المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - انحراف التكوين السوي للشخصية الفعالة: - على عتبات الحضارة - بحث في السنن وعوامل التخلق والانهيار

[بتول جندية]

الفصل: ‌3 - انحراف التكوين السوي للشخصية الفعالة:

مغلوطة وممارسات خاطئة. وتتحدد مسؤولية قادة التصحيح في الاشتغال على البنية الفوقية للأمة، وتعديل تصوراتها وتصويب معتقداتها والمغلوط من مفاهيمها، والنهوض بوعيها، وزرع الإيمان والثقة فيها، وتضخيم مواطن القوة فيها، وإبراز الإمكانات الإيجابية وتأكيدها بوصفها خيارًا ممكنًا، وتجسيدها في نماذج قابلة للتمثّل والمحاكاة، بدءًا من القادة أنفسهم، لتكون الأمة بذلك جديرة بالانخراط في حركة التغيير، قادرة على دفعها.

‌3 - انحراف التكوين السويّ للشخصيّة الفعّالة:

يتكلم توينبي على نوعين من التفكّك الحضاري؛ التفكك الرأسي، والتفكك الأفقي (1). ويقصد بالتفكك الرأسي التفكّك السياسي المعروف، أما التفكّك الأفقي فهو الانحلال الداخلي للأمة الذي يشكل الخطر الحقيقي الذي تواجهه الحضارة ويجعلها في حالة عجز، لأنه لا يتوقف عند حدّ التفكك الطائفي والملّي والطبقي، بل هو يتجاوزه إلى تحلّل عميق يصيب الشخصية الإنسانية بالوهن، والروح بالشيخوخة، ويحرّف خصائص الأمة؛ النفسية والخلقية، فتغدو عاجزة بعد أن كانت فاعلة تدير عجلة التاريخ!! وإن فرويد وهو بسبيله إلى اقتراح علم نفس حضاري يؤكد أن الحضارات تصاب بأمراض عصابية جماعية شأنها في ذلك شأن الأفراد تمامًا (2).

(1) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، 2/ 151.

(2)

فرويد، سيجموند: الحب والحرب والحضارة والموت، ص106 وما بعد. ويبدو أن كتاب العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط لمحمد حسنين هيكل يستضيء بهذه الرؤية.

ص: 74

لا تنهض أمة بثقل المهمة الحضارية ما لم تمتلك في ذاتها خصائص نفسية تؤهلها للنهوض بتبعات الالتزام الحضاري، وبقدر ما هي - أي الخصائص - شرط فإنها نتيجة أيضًا، وقد تطرقنا إلى شيء من تلك الخصائص في تضاعيف كلامنا على شروط الحضارة، فالإيمان اليقيني بفكرة واضحة، والتحديات القاسية، يصقلان معًا الشخصية، ويمدّانها بالدافعية والصلابة اللازمتين للحركة والتغيير، وهما تتقلصان بفعل عوامل هدم الحضارة ذاتها التي تعمل على تحطيم الصلابة النفسية للأمة، وتشويه خصائصها الإيجابية، وفي المنقلب تؤدي تلك الخصائص المعدَّلة إلى عرقلة عجلة التقدم الصاعدة، وتعطيل الفعالية المعتادة، وردّ الأمة إلى طور السكون من جديد.

في تعلقه بالبداوة، كان ابن خلدون يبحث عن مقومات رجل الفطرة، ويطلب تلك الخصائص الضرورية لتشكيل شخصية رجل الحضارة وتأهيله، وقد وجدها متعيِّنة في فئة اجتماعية خاصة هي "البدو"، بما لديهم من كمال صفات الفطرة، ودواعي الخير المهيِّئة لكمال الفاعلية، واستحقاق الغلب، والقيادة الحضارية (1). وإذًا، فإيثاره للبدو ليس إيثارًا لفئة اجتماعية بعينها، على الرغم من أنه صرح بذلك في أكثر من موضع (2)، كما أنه لا يعني أن من فاتته البداوة

(1) "فهم أقرب إلى الفطرة الأولى

وأقرب إلى الخير من أهل الحضر .. "، ينظر: ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 154.

(2)

ويبدو أنه بسبب من تلك الخصائص جنح ابن خلدون إلى الاعتقاد بالأفضلية المطلقة للبدو على الحضر، وحاول أن يبرهنه بتأويل بعض النصوص، بل بالجور في التأويل أحيانًا، مع أنه معلوم أن العرب تذم التبدّي أو التعرُّب (وهو الدخول في الأعراب)، ومما يرويه ابن خلدون نفسه عن المهاجرين أنهم كانوا "يستعيذون بالله من التعرُّب وهو سكنى البادية"، وقد ذمّ القرآن الكريم الأعراب في أكثر من موضع، أي إن التبدي ليس الظرف الشرطي للحضارة، ولكنه الخصال والخصائص النفسية والاجتماعية اللازمة للتحضر، على ما سنبين لاحقًا. ينظر: خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، 1/ 154 - 155.

ص: 75