الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد العمل بالسنَّة
ومتى حافظ المسلمُ على السُّنَّةِ محافظته على الطعام والشراب الذي به قوام البدن أو أشدَّ: غمرته الفوائد الدينية والدنيوية، كما قال ابن قدامة رحمه الله:
وقد قال ابنُ حبَّان - رحمه الله تعالى - في مقدَّمة صحيحه:
وإِنَّ في لزوم سُنَّتِه: تمامَ السلامة، وَجِمَاعَ الكرامةِ، لا تطفأْ سُرُجُها، ولا تُدْحضُ حججُها، من لزمَهَا عُصِم، ومن خالفها نَدِمَ، إذْ هي الحصنُ الحصين، والركنُ الركين، الذي بان فضْلُه، ومَتُنَ حبْلُهُ، ومن تَمَسَّكَ به ساد، ومن رام خلافه باد.
فالمتعلِّقون به أهل السعادةِ في الأجل، والمغبوطونَ بين الأنام في العاجل. اهـ (2).
وقال الغزالي - في كلامٍ له متين بهذا الصدد -:
(1) ذم الموسوسين، لابن قدامة، ص: 41، ط الفاروق الحديثة - مصر.
(2)
(الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 1/ 102، ط الرسالة.
«اعلم أن مفتاح السعادة: في اتباع السنَّة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته؛ حتى في هيئة أكله وقيامه، ونومه وكلامه.
لستُ أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط، لأنه لا وجه لإِهمالِ السنن الواردة في غيرها، بل ذلك في جميع أمور العادات: فَبِهِ الاتباع المطلق، كما قال تعالى:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
وقال تعالى:
{وَمَآءَاتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواْ
…
}.
فهل - بعد ذلك يليق بعاقلٍ أن يتساهل في امتثال السنَّة، فيقول: هذا من قبيل العادات فلا معنى للاتباع فيه؟! فإن ذلك يغلق عنه باباً عظيماً من أبواب السعادة». اهـ (1).
وهذا الذي قاله أبو حامدٍ هو دأب السلف رضي الله عنهم كما قال القاضي عياض في «الشفا» (2).
«
…
وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس؛ وقد قال أنس حين رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدُّباء من يومئذٍ.
(1) بواسطة نقل الشيخ عبد الغني عبد الخالق في كتابه (حجية السنة) ص: 80 - 81.
(2)
2/ 575.
وهذا الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، وابن جعفرٍ أتوا سَلْمى وسألوها أن تضع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية ويصبغ بالصفرة، إذْ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك». اهـ.
فلو أن كلَّ فردٍ من أبناء هذه الأمة نَشَأَ وبين عينيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ منها آدابَهُ وأخلاقه، وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً: لنشأَ جيلٌ إيمانه كالجبال، يقذِفُ الرُّعْبَ في قلوب أعدائنا على مسيرة شهرٍ، وينهض بالأمةِ إلى أعلى ما تصبوا إليه من السعادة والسيادة.
{وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن ينَصُرُهُ إِنَ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
هذا وللالتزام بالسنَّة ثمارٌ وفوائد لا تحصى، نقتصر منها على ما يلي:
* أولاً - الوصول إلى درجة «المَحَبَّة» محبة الله عز وجل لعبده المؤمن:
قال ابن القيم رحمه الله:
«لما كثر المدعون للمحبّة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخَلِيُّ حُرْقَةَ الشَّجِيِّ، فتنوَّع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إِلا ببينة:
{قُلْ إِن كُنُتمْ تحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} .
فتأخر الخلقُ كلهم، وثبت أتباعُ الحبيب في: أفعاله، وأقواله،
وأخلاقه». اهـ (1).
وقد روى البخاري في صحيحه (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال:
من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه
…
».
ففي هذا الحديث العظيم دليلٌ على أن النوافلَ سببٌ من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى لعبد، وبيانٌ لما يترتب على هذه المحبَّة من الخصال الحميدة.
فمن أحبَّهُ الله تعالى كان سمعَهُ الذي يسمع به، بمعنى: أن الله يوفقه لسماع أحسن الكلام، ويصرفه عن سماع سيئة؛ وكان يَدَهُ التي يبطش بها، بمعنى: أن الله يوفقه لاستعمال هذه الجارحة في حدود الشرعيات: من الكسب المباح، وإنكار المنكرات، وتناول الطيبات، كما يوفقه تعالى إلى كفِّها عن كلِّ محرَّمٍ تَسْتَطِيْعُ تناولَهُ، وأخذَه.
وهكذا قوله تعالى: كنت بصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها.
(1) مدارج السالكين 3/ 8.
(2)
كتاب الرقاق - باب التواضع (11/ 340 فتح).
وهناك خصلةٌ أخرى تترتب لمن حصلت له هذه المحبَّة، هي: ما جاء في حديث أبي هريرة - المتفق عليه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب اللَّهُ العبْدَ نادى جبريلَ: إن الله يحب فلاناً فأحبِبْهُ، فيحبُّه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء؛ إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يوضع له القبولُ في الأرض» (1)، هذا لفظ البخاري.
* ثانيا - أن المحافظة على النوافل تجبر كسر الفرائض:
لما رواه داود في سننه (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم: الصلاة، قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته - وهو أعلم -: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوُّع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم» .
ومما لا ريب فيه: أن الإتيان بالفرائض كما أراده الله عز وجل متعذرٌ على أكثر الناس، إذْ لا يخلو عملهم من نقصٍ، كترك الخشوع في الصلاةِ وعدم الطمأنينة فيها، وكاللغو والغيبة والنميمة حالَ الصيام،
(1) البخاري في كتاب بدء الخلق (6/ 303)، ومسلم (4/ 2030)، كتاب البر والصلة والآداب.
(2)
كتاب الصلاة (1/ 540)، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ينظر (سنن الترمذي) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر 2/ 271، وشرحه على المسند 15/ 19 - 26.
والجدالِ والفسق في الحجِّ
…
إلخ؛ فكلُّ هذه وأمثالها يؤاخذ العبد بها، وتُنْقِصُ ثواب فرضه.
إلَاّ أن الله عز وجل لجزيل فضله وسعة رحمته جعل للعبد ما يتمم هذا النقص، ويُقَوِّمُ هذا الخلل؛ وذلك بمحافظته على ما شُرعَ من السنن والنوافل.
فلا يليق بعاقلٍ - بعد هذا - أن يزهد فيما يتمِّمُ ويكمِّلُ فرضَهُ، ويُدْنِيهِ من رضاء ربه.
قال الشاطبي في «الموافقات» (1).
المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعمَّ من الاعتبار المتقدم وجدته خادماً للواجب، لأنه إما مقدمة له، أو تكميل له، أو تذكار به، كان من جنس الواجب أو لا.
فالذي من جنسه: كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام، والصدقة، والحج، وغير ذلك مع فرائضها.
والذي من غير جنسه: كطهارة الخبث في الجسد، والثوب، والمُصَلَّى، والسواك، وأخذ الزينة، وغير ذلك مع الصلاة؛ وكتعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وكفُّ اللسان عما لا يعني مع الصيام، وما أشبه ذلك.
فإذا كان كذلك فهو: لاحقٌ بقسم الواجب بالكل، وقَلَّما يشذّ عنه مندوب يكون مندوباً بالكل والجزء. اهـ.
(1) 1/ 92.
* ثالثاً - للمتمسك بالسنَّة فضلٌ كبيرٌ، ويزداد فضلُه رفعة كلّما كان الزَّمَنُ زمن إعراضٍ عن السنَّة، وإيذاءٍ لمن تمسك بها.
روى المروزي في السنَّة (1)«ص: 9» عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عتبة بن غزوان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه: أجرُ خمسين منكم» قالوا: يا نبي الله! أَوْ منهم؟ قال: «بل منكم» . وأخرج الترمذي (5/ 257) - وغيره - عن عبد الله بن المبارك، أخبرنا عتبة بن أبي حكيم، حدثنا عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أميَّة الشَّعْباني، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«
…
فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبضَ على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجرِ خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم».
قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم» .
قال الترمذي: حديث حسن غريب. اهـ (2).
وقد قال الإمام ابنُ القيم رحمه الله في «النونية» :
هذا وللمتمسِّكين بسنَّة الـ
…
ـمختار عند فَسَادِ ذي الأزْمانِ
(1) وفيه انقطاع بين إبراهيم وعتبة.
(2)
وأخرجه أبو داود (11/ 493 - العون)، وابن ماجه (2/ 1330)، وابن حبان (2/ 108 - الإحسان)، والحاكم (4/ 322) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
أجرٌ عظيمٌ ليس يقدرُ قَدْرَهُ
…
إلا الذي أعطاه للإنسان
فروى أبو داودَ في سُنَنٍ له
…
ورواه - أيضاً - أحمدُ الشيبانِي
أثراً تضمَّن أَجْرَ خَمْسِيْنَ امريءٍ
…
من صَحْبِ أحمدَ خِيْرةِ الرحمنِ
إسنادُهُ حَسَنٌ، ومِصْدَاقٌ له
…
في «مسلم» فافْهَمْهُ فَهْمَ بَيَانِ
إنَّ العبادةَ وقْتَ هَرْجٍ هِجْرَةٌ
…
حقاً إليَّ وذاكَ ذو بُرْهانِ
هذا فكم مِّنْ هِجْرَةٍ لكَ أيُّها الـ
…
ـسُّنِّيُّ بالتَّحقِيْقِ لا بأَمانِ
هذا وكم مِّنْ هجرةٍ لهُمُ بما
…
قال الرَّسولُ، وجاء في القرآنِ
ولقد أتى مصداقَهُ في «التَّرْ
…
مِذِيَّ» لمنْ له أُذُنانِ واعيتانِ
في أَجْرِ مُحْيِيْ سُنَّةٍ ماتتْ فذا
…
كَ مع الرَّسولِ رَفيْقَةُ بجنانِ
هذا ومصداقٌ له - أيضاً - أتى
…
في «الترمذيِّ» لمنْ له عينانِ
تَشْبيهَ أُمَّتِهِ بغيثٍ: أوَّلٌ
…
مِنْهُ وآخِرُهُ فَمشْتَبِهَانِ
فلذاكَ لا يدري الذيْ هو مِنْهُمَا
…
قدْ خُضَّ بالتفصِيْلِ والرُّجحَانِ
وَلَقَدْ أتى أثرٌ بأنَّ الفَضْلَ في الـ
…
طَّرَفَيْنِ أعني أولاً والثاني
والوَسْطُ ذو ثَبَجٍ فأَعْوَجُ هكذا
…
جاء الحديثُ وليس ذا نُكْرانِ
ولقد أتى في «الوحي» مصداقٌ له
…
في الثلَّتَيْنِ وذاك في القرآنِ
أهلُ اليمينِ فَثُلَّةٌ مَعْ مثْلِها
…
والسابقونَ أقلُّ في الحسبانِ
ما ذاكَ إلا أنَّ تابِعَهُمْ هُمُ الـ
…
غُرَبَاءُ ليستْ غربةَ الأوطانِ
لكنَّها واللهِ غربةُ قائِمٍ
…
بالدِّين بين عساكر الشيطانِ
فلذاكَ شبَّهَهم بِهِ متبوعُهُمْ
…
في الغُربَتَيْنِ وذاك ذو تبيانِ
لم يُشْبِهُوْهُمْ في جميعِ أُمُوْرِهِمْ
…
مِنْ كلِّ وجهٍ لَيْسَ يستويان (1)
(1) انظر الأبيات وتكملتها في شرح ابن عيسى للنونية (2/ 458 - 464).
* رابعاً - أن في العمل بالسُنَّةِ عصمةً من الوقوع في البدع:
وفي هذا يقول أبو محمد عبد الله بن منازل رحمه الله:
ولذا قال السلفُ - كما تقدم -: «الاعتصامُ بالسنَّةِ نجاة» فالاعتصام بالسنَّةِ نجاةٌ من كلِّ ما يعيقُ المسلم عن ربِّه تعالى، وأعظم ذلك خطراً؛ البدعُ التي هي بريدُ الكفر.
فالبدعُ إنما تفشوا في تلك المجتمعات التي انطفأ نور السنة فيها، فلمْ تَرَ جاهراً بها، ولا داعياً إليها، ولا حاثًّا على امتثالها، وفي ذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
«ما يأتي على الناس من عامٍ إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن» رواه ابن وضاحٍ في «البدع والنهي عنها» .
* خامسًا: أن الحرصَ على القيام بالسنن من تعظيم شعائر الله:
وفي ذلك يقول الله تعالى:
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقَوى الْقُلُوبِ} .
وشعائر الله: عام في جميع شعائر الله (1)، ومنها المناسك كلها، والهدايا، والقربانُ للبيتِ.
(1) ((أضواء البيان 5/ 692.
ومعنى تعظيمها: إجلالها، والقيام بها، وتكمليها على أكمل ما يقدر عليه العبد (1).
فتعظيمُ الهدايا، يكون بمراعاة السُّنَّةِ فيها، بأن تكون سمينة حسنة، كما قال ابن عباس، وغيره (2).
وتعظيم هذه الشعائر لا يقوم إلا بقلبٍ بَلَغَ من التقوى ذراها.
فالمعظم لها، يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه، لأن تعظيمها تابعٌ لتعظيم الله وإجلاله (3).
وإن من أعظم شعائر الله تعالى السُّنَنَ التي سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمحافظة عليها، والوصية بها؛ من إجلال هذه الشعائر، وتعظيمها، المنبعثِ من ذوي تقوى القلوب.
* سادساً: أن للعاملِ بالسُّنَّةِ مِثْلَ أجرِ من تَبِعَهُ لا ينقصُ من أجرهم شيئاً:
ودليل ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (2/ 704) عن جرير بن عبد الله قال: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدرِ النَّهار، قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عراةٌ مجتابيْ النِّمارِ أو العِبَاء، متقلدي السيوف، عامَّتُهُمْ من مضر، بل كلهم من مضر.
فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى بهم من القافة.
(1) تفسير السَّعدي 5/ 293.
(2)
تفسير ابن جرير 51/ 156.
(3)
تفسير السَّعدي 5/ 293.
فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ - إلى آخر الآية - إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} ، تَصَدَّقَ رجلٌ من دينارِهِ، من درهمه، من ثوبه، من صاعِ بُرِّه، من صاع تمره «حتى قال» ولو بشقِّ تمرة».
قال «فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرِّةٍ كادتْ كفُّهُ تعجزُ عنها، بل قد عَجَزَتْ، قال: ثم تَتابَعَ الناسُ حتى رأيتُ كَوْمَيْن من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّلُ، كأنهَّ مُذْهَبَة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها، وأجْرُ مَنْ عَمِلَ بها بعده. من غَيْرِ أن ينقُصَ من أُجورهم شيء
…
» الحديث.
قال النووي في «شرح مسلم» على قوله: «من سنَّ
…
»:
فيه الحثُّ على الابتداء بالخيرات
…
وسببُ هذا الكلامِ في هذا الحديثِ أنه قال في أوَّله: فجاء رجلٌ بصُرَّةٍ كادت كَفه تعجز عنها فتتابع الناس، فكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لبابِ هذا الإحسان. اهـ (7/ 104).
فإذا أحيا المسلمُ سنة، فاقتدى به غيرُه، فله أجرُ العَمَل بها، وله مثل أجرِ من اقتدى به فيها، ولا ريب أَن هذا فضلٌ كبيرٌ، ينبغي للمسلمِ أن يُدْرِكَه، فإنَّ به تحصيلَ الثوابِ العظيم من أبوابٍ كثيرةٍ.
* سابعاً: في الالتزام بالسَّنَّة أمنُ الافتراق:
فإنَّ الاجتماعَ على الَعَمَلِ بالسنُّةِ يَمْنَعُ وقوع كثيرٍ من الخلافاتِ المؤدِّية إلى العداوة والبغضاء.
ولذا فإنَّ مجتمع أهل السنَّةِ تنعدمُ فيه الفرقة المذمومة، التي تبدو ظاهرة في مجتمعات أهل البدع.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
«والبدعةُ مقرونةٌ بالفُرْقةِ، كما أنَّ السنَّة مقرونةٌ بالجماعة» (1). اهـ.
وقد قال تعالى:
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاَءَهُمُ الْبَيِّنَاَتُ
…
} الآية.
قال قتادة في تفسيرها: «يعني أهل البدعِ» . اهـ.
فأهل البدع هم أهل الاختلافِ والتَّفَرّقِ، لتركهم السنَّة، واتباعهم السُّبُلَ.
قال عبد الرحمن بن مهدي: وقد سئل مالك بن أنس عن السُّنَّةِ؟
قال: «هي ما لا اسم له غيرُ السنَّة، وتلا:
(1) الاستقامة 1/ 42.
(2)
الاعتصام للشاطبي 1/ 77.
وفيما نقل عن مجاهد في قوله تعالى:
{وَلا يَزَالُون مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلذَلِكَ خَلَقَهُمْ} .
قال في المختلفين: «إنهم أهل الباطل» .
{إِلا من رحم ربك} ، قال: فإن أهل الحقِّ ليس فيهم اختلاف. اهـ (1).
وعن عكرمة: {وَلا يَزَالُون مُخْتَلِفِينَ} : يعني: «في الأهواء» {إِلا من رحم ربك} : «هم أهل السنَّة» .
وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس: «أنَّ أهل الرحمة لا يختلفون» . اهـ (2).
وفي وصيَّة أبي العالية أنه قال:
«
…
وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء».
فقال الحسن البصري: «رحمه الله، صَدَقَ ونَصَحَ» . اهـ (3).
وكان إبراهيم التيمي يقول:
* * *
(1) الدر المنثور للسيوطي 4/ 491، والاعتصام 1/ 82.
(2)
الاعتصام 1/ 83.
(3)
البدع والنهي عنها، لابن وضاح ص: 32 - 33.
(4)
الاعتصام 1/ 116.