الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الخامسة:
لا يُعْمَلُ بما ورد حتى يثبتَ روايةً ودرايةً
إذا نُقِلَتْ إلينا سنَّة، فإنَّ الواجب علينا - قبل العمل بها - أمران:
الأول: التأكد من صِحَّةِ سندها، إما بإعمال القواعد الحديثة على إسنادها لمن كان أهلا لذلك، وإما بتقليد أحدِ أئمةِ هذا الشأن.
قال الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري في كتابه «فتح الباقي على ألفية العراقي» (1):
فالعَمَلُ بالحديث دليلٌ على الاحتجاج به، ولا سبيل إلى الاحتجاج به إلا إذا عُلِمَ ثبوتُهُ.
وأما ما لا يثبتُ فلا يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً به، كما قال شيخ الإسلام:
(1) 1/ 106، ط فاس، عام 1354 هـ.
«ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحةً ولا حسنة.
لكنَّ أحمدَ بن حنبل، وغيرَه من العلماءِ جوَّزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يُعْلَمْ أنه ثابتٌ، إذا لم يُعْلَمْ أنه كذبٌ.
وذلك أن العَمَلَ إذا عُلِمَ أنه مشروعٌ بدليلٍ شرعيّ وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذِبٌ جاز أن يكون الثواب حقاً.
ولم يَقُلْ أحدٌ من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديثٍ ضعيفٍ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع». اهـ (1).
قال شيخ الإسلام - أيضًا -:
«قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شدَّدنا فيِ الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، وكذلك ما عليه العلماءُ من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ ليس معناه: إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكمٌ شرعي، فلا يثبتُ إلا بدليلٍ شرعي.
ومن أخبر عن الله أنه يحب عملاً من الأعمال من غير دليلٍ شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأْذنْ به الله، كما لو أَثبتَ الإيجابَ أو التحريمَ، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب، كما يختلفون في غيره، بل هو أصلُ الدِّين المشروع.
وإنما مرادهم بذلك: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما
(1) مجموع الفتاوى 1/ 250 - 251.
يحبُّهُ الله، أو مما يكرهُهُ الله بنصّ أو إجماعٍ، كتلاوة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والصدقة، والعتق، والإحسان إلى الناس، وكراهية الكَذبِ، والخيانة، ونحو ذلك.
فإذا روي حديثٌ في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها، وكراهة بعض الأعمال وعقابها: فمقادير الثوابِ والعقاب وأنواعه إذا روى فيه حديثٌ - لا نعلمُ أنه موضوعٌ - جازت روايته، والعمل به؛ بمَعْنَى: أن النفسَ ترجو ذلك الثوابَ، أو تخاف ذلك العقاب
…
اهـ (1).
وقد لخَّص العلامة الألباني - حفظه الله - في مقدَّمة «صحيح الترغيب والترهيب» كلام شيخ الإسلام - هذا - فقال:
«ونستطيع أن نستخلِصَ منه أنَّ الحديثَ الضعيف له حالتان:
الأولى: أن يَحْمِلَ في طواياه ثواباً لعمل ثبت مشروعيته بدليلٍ شرعي، فهنا يجوز العمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثوابَ، ومثاله عنده: التهليل في السوق بناءً على أن حديثه لم يثبت عنده
…
والأخرى: أن يتضمن عملاً لم يثبت بدليل شرعي، يظنّ بعض الناس أنه مشروع، فهذا لا يجوز العمل به.
وقد وافقه على ذلك العلامة الأصولي المحقق الإمام أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي في كتابه العظيم: «الاعتصام»
…
اهـ (2).
(1) مجموع الفتاوى 18/ 65 - 66. وانظر بقية كلامه لزاماً، فهو أنفس ما كتب في هذه المسألة، وقد أطال في توجيه كلمة الإمام أحمد، وغيره من العلماء.
(2)
صحيح الترهيب والترغيب 1/ 27 - 28.
ولعلَّ في هذا القدر من كلام شيخ الإسلام ما يصحِّحُ الخطأ الشائِعَ عند جماعة من أهل العلم وطلابه، حيث يفهمون قولَ العلماءِ في الحديث الضعيف فهماً لا يتفق مع ما أرادوه.
الأمر الثاني: التأكد من صِحَّةِ الاستنباط، وسلامةِ الاستدلال، وفقاً للقواعد الأصولية المعتبرة.
فإن بعض الناس قد يوفق لمعرفة الصحيح من الضعيف، إلا أن التوفيق لا يحالفُهُ في استخراجِ الحكم الشرعيّ من النَّصّ، وهنا تكمنُ الرَّزِيَّة.
فعلى طالب العلْمِ أن يراعي هذا الجانب، وذلك بالرجوع إلى شروح أهل العلم على الحديث، وسؤالهم عنه، وعن دلالته، حتى لا يقع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر؛ فإن من نَسَبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكماً من الأحكام لم يقتضِهِ كلامه فقد كذب عليه، إلا أن يكون من أهل الاجتهاد وَبَذَلَ قصارى جهده فلم يُصِبِ الحقَّ؛ فإنه مأجورٌ غير مأزورِ.
وإنما الكلام في أولئك الذين ليس لديهم ما يؤهِّلُهُمْ للنظر في كلام الشارع، استنباطاً واستدلالاً؛ ثم يخوضون هذا البحر العميق، دون مراكبَ تَحْمِلُهُمْ، فرحِمَ الله امرأً عرف قدر نفسه، وأنزلها منزلها.
قال معاوية رضي الله عنه: «إن أغرى الضلالة لرجلٌ يقرأ القرآن فلا يفقهُ فيه، فيعلِّمه الصبيَّ، والعبد، والمرأة، والأمة، فيجادلون به أهل العلم» (1).
(1) رواه ابن عبد البر في (جامع بين العلم وفضله) 2/ 194.
وقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: «لِيَكُنْ الذي تعتمد عليه الأثر، وخذْ من الرأي ما يُفَسِّرُ لك الحديث» . اهـ (1).
وقيل لبعض الحكماء: «إن فلاناً جمع كتباً كثيرة، فقال: هل فهمه على قدر كتبه؟
قيل: لا، قال: فما صنع شيئاً».
قال الخطيب البغدادي تعليقاً على هذه الحكاية، ونحوها:
«وهذه حال من اقتصر على النقل إلى كتابه من غيرِ إنعام النظر فيه، والتفكُّرِ في معانيه» . اهـ (2).
* * *
(1) جامع بيان العلم وفضله 2/ 144.
(2)
الفقيه والمتفقة (ص: 303 - تقريب).