المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تخامد الطاقة الحضارية - على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

[بتول جندية]

الفصل: ‌تخامد الطاقة الحضارية

‌تخامد الطاقة الحضارية

كانت لنا وقفة متأنية مع شروط النشأة الحضارية، وصلنا فيها إلى أن الفكرة الحضارية المؤسِّسة هي حجر الزاوية في أية حضارة ضمن كثير من القيود، وستلعب هذه القيود دورًا جوهريًا في سبر علل الانهيار الحضاري، كما أن التحديات لن تغيب مطلقًا عن توجيه دفة الانهيار، ولكن ما كان بالأمس إيجابيًا سيغدو اليوم سلبيًا .. لقد عدنا إلى أن قيمة الشيء نسبية وتتدخل شبكة من العلاقات في تحديدها!

ولا بد قبل الشروع في الكلام على علل الانهيار الحضاري من تحديد مفهومه، واستعراض سريع لأبرز علاماته ..

إذا كنا قد عرّفنا الحضارة بأنها درجة عالية من الفعالية التاريخية، فإن الانهيار في جوهره هو تراجع متدرج لتلك الفعالية، وتخامد للطاقة المحركة يتناسب وغياب الدافع، وقد كانت الفكرة هي الدافع الجوهري للحركة التاريخية وهي خزان طاقتها، بما تتضمنه من قيم ومصالح، فإذا ضعف سلطان الفكرة بدأت القيم بالانفصال عن المصلحة، لتغدو الأخيرة الدافع المباشر، ولا يعيق انسحاب القيم حركة الازدهار المادي، بل على العكس، قد تصل الحضارة ذروتها المادية في مرحلة احتضار القيم، ما دام الدافع المصلحي فعّالاً، فهو ملائم ملاءمة قياسية لذلك النوع من

ص: 49

الإنجازات (1). وتؤول الحضارة إلى الانهيار الوشيك وعدم الفعالية الواقعية عندما ينعدم الدافع؛ أي عندما تفلس الفكرة، وتتعطل المصالح أو تتصادم. صحيح أن هذا المآل متحقق في أواخر سني الحضارة، بيد أن سوسة الانهيار تبدأ في النخر في عمقها في مراحل متقدمة جدًا توافق بواكير إنجازاتها، وتتجذر حين تبلغ ذروتها .. ومن هنا فإن علل الانهيار تكون في الأكثر خادعة، ومظاهرها مواربة متوارية، تتمازج بالغايات، وتتحد بالمصالح، ولا يمنع من تحكمها إلا قوة الاندفاع، وسلطان الحركة، ورفضات التجديد والإحياء!

يستغل الانهيار نقاط الضعف حيثما كانت ليؤسس لنفسه، وليس من الضروري لآثاره أن تتوازى وتتزامن، لأن الحضارة في انطلاقتها لا تتحقق دفعة واحدة في مستويات الحياة كلها، وهي كذلك في انطفائها، وذلك لاختلاف الدافع المحرك لأنواع الإنجازات والنشاطات المختلفة، ولتفاوت في طبيعة الإمكانات المتوافرة. تهيّئ الفكرة الحضارية لوجود أنماط متنوعة من الدوافع الكلية والفرعية، وهي تشترك فيما بينها، أو تفترق، في تحفيز حزمة معينة من الإنجازات والنشاطات، وهذا يقتضي ألا تصير الحضارة إلى الانهيار دفعة واحدة، بل يبدأ الانهيار في تلك المستويات التي يتخامد

(1) بل إن توينبي قد ذهب إلى أن الحضارة الآخذة في التحلل تحقق عالميتها في تلك المرحلة، لتكون الدولة العالمية "وسيلة تُمهل عملية انحلالها"، ولتكون ذروة القوة والانتشار "دلالة على انحلال الحضارة"، توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 1/ 410 - 411.

ص: 50

دافعها قبلاً، فإذا ما افتُقِدت الدوافع كلها أمعنت الحضارة في الانهيار على كل الصعد وفي شتى المجالات (1)

(1) تتفاوت الحضارات في خطتها التاريخية فيما يتعلق بالدوافع والإنجازات، كما تتفاوت في مخزون الإمكانات الذي لديها في مرحلة الإقلاع، ولعل هذا التفاوت هو السبب في الاختلاف الجوهري بين النظريات التي تحاول تفسير عملية نشوء الحضارة، إذ يتعلق البعض بالظاهر من تلك الإمكانات ويغفل عما قد يكون أصيلاً وجوهريًا، أو ما هو في الحقيقة قائد الأوركسترا وعنصر الضبط للإيقاع. أيضًا .. إن الحضارات ليست نماذج واحدة مستنسخة، على الرغم من أنها تخضع لقوانين حضارية واحدة، فكل منها يمثل تجربة فريدة تستحق الدرس والفهم، وإذا تجاوزنا ذاك التباين الطبيعي في مضمون الفِكَر الحضارية، فإن المخطط البياني للرحلة التاريخية لكل منها يقدم إحداثيات خاصة توضح قيمها الجوهرية والإمكانات المتوافرة لها دون غيرها، كما يوضح التباين بينها في طبيعة الإنجازات التي تحققها في أطوارها المختلفة والمستويات التي تجتهد الحضارة في السبق إلى توفيرها، أو تلك التي تطالها يد العطب قبل غيرها .. وسنحاول أن نرصد خصوصية التجربة الحضارية في العلاقة بين الفكرة والإنجاز على مستقيم الزمن، من خلال نموذجين حضاريين: الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية الحديثة. وسنعقد المقارنة بينهما من خلال رسم بياني لكل منهما، ينظر: المخطط رقم (2)، والمخطط رقم (3). =

ص: 51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= المخطط رقم (2)

(صورة)

المخطط رقم (3)

(صورة)

- يلاحظ من خلال المخططين أن هناك تمايزًا واضحًا في قوة إقلاع كل من الحضارتين، ففي حين تحقق الحضارة الإسلامية قفزة مفاجئة في المحيط التاريخي والحضاري، وتنتقل قيمة القوة في تنام متسارع إلى مستوى الفعالية، نشهد =

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحضارة الغربية تتطور تطورًا متدرجًا في طريقها إلى الذروة الحضارية. وقد اعتبر كثير من الباحثين إقلاع الحضارة الإسلامية أمرًا عجيبًا لا مثيل له في التاريخ، يقول إشبنجلر: "إن تحرر هذا الجنس البشري المجوسي لا مثيل له في التاريخ،

لقد ضغط في هذه السنوات القلائل وادخر فيها كامل العواطف والآمال المؤجلة والأعمال المتحفظة التي لا تسعها قرون وقرون من تواريخ حضارات أخرى". ينظر: إشبنجلر، أسوالد: تدهور الحضارة الغربية، 1/ 336، ومبرر هذا العجب أن الحضارات تولد في ظروف قلة، وفقر في المعطيات المادية، فإذا أطلقت الفكرة الحضارية الشرارة المحركة، جندّت كل القوى الممكنة والمهدورة في مشروعها، واستطاعت عن طريق تراكم الإنجازات، وتدرّج البناء والتطوير، الترقيَ المتصاعد إلى مستوى الفعالية التاريخية، أما الحضارة الإسلامية فقد انطلقت انطلاقة قوية مفاجئة مستمدة طاقتها من الفكرة والقيم دون أن تنتظر سند التراكم وراحة التدرج، وهذا ينبئ بضخامة الطاقة الذاتية للفكرة الإسلامية، وامتلاكها قوة دفع وتحفيز فريدة!

- حضنت الفكرةُ الحضارية الغربية مجموعةً من القيم الكلية استمدت منها معناها، وأمدتها بطاقة الحركة والإنجاز، وأهم هذه القيم وأبرزها: الإيمان بالعلم والعقل، وتقديس الإنسان. وإذا تأملنا مخطط الحضارة الغربية وجدنا أنه في مرحلتي الإقلاع والذروة يكاد يتوازى فيهما مؤشرا الدوافع؛ قيمًا ومصلحةً، ومؤشرُ الإنجازات، لأن الفكرة الغربية التي يمثلها مؤشر القيم كانت تبحث عن تحققها التدريجي عن طريق ضمانها لقائمة من المصالح كفلت لها سلسلة من الإنجازات الحضارية المتتابعة. بيد أن مؤشر القيم يبدأ مع الحرب العالمية الأولى في الانحدار نتيجة فقدان الثقة بالعقل والعلم، وامتهان كرامة الإنسان وانتهاكات روحه وجسده، والاضطرار إلى البحث عن بدائل أخلاقية، نتيجة الفساد المتفشي في المجتمعات الغربية وتفككها الداخلي .. كل هذا رسّخ الشكّ في قيم العقل الغربي الكلية وفي منطلقاته الفكرية، فأدى بالنتيجة إلى بروز انفصال حادّ بين مؤشر القيم ومؤشري المصلحة والإنجازات اللذين يتابعان توازيها وصعودها متحللَين من إطار القيم، ومنفلتَين من الضوابط الأخلاقية ومثاليات النفس الغربية! =

ص: 53

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وعلة محافظة المصالح والإنجازات على اندفاعهما بعد افتراقهما عن القيم أمور: أولها عام تشترك فيه التجارب الحضارية المختلفة، أقصد به قوة التراكم التي تمنح الإنجازات طاقة ذاتية تأخذ بالتخامد إن لم يتوافر لها مولّد طاقة يجدّدها. وثانيها أن المصالح والإنجازات يتبادلان المنفعة فيما بينهما، وتمثل هذه المنفعة الدافع المشترك في كليهما، ولذلك سيدعم أحد الطرفين الآخر في توليد الطاقة اللازمة للتحقق. وثالثها خاص بالحضارة الغربية وهو الأخلاق النفعية التي حاولت الفلسفة الغربية أن تحلّ بها معضلة فصل الدين عن الحياة العملية .. ولكن هل سيتابع مؤشرا المصالح والإنجازات اندفاعهما متحررين من القيم إلى ما لا نهاية؟! هناك احتمالان متوقعان: الأول أن تؤدي استطارة التضخّم في الطرفين إلى اصطدامهما نتيجة التعارض الحادّ في طبيعة المصالح التي توفرها الإنجازات؛ فمثلاً تحتّم مصالح الأقلية المبدعة للإنجازات العلمية المرتبطة حتمًا بالمال، أضرارًا اجتماعية وأخلاقية متفاقمة يعاني منها أواسط الناس وفقراؤهم، ما يعني احتكار المصالح في يد أقلية مستفيدة فقط. والثاني أن يؤدي افتقار المصالح إلى الضابط القيمي إلى تفريغ الإنجازات من أساسها المصلحي، أي تعطيل الدافع إلى تحققها وتطورها، والنتيجة تخلّفها؛ وهذا ما نلحظه في انصراف كثير من أبناء الغرب عن العلم غير المضبوط بأخلاق أو غايات نبيلة، وعدم إيمانهم به لوعيهم بالآثار المدمرة له. وتكون العاقبة انهيارًا شاملاً مفاجئًا غير محسوب نتيجة تصادم النقائض المتضخّمة، أو انحلالاً خفيًا تدريجيًا نتيجة تقلّص الطاقة الدافعة حتى تلاشيها. والاحتمال الأرجح من وجهة نظري هو - والله أعلم - الأول؛ لأن خصّيصة التطرّف التي تغلب على العقل الغربي لا تؤدي إلا إلى نتائج ثورية ومفاجآت انقلابية مضرّجة بالدماء غالبًا، تشهد على هذا الأحداث الكبرى في التاريخ الغربي؛ كالثورة الجمهورية الإنكليزية، والثورة الفرنسية، والثورة البلشفية ..

- تدخّلت الفكرة الحضارية الغربية في تأمين القوة الاقتصادية اللازمة لحركة العلوم وتطوير تطبيقاتها العملية، حيث حفزت الروح العلمية رحلات الكشوف التي أمّنت مصادر مالية ضخمة للمجتمعات الغربية، ولكن قبل مرحلة الإقلاع =

ص: 54

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحضاري، أدّت التحديات، والانهيار الكامل داخل تلك المجتمعات، وافتقاد أدنى مستويات الاحتياجات الضرورية للإنسان، وغياب الأمن وانتشار الحروب والفقر والجهل والظلم .. كل ذلك أدى إلى تكريس مشاعر اليأس، وتشجيع المغامرات غير مضمونة النتائج بديلاً لواقع مضمون التردي، بل إن الصعوبات والمعاناة نفسها منحت النفس الغربية خصائص رجل الحضارة؛ كالجلد والصلابة وتحمل المسؤولية والاندفاع وحملته على الجرأة على المغامرات التي تمثّلت في حركة الاستعمار، ورحلات الكشوف التي وفّرت موارد اقتصادية ضخمة لحركة العلوم، وللنهوض بذلك الواقع. وهذا يذكرنا بكلام توينبي عن دور التحديات في نشوء الحضارات، وهو يعني أيضًا أن القوة الاقتصادية كانت من أهم العوامل التي دعمت حركة النهوض الغربي، وهي التركة الإيجابية لمرحلة الانحطاط، بالإضافة إلى أخلاقيات الدين المسيحي. أما ميراث مرحلة ما قبل الحضارة في التجربة الحضارية الإسلامية فهو "القيم"، ولذلك أكد النبي عليه الصلاة والسلام أنه إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ولهذا أيضًا كان لهذا الدين أن يظهر في عرب الجاهلية لا في غيرهم!! وتتشارك الحضارتان في أن ظروف القلة أوجدت الذخيرة الأولية لأية حضارة، ألا وهي الإنسان السويّ، أو رجل الحضارة، غير الملتاث بدنس الترف، ولا أمراض المدنية، والمتحلي بالصبر والجلد، والآخذ بزمام المبادرة، غير المعتاد على الاتكاء على الأشياء ..

- الفكرة الحضارية الإسلامية فكرة دينية تمدّ الوجود الإنساني وحدود إنجازاته إلى عالم غيبي يقيني يدخل في اعتبارات الغاية والفعل والإنجاز، وعلى الرغم من أن الفكرة الحضارية تفرض سلطانها على إنجازات الحضارة كلها، وتطبعها بطابعها الخاص، فإن الملاحظ أن الإنجاز العسكري مرتبط في الحضارة الإسلامية ارتباطًا وثيقًا بالقيم؛ قوة وضعفًا، ولهذا فإنهما يكادان يتطابقان في مؤشرين متوازيين تمام التوازي، وإذا كان مفهومًا - استنادًا إلى التوضيح المعروض في متن هذه الدراسة - أن يفارق مؤشر القيم خطة سير مؤشري المصلحة والإنجازات المعرفية والاقتصادية، فإن الفريد في التجربة الإسلامية أن مؤشر القوة العسكرية يلحق بمؤشر القيم لا بالمؤشرين الآخرين، لأن القيم الإسلامية =

ص: 55

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= هي الشريان المغذي للقوة العسكرية وخزان وقودها ودافعها المباشر، ترتبك هذه بضعف تلك، وتتوقد بتوقدها. إننا نعلم أن الحضارة الإسلامية انطلقت في ظل انعدام الموارد والإمكانات، لتواجه أقوى دولتين في العالم لذلك الحين، واستطاعت أن تفرض إرادتها التاريخية، وتنشر فكرتها الحضارية. إن أهمية هذه الملاحظة تأتي من علاقتها الجوهرية بواقع الأمة المعاصر؛ تفسيرًا وتخطيطًا، وصلتها بمشروع النهضة وصراع الوجود وتحديات البقاء، فعلى ضوئها يغدو صمود المقاومة الفلسطينية في غزة اليوم منطقيًا وذا معنى على الرغم من التفاوت الهائل في القدرات العسكرية والمادية بين الفريقين، لأن الخصم الصهيوني - وهو امتداد للغرب - يستمد قوته من قوة الآلة العسكرية ودرجة التقدم التقني، لا من القوة النفسية المستندة إلى سلطة القيم ودرجة إشعاعها في الذات واتحادها بها، قال الله تعالى:"يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين"، (الأنفال/65 - 66). وقد شُرِّع التخفيف استيعابًا لحالة الضعف المرتقبة نتيجة تراجع القيم، ويعوَّض الضعف بآليتين يضمن التقدم توافرهما، هما: العدد والعتاد. ولا يتعارض هذا التحليل مع وجوب الإعداد، والقدرة على إدارة عالم المادة والأشياء، لأن كلامنا هنا محصور بالدافع الحضاري، وهو لا يتطرق إلى الخطط أو الآليات.

- تشهد الحضارة ذروتها المادية؛ العلمية والفكرية والاقتصادية، وتحقق أقصى غاياتها وأضخم إنجازاتها في مرحلة تؤول فيها القيم إلى الانسحاب، وهذه الظاهرة مطردة في التجربتين الإسلامية والغربية، وهي ناجمة عن أن الفكرة تطلق شرارة اندفاع الحركة المادية للحضارة، وبما أنها تغتذي من رافدين أحدهما الفكرة والآخر المصلحة، فإن انسحاب الفكرة التدريجي يسمح باستمرار فعالية المصالح المحتواة داخلها ويحميها، والمصلحة تعزز المنافسة، والمنافسة تحسّن الأداء، كما يسمح المدى الزمني الذي يتطلبه انسحاب القيم بتراكم الإنجازات؛ =

ص: 56

وإنما يخفف من تسارع الانهيار أن الإنجازات التي تحققها الحضارة، والمكاسب التي تحرزها، تغدو إمكانًا من إمكانات الحضارة، ووقودًا إضافيًا للطاقة، ودافعًا موضوعيًا للحركة، وذلك بالاستناد إلى قيمتين: الأولى قوة التأثير الذاتية للإنجازات ومجال هذا التأثير، والثانية تراكم الإنجازات. فإذا ما تعطل الدافع الإنساني، قيمًا كان أو مصلحة، تابعت الحضارة اندفاعها على استحياء حتى تُستنفَد الطاقة الذاتية المختزنة في إنجازاتها، وإلى أن يتخلخل ذاك التراكم الصلب الذي يستند إليه ثباتها.

ويحدث أن تتخامد الطاقة في صورها كلها، وتضيع الإمكانات أو تتشتت أو يُضرَب بعضها ببعض، وتتعطل المصالح أو تُحتكر وتُصادر لصالح فئة قاهرة مسيطرة .. ذلك عهد تغلب فيه عوامل الانهيار وتشيع، ويعين بعض العلل على بعض، ما يولّد دوافع

= ليكون هذا التراكم الأرضية الصلبة لمتابعة خط التطوير الصاعد. ومن ثم تبدأ مظاهر المدنية بالتراجع بقدر تعطل المصالح، وتراكم الآثار السلبية لعوامل الانهيار المباشرة وغير المباشرة، ويتدخل في تسريع عجلة الانهيار أي نوع من أنواع الكوارث المفاجئة، كالاجتياح المغولي للحضارة الإسلامية، وكمخاطر ما يحتمل من استخدام غير رشيد للعلوم الغربية ولقوته النووية، أو ظهور خصم قوي غير متوقع؛ كالصين مثلاً أو ماليزية أو تركية ..

- تمر الحضارة بقفزات نوعية تغير مسار الانهيار المطرد، وما تلك القفزات إلا الدوائر الحضارية الداخلية الداعمة التي تجدد الفكرة الحضارية، فتعدل مسار الهبوط المتوالي وتؤخر الانهيار الشامل. ومنها على سبيل المثال حركة التجديد التي كان الغزالي ملهمها، والأخرى التي قادها محمد بن عبد الوهاب في الحضارة الإسلامية، والثورة الفرنسية والثورة الشيوعية في الغرب. وقد أهمل المخططان رصد هذه القفزات، واكتفيا برصد الخطة التاريخية الكلية.

ص: 57