الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة:
هل في المسائل الاجتهادية إنكارٌ
؟
الكلام على مثل هذه القضية يحتاج إلى مؤلَّفٍ مستقلٍّ، إلَاّ أننا هنا نختصر قدر ما يحصلُ به البيان، فنقول:
يخطئ كثير من الناسِ حينما يعتقدون أنَّ مسائِلَ الخلافِ هي مسائل الاجتهاد، ولذا وقعوا في مزلقٍ خطيرٍ حيث قالوا:
«إن مسائل الخلافِ لا إنكار فيها» .
وهذا باطل من القولِ، يلزم عليه من اللوازم الفاسدة ما يعطِّلُ جملةٍ كبيرةً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد أجاد العلامة ابن القيم رحمه الله في ردِّ هذه المقولةِ في كتابه «إعلام الموقعين» (1) حيث قال:
وقولهم: «إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها» ليس بصحيح، فإن الإنكار إمَّا أن يتوجَّه إلى القولِ والفتوى، أو العمل:
أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنةً، أو إجماعاً شائعاً: وَجَبَ
(1) 3/ 288، وقد نقل العلامة ابنُ مفلح هذا الكلام في كتابه (الآداب الشرعية) 1/ 189 منسوباً إلى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه:(إبطال الحيل)، وعنه السفاريني في كتابه (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) 1/ 219.
إنكارُه اتفاقاً، إن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومخالفتِهِ للدليل إنكار مثله.
وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماعٍ: وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار.
وكيف يقول فقيهٌ: لا إنكار في المسائل المختلفِ فيها، والفقهاءُ في سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكمِ إذا خالفَ كتاباً أو سنَّة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماءِ؟
وأمَّا إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغٌ: لم تنكرْ على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائِل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العَمَل به وجوباً ظاهراً مثل حديثٍ صحيح لا معارض له جنسه فَيَسُوْغُ فيها - إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العَمَلُ به - الاجْتِهَادُ: لتعارض الأدلَّة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في قول العالم: «إنَّ هذه المسائل قطعية أو يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد» ، طعن على مَنْ خالفها، ولا نسبة له إلى تعمُّد خلال الصواب.
والمسائل التي اختَلَفَ فيها السلفُ والخلفُ وقد تيقنّا صحةَ أحدِ القولين فيها كثير:
مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة
…
إلى أضعافِ أضعافِ ذلك من المسائل.
ولهذا صرَّح الأئمة: بنقض حُكمَ مَنْ حَكَمَ بخلافِ كثيرٍ من هذه المسائل، مِنْ غيرِ طعنٍ منهم على من قال بها.
وعلى كلِّ حالٍ: فلا عذر عند الله يوم القيامة لمنْ بَلَغَهُ ما في المسألةِ من هذا البابِ وغيرِه من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نَبَذَها وراء ظهرِه، وقلَّدَ من نهاهُ عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة
…
». اهـ كلامه رحمه الله وهو في غاية الوضوح والإتقان.
وإنَّ من المعلومِ عند أهل العلم: أن المسائل الشرعية قسمان:
قسمٌ مجمعٌ عليه.
وآخر مختلفٌ فيه:
والمختلفُ فيه درجاتٌ، فمنه ما يعود الخلاف فيه إلى اللفظ، ومنه ما يكونُ أحدُ جانبي الخلافِ فيه واضحَ الضَّعفِ والسقوطِ: فلا ريب هنا أنه يجب إنكار القول الضعيف ونقض حكمِ مَنْ حَكَمَ به من القضاة.
ومن مسائل الخلاف: تلك المسائل التي تتقارب فيها المدارك وتتكافأ فيها الأدلة، ويكون الحكمُ موكولاً إلى الاستنباطِ من النصِّ الشرعي، وهذا هو المعروف بالمسائل «الاجتهادية» والحكمُ فيها:
أ - التناصح بين المختلفين، ويكون بالمناقشات العلمية المثمرةِ للصواب، وبيان وجهَةِ وحجَّةِ كلِّ قولٍ.
ب - إذا لم يَقْنَع أحدُ الجانبين بحجَّة الآخر وجهتِهِ، فلا يكون ذلك داعياً إلى التغليظ والإنكار والفرقة.
ج - إذا كان عدم الاقتناع مبنياً على غيرِ حجَّةٍ، كأن يكون لتعصب مذهبي، أو هوى، أو نحو ذلك، فيغلّظ وينكر على صاحبِهِ، إذ العِبْرة في المخالفة بالحُجَّة، لا بسواها.
ومن أمثلة هذه المسائل الاجتهادية ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى في أصحابه يوم انْصَرَفَ عن الأحزاب: أنْ لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ الظهرَ إلَاّ في بني قريظة، فتخَّوفَ ناسٌ فوتَ الوقتِ فَصَلُّوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ فاتنا الوقتُ.
قال: فما عنَّفَ - أي النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين.
هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري «العصر» بَدَلَ «الظهر» (1).
ففي هذا الحديث نرى اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في فهم النصِّ الذي سمعُوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فاكتفى كلُّ فريقٍ بذكر مستنده في توجيه النصِّ ودلالته، فلما لم يقنعْ كلُّ واحدٍ من الفريقين بفهم صاحبه عمل كلُّ واحدٍ منهما بما تبيَّن أنه الحقُّ عنده.
ولم يحصل لومٌ ولا تعنيف من بعضهم لبعضٍ، ولا من صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم لهم.
وهذا له نظائر كثيرة - في المسائل الاجتهادية - في سير الصحابة وتابعيهم يطول حصرها.
(1) البخاري (7/ 407 - فتح) ومسلم (12/ 97 - نووي).
وفي مثل هذه المسائل يقول سفيان الثوري رحمه الله:
«إذا رأيت الرجل يَعْمَلُ العَمَلَ الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تَنْهَهُ» (1). اهـ.
ويقول يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله:
وجاء في «كشف الخفا» (3): أن الخطيب أخرج في «رواة مالك» عن إسماعيل بن أبي المجالد، قال: قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب - يعني مؤلفات الإمام مالك - ونفرِّقها في آفاق الإسلام لنَحْملَ عليها الأمة؟
قال: يا أمير المؤمنين! إنَّ اختلاف العلماءِ رحمةٌ من اللهِ تعالى على هذه الأمَّةِ، كلٌّ يَتَّبعُ ما صحَّ عنده، وكلٌّ على هدى، وكلٌّ يريد الله تعالى. اهـ.
وهذه الكلمات وأمثالها محمولةٌ على المسائل الاجتهادية، لأن واقع مَنْ قالها، وغيرِه من السلفِ: الإنكار على مَنْ أخطأ في الفتوى
(1) الفقيه والمتفقه للخطيب 2/ 69 تحقيق إسماعيل الأنصاري.
(2)
جامع بيان العلم وفضلة لابن البر 2/ 80، والبيهقي في (المدخل) كما في (المقاصد الحسنة) ص: 27، ط الخانجي والمثنى.
(3)
1/ 67 - 68 على حديث (اختلاف أمتي رحمة).
والأحكام، إلا ما كان من المسائل الاجتهاديَّة فيقْتصر على المناقشاتِ والمناصحة.
قال ابن القيم رحمه الله:
«
…
بل عند فقهاء الحديث: أنَّ مَنْ شَرِبَ النبيذ المُخْتَلَفَ فيه: حُدَّ، وهذا فوقَ الإنكار باللسانِ.
بل عند فقهاءِ أهلِ المدينةِ: يَفْسُقُ، ولا تُقْبَلْ شهادتُهُ.
وهذا يردُّ قول مَنْ قال: «لا إنكار في المسائل المختلفِ فيها» .
وهذا خلاف إجماع الأئِمَّةِ، ولا يُعْلَمْ إمامٌ من أئمَّةِ الإسلامِ قال ذلك
…
» اهـ.
ولنقتصر على مثالٍ واحدٍ مما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذا الباب.
فقد ذكر أنَّ عبد الله المبارك - رحمة الله - قال:
كنت بالكوفةِ، فناظروني في النَّبيْذِ المختلَفِ فيه، فقلت لهم: تعالوا فلْيحتَجَّ المحتجُّ منكم عمَّن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فاحتجُّوا فما جاءوا عن أحدٍ برخصةٍ إلا جئناهم بسندٍ، فلما لم يبقَ في يَد أحدٍ منهم إلا عبد الله بن مسعود - وليس احتجاجُهُمْ عنه في شدة النبيذ بشيءٍ يصح عنه، إنما يصحُّ عنه أنه لم ينتَبذْ له في الجرِّ الأخضر - قال ابنُ المبارك: فقلتُ للمحتجِّ عنه في الرخصةِ:
يا أحمق، عُدَّ أنَّ ابنَ مسعودٍ لو كان ههنا جالساً فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشِّدَّةِ كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى.
فقال قائل: يا أبا عبد الرحمن: فالنَّخعي، والشَّعبي - وسمَّى عدَّة معهما - كانوا يشربون الحرام؟
فقلتُ لهم: دعوا عند المناظرةِ تسميةَ الرجال، فَرُبَّ رجلٍ في الإسلامِ مناقبه كذا وكذا، وعسى أن تكون منه زلَّة، أفيجوزُ لأحدٍ أن يحتجَّ بها؟
فإن أبيتُمْ فما قولكم في: عطاء وطاووسٍ، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير وعكرمة؟
قالوا: كانوا خياراً.
قلتُ: فما قولكم في الدِّرْهم بالدِّرهمين يداً بيدٍ؟
قالوا: حرامٌ.
فقلت: إن هؤلاءِ رأوهُ حلالاً، أَفَماتوا وهم يأكلون الحرام؟
فبهتوا وانقطعت حجتهم. اهـ.
* * *