الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحضارة والدور الحضاري
لا تخلو أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات؛ بدائية كانت أو متقدمة، من أن تكون لها ثقافة ما تربطها وتكسبها طابعها المتميز، والثقافة هي طريقة في العيش وموقف من الحياة والوجود، ونظام قيمي واجتماعي يحكم مظاهر الحياة ومفرداتها جميعها، وينعكس في أشكال النشاط والسلوك كلها، ويمنح المجتمع هويته ويحافظ على تماسكه. أما الحضارة فوصف زائد على الوجود الثقافي للجماعة، يتضمن معنى التقدم، والتفوق النوعي والكمي، والإنجاز على مستوى الواقع، ودرجة ملحوظة من التأثير في المحيط التاريخي، وفعالية في صنع أحداثه وتوجيهها؛ فعالية قد تصل حد تشكيل منعطف ومفصل مشع فيه؛ زمانيًا ومكانيًا (1).
ويمتاز اللفظ العربي
(1) يهتم معظم الباحثين في مجال الحضارة بإبراز القيمة التقدمية وعنصر الإنجاز في التكوين الحضاري، وهذا ما يشدد عليه قسطنطين زريق في كتابه: في معركة الحضارة، ص39). ويؤكد حسين مؤنس أن الكثرة والتراكم عنصران أساسيان في التخلق الحضاري، كتاب:(الحضارة، ص15). في حين يضيف فرويد إلى معيار الإنجاز الحضاري معيارَ النوع على أنه علامة فارقة لقياس الرقي الحضاري، فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص59. بيد أن إشبنجلر يغيّب تمامًا الرقي من محدِّدات الحضارة، ويكتفي بالنص على التمايز وكل ما يعتبر من الخصائص الثقافية الفريدة للأمة. ولعل هذا راجع في بعض وجوهه إلى أن لفظ Culture في اللغات الغربية يستخدم للدلالة على الحضارة والثقافة معًا، لا سيما أن إشبنجلر يستعين بلفظ Civilization للتعبير عن "المدنيّة" باعتبارها مرحلة من مراحل الحضارة تشهد حالةَ التقدم والخواء معًا. ولعل هذا راجع أيضًا إلى أن إشبنجلر يعتقد بأن هوية الحضارة تتأتى من طبيعة روحها وخصائصها الجوهرية، أما التقدم فهو من علائق المدنية، ينظر كتابه: تدهور الحضارة الغربية.
"حضارة" المشتق من "الحضور" في الدلالة على معنى "الفعالية"، فالعلامة الفارقة في الفعل الحضاري هي "حضور" المشهد التاريخي، وشهوده وعدم الغياب عنه ولعب دور فيه (1)، "وكثير من المجتمعات الإنسانية تقتصر على مجرد الوجود دون الحضور، ومن ثم لا يمكن إطلاق مفهوم الحضارة عليها مهما كان نتاجها الذهني والمادي، طالما وقفت فقط عند مجرد الوجود"(2).
وإذا كانت كل حضارة تمتلك، شرطًا، خصوصيةً ثقافية هي بمثابة الروح لها، فإن الحضارة ليست لازمة لوجود الأمة الثقافي (3).
(1) يهتم نصر محمد عارف بإيراد الجذر اللغوي لمفردة "الحضارة" ويتقصى اشتقاقاتها، ويجد أنها كلها تدور في فلك معنى "الحضور" و"الشهادة"، وليست الإقامة في الحضر إلا إحدى الدلالات. ينظر: نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص55 وما بعد.
(2)
نصر، محمد عارف: الحضارة - الثقافة - المدنية، ص60. ولذلك ظل العرب في الجاهلية، والهنود الحمر، في مرحلة البداوة على الرغم من امتلاكهم لنظام اجتماعي دقيق وتشريع خلقي رفيع. فلما امتلك العرب الفكرة المحركة أسسوا تلك الحضارة السامقة! وهذا يعني أن العامل الاقتصادي ليس هو المؤثر في سكون العرب أو الهنود الأمريكيين كما زعم ديورانت، ينظر: ديورانت، ول: قصة الحضارة، 1/ 4 - 5، لأن الأخيرين لم يستطيعوا أن ينتقلوا إلى طور الحضارة على الرغم من تغير التكوين الاقتصادي لمجتمعهم فيما بعد، كما أن النهضة التي هيأ النفط أسبابها لدول الخليج ليست إلا نهضة سطحية خادعة ما دامت تلك الدول لا تملك إرادتها في قبول أو رفض استقبال قواعد أمريكية في أراضيها!
(3)
إن التحدي الخطير الذي تواجهه الأمة العربية والإسلامية اليوم، أنه على الرغم من غيابها عن المشهد التاريخي، وفقدانها القدرة على التأثير فيه، بله توجيهه، فإنها تتعرض لأزمة هوية خطيرة وبلبلة ثقافية متفاقمة! ما يعني أن أزمتها أزمة حضارية وجودية في آن، لأن هوية الأمة الثقافية هي جوهر وجودها نفسه، لا درجة هذا الوجود.
وتتجلى عبقرية الأمة في طبيعة حضورها، لأن الحضور يتفاوت في الدرجة والنوع، وهذا يقتضي امتلاك مقياس أو معايير لتقويم التجارب الحضارية للجماعات الإنسانية. ويغلب على المناهج التاريخية أن تقيس التقدم الحضاري بـ"الكم"، والكم يستعين بوسائل موضوعية مختلفة؛ كرصد الإنجازات الحضارية مع مراعاة قيمتي الكثرة والتراكم، بالإضافة إلى قياس نسبة الانتشار والتوسع. ويرفض توينبي المعيار الكمي لتقويم التجارب الحضارية إذا تم غضّ الطرف عن المعيار الكيفي (1)، بل يشدد حسين مؤنس في لفت الأنظار إلى ضرورة توافر معيار أخلاقي في التقويم الحضاري (2)!! ومع ما في هذا الرأي من وجاهة، وأنه ينسجم مع منظومتنا الفكرية، فإن المعيار الكيفي يحتوي ضمنًا مخاطر تسلب نتائجه صفة الوثوقية والحياد وبالتالي الإلزام، لأن القول فيه بالرأي، والرأي يستند إلى مرجعيات مختلفة وثقافات ونظريات متغايرة، ولا مجال فيه للاتفاق أو المحاجّة
(1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 317 - 318، 320.
(2)
فالنظر إلى الأهرامات على أنها عمل معماري عظيم مع التغاضي عن الضحايا التي كلفت إنشاءه، هو انبهار بالآثار الظاهرة وإهمال لحقيقتها غير الأخلاقية، وكذلك الشأن في حادثة الصعود إلى القمر لإثبات التفوق وإعلان السيطرة واستغلال الفضاء الخارجي في سباق التسلح! ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص11.
أو الترجيح، ونحن إذ نعتبر التقويم الكيفي شرطًا، فإننا ننوه بضرورة وعي هذه المخاطر، والتفاعل معها بما يغنيها ويستثمر التنوع فيها.
إن البحث في قضية الدور الحضاري، وتقويم الحضارات، والأفضلية يضعنا في مواجهة فكرة "الحضارة العالمية" أو ما اصطُلح على تسميته مؤخرًا بـ"العولمة". فالتفوق يحرّض شهوة الغلب ويغري بالتوسع، والتوسع يعني تخطي الآخر الأضعف وامتصاص ممانعته، ويملأ الوجودُ المتوسعُ أيَّ فراغ يسمح به الضعيف، ويسعى من خلاله لإحكام السيطرة. والتاريخ ينبئنا بأن بعض الحضارات حققت عالميتها في محيطها التاريخي، وأن بعضها الآخر لم يتأتّ له ذلك، بل لعله لم يمتلك الدوافع الداعية لتحقيقه، كالحضارة الصينية مثلاً! وقد مرّ على التاريخ سلسلة من الحضارات العالمية تعاقبت على الدور الحضاري، وكان لكل منها خصوصيتها وطريقتها في التعبير عن عالميتها؛ كالحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. وترتكز طموحات العالمية على ثلاثة مصادر للسيطرة: القوة، والمال، والمعرفة. ما يسمح بثلاثة أشكال للتوسع والعالمية: التوسع العسكري، والتوسع الاقتصادي، والتوسع الثقافي. وهذه الخيارات تتقاطع ويعين بعضها على بعض. وتتحدد استجابة الأمم الضعيفة لهذه التحديات بقوتها الذاتية وتماسكها الداخلي، وقد حدث أن ذابت أمم في مستعمرِها، وفنيت فيه ماديًا أو معنويًا، كما حدث للهنود الحمر في أمريكة، وهو ما عبر عنه توينبي بأنه "الانقراض بطريقة
الاندماج" (1)، وقد قدّمت الحضارة الإسلامية نموذجًا للعالمية يعترف بالتنوع والخصوصية في إطار وحدة مرجعية مرنة تراعي تعدد الاستجابات ورحابتها.
وفي العصر الحديث تخطت العالمية عوائقَ الحدود الجغرافية، وأطرَ الزمان والمكان؛ بالإبحار الجوي، والإعلام الفضائي، والأسلحة العابرة للقارات، فاتخذ الفكر الاستعماري مظاهر جديدة وغير مسبوقة لتحقيق غاياته، هذا في مجموعه ولّد مفهوم "العولمة" بوصفها مظهرًا فريدًا للاستعمار، عالمي الصبغة؛ بل كونيّها (2)، للقضاء على التنوع الثقافي لصالح ثقافة قطب واحد مسيطر هو الغرب الأبيض (3)! وتساعد قيم العدالة والحرية والمساواة التي تتضمنها رسالة الرجل الأبيض؛ المستعمِر، في الترويج لبضاعته، ودعم طموحاته غير الشرعية في عولمة الكرة الخضراء، وتحقيق طموح السيطرة المطلقة.
وإزاء هذا التوحيد القسري للعالم تتقدم أممٌ الركب الحضاري لتصير في المركز والصدارة ومصدر الفعالية والتأثير، في حين تتراجع بقية الأمم إلى الهامش لتستقبل موجات
(1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 444.
(2)
إن حدث الصعود إلى القمر وزراعة العلم الأمريكي على ترابه - على بساطته، ومع أنه يبدو حقًا طبيعيًا للمتقدم - يمثل العولمة والفكر الاستعماري في المستوى الكوني .. إن هذا الحدث هو استعمار وعولمة للفضاء الخارجي، فليس عبثًا أن سمي غزوًا!!
(3)
يفنّد توينبي نظرية "وحدة الحضارة" أي العولمة بمركزية غربية، فيجد أنها تنطلق من ثلاثة أوهام: وهم حب الذات، ووهم الشرق الراكد، ووهم التقدم بوصفه حركة تلتزم خطًا مستقيمًا. توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 61.
التأثير وتصبح تابعًا سلبيًا لدول المركز؛ سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا (1)! وتبقى أمم تقاوم استلاب الهوية مستعينة بزادها العريض من التاريخ والمجد، وبإحساسها بخصوصيتها الثقافية، وتعمل التحديات على تحفيز الإحساس بتلك الخصوصية.
إذًا .. فنظرية وحدة الحضارة الإنسانية خرافة يراد بها خداع الشعوب الضعيفة وتذويبها لصالح الحضارة المتفوقة، على الرغم من أن تلك الوحدة حقيقة تستند إلى ميراث إنساني واحد يُتداول بين الشعوب تنتقي منه ما يناسب خصوصياتها، كما أنها تستند قبل ذلك إلى التكوين الإنساني الفطري الذي يتغذى من صيغة غريزية واحدة، وحاجات مشتركة، وشروط متماثلة (2)، وإن كانت كل أمة تلبي
(1) قلنا إن الحضارة العربية الإسلامية قدّمت نموذجًا فريدًا للعالمية يكون التوسع العسكري فيه وسيلة لتحقيق الانتشار الثقافي دون المساس بالخصوصيات، أو القضاء على خصوبة التنوع، ولم يمنعها النمط السلطوي المركزي للنظام من أن تستوعب داخلها التنوع الثقافي للأمم المفتوحة، فاحتفظت تلك الأمم بخصوصيتها الثقافية، أو عدلت فيها بما ينسجم مع ضرورات العقيدة الجديدة، ولم تخسر مع ذلك تمايزها وأصالتها وصانت تقاليدها ولغاتها المحلية، بل إن تنوع الأزياء التقليدية في الدول الإسلامية مع محافظتها على الشروط اللائقة بالزي الإسلامي يشهد بتلك الحقيقة، في حين أن الزي الغربي الموحد يغزو العالم كله اليوم، وينتهك حرمة الخصوصية الثقافية!! لقد اعتبرت الحضارة الإسلامية الاختلاف خصوبة وثراء، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"، (هود /118 - 119)، "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون"، (يونس/19).
(2)
يقول مورفي العالم في الأجناس البشرية: "إن المشابهات في أفكار الإنسان وعاداته، تردّ بصفة خاصة إلى التشابه في تكوين المخ البشري في كل مكان، وإلى ما يترتب على ذلك من طبيعة عقله. ولما كان تركيب هذا العضو الطبيعي واحدًا في جميع مراحل تاريخ الإنسان المعروفة، في مزاجه وفي عملياته العصبية، فإن للعقل كذلك طائفة عامة من الخواص والقوى وأساليب العمل .. "، نقلاً عن: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 68.
هذه الحاجات بطريقة مختلفة تنسجم مع موقفها الخاص من الحياة والعالم.
وتأسيسًا على الفهم السابق يمكن استنباط تعريف للحضارة .. إن الحضارة هي: درجة عالية من الفعالية التاريخية، وأثر لإرادة الوجود الجماعية لأمة متماسكة، يربطها مفهوم واحد للحياة هو مانحها هويتها الثقافية المتمايزة، وشبكة متضافرة من المصالح المتبادلة، لتحقق ذاتها في إنجازات نوعية وكمية على مختلف الأصعدة.