المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي رد شبهات أثيرت حول الاهتمام بالسنة - ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية

[عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم]

الفصل: ‌فصلفي رد شبهات أثيرت حول الاهتمام بالسنة

‌فصل

في ردِّ شبهات أُثيرت حول الاهتمام بالسُّنَّة

الشبهات التي تثار حول العناية التَّامَّة بإحياء السُّنَنِ ونشرها بين صفوف المسلمين تختلف باختلاف أغراض المثيرين:

والذين يعنينا ههنا تلك الشبهات المصبوغة بالصبغة الإسلامية زوراً، إذْ خطورتها أعظم، والفتنة بها أشدُّ مما سواها.

فمن تلك الشُّبَه، قولهم:

«إنَّ الدين ينقسم إلى أصول وفروع، فالواجب أن نهتمَّ بالأصول، وندع الاهتمام بالفروع» .

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:

الأول: أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع - إذا اقترن به ما يدلُّ على ترتيب حكم خاصّ بكلّ واحدٍ منهما، كما هو الحالُ هنا، إذ الأصول يهتم بها دون الفروع -: فهو تقسيم باطِل.

الثاني: ليس هناكَ ضابط صحيح مطّرِد، يميَّزُ به الفروع من الأصول.

ص: 110

قال شيخ الإسلام رحمه الله في «المسائل الماردينية» (1) في معرض الكلام على التكفير:

«فأما التفريق بين نوعٍ وتسميته: مسائل الأصول، وبين نوعٍ آخر وتسميته: مسائل الفروع: فهذا الفرق ليس له أصلٌ، لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ من المعتزلةِ وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريقٌ متناقضٌ.

فإنه يقال لمن فرَّقَ بين النوعين: ما حدُّ مسائل الأصولِ التي يكفَّرُ المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟

فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل.

قيل له: تنازع الناس في محمدٍ صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟ وما كفّر فيها أحدٌ بالاتفاق، ووجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفَّر بالاتفاق.

وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية.

قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية.

وقد تكون المسألة عند رجلٍ قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن

(1) ص: 788، ط آل ثاني، الملحقة بالكافي.

ص: 111

سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم ويتقن مراده، وعند رجلٍ لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية، لعدم بلوغ النصّ إياه، أو لعدم ثبوته

» اهـ.

وهذا الكلامُ وإن كان خاصًّا بمسألة تكفير منكر الأصول دون الفروع، إلا أن المقصود به إبطال هذا التقسيم من أصله، لأنه يبنى عليه غير هذه المسألة، ولذا قال ابن القيم عندما ذكر بعض المسائل العائدة إلى هذا التقسيم، والناشئة عنه:

«وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنَّة وأصول الشرع بالاعتبار: فهو تقسيم باطلٌ، ويجب إلغاؤه.

وهذا التقسيم أصلٌ من أصولِ ضلالِ القوم

» اهـ (1).

الوجه الثالث: أنّ هذه العبارة - في حقيقتها - تقليلٌ من شأن «الفروع» ، ودعوة إلى عدم الاهتمام بها، وهذا من أبطل الباطل، وأقبح الضلال، إذِ الله عز وجل أمرنا بالدخول في دينه كافة، لا تفريق بين أصلٍ وفرعٍ، كما قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}

قال ابن عباسٍ: السّلْم: الإسلام، كافةً: جميعاً».

وقال مجاهد: «اعملوا بجميع الأعمال، وجوهِ البِرّ» .

(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/ 415، ط السلفية - بمكة المكرمة، عام 1348 هـ، على نفقة جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وقد استطرد العلّامة ابن القيم رحمه الله في هذا المبحث بما لا تجده عند غيره، فلينظر.

ص: 112

قال ابن كثير رحمه الله: «يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدِّقين برسوله: أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك» . اهـ (1).

وقال الألوسي في «تفسيره» (2):

والمعنى: «ادخلوا في الإسلام بكُلِّيَتِكُمْ، ولا تدعوا شيئاً من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه، بحيث لا يبقى مكان لغيره» . اهـ.

فما شرعه الله تعالى في كتابه، وما سنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنتِهِ لا يجوز لأحدٍ أن يقلّل من شأنه بأي وجهٍ من الوجوه، بل الواجب التمسّك بالإسلام جملةً، فما كان واجباً حَرُمَ تركه، وما كان مندوباً فعلى ما سبق بيانه، ولا إثم على من تركه.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يهجرون على تركِ ما يُسمِّيهِ هؤلاءِ فروعاً، كما يهجرون على ترك ما يسمِّيه هؤلاءِ أصولاً، دون تفريقٍ، كما يُغْلِظُوْنَ القولَ على من تركَ الفروع.

ولولا أهمية هذه «الفروع» !! في نظرهم، واستواءُ الشريعةِ كلّها في قلوبهم تعظيماً وإجلالاً: لما فعلوا ذلك.

* * *

ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مغفَّلٍ رضي الله عنه

(1) تفسير ابن كثير 1/ 247، ط 3، عام 1376 هـ.

(2)

روح المعاني 2/ 97.

ص: 113

أنه رأى رجلاً يَخْذِف، فقال له: لا تخذفْ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف - أو كان يكره الخذف - وقال:«إنه لا يصادُ به صيدٌ، ولا ينكأُ به عدو، ولكنّها قد تكسِرُ السِّنَّ، وتفقأُ العينَ» .

ثم رآه بعد ذلك يَخْذِفُ له: أُحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذفِ أو كره الخذفَ - وأنتَ تخذفُ؟ لا أكلّمك كذا وكذا.

هذا لفظ البخاري في كتاب الصيد من صحيحه (9/ 608)، وفي لفظٍ لمسلم (3/ 1548): لا أكلمُك أبداً.

قال النووي في «شرح مسلم» (1): «فيه هجران

منابذي السُّنَّة مع العِلْمِ». اهـ.

وقال الحافظ في «الفتح» : وفي هذا الحديث جواز هجران مَنْ خالف السنَّة، وترك كلامه، ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوقَ ثلاثٍ، فإنه يتعلق بمن هَجَرَ لحظِّ نفسه». اهـ.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«لا تمنعوا نساءَكُم المساجد إذا استأذنّكُمْ إليها» .

قال: فقال بلال بنُ عبد الله: واللهِ لنمنَعُهُنَّ، قال: فأقبلَ عليه

(1) 13/ 106.

ص: 114

عبد الله؛ فَسَبَّهُ سَبًّا سيئاً ما سمعتُهُ سبَّه مثلَهُ قطُّ (1)، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: واللهِ لنمنعُهُنَّ، هذا لفظ مسلم.

وفي لفظٍ له عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا للنِّساءِ بالليل إلى المساجد» ، فقال ابنٌ له يقال له واقدٌ: إذنْ يتَّخِذْنَهُ دَغَلاً، قال: فَضَرَبَ في صدره، وقال: أحدِّثُكَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: لا.

قال النووي في «شرح مسلم» (2):

«فيه تعزيرُ المعترضِ على السُّنَّةِ، والمعارض لها برأيه» . اهـ.

هذا: وحصر هذه الآثارَ مما يطولُ؛ إلا أنَّ في هذين الأثرين البيانَ الشافي الكافي لما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من العناية التامَّة بجميع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا فرقَ في ذلك بين مسائل العَمَلِ، أو مسائل العِلْمِ.

وهؤلاء القوم يريدون أن ينصبَّ الاهتمام على مسائل العِلْمِ المسماةِ بالكليَّة دون مسائل العمل المسماة بالجزئية، هذا على إحسان الظنّ بهم، وإلا فما أرى «الكليات» عندهم - كما سيأتي بيان ذلك - سوى: الكلام في السياسات، والذّهاب إلى «الرَّصيْفِ» لأخذ مرئيات الشباب عن المجتمع، وحصرها في النّسَبِ المئويَّة، وتَجْميعِ نِسَبِ

(1) في (جامع بيان العلم وفضله) 2/ 195، أنه قال له:(لعنك الله، لعنك الله، لعنك الله) وينظر سندها.

(2)

4/ 162.

ص: 115

العوانسِ والعاهراتِ

فمن فعل ذلك فلا عيب عليه عندهم، لأنه يعمل في «الكليات» ، أما من ألّفَ جزءاً حديثياً في «العجنِ في الصلاة» أو رسالةً في «عقد التسبيح باليمين» فهذا مُغْرِقٌ في «الجزئيات» منصرفٌ عن «الكليات» ينبغي أن يُوَجَّهَ ويُصْرَف إلى تَعَلُّمِ «فقه الواقع» ليكون في عدادِ أصحاب «الكلياتِ» !!

فلا أدري - واللهِ - ما يقولون عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه الذي رَحَلَ شهراً في حديثٍ (1)، أهو مغرقٌ أيضاً في الجزئيات؟ لِمَ لا يكون كذلك، وأصحاب تلك الأجزاء بذلوا من وقتهم أسبوعين، أو اقل أو أكثر، ينظرون في الأحاديث، ويصححون مفهومها، فَذُمُّوا على ذلك!!!

ولا أدري ما يقولون عن سلفنا الصالح الذين أغرقوا المكتبات بالكتابة في «الجزئيات» أيذَمُّوْنَ بذلك أيضاً؟

{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .

ومن شبههم أيضاً، قولهم:(الخلافُ في الفروع سهلٌ).

هذه الكلمة متمخضة عن الشبهة السالفة، التي تُقرِّر تقسيم الدين إلى فروعٍ وأصول، وهي في الحقيقة ثمرةٌ من ثمراتها، إذِ المقصود

(1) علّقه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب ما ذكر في ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى الخضر (1/ 40، ط دار القلم - دمشق).

وينظر كتاب (الرحلة في طلب الحديث) للخطيب البغدادي ص: 110، ط دار الكتب العلمية.

ص: 116

الأكبر - عند الأكثرين - من هذا التقسيم: الوصول إلى هذه النتيجة، وهي: أن خلافنا في هذه الفروع الفقهية سهلٌ، فلا داعي لهذه البحوث التي تكتب في «الجزئيات» ، ولا داعي لهذه المناقشاتِ فيها، ولكن «نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه» ، ومن منطلق هذه القاعدة: تعامل هؤلاء مع الشِّيعة، وَمَدَحوا التُّرابيَّ وغيرَه من الضُّلَّالِ والمنحرفين.

وكان الواجب أن تكون القاعدة بهذا التركيب: «نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه بعد التناصح» قاله العلامة الألباني.

قال الإمام مالك وقد سئل عن مسألةٍ فقال: لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، وإنَّما أردت أنْ أُعْلِمَ بها الأمير - وكان السائلُ ذا قَدْرٍ - فَغَضِبَ مالكٌ، وقال: «مسألةٌ خفيفةُ سهلةٌ؟! ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ؛ أما سمعتَ قول الله تعالى:

{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَولاً ثَقِيلاً} .

فالعِلْمُ كلُّه ثقيلٌ، وبخاصَّةٍ ما يُسْألُ عنه يوم القيامة». اهـ (1).

وقال المقبلي في كتابه «العَلَمُ الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ» (2):

«

أنّ الناسَ اصطلحوا على انتزاع مسائل من أمور الديانات:

(1) ترتيب المدارك للقاضي عياض 1/ 184، ط 2 المغرب.

(2)

ص: 430، ط 1، عام 1328 هـ.

ص: 117

منها ما كان في السلف من الواضحات المعلومات من ضرورة الدين

ومنها ما هو بدعة محضة منتمية إلى علم الأوائل

إلى أن قال: إنما ننبِّهُ على بعض مفاسدها:

فمن ذلك أن الإنسانَ أوَّل ما يقرعُ سمعه أنَّ الدين منقسم إلى أصولٍ وفروعٍ، والفروعُ سهلٌ - وإنما شاع قولهم: كل مجتهد مصيب في الفروع - إنَّما الشأنُ في الأصولِ، مَنْ لَمْ يعرفْها: فَدِينُهُ مُنثَلِمٌ؛ فَيَسْتَقِرُّ هذا عند الطالبِ وهو يَعْلَمُ مِنْ نفسِهِ أنه لم يُفْطَرْ على تحقيقِ تلك المباحثِ، ولا يَحْمِل نفسَه أنْ يقالَ فيه: إنّ دينهُ منثلِمٌ، سِيما وقد يكون ذلك الثَّلْمُ في أفواهِ بعضهم يبلغ الكفر

» اهـ.

فإذا نُشِّىءَ الأتباع على أن الخلافَ في الفروعِ سهلٌ، وإنما الشأن في الأصول، حَصَلَ من ذلك صَدَّ عن سبيل الله، وتغريرٌ بالجهلة المبتدئين؛ فلا يُلْقُوْنِ لهذه الفروع بالاً، وَلا يًقيْمُونَ لها وزناً، ولا يَبْذِلُوْن جهدهم في التوصّل إلى الحقّ، فتذبل الأذهان، وتكسدُ أسواق العلم، ونُفْجَأُ بجيلٍ أشبه ما يكون بالعجماوات، كلُّ ذلك وأضعافٌ مضاعفة من المفاسِدِ تَحِلُّ بسبب هذه الشبهة الممقوتة، التي يروّجها أقطاب الحزبيِّين.

* * *

ومن شبههم أيضاً: أن المسلمين اليوم يعانون ضعفاً شديداً، به تَسَلَّطَ الأعداءُ عليهم، وساموهم سوء العذاب، ففي كلّ صقعٍ من الأصقاع تَرَى مذابح المسلمين الجماعيَّة، وانتهاكَ أعراضهم، وإهانتهم

ص: 118

أشدّ من إهانةِ البهائم، وفي هذا الوقت - نفسه - يخرج أقوام يحثُّون الناسَ على التَّمَسُّكِ بالسُّنَّة، ويغرقون فيها: علماً، وتعلماً، ودعوةً، وكأنها هي قضيَّة المسلمين الكبرى!! أَفلا ينصرف هؤلاء إلى العَمَلِ الذي ينتجُ عنه نفعٌ كبير للمسلمين، كالتخطيط لإقامة الخلافة الإسلامية، والنظر في أحوال المسلمين، وما يحتاجون إليه من غذاءٍ وعطاء، ونفقة وبناء

إلخ.

والجواب عن هذه الشبهة:

«إن ما ذكرتموه من اضطهاد المسلمين، وضعفهم، وتآمر أعدائهم

الخ، كلُّ هذا حقٌّ، ولكنكم أُتيتُم من خلطكمْ بين الأمور، فكلامكم قد يكون حقاً إذا سَلّمنَا لكم أن التَّمسك بالفرعيَّات يتعارض مع مواجهة تآمر الأعداء وجهادهم؛ والحقُّ أنه لا يلزم التعارض بينهما، إذ أن بيان الحق في الأمور الفرعيَّة لا يتعارض مع جهاد الأعداء، إذا كان الهدفُ هو - حقاً - بيان الحقّ، مع البعد عن الجدل العقيم.

وقد واجه الرعيل الأول أخطاراً تهدِّد كيانهم، ولم يحملهم ذلك على تركِ الفرعياتِ، وتقرير الحقِّ فيها، وإلزام أنفسهم باللازمِ منها، ومع ذلك سادوا الأمم، وأسقطوا عروشَ الكفرة، وأقاموا صرح الإيمان شامخاً؛ والذي يفتُّ في عَضُدِ المسلمين هو: من يجادِلُ في الحقِّ بعدما تبيَّن، ويُصِرُّ على عدم الانقياد له، ويثير الجدال بشبهاتٍ سقيمة؛ ليس من يدعوهم إلى التمسُّك بالكتاب والسنَّة.

وما يتوهمُهُ هؤلاءِ المخالفون ما هو إلا نتيجة لتخيُّلهِمْ أنّ النّسْبَة بين «مواجهة الأعداء والانتصارِ عليهم» وبين «تَعَلُّمِ المسائل الفرعيَّة

ص: 119

والتّمسّكِ بها وإنْ دقَّتْ» إنما هي تَبَايُن المقابلة، كتباين النقيضين: العَدَمِ والوجود، أو تبادين الضدَّين: السَّوادِ والبياضِ.

فتخيَّلَ هؤلاءِ أن «مواجهة الأعداء» و «التمسكَ بالفروعِ» متباينانِ تباينَ مقابلة، بحيث يستحيلُ اجتماعهما، فكان من نتائج ذلك: هذه المعارضة المتهافتة.

والتحقيق أنّ النّسْبَةَ بين الأمرين - بالنظر إلى العقل وحده - إنما هي: تباين المخالفة، وهي: أن تكون حقيقة كل منهما في حدّ ذاتها تباين حقيقة الآخر، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلاً في ذاتٍ أخرى، كالكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود، مع إمكانِ أن يكون الشخص الواحد قاعداً متكلماً في وقتٍ واحدٍ.

وهكذا فالنسبة بين «جهاد الأعداء ومواجهة تآمرهم» وبين «الدعوة إلى الفروع والتمسك بها وتعليمها للناس» من هذا القبيل.

فالمتمسكُ بالفروعِ يجوز عقلاً أن يواجه أعداءه ويجاهدهم، إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على أوامر الله واجتناب مناهيه مشتغلاً بجهاد أعدائه بكلّ ما في طاقته.

أما بالنظر إلى أدلة الكتاب والسنَّة، كقوله تعالى:

{وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ} .

وقوله عز وجل:

{إِن تَنصُرُوا اللهَ ينَصُرْكُمْ} .

وغير ذلك من النصوص، فإن النسبةَ بين التمسك بالشعائر

ص: 120

الإسلامية، وبين تنزلِ النَّصْرِ من الله جلَّ وعلا، كالنسبة بين الملزوم ولازمه، لأن التَّمَسّكَ بالدَين هو مَلْزُوْمُ النَّصْرِ، بمعنى أن يَلْزَمَ عليه الانتصار، كما صرحت الآيات.

والدولة المسلمة لن تقومَ إلا على أكتافِ أولي العزم، الذين يلتزمون كافةَ أحكام الشرع، ويوافقونها في ظاهرهم، وباطنهم، لقوله تعالى:

{إِنَ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} .

والدولة المسلمة ما هي إلا ثمرة لتمسُّكِ جنودِ الإسلام بكلّ شرائع دينهم، والدعوة الإسلامية - الأمينة على الإسلام - لا تُسَاوِمُ على شيء من أحكامه، ولكنَّها تحفظها كلَّها، أداءً للأمانة، وإعذاراً لنفسها أمام الله

والمسلمون إذا نزلتْ بهم مخمصة وشدَّة فإن من أسباب جلاء الغُمَّة عنهم: المزيد من التَّمسُّكِ بالسُّنَنِ، والبراءة من البدعِ، وليس مهادنة أهل البدع، وتثبيط الدعاة إلى السُّننِ (1).

وإذا تأمَّلْتَ قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من حديث عبد الله بن عمر:

«إذا تبايعتم بالعينة.

وأخذتم أذناب البقر.

(1) من رسالة (تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلي قشر ولباب) بتصرف ص: 20 - 23، للأخ الشيخ محمد إسماعيل المصري.

ص: 121

ورضيتم بالزرع.

وتركتم الجهاد.

سلَّط اللهُ عليكم ذلاً؛ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».

اتَّضح جلياً أنَّ السبب الرئيس في ذلِّ المسلمين، وهوانهم على أعدائهم، هو: الابتعادُ عن دينهم، والغفلةُ عمَّا أمروا به من شعائر الله.

ولا سبيل إلى استعادةِ مَجْدِهِمْ، وتحصيل مُنَاهُمْ؛ إلا بالرجوع إلى دين الله تعالى، والرجوع إلى دين الله، إنما يكون بأداء الفرائض، والحرص على النوافل، والابتعاد عن المحرّمات، بذلك - وحده - يحقق اللهُ لهم وعده، الذي جاء في قوله:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: الآية 55].

* * *

ص: 122