجبات: فهو مفلحٌ إن شاء الله تعالى، داخلٌ الجنَّةَ.

إلا أن هذا ليس مانعاً من إلحاق اللوم به، كما تقدم في حديث

ص: 78

أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قعد قومٌ مقعداً لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرةً يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب» .

ولذا قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» (1) على هذا الحديث:

«ويحتمل أنه أراد أنه لا يصلي النافلة، مع أنه لا يخِلٌّ بشيءٍ من الفرائض، وهذا مفلح بلا شك وإن كانت مواظبته على تركِ السنن مذمومةً وتردُّ بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاصٍ، بل هو مفلحٌ ناجٍ، والله أعلم» . اهـ.

ولهذا فإن ابن عمر لما كان محافظاً على الفرائض تاركاً لقيام الليل حُذِّر في منامه، حيث رأى أن ملكين أخذاه فذهبا به إلى النار، قال: فإذا هي مطويَّة كطيَّ البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناسٌ قد عرفتهم، فجعلتُ أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا مَلَكٌ آخر، فقال لي: لَمْ تُرَعْ.

فقصصتُها على حفصة، فقصتها حفصةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» ، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.

وقد بوَّب عليه البخاري في كتاب التهجد من «صحيحه» : باب فضل قيام الليل (2).

(1) 1/ 167.

(2)

(3/ 6 فتح)، ورواه مسلم في فضائل الصحابة (16/ 38 نووي).

ص: 79

قال المهلب: «إنَّما فسَّرها بقيام الليل لأنه لم يَرَ شيئا منه يغفل عنه من الفرائض، فُيذَكَّرُ بالنار، وعَلِمَ مبيته في المسجد، فعبَّرَ ذلك بأنه مُنَبِّهٌ على قيام الليل» (1). اهـ.

وفي الحديث إيماءٌ إلى أن قيام الليل ينجي من النار.

وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث، الآثار، وكلام العلماء، في هذا الشأن فأغنى عن إعادته.

هذا وقد تعدَّدت مناهج العلماء في الإجابة عن حديث الأعرابي، وكلها لا تخلو من نقدٍ.

وعندي أن أولاها بالتأمل - فيما يتعلَّق بترك النوافل فقط - ما ذكره الشيخ محمد أنور الكشميري في «شرحه لصحيح البخاري» (2) حيث قال:

«والوجه عندي: أن هذا الرجل جاء إلى صاحب الشريعة، واسترخص منه بلا واسطة، فَرَخَّص له الشارع خاصةً «في ترك النفل» فيصير مستثنى من القواعد العامة، كما في الأضحية:«ولا تجزيء عن أحد بعدك» .

وهذا بابٌ يعلمه أهل العرفِ، فلا أثر له على القانون العام». اهـ.

(1) دليل الفالحين لابن علان 3/ 652.

(2)

فيض الباري على صحيح البخاري 1/ 138 بواسطة نقل مؤلف (الحكم التكليفي) ص: 178.

ص: 80

وهذا التخصيص إنما لَجَأَ إليه: توفيقاً بين النصوصِ الآمرة بالتمسك بالسنن، والحاثَّةِ على العمل بها، وبين هذا النصّ القاضي ظاهُره: بأن لأفرادِ الأمةِ أن يعقدوا العزم على ترك السنن مطلقاً إذا حافظوا على الفرائض، وهذا - والله أعلم - يتنافى مع حث الشارع على السنن، وترغيبه فيها

فوجب حمله على الخصوصية.

أما ما ذكره ابن حزم عن سعيد بن جبير أنه سئل عن من لم يوتر حتى أصبح؟ قال: سيوتر يوماً آخر.

فيحمل على من تركه المداومة على الترك، أو على أنه لا يرى قضاء الوتر، ثم إنه معارضٌ بإنكار عمر على عثمان ترك سنَّة التكبير إلى الجمعة وهي دون الوتر، فكيف به؟

وأما ما ذكره عن سعيد بن المسيب: أنه سأله رجل عن الوتر؟ فقال سعيد: أوتر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن تركت فليس عليك، وصلى الضحى، وإن تركت فليس عليك

فهذا فيه نفيٌ للوجوب، ولا خلاف فيه عندنا؛ وإنما الكلام في مقام الإنكار واللوم على من داوم على ترك السنن.

وأما قول ابن حزم - بعد إيرادِ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «يا عبد الله لا تكن مثل فلانٍ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل» ، وقوله عليه السلام لحفصة عن أخيها عبد الله بن عمر - رضي الله عن جميعهم -:«نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» -: إنَّ هذه الأوامر كلها ندبٌ، لا يجوز غير ذلك». اهـ.

ص: 81

فهو كذلك، ولكنَّ ابن عُمَرَ خُوِّف - في المنام - على تركه هذا المندوب بالنار، وذمَّ النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي ترك قيام الليل، حيث نهى عبد الله بن عمرو أن يكون مثله (1).

ففي هذا دلالة على ذمَّ تارك السّنَّة، من غير لحوقِ إثمً عليه.

وفي المصنف لابن أبي شيبة «1/ 244» في باب من يقول إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك من أبواب الصلاة، أن سعد بن أبي وقاصٍ ضَرَبَ يَدَ ابنِه مصعب لَمّا جعل يديه بين ركبتيه في الركوع، وقال:«كنا نفعل هذا ثم أمرنا بالركب» .

وفيه في باب من كان يطبق يديه بين فخذيه: أن عبد الله بن مسعود ضَرَبَ يد الأسود لما وضعها على ركبتيه.

وليس وضع اليدين على الركبتين، ولا بينهما من واجبات الصلاة، وقد ضَرَبَ ابنُ مسعود وسعدٌ على ذلك إنكاراً على من خالف السنَّة (2).

فثبت بذلك أن تارك السنن يعاتب ويلام، والله تعالى أعلم.

(1) وقع في فهارس مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (37/ 72) ما نصه: (لو ترك الرجل قيام الليل لم يكن مبتدعاً، ولا مستحقاً للذم والعقاب). اهـ. وبالرجوع إلى المحال عليه، وهو (23/ 95) تبين أن العنوان غير مطابق لمضمون الكلام: (بل لو ترك الرجل ما هو أثبت منها كتطويل قيام الليل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوله

لم يكن خارجاً عن السنةَّ، ولا مبتدعاً، ولا مستحقاَّ للذم). اهـ.

(2)

والصحيح ما ذهب إليه سعدٌ، لثبوت نسخ التطبيق، وإنكار كل واحدٍ منهما باعتبار ما يعتقد سنيته.

ص: 82

(1) 1/ 130 ط دار ابن عفان.

(2)

5/ 62 ط مؤسسة الرسالة.

ص: 83