الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطفو على السطح مشكلات التعارض بين المصالح والقيم، والذات والجماعة، ونسبية الولاءات، وتحسم المساومات غالبًا لصالح ما هو مضمون ومادي ملموس وسريع الأثر .. والخاسر الأكيد هو الفكرة.
لا تتسبب الوفرة في تعزيز سلطة المصالح أو الدافع النفعي فحسب، بل تتسبب في فترة لاحقة في تغيير الخصائص النفسية والاجتماعية للأمة، وتحوّلها من الفعالية والاندفاع والتنافس في الفكرة إلى التنافس في المصلحة، ومن ثم تهوي بها إلى شره اللذة والعطالة، والتواكل على إنجازات الحقب الماضية والاكتفاء بالحركة الآلية الناجمة عن الدفع الذاتي لها، إلى أن تتخامد طاقتها أخيرًا .. وفي جو مشحون بالضعف وعدم الثقة والفساد الأخلاقي، تميل السلطات الثلاث: القوة، والمال، والمعرفة، إلى التصادم بعد أن عرفت التكامل في مرحلة الذروة، ويسود منطق القوة، ويشيع الظلم، ولا يجدي الجهد، وتأنس الأمة بالإحباط وعدم المبالاة. وبذلك تتعطل صمامات المحرّك الذي كان يمدّ الحضارة بالطاقة على المستويات كلها، وتتآكل شيئًا فشيئًا حتى تذوي ..
2 - بين انحلال القدوة واستكانة الأمة:
كغيرها من مكونات الظاهرة الحضارية، تتأثر طبقة القادة (الفكرية أو السياسية) بالظروف المتغيرة وما تحمله معها من مؤثرات تنتحي بالذات (الفردية أو الحضارية) عن أصالتها، بيد أن الخطورة ههنا أن طبقة القادة تستطيع توجيه المتغيرات وتكريسها؛ سلبًا أو
إيجابًا، والتأثير في الأمة بما تمتلكه من سلطة تستند إلى موقعها التاريخي والاجتماعي، وباعتبارها قدوة ومرجعية للأمة كلها، ولذلك فإن استجابة طبقة القادة للمتغيرات ينعكس على الأمة ويُعديها.
لم يكن في إمكان القادة أن يحرّكوا الجماعة للفكرة الحضارية ما لم يمتلكوا اليقين بها في ذواتهم أولاً، ويتمثلوها في سلوكهم ثانيًا، ويقدموا في سبيلها التضحيات ثالثًا. وهم بذلك يهيّئون للفكرة أن تقدم نفسها حية مشخَّصة تبلغ أعلى درجات اليقين؛ أي "عين اليقين". ولأن السلوك يُعدي، فقد استطاعت الفكرة بالاعتماد على المحاكاة الفطرية أن تتغلغل في النفوس وتبلغ أسمى طاقات التحريك، وتثير حماسة الجمهور للبذل والتضحية .. بهذه الطاقة عينها يستطيع القادة أن يسقطوا الفكرة ويغتالوا الإيقان المستقرّ في النفوس بما يصدر عنهم من أفعال أو ردود أفعال، ولهذا فقد نصح مكيافلي القادة بالتظاهر بالتدين والفضيلة حتى إن كانوا على غير ذلك في حقيقتهم (1).
في سبيل متابعة التطورات العميقة التي تطرأ على شرائح الأمة المختلفة؛ أفرادًا وجماعة، سنلجأ إلى عملية تفكيك للعناصر، وتشريح للعلاقات الداخلية بينها، ورصد أدوار كل فئةٍ وعنصرٍ على وجه الإجمال من خلال المحاور الآتية:
- في مرحلة النبع تتّحد القيادة الفكرية بالقيادة السياسية، أو تتحد معها، لتقود عامة الأمة، وتكون قدوة لها في الحركة والتغيير
(1) ديورانت، ول: قصة الحضارة، 21/ 68 - 69.
والفعالية (1). وإن أي انحراف سلبي يطرأ على طبقة القدوة يهدد بانفصام داخلي فيها، فتستقلّ القيادة السياسية عن القيادة الفكرية وقد تتصادمان، فتخسر إحداهما، أو كلاهما، موقعها الملهِم للأمة ولا تصلح أن تكون قدوة، وتعوّض الأمة النقص الحاصل في القدوة بالبحث عنها في التاريخ أو الأساطير أو الحكايا الشعبية. وفي حال انفصلت القيادة السياسية عن القيادة الفكرية فإن الأولى تحرص على كسب ولاء الثانية أو الحظوة بمباركتها وامتلاك الشرعية عن طريقها، في حين تحاول القيادة الفكرية تقويم القيادية السياسية وحفزها على الالتزام بالأصول الحضارية للأمة، ويقدم الزمن المزيد من الخيارات .. فتذوب، أحيانًا، السلطة الفكرية في السياسية وتخسر مصداقيتها عند الأمة، أو تقود السلطة الفكرية الأمة في انقلابات وثورات إصلاح عنيف أو سلمي، أو تتحدان معًا لنهضة جديدة تمدّ الحضارة بمزيد من الوقود والطاقة.
- هناك تغييرات عامة تطرأ على طبقة القادة وتتأثر بها الأمة سواء بسواء، وهي تلك التغييرات التي تتعلق بحركة الصيرورة الزمنية، وتدرج الحضارة الطبيعي من المعنوي إلى المادي، وانتقال الفكرة من
(1) أشرنا في مطلع هذا البحث إلى أن الفكرة لن تتحول إلى فكرة حضارية فعّالة ما لم تضمن تحققها السياسي، وقد يكون هذا التحقق دوريًا في دورات داخلية وعقد مرحلية متغيرة، ويمكن أن نمثل لهذا الأمر بدولة المدينة في الحضارة الإسلامية، وبالملك لويس الرابع عشر في فرنسة، وبحكم نابليون فيما بعد الثورة الفرنسية .. ولكن التحقق السياسي ليس شرطًا لقيام الحضارة، بل هو شرط لتمكين الفكرة الحضارية وتحققها، وهو في الغالب نتيجة لاحقة للانطلاقة الحضارية.
اليقين إلى الشك، والاستكانة للوفرة والتعلق بالمصلحة وإيثار الذات على الجماعة .. هذه التغيرات تطال شرائح الأمة كلها دون استثناء وتمتص فاعليتها تدريجيًا .. ويرصد ابن خلدون فيما يتعلق بقيمتي اليقين والمصلحة أربعة أجيال تمرّ بها الحضارة، فبعد ذلك الجيل الذي سماه ابن خلدون بالبناة (1) - وهو الذي على يديه تنطلق الحضارة، وتعرف الفكرة وجودها الحي الفعال بتضحياته - يأتي جيل يرث المكاسب، ولا يدرك التضحيات إلا بالرواية والسماع، وهي المرحلة التي تتحول فيها الفكرة من عين اليقين إلى "حق اليقين"، وابن هذه المرحلة "مباشِر"، لأنه "مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذ عنه إلا أنه مقصّر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له"(2). ومع ذلك يظل الاشتغال للفكرة من الضروريات، والإحساس بالمجد نابعًا منها، وما تزال دافعًا للبذل، لكن مع بروز الجانب الذاتي والعناية بالمكاسب والرغبة بتحقيق التطلعات الفردية التي تتّحد في تلك المرحلة بالحاجات الجماعية، لأن الفكرة تدخل طورًا تصبح فيه مصدرًا حقيقيًا وحاسمًا لمكاسب وإنجازات مضاعفة، بعد أن كانت قيمًا ووعودًا بالمكاسب. يتولد عن هذا بداية تضخّم في المكاسب يهدّد فيما بعد بالطغيان على القيم والفكرة المولِّدة نفسها، ويتجلى التضخم في القوى الثلاثة الأساسية: المال، والقوة، والمعرفة، وفي سلطة ممثليها.
إلا أن هذه القوى تتعاضد معًا لتأصيل دور الفكرة في
(1)"باني المجد عالم بها عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171.
(2)
ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171.
الحياة والواقع وتحويل طاقتها إلى إنجازات خلاقة، فتتقدم الحضارة على مختلف المستويات. ثم يعقب ذلك جيل يرث المكاسب ويتعلق بها لتغدو غاية في ذاتها، ويغفل عن المولّد الحقيقي لها، وتتضخم لديه الميول الفردية والإحساس بالذات والتنافس في المصلحة، ويتمسّك بالفكرة شعاراتٍ مبهِجة معطَّلة، وتقاليد آلية مفرَغة من المعنى، إنه الجيل "المقلِّد"(1) الذي يؤثر المتعة ويعيش الترف ويتعلق بالقشور في كل شيء؛ في السياسة والمادة والمعرفة والدين أيضًا .. والميل إلى الإفراط يعني فيما يعني تحفيز ردة فعل معاكسة إلى التفريط، فتعرف الحضارة في تلك الحقبة خليطًا من التيارات المتناقضة المتصارعة، كالمادية والعقلانية والروحية والأصولية والشعبية .. ويتعمّق تفاوت طبقي بين الفئات الاجتماعية، وتشرذم سياسي يقطع أوصال العصبية الجامعة إلى ولاءات شخصية وعرقية تفتقد الحماسة الشعبية .. ومع ذلك كله، فإن تلك المرحلة تشهد ذروة الرقي المادي والمعرفي للحضارة، لأن الترف والتنافس حافزان على التجويد مشجعان على الإنجاز، ولأن السلطات الثلاث: القوة، والمادة، والمعرفة، ما زالت تعرف كثيرًا من التكامل. ثم يأتي قرن لا يجد في الفكرة قيمة، حتى أن تكون شعارًا! وتتصارع السلطات الثلاث وتتعارض بعد أن كانت متكاملة، بل تنقطع الصلات بينها وتتصادم (2)،
ويلجأ "الهادم"(3) - وهو الفرع الأخير من فروع السلسلة
(1)"ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصَّر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171.
(2)
للاستزادة فيما يتعلق بالصراع بين هذه السلطات، ينظر: الكيلاني، ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص353 وما بعد ..
(3)
"ثم إذا جاء الرابع قصّر عن طريقته جملة وأضاع الخِلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجِلّة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وُثوقًا بما رُبِّي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فيُنغِّصون عليه ويحتقرونه ويُديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلنا بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول
…
"، ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 171. ينظر أيضًا: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 412.
العصبية - لسد الفجوة الحضارية المتضخمة إلى تشجيع الجهل، وإعاقة حركة الأموال واحتكارها، وإيثار سلطة القوة، والمبالغة في الظلم وكبت الحريات وتعطيل المصالح لإضعاف المنافسين، ما يؤدي إلى انتشار الخوف وشلل الإرادات وتجمّد الفعالية والشعور بالعجز والسلبية، وتبادل انعدام الثقة والحذر والترقّب، وأخيرًا استشراء الخوف واليأس والتطلّع إلى الثورة .. وهنا تبدأ الحضارة بالانهيار والتفكّك على الأصعدة كافة (1)،
وتغدو مشاريع الإصلاح متعثّرة لا سيما بعد تأبّد عوامل الضعف والانهيار وتأكّدها، فالأمة، عمومها،
(1) يرى حسين مؤنس أن الفساد الأخلاقي يظهر في عهد القوة، ومع بواكير عهد الضعف يبدأ في التلاشي، ليحل محله فساد من نوع آخر، هو الفساد المتعلق بالجبروت والقوة، والمحفز له الخوف والتنافس .. ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص258 وما بعد ..
تعادي الإصلاح وتأنس للسكون وعدم التغيير وكل ما قد يجرّ عليها تضحيات ومعاناة غير مجدية.
- في الوقت الذي تتشارك فيه شرائح الأمة التعرض لرياح الانكسار المتعاقبة، فإن خللاً إضافيًا يشكل معول هدم غائرًا في ذلك اليقين الآخذ في النضوب، هذا المعول هو القادة أنفسهم، ونعلم أن الأمة قد استمدت قوة الإيمان بالفكرة عندما تجسدت في نماذج بشرية ريادية حية تعايش ظروف الأمة وتشاركها محنها وإمكاناتها البشرية نفسها، فإذا اهتزّ هذا المثال المعلِّم للأمة فإن الإيمان المتولِّد عنه يهتزّ، وكثر ما لعبت بالأمة الخيبة لممارسات غير مسؤولة من قبل قياداتها؛ الفكرية أو السياسية طبعًا، لتفقد الإيمان وتتوه في الفوضى والشك، وينبت المتعالمون والانتهازيون، يتطاولون في تنافس يعمّق البلبلة المتعاظمة.
- تغيب وراء الحركة الهدّارة للصيرورة الزمنية وأعراضها المباشرة أخماجٌ فطرية تمثّل العلة الدقيقة المفنية للحضارة، المعطِّلة للأمة عن الفاعلية، لعل أخطرها تغيّر الخصائص النفسية والاجتماعية للجيل حامل الفكرة الحضارية وحاميها وممثّلها، وهذا ما سنتكلم عليه في الفقرة اللاحقة بالتفصيل إن شاء الله، ولكن الذي يعنينا هنا، أن الفكرة الحضارية القوية التي تمتلك جذورًا عميقة في الحياة والأمة، وسندًا فعالاً من القيم والمصالح، تأبى أن يمثلها جيل أو عصبية قائدة ضعيفة فسدت بنيتها الداخلية وتشوّهت خصائصها النفسية، وعجزت عن حمل تبعات تلك الفكرة وتخلّت عن مسؤوليتها تجاهها، وتستبدِل - أي الفكرة - بها عصبية قوية من الأمة نفسها تحمل خصائص رجل
الفطرة - بمصطلح ابن خلدون - لتشكّل فقرة جديدة من فقرات التاريخ المفصلي لتلك الحضارة (1). أما إذا ضعفت الفكرة وانسحبت من الحياة، وتكرّست خصائص الانحطاط النفسية، فإن الخطر المحتمل هو أن يُستبدَل بالأمة عصبيةٌ من خارجها، إلا أن يتمّ تجديد الفكرة الحضارية وإعادة نبض الحياة إليها وتخصيبها على مستوى الحياة والواقع والإنسان (2).
- بما أن التعرض لمؤثرات الانهيار عامّ، وأنها تخلّف الترهّلات النفسية ذاتها، فإن الاستعلاء عليها عمل استثنائي، ولما كان في إمكان طبقة القادة أن تحرّك الأمة في الإقلاع الحضاري، فإنّ في إمكانها في أية مرحلة من مراحل الحضارة تخطّي تيار الانهيار المتحدّر، وتنشيط انطلاقة دورة حضارية داخلية داعمة تمدّ في عمر الحضارة، وتجدّد شبابها المتصرِّم. ولا فرق في أن تكون تلك القيادة سياسية أو فكرية
(1)"إن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عوده إلى شعب آخر منها ما دامت لهم العصبية"، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 182.
(2)
عرفت الحضارة الإسلامية عصبيات قبلية وعرقية متعددة؛ أموية، وعباسية، وكردية، ومملوكية، وعثمانية .. استطاعت أن تحمل الفكرة الحضارية، وتشكّل الصيغة السياسية لها في حقب متعاقبة، فأسهم ذلك في تجديد عمر الحضارة مع كل دورة، وكانت الدافعة العصبية والعرقية حاملاً قويًا من حوامل تلك الحضارة أسهم إسهامًا جذريًا في إحياء فكرتها وتجديدها ومدّ عمرها ليكون لها هذا العمق في التاريخ .. أما الحضارة الغربية فقد تداولت فكرتها الحضارية عدةُ عصبيات قومية؛ إيطالية، وإسبانية، وفرنسية، وإنكليزية، وألمانية، وروسية شيوعية، وأمريكية، خصّبت الفكرة وأنقذتها من أخطائها وأوضار ضعفها.
أو جامعة بينهما، إلا أنها في كل الأحوال يجب أن تنطلق من الفكرة الحضارية نفسها، تجدّدها وتبعث الحياة فيما تخشب منها، أو تتفوّق في ابتكار وسيلة ذهبية تكون ركيزة أو لبنة مؤثرة، تستجيب لمعطيات المرحلة التاريخية، أو تستبطن طاقات غير مفعّلة فيها، تعيد لها زخمها التاريخي (1). إن تخطّي تيار الصيرورة الهدّار أو معاكسته عمل استثنائي، وهو لا يتأتّى بغير توافر طاقة محرِّكة استثنائية أيضًا، تعلو على شروط الواقع الموضوعي لتؤمن بما هو كائن في القوة أو بما يمكن أن يكون، ولن يطّلع بهذه المهمة إلا قادة استثنائيون، بشرط أن يخلقوا داخل القاعدة الشعبية جيلاً يحمل الإيمان بالفكرة ويعمل بدفع منها، ليتحول الإيمان إلى تاريخ وإلا ظلّ في إطار الأحلام، لأن التغيير لا يمكن أن تنهض به القمة دون أن تدعمه القاعدة وتكون امتدادًا لها.
- لن تنهار الأمة إلا إذا فشا الفساد في خاصّتها، حتى ألفته عامّتها، ورضيت به، واستكانت له. إن الخاصة أكثر عرضة للفساد، وهو فيها أظهر وأبرز، ولكن الأمة المعافاة قادرة على إخراج خاصة صالحة من بين ظهرانيّ عامّتها تستعيد بها مصادر القوة والسيطرة من الخاصة الفاسدة، وتقوّم بها من انحرافها. وأبرز صفات الأمة المعافاة تمييز الحق من الباطل ونصرته (2)؛
لأنها تمتلك معيارًا واضحًا، ويقينًا
(1) تؤمن الحضارة الإسلامية بفكرة المجدد الذي ينبعث على رأس كل قرن ليجدد للأمة دينها، ولا فرق في أن يكون المجدد فردًا أو جيلاً أو قومية أو مجموعة أفراد، وذلك يختلف تمامًا عن الاعتقاد بفكرة المخلِّص أو المنقذ، لأن فكرة المجدِّد هي تقرير لقانونٍ ومبادرةٌ، أما المخلِّص فهو حُلُم واستسلام وسلبية.
(2)
في الحضارة الإسلامية واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُعلَّق برقبة كل فرد في الأمة، تنهض به العامّة تمامًا كما تنهض به الخاصة، فقد قال ربنا جل وعلا:"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، (التوبة/71)، أما المنافقون والمنافقات فـ"بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف"، (التوبة/67). وقد مارس هذا الواجب أوائل المسلمين، ولم يكلوه إلى فئة منهم، فقد كان مما خطب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة قوله:" .. فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني .. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص57. وقد رخّص الله تعالى في حال القوة والتماسك وغلبة الإيمان أن تنهض بعبء الإصلاح طائفةٌ من الأمة (آل عمران/103 - 104)، فإذا ما انتكست الأمة إلى الخلاف، وعمّها المنكر، لزمت أمانةُ الإصلاح عامةَ الأمة وخاصَّتها، وقد روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". الترمذي: السنن، ص490. وكان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد صرّح بأن استنكار المنكر في القلب وحده دليل على ضعف الإيمان ..
راسخًا، وإرادة قوية، وهمة عالية. أما إذا خربت الأمة من الداخل، ونخر سوس الفساد والانحلال في عامتها؛ أي في كثرتها، فإنها لن تكون قادرة حينئذ إلا على إنتاج خاصة فاسدة تجسّد الفساد المستشري، وتمنح الأمة ذرائع مادية ظاهرة لتبرّر بها انحطاطها، وتسوّغ عجزها وتواكلها وقعودها عن الإصلاح والتغيير، و"كما تكونوا يولّ عليكم"(1)، فالخاصة مرآة العامة، وصورة جلية لما تستّر من أمراضها النفسية، أو فشا من عيوبها الخلقية، ولن تعجز الأمة عن
(1) حديث موقوف على الحسن، المناوي: فيض القدير، 5/ 47، رقم الحديث6406.
إصلاح خاصتها إلا لإبائها هي الحق في ذاتها وانصرافها عنه وجزعها منه ومحاربتها له .. في مثل هذه المرحلة، وعندما يعمّ الفساد عامّة الأمة وخاصّتها، لن يكون أي مشروع للإصلاح مجديًا ولا ناجعًا ما لم يكن جذريًا شاملاً ينصبّ على الإنسان قبل المظاهر والأشياء، لأن مستقرّ الداء فيه مهما بدا أن المحن والنكبات تستهدفه وتعارضه، والحق أن هذه النكبات نفسها وسيلة من وسائل الخلاص والبرء من ذاك الداء، فهي فرصة مجّانية يمنحها الزمن للأمة المنكوبة لتطهّر نفسها بعذابات الصهر من أدران الفساد، أي إن الزمن - وعلى عكس ما يعتقد كثير من المصلحين - يقف إلى جانبهم معينًا في مهمتهم الشاقّة لانتشال الإنسان المتلوّث، واستعادة جوهره النقيّ؛ فآخر دواء الكيّ.
ويمكن من خلال ما تقدّم الإجابة عن المسألة القديمة الجديدة: هل الإصلاح يبدأ من القمة أم من القاعدة؟ الحال أن الأمة، إذا استشرى فيها الفساد، فلا تجدي فيها الإصلاحات السياسية أو الإدارية ما لم تشترك الأمة كلها فيها (1)، لأن الأمة باستكانتها للواقع، وتهيبها من المغامرة، وانصرافها عن البذل والتضحية، تقاوم وتعادي أي مشروع للتصحيح بعد أن اعتادت عيش حياتها بمفاهيم
(1) لعل تجربة محمد علي الإصلاحية في مصر خير مثال على هذا، فقد كان الرجل يحاول أن يبني مجده الشخصي ويحقق مكاسبه الخاصة، غافلاً عن حاجات الأمة ومتطلبات المرحلة، بل معاديًا لها في بعض الأحيان، ولذلك فإن جهوده الإصلاحية، التي تركزت في الشؤون الاقتصادية والعسكرية، لم تحدث انقلابًا حضاريًا، بل سرعان ما اضمحلت بزواله.