المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ السنة عند الفقهاء:

وقد أجاد العلامة الشيخ عبد الغني عبد الخالق في ردِّ هذا القول، وبيان بطلانه، حيث عَقَدَ مبحثاً في كتابه الماتع «حجَّية السُّنَّةَ» (1) لهذا الغرض، يقول في صدره:

السنَّة مع الكتاب في مرتبةٍ واحدةٍ: من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعية، ولبيان ذلك نقول:

من المعلوم: أنه لا نزاع في أن الكتاب يمتاز عن السنة ويفضل عنها: بأنَّ لفظه منزلٌ من عند الله، متعبَّد بتلاوته، معجزٌ للبشر عن أن يأتوا بمثله، بخلافها: فهي متأخرة عنه في الفضل من هذه النواحي.

ولكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما من حيث الحجيَّة: بأن تكون مرتبتها التَّأخُّر عن الكتاب في الاعتبار والاحتجاج، فتُهْدرُ ويُعْمَل به وحده لو حصل بينهما تعارض.

وإنما كان الأمر كذلك: لأن حجيَّةَ الكتاب إنما جاءتْ من ناحية أنه وحي من عند الله

، والسنَّة مساوية للقرآن من هذه الناحية: فإنها وحيٌ مثله، فيجب القول بعدم تأخرها عنه في الاعتبار. اهـ.

خامساً:‌

‌ السنَّة عند الفقهاء:

استيفاء هذا المبحث يحتاج إلى إسهاب كبير، قد لا يعود على القارئ بكثير فائدة فيما يتصل بموضوعنا، إلا أننا نمرُّ على ما قاله فقهاء المذاهب في هذا الصدد على وجه الاختصار، فنقول:

(1) ص: 485 إلى ص: 494.

ص: 24

قول الحنابلة:

قال الفتوحي في «الكوكب» (1) في تعريف «المندوب» :

«والمندوب شرعاً: ما أثيب فاعله - ولو قولاً وعملَ قلبٍ - ولم يعاقب تاركه مطلقاً.

ويُسَمَّى: سنَّةً، ومستحباً، وتطوُّعاَ، وطاعةً، ونفلاً، وقربةً، ومرغباً فيه، وإحساناً؛ وأعلاه: سنَّة، ثم فضيلة، ثم نافلة». اهـ.

وعرَّفه ابن بدران في «المدخل» (2) بتعريف الفتوحي السابق، وزاد:

«سواءُ تركه إلى بدلٍ، أو لا» .

وهو: مرادف للسنة والمستحب.

فالسواك، والمبالغة في المضمضة، والاستنشاق، وتخليلُ الأصابع، ونحو هذا يقال له: مندوب، وسنَّة، ومستحب». اهـ.

وذكر الشيخ أبو طالب البصري في «الحاوي الكبير» (3) أن المندوب ينقسم ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يعظم أجره، فيسمَّى سنةً.

والثاني: ما يقلُّ أجره، فيسمى: نافلةً.

(1) مع شرحه 1/ 402 - 403، ط أم القرى.

(2)

ص: 152، ط الرسالة، تحقيق معالي الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي.

(3)

بواسطة نقل الفتوحي عنه في شرح الكواكب 1/ 404 - 405.

ص: 25

والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين، فيسمى: فضيلةً، ورغيبةً (1). اهـ.

وقال المرداوي في «التحرير» (2): «يسمى المندوب: سنَّةً ومستحباً» . اهـ.

قول الشافعية:

قال البيضاوي في «المنهاج» .

«والمندوب: ما يُحمد فاعله، ولا يذمُّ تاركه؛

ويسمى: سنَّةً، ونافلةً». اهـ.

وقال الرازي في «المحصول» :

«أما المندوب فهو: الذي يكون فعله راجحاً على تركه في نظر الشرع، ويكون تركه جائزاً» .

وعدَّد الرازيُّ أسماءه، وفسَّر معانيها، فذكر منها:

«مُرَغّب فيه، ومستحب، ونفلٌ، وتطوُّع، وسنَّة، وإحسان» .

قال: «ولفظ السنَّة مختص - في العرف - بالمندوب؛ بدليل أنه يقال هذا الفعل واجبٌ، أو سنَّة» . اهـ (3).

(1) ذكر الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه (حجية السنة) ص: 67 أنه لم يعثر في كلام الحنابلة على تحديد لترتيبهم المندوب: سنَّة ثم فضيلة ثم نافلة.

(2)

بواسطة نقل ابن بدران في شرح الروضة 1/ 113، ط 1 الملك عبد العزيز.

(3)

المحصول 1 / ق 1/ 129 - 130، ثم ذكر بعد هذا خلاف بعضهم في إطلاق لفظ السنَّة وأنه لا يختص بالمندوب، بل هو عام في كل ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو بإدامة فعله

إلخ وهذا هو المعنى العام الذي سبق أن بيّناه.

ص: 26

وفي «لطائف الإشارات» :

«ويُسَمَّى المندوبُ: السُّنَّة، والمستحبَّ، والتطوُّعَ ومثلها: الحَسَنُ والنَّفْلُ، والمرغبُ فيه.

فهذه الألفاظ مترادفةٌ عرفاً، خلافاً للقاضي حسين والبغوي والخوارزمي من أصحابنا نفيهم ترادفها، حيث قالوا:

السنَّة: ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

والمستحب: ما فعله مرَّةَّ، أو مرتَّين.

والتطُّوع: ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد (1).

ولم يتعرَّضوا للمندوبِ لشموله الأقسام الثلاثة، فهو مرادفٌ لكلّ منها». اهـ (2).

قال السبكي في «جمع الجوامع» :

«والمندوب، والمستحب، والتطوع، والسنَّةُ: مترادفةٌ، خلافاً لبعض أصحابنا، وهو لفظيُّ» . اهـ.

(1) أي الشرعية.

(2)

لطائف الإشارات شرح نظم الورقات، للشيخ عبد الحميد بن محمد، ص: 11، ط الحلبي، عام 1369 هـ.

وينظر (المجموع) للنووي 4/ 2، ط 1 المنيرية و (مسائل ابن منقور) 1/ 92 - 93، ط 4، عام 1401 هـ.

ص: 27

قال الجلالُ المحليُّ في شرحه (1):

«وهو» أي الخلاف «لفظيٌّ» أي عائداً إلى اللفظ، والتسمية.

إذْ حاصله: أن كلًّا من الأقسام الثلاثة كما يسمى باسمٍ من الأسماء الثلاثة - السنَّة والمستحب والتطوع كما ذُكرَ - هل يُسَمَّى بغيره منها؟

فقال البعض: لا، إذ السنَّة: الطريقة والعادة؛ والمستحب: المحبوب؛ والتطوع: الزيادة.

والأكثر: نعم، ويَصْدُقُ على كلّ من الأقسام الثلاثة أنه: طريقة وعادة في الدين، ومحبوب للشارع بطلبه، وزائد على الواجب». اهـ.

وقال الشَّرواني في حاشيته على «تحفة المحتاج» (2) بعد أن ذكر خلاف القاضي: «مع أنه لا خلاف في المعنى، فإن بعض المسنوناتِ أكد من بعضٍ قطعاً، وإنما الخلاف في الاسم نهاية ومعنى» . اهـ.

قول المالكية:

قال القرافي في «شرح تنقيح الفصول» (3):

«والمندوب: ما رجع فعلُهُ على تركه شرعاً، من غير ذمٍّ» . اهـ.

قال ابن رشد في «المقدمات» (4):

(1) 1/ 127 (بحاشية العطار)، ط 1 المكتبة التجارية الكبرى بمصر.

(2)

2/ 219، تصوير: دار الفكر.

(3)

ص: 71، ط مكتبة الكليات الأزهرية بمصر، ودار الفكر - بيروت.

(4)

1/ 64، دار الغرب الإسلامي، وينظر (نشر البنود على مراقي السعود) 1/ 38 - 40، وشرح الباجي على الموطأ 1/ 226، تصوير: دار الكتاب الإسلامي.

وقال في آخر المبحث: (وهذه كلها عبارات اصطلاح بين أهل الصنعة ولا خلاف في تأكد ركعتي الفجر

) إلخ.

وينظر أيضا (عارضة الأحوذي) لابن العربي 2/ 241.

ص: 28

«والمستحب: ما كان في فعله ثوابٌ، لم يكن في تركه عقابٌ

وهو يَنْقَسِم على ثلاثة أقسامٍ:

سنن، ورغائبُ، ونوافل.

فالسننُ: ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، واقترن بأمره ما يدلُّ على أن مراده به: الندب: أو لم تقترن به قرينة على مذهب من يحمل الأوامر على الندب ما لم يقترن بها ما يدل أن المراد بها الوجوب.

أو ما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على فعله بخلاف صفة النوافل.

والرَّغائب: ما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على فعله بصفة النوافل، أو رغّب فيه بقوله: مَنْ فعل كذا فله كذا.

والنوافل: ما قرّر الشرع أن في فعله ثواباً، من غير أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، أو يُرَغِّب فيه، أو يداوم على فعله». اهـ.

قال التنوخي في شرحه لمتن الرسالة (1) على قول القيرواني: «وركعتا الفجر من الرغائب، وقيل من السنن» : وفائدة الخلاف تفاوت الثواب، فإن ثواب السنَّة أكثر من ثواب الرغيبة والنافلة

هذا في الفعل؛ وأما في الترك عمداً: فإن قلنا إنها سنَّة: جرى فيها الخلاف في تارك السنن عمداً: هل يأثم أم لا؟» اهـ.

(1) 2/ 337 - 338، ط 1 الحمالية بمصر، عام 1332 هـ.

ص: 29

وبعد هذا العرض الموجز لهذه المذاهب نرى أنه لا خلاف بينها في الجملة، وإن اختلفت الألفاظ فإن المعنى واحدٌ.

ولذا قال السبكي في «الإبهاج» (1) على قول البيضاوي «ويسمى سنَّة ونافلة» :

«من أسمائه - أيضا - أنه مرغّب فيه، وتطوع، ومستحب، والترادف في هذه الأسماء عند أكثر الشافعية، وجمهور الأصوليين» .

ثم ذكر خلاف القاضي حسين من الشافعية، وذكر كلام المالكية، ثم قال:

«وللحنفية اصطلاح آخر في الفرق بين السنَّة والمستحب» . اهـ.

وقال صاحب كتاب (الحكم التكليفي في الشريعة الإسلامية» (2):

«يرى جمهور الأصوليين: أن كلمة «مندوب» ترادف في الاصطلاح: كلمة سنَّة، أو مستحب، أو نفل، أو تطوع.

وخالف في ذلك الحنفية، وفرَّقوا بين السنَّة والنفل، وجعلوا المندوب هو الذي يرادف النفل، كما جعلوا السنَّة أعلى منه مرتبة». اهـ.

(1) 1/ 57 - 58، ط الكليات الأزهرية، عام 1401 هـ.

وينظر فتاوى السبكي 1/ 159 - 160، فإنه مهم جداً.

(2)

هو محمد البيانوني، ص: 163، ط دار القلم - دمشق.

ص: 30

وهذا هو بيان اصطلاح الحنفية:

قال الكمال ابن الهمام في «التحرير» (1):

«السنَّة

في فقه الحنفية: ما واظب [صلى الله عليه وسلم] على فعله مع تركٍ مَّا بلا عذرٍ

وما لم يواظبْهُ: مندوبٌ ومستحبٌ وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه». اهـ.

وهذا التعريف غير جامعٍ - على مذهب الحنفية - لأن الخطبة الثانية، والاعتكاف، والترتيب والموالاة في الوضوء، والمضمضة والاستنشاق، ونحوها سننٌ عندهم مع ثبوت المواظبة عليها من غير تركٍ، ولذا فإن شارحَ «مُسَلّم الثبوت» حذف جملة «مع تركٍ ما بلا عذرٍ» فكان التعريف جامعاً لجميع السنن في مذهبهم، لكنه يصير غير مانع: لشموله الفرضَ والواجب (2).

وقال في متن «مختصر المنار» (3) في مبحث تقسيم العزيمة إلى أربعة أنواع:

وسنة، وهي: الطريقة المسلوكة في الدين.

وحكمها: المطالبة بإقامتها من غير افتراضٍ ولا وجوب.

ونفلٌ: وهو: ما زاد على العبادات، وحكمه: إثابة فاعله، ولا معاقبة على تاركه، ويلزم بالشروع». اهـ.

(1) ص: 303، ط 1 الحلبي، عام 1351 هـ.

(2)

شرح مسلم الثبوت ج 2/ 97 - 181، بواسطة (حجية السنة) ص:55.

(3)

ص: 14، تصوير مكتبة الشافعي بالرياض.

ص: 31

قال ابن نجيم في «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» (1):

«هي - أي السنَّة - اصطلاحاً: الطريقة المسلوكة في الدين، وكذا في «العناية» وفيه نظر؛ لشموله: الفرض والواجب.

فزاد في «الكشف» من غير افتراضٍ ولا وجوب.

وفيه نظر؛ لشموله: المستحب والمندوب.

والأولى أن يقال:

هي الطريقة المسلوكة في الدين، من غير لزومٍ، على سبيل المواظبة».

ثم أورد ابن نجيم بعض التعريفات، ونقضها، ثم قال:

«والذي يظهر للعبد الضعيف أن السنَّة: ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، لكن إن كانت لا مع الترك فهي دليل السنَّة المؤكدة، وإن كانت مع الترك أحياناً فهي دليل غير المؤكدة، وإن اقترنت بالإنكار على من لم يفعله فهي دليل الوجوب» . اهـ. هذا وسيأتي حكم كلّ من السنَّة والمندوب، وتقسيمُ السنَّة عند الحنفية إن شاء الله في مبحث «حكم ترك السنن» .

(1) 1/ 17، تصوير دار الكتاب الإسلامي.

ص: 32