الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
امتحان المفاهيم
الزمن، التاريخ، الحركة، التطور، الأمة، الثقافة، الحضارة، المدنية، الدولة، النهضة .. مجموعة من المصطلحات والمفاهيم تُقدَّم من خلالها فلسفة الحضارة، وتشترك في التعبير عن الحركة المتعلقة بكل من المتغيِّرَين الزمنيّ والبشريّ في صورتهما الجماعية لا الفردية. ومع أن هذا الاشتراك يسمح بشيء غير يسير من التداخل والخلط الطبيعيين، فإن تمايزًا ما ينبغي أن يلحظ ويولى من العناية ما يستحق لتفادي ما قد يجر إليه الخلط من نتائج مغلوطة في أي مشروع جاد للكلام على الحضارة تنظيرًا وتخطيطًا وتوجيهًا.
الزمن هو الفضاء الذي تتحقق فيه الظاهرة التاريخية، وفي أفق قوانينه تتخلق الحضارة. والتاريخ هو الخط البياني لسيرورة الزمن، وهو خزّان الأحداث الماضية؛ ما كان، وقانون ما سيكون، فالتاريخ؛ قانونًا، يتحقّق في صورة التاريخ؛ أحداثًا؛ أي التاريخ/العبرة. والحركة صفة ملازمة للزمن ومنعكسة على الوجودَين المادي والمعنوي، وتتحقق في مستويين: عامٍّ قاهر ذي اتجاه حتمي، وخاص متفاوت فردي أو جماعي. والتطور تقويم نسبي للحركة.
وداخل رحلة الزمن يتحقق الوجود الإنساني الجماعي من خلال مفهوم الأمة، والأمة هي التعيُّن الحيويّ لقيم كلية جماعية، وتجسيد إنساني لموقف خاص واحد من الوجود والحياة، تتبناه مجموعة بشرية، ويُعبَّر عنه بكلمة "ثقافة"، والثقافة علامة فارقة على كل تجمع بشري متماسك (مجتمع، أمة)، وهي في الوقت نفسه صانعة لهذا المجتمع ومانحة له هويته وتماسكه. ويبدو أن لقب الحضارة هو وصف قيمة
يُطلَق على ثقافة ما أو أمة من الأمم لتمايز نوعي في طبيعة قيمها ووجودها المادي والمعنوي، وقوة تأثيرها في محيطها. وعندما يغدو هذا التمايز كميًا فإن الحضارة تدخل في طور المدنية، فالمدنيّة مرحلة من مراحل الحضارة، وليست هي الحضارة، وإذا كان الغالب في الحضارة أن تكون روحية بمعنى قيميّة، أو مبدئية، فإن المدنيّة تكون في الغالب مادية نفعية. والدولة هي أداة من أدوات تحقق الحضارة وهي المظهر السياسي لها، وليست هي الأمة، ولا فيها تختصر الحضارة (1).
إن مصطلح النهضة هو - لا شك - منبئ عن مرحلة لاحقة للسقوط، أي هي مرحلة من مراحل الحضارة تعقب الضعف والانحلال، وجمرة توقّد لبعثها من جديد، ولكنها غير لازمة، وإنما هي خيار بشري ومظهر لإرادة تحرير جبارة.
لقد جر الخلط بين "الزمن" و"الحضارة" إلى الجبرية وتعطيل الإرادة البشرية، وافتراض عدم القدرة على مواجهة حركة الزمن القاهرة. ذلك كما الخلط بين "التاريخ" و"الحضارة"، إذ إن أحداث "التاريخ" ليست صورًا آلية قابلة للاستعارة والنسخ، وإنما هي نماذج وعلامات على قوانين كلية داخلية قابلة للفهم والحوار والتوظيف. ولمّا ذابت الحدود بين "الثقافة" و"الحضارة" ولد الفكر الاستعماري، أو
(1) قد يبرز التعيّن المادي للأمة في بعض النماذج الحضارية في شكل الدولة نفسها، كما هو الحال في مفهوم المواطنة في الدول الغربية الحديثة، ولكن هذا لا يلغي أن الغرب بمختلف دوله وولاءاته القومية، يخضع لنموذج حضاري واحد يستمد منه مقولاته الكلية ومرجعياته المشتركة.
على العكس انحطت الهمم وانعدم الطموح، ورضي الضعيف بفتات الحضور الحضاري. وأيضًا فإن اختصار "الحضارة" في المرحلة "المدنية" هو استسهال وانخداع بظاهر الأمور وانبهار بالنتائج وغفلة عن الأسباب والمحرِّك والشروط. وعلى الرغم من التطابق الظاهر بين دواعي الانبعاث الحضاري الأولي، وشروط النهوض الانعكاسي، فإن التعقيد والاضطراب الغالبين على مرحلة النهوض يثيران إشكاليات مرحلية حرجة لا تثيرها بساطة الانبعاث الأولي. والوعي بخصوصية المرحلة من أول مبررات النجاح أو الفشل في أي مشروع نهضوي.