الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلبية تقوم على اليأس والخوف والأنانية، وتدعم الانهيار وتؤصله؛ ليغدو هو الواقع الطبيعي، والأفق الممكن، ولتعود الحضارة إلى وضعها الجنيني منتظرة طلقة ولادة بعيدة أو قريبة، ولكنها بالتأكيد مؤلمة ومستهلَّة بالبكاء!!
فما هي العلل التي تفصم عُرى العلاقة بين الفكرة والمصلحة، وكيف تفقد الفكرة سلطانها الذي كان كفيلاً بتأجيج الانتفاضة الحضارية، ولماذا يخبو الدافع الحضاري لتتخامد من أجل ذلك الطاقة المحرِّكة؟! ولما كانت الإجابة عن هذه الأسئلة واسعة ومتشعبة العناصر، فقد وجب صياغتها صياغة تبرز العوامل الجوهرية، والعلل الكلية التي تقدر على أن تستوعب العناصر الجزئية داخلها وتلمّ شعثها. وسوف نبدأ من أبرز تلك العوامل وأهمها:
-
اليقين المتهرِّئ، والأمل المستنفَد:
مهما كانت أهمية الفكرة المؤسِّسة بوصفها مولِّدًا حضاريًا، ومهما امتلكت من إمكانات لخلق حضارة قوية متوازنة، فإنها تفلس وتكون عاجزة إذا افتقدت اليقين الذي يجعلها كينونة إنسانية فعّالة وطاقة محركة، لتتحول إلى تراث، أو أفكار مجردة معطَّلة ليس لها أن تحرِّك أو تؤثّر. إنه باليقين تتحدّ الفكرة بالذات وتلتحم بالإنسان لتكتسب كينونتها الإنسانية الحية، وعن اليقين تتولد شرارة الطاقة الدافعة التي تحول الفكرة إلى قوة فعّالة ومؤثرة على مستوى الحياة والواقع، وباليقين يتولد الأملُ إدامُ الحضارة اليومي الذي يغري بالمستقبل ويحرض على اختراق مجهوله، ويمنح القوة للصبر على بلواء الواقع ومقاومته.
تعيش الحضارة في مرحلة التخلق ندرة في الموارد تمنح الفكرة الحضارية فرصة التفرّد لتكون المورد الأم والخيار الوحيد والأمل المطلق، ولن يكون رأسمالها على هذا الأساس وضمن معطيات الندرة إلا الإنسان، إنسان الحضارة أو الفطرة، تعوّل على إمكاناته الذاتية وقواه التي تطلقها من كمونها وتعيد شحنها بطاقتها الخاصة؛ لتجعله نموذجًا حيًا لها، وذراعًا مادية تمارس بها إرادتها في عالم الواقع. إن الفكرة عندما تتملك الذات تعيد تقويم الأشياء من خلالها، وتكون قادرة على تحريكها، وفي الوقت نفسه فإن الذات عندما تتيقن الفكرة، وتتمثلها، تطلقها - أي الفكرة - من عالم المثل وتمنحها وجودًا ماديًا معايَنًا في سلوك وممارسات قابلة للتمثل والاقتداء، وتهيئ لها فرصة الانتشار والتأصّل، أي إن التحقّق في كينونة إنسانية هو غاية ووسيلة معًا، وهو يستعين بالإيقان ويعين عليه.
قلنا إنه بقدر تفرّد الفكرة وقدرتها على التحول إلى كيان إنساني حي يستحكم اليقين ويقوى، وحين تتضاعف المكاسب ويغرق المجتمع في الوفرة تظهر المنافِسات ويهتزّ ذاك اليقين ويتهرّأ، ويضعف استقطاب الفكرة وتتشتّت الولاءات، والأمل المنعقد على تحقق الفكرة يتجاوزها - بعد الاطمئنان إلى المنجَز - إلى ما تتضمنه داخلها من مصالح تستقطب الولاء والطموح وإليها ينقلب اليقين. ومع أن الفكرة الحضارية ما زالت مثمرة إلا أنها تتحول من دور تتحقق الفكرة فيه من خلال العالم الواقعي، إلى دور يتحقق العالم الواقعي من خلالها، ومن أن تكون غاية إلى أن تصير وسيلة، وحين كان مطلوبًا من الجماعة أن تنخرط كلاً واحدًا في معركة البناء لتحقق طموحات الجماعة ومصالحها، وأن تتنافس في الفكرة بدافع من
اليقين الواحد والمصالح المشتركة، تؤجّج المكاسب، ومنطق الربح والخسارة، النزوعَ الفردي، ويصير الولاء للمصلحة الفردية، والتنافس فيها، واليقين متعلقًا بها. وينعكس التنافس في المصلحة على السطح المنظور انتعاشًا فريدًا وغير مسبوق في الإنجازات المادية والمعرفية، غير أنه يؤدي - في سياق الإطار العام من انسحاب الفكرة وفقر القيم - إلى تفكيك وحدة الأمة الداخلية؛ سياسيًا واجتماعيًا، وولادة تيارات اجتماعية وأطروحات حضارية نابعة من الفكرة الحضارية الأم ومنافسة لها، تسهم في تعميق الشك في الفكرة، وخنق اليقين المتهالك.
إن المنافع، كما في الكائن الحي تمامًا، تترك خلفها فضلات؛ هي سلبياتها، وعندما يبلغ دور الوفرة ذروته يكون ذلك إعلانًا بأن فائضًا هائلاً من السلبيات قد تراكم، وسيكفي هذا التراكم لعرقلة تيار الحضارة، وردم مجراه، ليرتد على نفسه فيضانًا يغمر كل شيء، ومؤذنًا بدخول الأمة في حالة انتحار جماعي إرادي وغير واع. وتناضل الحضارة للبقاء مقاومةً تيار السلبيات المتضخّم، حتى تصير الفكرة عبئًا؛ خسارة أو تضحية، ويتعاظم انفصالها عن الإنسان وعن الحياة حتى تعود تجريدًا عسيرًا على التصور والتمثّل، أو خطأ فادحًا واجب التصحيح، وتتعطّل المصلحة أن تكون دافعًا، وتتحول إلى عامل هدم، ومصدر صدام بين قوى الحضارة نفسها إلى أن تذوي المصلحة بدورها فتفتقد الحضارة دافعها، ولا يبقى داخل خزنة اليقين إلا الخبرات المؤلمة .. حينها يخيم اليأس ويُخنق الأمل،