المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - الفكرة الحية المعصبة: - على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

[بتول جندية]

الفصل: ‌1 - الفكرة الحية المعصبة:

‌شروط التخلّق الحضاري

ليس تنشأ حضارة إلا في فضاء اجتماعي صلب ومتماسك، بحيث يحقق هذا المجتمع معنى الأمة، وإن العوامل اللازمة لصياغة أمة صلبة من الداخل هي ذاتها اللازمة لصناعة الحضارة. فما هي عوامل تكوين أمة ذات صلابة وتماسك؟

‌1 - الفكرة الحية المعصِّبة:

"لا شيء أقوى من فكرة حان وقتها"، كما يقول فيكتور هيجو. إن تاريخ الحضارات هو تاريخ الأفكار، وكل أمة أو حضارة تطفو على سطح التاريخ تقدم فكرة خاصة أو روحًا فريدًا (1) يتحقق في نظام وعمران وعلوم وفنون وعادات وأساليب .. قانون عام يحكم في الجماعات كما يحكم في الأفراد، فالإنسان موجَّه بخارطته الذهنية، ويملي عليه وعيُه أفعالَه وردودَ أفعاله. إننا لا نبالغ ولا نتبنى الاتجاه المثالي حين نعزو الطاقة المحركة إلى الفكرة، بل إن العالم يتجه اليوم إلى اعتماد فكر اقتصادي يقوم على الرأسمال البشري، ويرضى بالدافعية الإنسانية ضمانًا ومحركًا للعالم المادي، مع عدم إنكار تدخل العناصر الأخرى؛ المادية والمعنوية. ولذلك فإن العناصر الجوهرية في هذا الفكر هي: الهدف، والقيادة، والموارد البشرية، والمعلومات. ما يعني أن هذا الطرح لا يطعن في ذلك الطرح الآخر الذي

(1) تستخدم مصطلحات كثيرة للدلالة على هذا المفهوم: كالفكرة الدافعة، والرمز الأول، والقيمة القصوى، والمقدمة الكبرى، والافتراض الفلسفي، والمبدأ الناظم، ومبدأ التقويم

وبالمجمل هو النظرة الكلية إلى العالم. ينظر: زريق، قسطنطين: في معركة الحضارة، ص131 - 132.

ص: 33

يقول: إن التاريخ يتحرك من خلال سِيَر العظماء أو الصفوة. لأن الفكرة، أو نزوع الجماعة وتطلعاتها، تتمثل عادة في شخصية فذّ أو عبقري من الناس تقدم نفسها من خلاله، وتجسد معانيها فيه، وذاك العبقري يحرص على أن يحرك الناس بفكره ولفكره، بل إن الفرد لَيصبح ذلك العبقري عندما تكون فكرته محرِّكة. وعلى ذلك فإن التاريخ هو تاريخ الرجال أيضًا، ولا مناقضة في ذلك، وعند هذا الفهم تلتقي وتتكامل تلك النظريات المتحيزة للفكرة، والأخرى المتحيزة للعبقرية القائدة (1)!

ولكنا جعلنا الأولوية للفكرة لأن الرجال متبدلون، وينبغي أن يظلوا في فلك الفكرة، وإذا كانت الفكرة تضعف وتنهار إن خسرت قيادتها الرشيدة (2)، فإن الفكرة إذا دارت في فلك الرجال فسوف تؤول إلى صنمية وشخصانية منحرفة، أو إلى إيديولوجية حزبية ضيقة تقتل العصبية الجامعة بدل أن تنعش الروح في الفكرة الحضارية المؤسِّسة (3).

(1) يميل إشبنجلر إلى التحيز للفكرة، ويميل توينبي إلى التحيز للعبقرية ..

(2)

تسقط الأمم في دور ركود أو انحطاط عندما يتخلف زعماؤها، أو عندما لا تتوافر لها القيادات القوية الأمينة التي تقع موقع القدوة وتحسن تمثيل الفكرة الحضارية للأمة، وتحثّ العامة على الاقتداء وتحمّسهم للعطاء، بالقدر نفسه الذي تستجيب فيه لمتطلبات المرحلة، وتكون فيه على مستوى الموقف؛ إدارةً وأداءً .. كما أن الأمم لأجل ذلك تجدد شبابها بقادتها، وقد كان ما كان من شأن صلاح الدين في تحرير القدس، وقطز والفاتح .. وكذلك يابان في عهد الإمبراطور مايجي .. وفرنسة في عهد لويس الرابع عشر، ونابليون .. وإنكلترة في عهد كرومويل والملكة إليزابيث .. والقائمة طويلة.

(3)

توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 57 - 58، الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص338، 391 - 392.

ص: 34

إن الفكرة الحضارية (1) ليست فكرة استثنائية فريدة، أو قيمًا ومبادئ مجردة، وإنما هي: فكرة حية وعقيدة مفسِّرة للحياة، تتجسد في صفوة قوية أمينة، وتمتد في عمق الأمة، وتتحقق في نظام اجتماعي متكامل يفرضها مصدرًا للقيم، وقوة لإدارة الواقع، وطاقة معصِّبة تجمعها في وجه التحديات، وتحركها نحو هدف واحد ومصالح مشتركة، وتدخلها بذلك طور الفعالية التاريخية. ولن تستطيع الفكرة أن تتحول إلى قوة محركة ما لم تحقق جملة من الشروط:

- أن تكون فكرة وجودية تحمل تفسيرًا كليًا للحياة والعالم، ونسقًا متكاملاً من الغايات والوسائل والمواقف تستغرق تفاصيل الحياة كلها.

- الشمول والاستغراق، فعلى قدر شمول الفكرة واستغراقها للعناصر الضرورية في الحياة الإنسانية تمد سلطانها، وتَستنزِف الفكرةُ طاقتها سريعًا بقدر تخلّيها عن فئات من تلك العناصر أو إغفالها لها، لأنها بذلك تخلّ بالتوازن الشرطي، أو الولاء الرضائي، أو المصلحي، الذي ينبغي للفكرة أن تضمنه بين أطراف الثنائيات المتعاكسة (2).

(1) نهتم هنا بالفكرة الحضارية حصرًا، ولكنما الكلام يصدق على كل فكرة محرِّكة لأي تجمع بشري؛ صغير أو كبير، وتتحدد خطورتها، وقوة أثرها، وسعة مداها، بمدى عمقها، ودرجة استقطابها، وما تستغرقه من شؤون الحياة.

(2)

ولعل التجربة السوفييتية من أبرز الأمثلة لأثر افتقار الفكرة المعصّبة إلى الشمول في تحلّل الأمة، إذ إن الفكرة الشيوعية التي قامت على أساسها الأمة السوفييتية راعت جانبًا واحدًا من المصالح الضرورية في الحياة الإنسانية، وهي مصلحة الفقراء، ولكن حلّ مشكلتي الفقر والعدالة جاء على أساس تطرّف إلى مصلحة الفقراء، وفرض لمساواة حرفية تضحي بمكتسبات التنوع، وتقضي على التنافس المحفّز على العمل، وتخلّ بالتوازن اللازم في الإمكانات .. وبالمجمل لم تحقّق الفكرة الشيوعية شرط الشمولية الذي يضمن المصالح الضرورية كلها، فأدى ذلك إلى "تضخّم" و"ضمور" نجم عنهما انحلال الأمة، وانهيار الدولة.

ص: 35

- أن تصير الفكرة عقيدة (1)

تبلغ في النفوس درجة من الإيقان بحيث لا

(1) لا يشترط في العقيدة أن تكون دينية، فكل فكرة، إن بلغ الإيمان بها مبلغ اليقين واختلطت بسمع الإنسان وبصره، واستولت على مداركه واهتماماته وتطلعاته، صارت عقيدة، وإنما يتأتّى تغلّب سلطان العقيدة الدينية مما لها من امتداد غيبي يمازج ضمير الفرد ويستقطبه حتى إن غابت الرقابة الخارجية، بالإضافة إلى أن الأديان في الغالب توحّد بين المصلحة الفردية والقيم الأخلاقية. ولأهمية الدين عدّ بن نبي العقيدة الدينية من مستلزمات الوجود الحضاري. ينظر: بن نبي، مالك: شروط النهضة، ص70. ولذلك أيضًا اعتبر الحضارة الغربية الحديثة مرحلة من مراحل الحضارة المسيحية، والشيوعيةَ أزمةً مادية من أزماتها .. ينظر: نفسه: ص54. ولا نسلم له بهذا الاستنتاج وذلك الإطلاق، لأن الحضارة الغربية الحديثة قامت على مُثُل غير تلك التي تغلب على الديانة المسيحية، أقصد بها تمجيد العقل، وتقديس الإنسان، ولكن صواب استنتاجه يظهر من منظور آخر، ذلك أن الحضارات لا بدّ لها من أن تمتلك منظومة أخلاقية تمسك المجتمع وتحميه من الانحلال، وقد استطاع الدين المسيحي أن يوفّر للحضارة الغربية في مراحل نهضتها الأولى تلك المنظومة، فلما بدأ النزوع الديني بالخفوت نتيجة ارتفاع صوت العقل، أوجد مفكرو الغرب ما يسمى بمنظومة "الأخلاق النفعية" التي زرعت في الفرد نازعًا أخلاقيًا مشروطًا بالمصلحة المتبادلة، فأسهم هذا في حفز عجلة التقدم المادي، ولكن عندما تشحّ المصالح، وتعسر شروط التنافس، تغدو الأخلاق النفعية حافزًا للذاتية والأنانية، وسببًا من أسباب الانهيار .. وما التجربة الشيوعية إلا تجلّ من تجليات الفكر الغربي في بحثه عن توازن المصالح المفقود بين الفرد والجماعة، وسعيه لخنق مارد الأنا المتفلت بانهيار الأخلاق المسيحية في قمقم الجماعة، وعلى الرغم من أن الشيوعية قامت على عقيدة مادية معادية للدين فقد ساعدها هذا الأصل الأخلاقي الذي يزكيه ضرورة إنسانية عامة بتحقيق العدالة، في تحقيق انطلاقتها القوية، لتهوي من بعدُ سريعًا لما ذكرناه آنفًا من أنها ضحّت بالاستغراق الضروري، وبشرط الشمول، واستبعدت المكوّن الروحي، وخصوبة التنوع الاجتماعي؛ الفردي والجماعي، ولا يحلق طائر بجناح!

ص: 36

يعرض لها شك أو نسبية أو تردد، ويحمل الإيمان بها على البذل والتضحية والتنافس فيها، لتصير هدفًا مركزيًا وحاجة ضرورية في حياة الناس وأفعالهم وتطلعاتهم، إليها يُحتكم، وبها تُقاس الأمور، ولها الأولوية في سلم القيم والسلطات والمرجعيات.

- أن تتحد الفكرة بالمصلحة، وتضمن تأمين الضرورات الإنسانية، وصيانة المصالح الحقيقية، ما يعزز الولاء للفكرة، ويشد الرابطة بين تحققها والإنجاز في عالم الواقع. ومن هنا فإن أقوى الأفكار الخلاقة حضاريًا تبزغ "عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين"، على حد قول كيسرلنج (1)، كما يرى فرويد أن العدالة أولى مستلزمات الثقافة (2). وتتفاوت فئات المصالح بين حضارة وأخرى، ولكن لا تقوم حضارة من دون قائمة العدالة، لأن فقدانها يعني

(1) ينظر: بن نبي، مالك: شروط النهضة، ص70. وكان ابن خلدون قد اشترط في الملك التنافس في الخير وفي الصفات الحميدة، ومراعاة مصالح العباد، فإذا ذهب التنافس في الخير ذهب الملك. ينظر: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 178 - 179.

(2)

"العدالة بمعنى ضمان أن القانون وقد تم وضعه [لا] يُكسر لصالح أي فرد، ولا دخل لذلك طبعًا بالقيمة الأخلاقية لأي قانون". فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص61. يوجد أصل النص المقبوس فراغ في المساحة المضبوطة بالإطارين []، ويبدو أن هناك "لا" محذوفة بها يستوي المعنى.

ص: 37

الفصل بين الفكرة والمصلحة، وتحطيم الرابطة العصبية، وتحويل الفكرة إلى شعارات مجردة ليس لها من الواقع رصيد، فالله - كما يُروى - ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة!! إن الظلم مؤذن بتعطيل الفكرة وإفلاسها الحضاري.

- أن تكون فكرة حية تتمثل في صفوة مختارة أو قيادة مخلصة رشيدة (1)، تجسّد الفكرة في ذاتها، وتحمل أعباءها، وتقدم التضحيات في سبيلها، وتجمع الأمة عليها. ولا تستغني الفكرة عن قيادة أو قدوة تمثلها، لأنها بالقدوة تمتلك وجودها الماديّ المعايَن (2)، والمعاينة ظرف إيجابي لنشر حالة الإيقان اللازمة لتحويل الفكرة إلى عقيدة، وتحفيز فعل المحاكاة وتنشيط العدوى لتحقيق الاستقطاب لدى فئات متنوعة وأطياف مختلفة من الأمة.

- أن تكون فكرة حية في أمّة أو جماعة، فعلى الرغم من خطورة دور النخبة والقادة في الأمة، فإن الحضارة لا تقوم على أفراد، والتغيير يبدأ من القمة ويتحقق على يد القاعدة، والجماهير طاقة مختَزَنة تحتاج إلى شرارة تطلقها، وبوصلة توجّهها وتوظّفها، وهو الدور الذي

(1) ولا يقصد بالقادة "طبقة" متماسكة، بل هم رجال من ذوي ملكات شتى، في السياسة والفكر والعلم والفن .. أو هم أولو الأمر والخبراء في كل شأن ممن يسهمون إسهامًا حاسمًا في توجيه دفة الحضارة. ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص118. وكثيرة هي المصطلحات التي تنعت هذه الفئة من الناس؛ كالرجل الفعّال، والنخبة، والقدوة، والعباقرة، والعظماء .. وفي القرآن الكريم: الرجل الأمّة، "إن إبراهيم كان أمة"(النحل/120).

(2)

وُصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم قرآن يمشي!!

ص: 38

تنهض به القيادات، ولا غنى لحركة عن الرافد الشعبي الذي يثريها بالتنوع الوظيفي ويمدها بالتوازن الداخلي؛ في الطاقات والخبرات والإمكانات، لتحقق الأثر المنشود، وتصنع فرقًا متعدد المستويات في عالم الواقع (1)، وتتوسل الفكرة لبلوغ الانتشار الشعبي بآليات؛ أهمها: القدوة والمحاكاة (2)، والدعوة أو الترويج الإعلامي، وضمان المصالح الضرورية.

- أن تكون فكرة حية متحققة، أو قابلة للتحقق، في دولة (3) ونظام اجتماعي متكامل (4) وأن تكون لها صورتها التشريعية والتنفيذية،

(1) لم تتحول الدعوة الإسلامية إلى دولة إلا بعد الهجرة إلى المدينة، أي بعد ثلاثة عشر عامًا من الدعوة، وفي الزمان والمكان اللذين توافر فيهما الدعم الشعبي للفكرة.

(2)

عظّم توينبي دور القدوة أو الأقلية المبدعة في الفعل الحضاري، ولذلك عوّل على المحاكاة في تحريك العامة وتجنيدهم في المشروع الحضاري، فمهارة الزمّار هي التي تغري أرجل الجمع بالاستجابة إلى الرقص. ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 412، و"إن المحاكاة هي ضرب من التدريب الاجتماعي"، نفسه، 2/ 3.

(3)

كان تحول الدعوة الإسلامية إلى دولة بعد الهجرة إلى المدينة عنصرًا حاسمًا في انطلاقة الحضارة الإسلامية، ولذلك رأى ابن خلدون أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك، لما يهيئه من أسباب التمكين والقدرة، أي تمكين الفكرة، والقدرة على تحويلها إلى نظام. ينظر: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 174، 178 - 179.

(4)

لا يجوز أن تكون الفكرة شعارات نظرية، ولا طموحات مثالية، وإلا تحولت إلى فوضى، لأن رفض الواقع والسعي إلى تغييره يعني امتلاك تصور واضح عن البدائل وخطة واقعية للتغيير، وغياب البدائل هو الذي أسقط الثورة الفرنسية في أعوام رعب دموي لم تتوقف إلا مع نابليون، أو ما عرف بـ"مدونة نابليون" القانونية التي اجتاح بها أوروبة حتى عمّتها كلها وأسست للنظام الاجتماعي الحديث. وفي مزلق انعدام البدائل وضبابية المستقبل سقطت معظم التيارات العربية والإسلامية الإصلاحية المعاصرة!!

ص: 39

عبر شبكة محكمة من المفاهيم والغايات والأدوات، والحقوق والواجبات، والدساتير والمؤسسات، والأنظمة والتقاليد .. وكل ما يمكن أن يجسد الفكرة في مناحي الحياة المختلفة، ويجعلها تتغلغل كالنسغ في أوعيتها، ويمنحها سلطة التأثير في الواقع وحماية كلياتها.

- أن تكون الفكرة جامعة أو "معصِّبة (1) "، تعزّز الولاء الجماعي

(1) عني ابن خلدون بإظهار ما للعصبية من دور جوهري في انبعاث الدول، وعلى الرغم من أن كلامه كان في المستوى السياسي للحضارة أو الأمة، فإن استنتاجاته تعين في تفسير الظاهرة الحضارية بالمطلق، ولا يمنع من استخدام مصطلح العصبية ما قد يلابسه من إيحاءات بدوية أو قبَلية قائمة على أواصر الدم والنسب غالبًا، لأن التجربة القبلية واحدة من تطبيقات العصبية المتنوعة .. يعرّف محمد عبده التعصب بأنه:"الرابطة التي شكل الله بها الشعوب، ويقول إن الشعوب تظل بخير ما بقيت قوة الربط بين أفراد الأمة فإن ضعفت تداعى بنيانها للانحلال .. "، نظر: حسين، محمد محمد: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، 1/ 56. فالعصبية هي قوة الربط ودواعي وحدة الجماعة وتماسكها، وهي رابطة معنوية لا مادية فقط، وقد توصل محمد عابد الجابري من خلال تحليل موضوعي لمفهوم العصبية عند ابن خلدون إلى أنها "رابطة معنوية"، قوامها المصلحة المشتركة الدائمة للجماعة، ويقتبس له قوله: "لا معنى لكونه من هؤلاء أو هؤلاء إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه، وكأنما التحم بهم" (ج2، ص427) "، ينظر: الجابري، محمد عابد: فكر ابن خلدون - العصبية والدولة، ص168، ص172.

ص: 40

للفكرة، وتشدّ من وحدة الأمة وتمتّن أواصرها، بل إن توينبي قد جعل هذا الشرط المعيار الفصل للارتقاء الحضاري، إذ قال:"ولا تتخذ الاستجابات الظافرة شكل التغلّب على عقبات خارجية أو قهر خصم خارجي؛ لكنها تُظهر نفسها في الترابط الذاتي أو تقرير المصير"(1). وتكون الفكرة معصّبة عندما تحقق مجمل الشروط السابقة، فكونها عقيدة مركزية واحدة، وحظوتها بنخبة رشيدة، وامتدادها في عمق الجماعة، واتحادها بالمصلحة، وتحققها في نظام اجتماعي متماسك ..

كل ذلك جدير بأن يُكسِب الفكرة القوة التعصيبية اللازمة، وهو عام في أصل أية كينونة حضارية. بيد أن الحضارات تفترق وراء ذلك في قيمها بين الجماعية والفردية، وأيًا كانت المنطلقات النظرية للحضارة، فإنها مهدَّدَة بالتآكل والتفكّك إذا لم تحرص على خلق الحس الجماعي، وتعزيز الشعور بالولاء لدى الأمة، وقد استعانت الحضارة الإسلامية لبلوغ هذا المأرب بتأييد أخلاقيات الرعاية والطاعة وزرع واجب الولاء للأمة والفكرة الإسلامية، في حين أن الحضارة الغربية التي أطلقت الحريات وعزّزت الفردية شجعت الأخلاق الجماعية عن طريق النفعية المتبادلة، وما سموه بالأخلاق العملية، واحترام النظام، واكتساب المجد في خدمة الوطن القومي. ما يعني أن الفكرة الحضارية لا تكون إلا مُعصِّبة، وأن الحضارة لا تقوم إلا على الحسّ الجماعي لا على الفردية بأية حال (2). وبما أن مكاسب المدنية، والوفرة،

(1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 333.

(2)

يرى ديورانت أن الفردية كالحرية ترف جاءت به المدنية، ينظر: ديورانت، ول: قصة الحضارة، 1/ 89، ولذلك فإن فرويد يصل إلى أن من مهام الحضارة التوفيق بين مطالب الفرد ومطالب المجتمع المتحضر بطريق يشبع هذه المطالب عند الاثنين. فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص62. ويعتبر الحاجة إلى الحب - وهي نوع من المصالح المعنوية - من أهم العوامل النفسية الداخلية التي تساعد على الانحراف بالغريزة الأنانية و"توجيهها وجهة اجتماعية وجعلها غرائز اجتماعية"، نفسه، ص18 - 19.

ص: 41

تحرّضان نوازع التنافس، وتعزّزان الأنانية والميول الفردية الغريزية، وتصادمان بها المصلحة الجماعية، فإن النظام المتعيّن في آداب وتقاليد ومؤسسات، يجتهد لترويض تلك الغريزة الجامحة لصالح المجموع، فـ"الحضارة، لو علمنا، لم تقم لها قائمة إلا عندما تخلينا عن رغباتنا في الإشباع الغريزي، وهي ثمرة نبذنا لهذه الغرائز

وتزيد المؤثرات الحضارية من فرص تحول الميول والاتجاهات الأنانية في الإنسان إلى ميول واتجاهات غيرية واجتماعية"، وهذا ما يسمى بالتكيّف الثقافي (1)، أو الكبت الثقافي، على حدّ تعبير فرويد (2).

(1) والتكيّف الثقافي هو تلك "القدرة الشخصية التي لكل فرد، والتي تمكنه من تغيير دوافعه الأنانية إلى دوافع غيرية اجتماعية بتأثير طاقة الحب"، فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص19، أو الواجب؛ إذ تراعي النظرية الإسلامية هذين المصدرين؛ الحب والواجب، من أجل التحقق العملي للقيم، فإذا لم تتوافر الميول دافعًا، تحرّك الإنسان تحت سلطان الواجب، فليس كل ما يجب علينا نحبه. أما في الغرب فإن هناك جدلاً عريضًا يتنازع مفكريه حول هل يجب عليّ إذًا أقدر، أم أقدر إذًا يجب عليّ، وقد عُدّ الحب من أسباب القدرة الأساسية! والحق أن حل الإشكال في هذه المسألة، والتوفيق بين الولاء للحب والولاء للواجب، وإحقاق التوازن بينهما، والاعتراف بسلطان الواجب وإن عاكس الميول والرغبات، يُوجد مخرجًا لشباب هذه الأمة الذين يتذرّعون بالظروف والبيئة لتبرير فشلهم وكسلهم، ويعلمهم أنه ينبغي عليهم أن ينجحوا في أداء ما يحبون وما لا يحبون وإتقانه، ما دام واجبًا عليهم أداؤه.

(2)

فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص63.

ص: 42